نتيجة العلم القطعي
بحوث في العصمة
العلم القطعي بعواقب المعاصي والآثام، يصدّ الإنسان عن اقترافها وارتكابها، والمراد من هذا العلم، هو بلوغ الإنسان من حيث الكمال درجة يلمس في هذه النشأة لوازم الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها،
عدد الزوار: 345
العصمة: نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي
العلم القطعي بعواقب المعاصي والآثام، يصدّ الإنسان عن اقترافها وارتكابها، والمراد
من هذا العلم، هو بلوغ الإنسان من حيث الكمال درجة يلمس في هذه النشأة لوازم
الأعمال وآثارها في النشأة الأُخرى وتبعاتها فيها، وهذا النوع من العلم القطعي يزيل
الحجب بين الإنسان وآثار العمل، وكأنّه سبحانه يريد أمثال هذا العلم من قوله:
(كلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقينِ* لتروّنَ الجَحِيمَ
).
فمن رأى درجات أهل الجنّة ودركات أهل النار يكون مصوناً من الخلاف والعصيان، وأصحاب
هذا العلم هم الذين يصفهم الإمام علي(عليه السلام) بقوله: «فهم والجنّة كمن قد رآها
فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها معذّبون».
فإذا ملك الإنسان هذا النوع من العلم وانكشف له الواقع كشفاً قطعياً، فهو لا يحوم
حول المعاصي بل لا يفكر بها.
ولأجل تقريب الذهن إلى أنّ العلم بأثر العمل السيئ يصدّ الإنسان عن اقترافه نأتي
بمثال:
«إنّ الإنسان إذا وقف على أنّ في الأسلاك الكهربائية طاقة، من شأنها قتل الإنسان
إذا مسّها من دون حاجز أو عائق بحيث يكون المسّ والموت مقترنين، أحجمت نفسه عن مس
تلك الاسلاك والاقتراف منها دون عائق.
هذا نظير الطبيب العارف بعواقب الأمراض وآثار الجراثيم، فإنّه إذا وقف على ماء
اغتسل فيه مصاب بالجذام أو البرص أو السلّ، لم يقدم على شربه والاغتسال منه
ومباشرته مهما اشتدّت حاجته إلى ذلك لعلمه بما يجرّ عليه الشربُ والاغتسالُ بذلك
الماء الموبوء، فإذا وقف الإنسان الكامل على ما وراء هذه النشأة من نتائج الأعمال
وعواقب الفعال ورأى بالعيون البرزخية تبدل الكنوز المكتنزة من الذهب والفضة إلى
النار المحماة التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، امتنع عن حبس الأموال
والإحجام عن إنفاقها في سبيل اللّه.
قال سبحانه: ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذاب أَلِيم*
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ
) .
إنّ ظاهر قوله سبحانه: ( هذا ما كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ
) هو انّ النار التي تكوى بها جباه الكانزين وجنوبهم وظهورهم، ليست إلاّ
نفس الذهب والفضة، لكن بوجودهما الأُخرويّين، وأنّ للذهب والفضة وجودين أو ظهورين
في النشأتين فهذه الأجسام الفلزية، تتجلّى في النشأة الدنيوية في صورة الذهب والفضة،
وفي النشأة الأُخروية بصورة النيران المحماة.
فالإنسان العادي اللامس لهذه الفلزات المكنوزة وان كان لا يحس فيها الحرارة ولا يرى
فيها النار ولا لهيبها، إلاّ أنّ ذلك لأجل أنّه يفقد حين المس، الحسَّ المناسب لدرك
نيران النشأة الآخرة وحرارتها، فلو فرض إنسان كامل يمتلك هذا الحس إلى جانب بقية
حواسه العادية المتعارفة ويدرك بنحو خاص الوجه الآخر لهذه الفلزات، وهو نيرانها
وحرارتها، يجتنبها، كاجتنابه النيران الدنيوية، ولا يُقدم على كنزها، وتكديسها.
وهذا البيان يفيد انّ للعلم مرحلة قويّة راسخة تصد الإنسان عن الوقوع في المعاصي
والآثام ولا يكون مغلوباً للشهوات والغرائز.
الاستشعار بعظمة الربّ وكماله وجماله
إنّ استشعار العبد بعظمة الخالق و تفانيه في حبّه، يصدّه عن سلوك ما يخالف رضاه،
فانّ حبّه لجماله وكماله من العوامل الصادّة للعبد عن مخالفته.
إذا عرف الإنسان خالقه كمال المعرفة الميسورة، وتعرَّف على معدن الكمال المطلق
وجماله وجلاله، وجد في نفسه انجذاباً نحو الحق، وتعلّقاً خاصاً به بحيث لا يستبدل
برضاه شيئاً، فهذا الكمال المطلق هو الذي إذا تعرّف عليه الإنسان العارف، يؤجج في
نفسه نيران الشوق والمحبّة، ويدفعه إلى أن لا يبغي سواه، ولا يطلب سوى إطاعة أمره
وامتثال نهيه. ويصبح كلّ ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره، أشدّ
القبح وعندئذ يصبح الإنسان مصوناً عن المخالفة، بعيداً عن المعصية بحيث لا يؤثر على
رضاه شيئاً وإلى ذلك يشير الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) بقوله:«ما عبدتك
خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك إنّما وجدتك أهلاً للعبادة».
بناء على ما تقدم يعلم أنّ العصمة قوّة في النفس تعصم الإنسان عن الوقوع في مخالفة
الرب سبحانه وتعالى، وليست العصمة أمراً خارجاً عن ذات الإنسان الكامل وهوية
الخارجية.
* ملخص كتاب العصمة / اية الله جعفر السبحاني.
2016-03-14