الضَّرورَة تعفي المضطرّ مِنَ العِقاب
تعرّف على الشيعة
تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ وأسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة، من أي نوع كان، ومن تلك المبادئ السعة، وعدم العسر والحرج على المكلفين،
عدد الزوار: 92
الضَّرورَة تعفي المضطرّ مِنَ
العِقاب *
عدم الحرج:
تقوم الشريعة الإسلامية على مبادئ وأسس يقاس بها كل حكم من أحكام الشريعة، من أي
نوع كان، ومن تلك المبادئ السعة، وعدم العسر والحرج على المكلفين، وهو أصل مطلق غير
مقيد، وحاكم غير محكوم، لا ينفيه شيء، وبه ينتفي كل تكليف يوجب العسر والحرج، سواء
أكان التكليف من نوع العبادات أو المعاملات أو العقوبات أو الأحوال الشخصية.
وقد أعلن القرآن الكريم هذا المبدأ "وما جعل عليكم في الدين من حرج" "يريد اللّه
بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر". "يريد اللّه أن يخفف عنكم" واشتهر الحديث عن
الرسول الأعظم: (بعثت بالحنفية السمحة).
قاعدة المصالح والمفاسد:
ومن القواعد التي ترجع إلى عدم الحرج قاعدة المصالح والمفاسد التي قال بها الشيعة
والمعتزلة، تتلخص في أن اللّه أمر بالفعل لمصلحة فيه تعود على فاعله، ونهى عنه
لمفسدة كذلك، لا ان الفعل يصبح صالحاً لأن اللّه أمر به وفاسداً لأنه نهى عنه، بل
أمر به اللّه تعالى لأنه صالح بالذات، ونهى عنه لأنه قبيح بالذات.
ويتفرع على ذلك أنه يجوز للإنسان - إذا اضطرته الظروف - أن يفعل، ويترك ما نص
الكتاب والسنة على وجوبه وتحريمه، ولا يعد ذلك مخالفة منه للشريعة، بل عمل بالشريعة
نفسها، على شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها، فيكتفي المضطر بما يدفع عنه الضرورة
والضيق، وبارتفاع الضرورة يرتفع المسوغ الشرعي والعقلي، ويبقى الشيء على حكمه
الأول، ويكون التعدي بغياً وعدواناً "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إِثم عليه".
"فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإِن اللّه غفور رحيم". "وقد فصل لكم ما حرم
عليكم إِلا ما اضطررتم إليه".
معنى الاضطرار:
ليس للاضطرار ضابط خاص يرجع إليه الفقيه، وإِنما يختلف باختلاف الأشخاص، والعوامل
الخارجية، والدوافع النفسية، فرب حالة تعد اضطراراً بالقياس إِلى إِنسان دون غيره،
بل رب حالة تكون اضطراراً لإنسان في مورد ولا تكون اضطراراً له في مورد آخر، ولذا
قيل: لكل مقام مقال، ولكل سؤال جواب، ولكل حادث حديث.
وعلى أي الأحوال فليس معنى الاضطرار - في مقامنا هذا - أن يكون الإنسان مجبراً على
الفعل، على نحو لا يكون له معه مندوحة إلى الترك، فإن الفعل - والحالة هذه - لا
يتصف بحسن أو قبح، ولا يحكم عليه بحل او تحريم، لأنه خارج عن القدرة والاختيار،
وإِنما المقصود من الإضطرار أن يكون الإنسان قادراً على الفعل والترك معاً، ولكنه
يختار الفعل لعامل خارجي أو دافع نفسي، كمن لا يملك إلا ثوباً واحداً يتستر به،
فاضطره الجوع إلى بيعه، ليشتري بثمنه رغيفاً يسد رمقه، ويقيم أوده.
وقد ذكر الفقهاء أسباباً تخفف على المجرم عقاب الجريمة، وأعذاراً تعفي المضطر من كل
عقاب، غير أنهم لم ينظموها في مبحث واحد، بل جاءت متفرقة في أبواب الفقه هنا وهناك،
ولو جمعت لكانت كتاباً مستقلاً.
اسباب التخفيف:
ومن أسباب التخفيف التي ذكرها الفقهاء: أن الزاني إذا كان أعزب أو متزوجاً يتعذر
عليه الوصول إلى زوجته لمرض أو سفر فعقابه الجلد دون الرجم، وإذا كان متزوجاً يمكنه
الوصول إلى زوجته ساعة يشاء يعاقب بالرجم، وأن السارق تقطع يده، إذا نقب نقباً، أو
كسر قفلاً أو باباً، أما إذا أخذ المال من غير حرز كسرقة الثمرة على الشجرة، أو
السرقة من الحقل والبيدر فلا تقطع يده1.
الدفاع عن المال والنفس والحريم:
ومن الأعذار التي تعفي المضطر من كل عقاب، الدفاع عن المال والنفس والعرض، ولو أدى
الدفاع إلى قتل المعتدي، وعليه جميع المذاهب، قال صاحب المغني ج 7 "لا أعلم فيه
خلافاً" وقال صاحب الجواهر والمسالك "القتل دفاعاً عن النفس والمال لا يوجب
قصاصاً.. ومن وجد مع زوجته رجلاً يزني بها فله قتلهما معاً، ولا إِثم عليه" وفي
الآية الكريمة "ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً" والمعتدي قتل
ظالماً لا مظلوماً، وقال الشهيد في المسالك "ألا قوي وجوب الدفاع عن النفس
والحريم مع الإمكان، ولا يجوز الإستسلام" أي يجب على الإنسان أن يدافع عن نفسه
وحريمه بكل وسيلة، ولو بقتل المعتدي، على شريطة أن يعتمد في الدفاع على الأسهل
فالأسهل، كالصياح أولاً، ثم الضرب ثم الجرح، وأخيراً القتل، أما الدفاع عن المال
فجائز فعله وتركه.
حاجة المضطر إلى الطعام
ومن الأعذار: حاجة المضطر إلى الطعام، فقد أباح فقهاء المذاهب للجائع الذي يخاف
التلف على نفسه أن يتناول كل ما يحفظ به نفسه، ويسد رمقه، فأباحوا له أكل الميتة،
والسرقة والنهب والقتل، قال صاحب المغني في باب الصيد والذبائح ج 8 "إذا لم يجد
المضطر إِلا طعاماً لغيره، فإن لم يكن صاحبه مضطراً إليه لزمه بذله للمضطر، فإن لم
يفعل فللمضطر أخذه منه، لأنه مستحق له دون مالكه، فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله
قتاله، فإن قتل المضطر فهو شهيد، وإن آل أخذه إلى قتل صاحب الطعام فدمه هدر لأنه
ظالم" وقال صاحب المسالك ج 2 باب الأطعمة والأشربة: "إن كان المضطر قادراً
على صاحب الطعام قاتله، فإن قتل المضطر كان مظلوماً، وإن قتل صاحب الطعام فدمه هدر".
ومن الطريف ما ذكره كثير من فقهاء السنة والشيعة وإن المضطر إِن لم يجد إلا نفسه
جاز له أن يقطع بعض أعضائه غير الرئيسة التي لا يؤدي قطعها إلى هلاكه، ويأكلها،
وأنه إذا وجد إنساناً ميتاً جاز له أن يأكل من لحمه.
وأول ما يختلج في النفس أن الفقهاء قد استوحوا هذا الفرص وأمثاله، من الفقر
والحرمان في العصر الذي عاشوا فيه، وإن شأن المضطر في حركاته وسكناته أشبه بشأن
الجماد تسيره قوة خارجة عنه، لأنه لا يصغي ولا يمكن أن يصغي لقول: هذا حسن يجب فعله،
وذاك قبيح يجب تركه:
وقد التقت النظرية القائلة "إن الفقر ليتحدى كل فضيلة" بنظرية الفقهاء "لا عقاب
مع اضطرار" بل هي عينها، وكفى بالفقر عقاباً.
وقال الشيخ محمد الأعسم في منظومة الأطعمة والأشربة2:
الفضل للخبز الذي لولاه ما كان يوماً يعبد الإله
ومن الأمثلة عندنا في جبل عامل "الجوع كافر" ولعل مصدر هذا المثل قول أبي ذر:
"إِذا ذهب الفقر إِلى بلد قال له الكفر خذني معك" فقد تجول هذا الصحابي في قرى
العامليين - جنوب لبنان - ينذر ويبشر أهله، عندما نفاه عثمان إلى بلاد الشام.
وليس الفقر كفراً فحسب، بل هو الموت الأكبر، كما قال الإمام علي بن أبي طالب ع، موت
للعقل والروح والجسم، فلا صحة ولا علم، ولا فضيلة مع فقر، فالجهاد للقضاء على الفقر
أفضل من كل جهاد عند اللّه سبحانه، لأنه جهاد في سبيل الإيمان باللّه والعمل
بشريعته وأحكامه.
* - نشر في رسالة الإسلام نيسان
1952.
1- المغني طبعة ثالثة ج 7 ص 248، والجواهر والمسالك باب الحدود.
2- الشيخ محمد علي الأعسم عالم من علماء النجف وشعرائها، له منظومات في الفقه
والعربية، توفي سنة 1247 هجرية.