آثار الدعاء
الدعاء
للوهلة الأولى يمثّل الدعاء آلة يتوسّلها المؤمن لقضاء حوائجه، طامعاً في استجابة ربّه الكريم.. وفي الواقع فإنّ أسرار الدعاء أبعد من ذلك.
عدد الزوار: 334
للوهلة الأولى يمثّل الدعاء آلة يتوسّلها المؤمن لقضاء حوائجه، طامعاً في استجابة
ربّه الكريم.. وفي الواقع فإنّ أسرار الدعاء أبعد من ذلك. فإنّ القلب إذا ما انضمّ
إلى اللسان بانسجام، واهتزّت الروح عند الدعاء، فسيعيش الإنسان حالةً معنويّة عالية
تستغرقه بكلّه، وتسمو حينها روحه فيدرك حقيقة جوهره وإنسانيّته الغالية، وإذ ذاك
فإنّه يزهد في تلك الأمور التافهة الحقيرة الّتي كانت تشغله وتقلق راحته، ويتحوّل
إلى إنسان مطمئنّ واثق بالله.
وإذا كان الإنسان يشعر بالمذلّة والهوان عندما يمدّ يد السؤال إلى غير الله، فإنّه
إذ يطلب من ربّه القدير يشعر بالعزّة والقوّة والإطمئنان، فالدعاء يهب الإنسان
العزّة، فينطلق في حياته غير راهب ولا متزلزل لأنّه برعاية عين
لا تنام، وبين يديه باب مفتوح للسائلين.
من هنا يتحوّل الدعاء إلى وسيلة وغاية، مقدّمة ونتيجة، طلب للإستجابة وقضاء الحوائج،
ومطلوب لكسب تلك الروحيّة العالية الّتي تورث اطمئنان القلب، وتلك العزّة الّتي
يمنحها هذا العمل الجليل.
لذا كان الدعاء لدى أولياء الله أحبّ الأعمال، فهو وسيلتهم لعَرْضِ طلباتهم
وأمانيهم على محبوبهم الحقيقيّ، مع ما يمنحه لهم من نجوى مع الله، فيدعون ويسهرون,
قلوبُهم وأرواحهم حيّة لا يعتَوِرُها تعب ولا يستوقفها نَصَب.
وقد عبّر عن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في خطابه لكميل النخعيّ:
"هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، اسْتَلانوا ما استوعره
المُترفون، وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحِبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها
مُعلّقة بالمحلّ الأعلى"1.
وهذا بخلاف تلك القلوب الصدئة المقفلة المطرودة من رحاب الله.
الدعاء فطرة لدى الإنسان
في فطرة كلّ امرئ وفي نفسه طريق يسير به إلى الله سبحانه:
﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾2
هذا الطريق يفتح قلب الإنسان عليه سبحانه ليلجأ إليه ويدعوَه ويعتمد عليه، إنّه
أمرٌ أصيل في فطرة الإنسان وطبيعيّ في وجوده، هذه الفطرة قد تغطّيها حُجُب الإثم
والشقاء، لكنّها لا تلبث أن تنجلي وتتحرّك وتبرز للعيان وذلك عندما تتعرّض للابتلاء
وتتقطّع بها الأسباب الّتي كان الاعتماد عليها، حيث يتوجّه الإنسان حينها إلى قدرةٍ
يعتقد بأنّها قادرة على غلبة وقهر الأسباب والعلل الظاهرة، وهو في ذلك إنّما يلتجأ
إلى الله القدير حيث يدعوه واثقاً بقدرته. فحتّى أشقى الأشقياء، نجده عند الابتلاء
وعندما تتقطّع به الأسباب قد انتابته هزّة تحرّك كيانه كلّه فيلجأ إلى الله سبحانه
وتعالى.
إنّ غريزة الدعاء والالتجاء إلى إله غير مرئيّ، هي من الغرائز البشريّة العليا،
الّتي لا بدّ أن يعرفها الإنسان ويعرف هدفها، فهي الهادية والمرشدة له، وكلّ غريزة
من هذا القبيل لا يكون وجودها عبثيّاً في الإنسان، بل وُجدت بناءً وتلبية لحاجة
ضروريّة لديه ألا وهي توجّه الإنسان إلى قدرةٍ قادرةٍ على غلبة وقهر الأسباب والعلل
الظاهرة، وبعبارة أخرى إلى الله القدير، ووُجدت هادية ومرشدة ليتحرّك هذا الإنسان
في سبيل سدّ تلك الحاجة.
وهذه الغريزة ما دامت موجودة فيه فإنّ لها واقعاً وحقيقة في الخارج. (فهي تشبه إلى
حدّ كبير بغريزة الرضاع لدى الطفل الوليد حيث يروح يبحث عن ثدي أمّه، ذلك الثدي
الّذي يناسب هذا الطفل ويحمل له الغذاء الضروري لحياته).
* المصدر / كتاب الدعاء للشهيد مرتضى مطهري.
1- نهج البلاغة. باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام، الحكمة 139 (بحسب
طبعة دار الهجرة، ط 1).
2- سورة الذاريات، الآية: 21.