العوامل المؤثِّرة في عمليّة التربية -2
تربية الأبناء
يُعتبر كلٌّ من الغذاء والظروف الصعبة التي يعيشها الإنسان، والشدائد التي يمرّ بها، بالإضافة إلى عامل الإرادة، وعامل ما وراء الطبيعة، من جملة العوامل المؤثّرة أيضاً في تشكّل هويّة الإنسان وبنيته الفكريّة والسلوكيّة.
عدد الزوار: 291
تمهيد
يُعتبر كلٌّ من الغذاء والظروف الصعبة التي يعيشها الإنسان، والشدائد التي يمرّ بها،
بالإضافة إلى عامل الإرادة، وعامل ما وراء الطبيعة، من جملة العوامل المؤثّرة أيضاً
في تشكّل هويّة الإنسان وبنيته الفكريّة والسلوكيّة. ونظراً لما تتمتّع به هذه
العوامل من أهمّيّة ومساهمتها المؤثّرة في تربية الأبناء دينياً، سنتناولها بالبحث
في هذا الدرس لتكتمل الصورة وتتضح أكثر.
التّغذية
لا يمكن إنكار تأثير الغذاء على سلوك الإنسان وتربيته الدينيّة والأخلاقيّة. من هنا
ولأجل أن يحدّ الدين الإسلامي من العواقب السلبيّة الناجمة عن طبيعة الغذاء، أوصى
كثيراً بالغذاء ونوعيّته؛ لأنّ مراعاة تلك التّعاليم بشكلٍ جيّد، سيحدُّ من بروز
الكثير من المشاكل التّربويّة.
فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال بشأن المرأة الحامل: "أطعِموا
المرأةَ في شهرها الذي تلِدُ فيه التّمرَ فإنَّ ولدَها يكونُ حليماً نقيّاً"1. طبقاً
لهذه الرواية، فإنّ تناول الأمّ للتمر في شهرها الذي تلد فيه له دوره في إكساب
الطفل صفات حميدة.
ثمّ إنّ الغذاء الأوّل الذي يتغذّى منه الطِّفل بعد ولادته هو حليب الأمّ، وهو
يؤثِّر على الطِّفل من جوانب عِدَّة، منها الجوانب الروحيّة والمعنويّة. لذا ورد
بشأن الغذاء من حليب الأمّ وطبيعته توصياتٌ في كلام الأئمّة المعصومين عليهم السلام
يجدر الاعتناء بها. يقول الإمام علي عليه السلام: "ما من لبنٍ رضع به الصبيّ أعظم
بركةً عليه من أمّه"2. وحول انتخاب المُرضعة قال عليه السلام:
"تخيَّروا للرِّضاع
كما تخيّرون للنّكاح؛ فإنّ الرضاع يُغيِّر الطِّباع"3. وعنه عليه السلام -أيضاً -
أنّه قال: "لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ اللبن يغلب الطباع"4.
فالغذاء الحلال له تأثيره الكبير في مرحلة الطفولة على التربية الدينيّة للأطفال،
ولذا يتوجَّب على الآباء والأمّهات الاعتناء بتعاليم المعصومين عليهم السلام، وأن
يستفيدوا من الأغذية الحلال؛ كي يربّوا أبناءً صالحين. فأغلب الشخصيّات الدّينيّة
والإسلاميّة العظيمة قد تربّت في حضن الآباء والأمّهات المؤمنين والمتديّنين، حيث
يُنقَل بشأن الشيخ الأنصاري أنّ والدته لم ترضعه ولا مرّة واحدة من دون أن تكون على
طهارة. ولقد وصل المرحوم الشيخ الأنصاري على إثر هذا الاعتناء والتربية العائليّة
السليمة إلى مقامٍ أضحى معه العالَم الإسلاميّ والحوزات العلمية الشيعيّة مَدِينة
لخدماته العلميّة والثقافيّة.
المصاعب والشّدائد
من العوامل الأخرى المؤثّرة في تربية الإنسان: المصاعب والشّدائد، التي لها دور مهمّ
في صقل روح الإنسان وجوهره، وبالتالي تفتّح الاستعدادات والقابليّات لديه لنيل
الكمالات الإنسانيّة.
في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ الله عزّ وجلّ لَيتعاهد المؤمن
بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة"5.
وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحبّ عبداً غَتَّهُ
بالبلاء غَتّاً، وثَجَّهُ بالبلاء ثَجّاً، فإذا دعاه، قال لبّيك عبدي، لئن عجّلت لك
ما سألت إنّي على ذلك لقادر، ولئن ادّخرت لك فما ادّخرت لك فهو خير لك"6.
من هذا المنطلق، تأتي أهمّيّة أن يكون الطِّفل منذ نعومة أظافره على تماس أكثر مع
الأمور المجهدة والمتعبة التي تتطلّب بعض المشقّة والعناء لنيلها والظفر بها. ولكن،
عادةً ما يُصار إلى العكس من ذلك في عملية تربية الأبناء. فممّا لا شكّ فيه أنّ
الإفراط في الدلال والغنج، يحُول دون معرفة كيفيّة التعاطي مع الشدائد، وسيثمر
أبناء عاجزين ضعفاء، ويُجرّدهم من سلاح المواجهة في ساحة الحياة، حتّى أنّ أصغر
حادثة لا تلائمهم يمكن أن تكسرهم، وأقلَّ تغييرٍ في أوضاعهم يمكن أن يُحطّمهم.
الإرادة
من بين العوامل المؤثّرة في التربية، تلعب الإرادة الدور الأبرز والأهمّ في تربية
الإنسان. فسعادة الإنسان وشقاؤه بيده وحده. وطالما أنّه لا يسعى في سبيل إحراز
سعادته الحقيقية، فإنّ العوامل الأخرى لا يمكنها أن تُوصله إلى السعادة. فالإنسان
وليد إرادته وسعيه، ببيان الإمام علي عليه السلام: "من أبطأ به عملُه لم يُسرع به
نَسبه"7.
وعلى أساس هذا العامل التربويّ، ينبغي تنمية عنصر الإرادة وتقويته عند الأولاد.
ولهذا ينبغي أن يتربّى الطِّفل بنحوٍ يشعر أنّه مسؤول، وأنّ لديه هامشاً من الحرية
ليقرّر ويختار. فالإكثار من الأمر والنهي وفرض المسائل والأمور الدينية، يجعل الولد
يستشعر من الدين المرارة، كما أنّ تحقير الأولاد والتعامل معهم بطريقة لا أخلاقية
كلّها أمور يُمكن أن تُضعف من عامل الإرادة والثِّقة بالنفس عند الأولاد. وفي
المقابل، فإنّ الابتعاد عن التشدّد في الأمور العباديّة والدينيّة، وترك هامش من
الإحساس بالحرّيّة يفسح في المجال أمام الأطفال، ليتذوّقوا حلاوة العبادة، ويُقوّي
من إرادتهم أكثر؛ وعندها سوف يُقبِلُون بشوقٍ وميلٍ نحو الآداب الدينية، وتكون
تربيتهم تربيةً دينيّةً وأخلاقيّة صحيحة.
تنقل السيدة فريدة مصطفوي 8 بشأن سيرة الإمام الخميني التربويّة ما يلي: في ما مضى
كان زوجي، ومن باب العادات العائلية، يوقظ ابنتي في الصباح من نومها الهانىء حتى
تصلّي صلاة الصبح، وعندما علم الإمام الخميني بالحادثة أرسل رسالة له قال فيها: لا
تجعل مذاق الإسلام الحلو مرّاً عند ابنتك. وكم كان هذا الكلام في مكانه! فلقد ترك
تأثيراً بالغاً على روحيّة ابنتي، بنحو أنّها في ما بعد كانت بنفسها تطلب بحرص
إيقاظها لصلاة الصّبح، وعندها فهمتُ معنى قوله تعالى:
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ﴾9. وعندنا في الروايات الإسلامية أيضاً تمَّ التأكيد على أنّ اكتساب
القلوب يحصل مع الميل والرَّغبة، وأنّ القلب إن حُمل على الإكراه والإجبار يغدو
أعمى.
العوامل الغيبية
من بين العوامل المؤثّرة في التربية أيضاً العوامل الغيبيّة التي هي أبعد من الأمور
الطبيعية، وهي غير ملموسة ومحسوسة للإنسان، ولكنّ لها دورها المهمّ في الحياة وعلى
صعيد تربية الإنسان؛ كالإمدادات والألطاف الإلهيّة. فالتّوجّه بالدُّعاء والمناجاة
والتضرّع في محضر الله تعالى، والتوسّل بالذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام،
والالتفات إلى الدور التربويّ للملائكة وطلب العون منهم، وغيرها... تُعدّ من عوامل
الغيب وما وراء الطبيعة المؤثّرة في تربية الأولاد. فما أكثر الأبناء الذين سعدوا
ووصلوا إلى أعلى درجات الكمال بفضل دعاء والديهم لهم بالخير. وما أكثر الأفراد
الذين بتضرُّعهم ودعائهم وتوسُّلهم، كانوا السبب في نجاة أبنائهم من المهالك
الجسديّة والرّوحيّة المختلفة، وحفظوهم من شرِّ الشياطين، وأعدّوا لهم أرضية
النُّصرة الإلهيّة؛ لأجل تربيتهم بشكلٍ سليمٍ وصحيح!
ومن جملة عوامل ما وراء الطبيعة استناداً للعقيدة الإسلامية؛ الملائكة والشياطين،
التي بسبب عدم محسوسيّتها وعدم إمكانيّة لمسها، لم يُجعل دورها في التربية مورد
اهتمام جدِّي. فالملائكة والشياطين تؤثِّر في تربية الإنسان، وعلاقتها بالإنسان هي
علاقةٌ طوليّةٌ؛ لأنّ الإنسان إذا أراد الخير فإنّ الملائكة تساعده وتعينه في هذا
الاتّجاه، وإذا أراد الشرّ فإنّ الشياطين تسانده في ذلك الاتّجاه أيضاً، دون أن
يكون أحدٌ منهما مسلّطاً على الإنسان؛ بمعنى أنّه لا يسلب الإنسان الإرادة
والاختيار. فالإنسان طالما أنّه بنفسه لم يمهِّد الأرضية المناسبة ويفتح المجال
للشياطين، فلا يمكن لأحدٍ أن يحمله على الشرّ.
وقد أشار الإمام علي عليه السلام - في ما يتعلّق بتربية النبي محمد صلى الله عليه
واله وسلم - إلى هذه الحقيقة بقوله: "ولقد قَرَن الله به صلى الله عليه واله وسلم
من لَدُنْ أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق
العالم ليله ونهاره"10.
أمّا الشياطين، فإنّ كلّ من فسح لهم المجال لنفوذهم يجعلونه تحت ولايتهم ويسوقونه
إلى الهلاك. يقول الله تعالى في ما يخصّ علاقة الشيطان بالإنسان:
﴿قَالَ رَبِّ
بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾11.
وعن الإمام علي عليه السلام أيضاً: "إنّ الشيطان يُسَنّي لكم طرقه، ويريد أن يَحلَّ
دينكُم عُقدةً عقدةً، ويُعطيكم بالجماعةِ الفُرقَة، وبالفُرقة الفتنة، فاصدِفوا عن
نزغاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممّن أهداها إليكم، واعقِلُوها على أنفسكم"12.
وفقاً لهذا العامل التربويّ، يجدر بالوالدين أن لا يغفلوا عن الاستمداد من العوامل
الغيبية؛ كالدّعاء، والتضرّع، والتوسّل، والذّكر، والمناجاة في ساحة قاضي الحاجات.
فما أكثر ما غيّر دعاءُ الأمّ والأب النابع من حرقة القلب مصير ولدهم حتى غدا من
زمرة الصالحين والحكماء؛ لأنّ دعاءهما هو من الأدعية التي تُستجاب سريعاً. وقد
علَّمنا أهل البيت والعصمة والطهارة عليهم السلام هذا الدرس عملياً من خلال تضرّعهم
وابتهالهم إلى الله سبحانه وتعالى بأن يحفظ لهم أولادهم، وأن يصحّ لهم دينهم
وأخلاقهم، وأن يعافهم في أنفسهم وجوارحهم؛ كما في دعاء الإمام زين العابدين عليه
السلام: "اللهمّ ومنّ عليّ ببقاء ولدي، وبإصلاحهم لي، وبإمتاعي بهم، إلهي امدد لي
في أعمارهم، وزد لي في آجالهم، وربّ لي صغيرهم، وقوّ لي ضعيفهم، وأصحّ لي أبدانهم
وأديانهم وأخلاقهم، وعافهم في أنفسهم وفي جوارحهم وفي كلّ ما عُنيت به من أمرهم،
وأدرر لي وعلى يدي أرزاقهم، واجعلهم أبراراً أتقياء بُصراء سامعين مطيعين لك
ولأوليائك محبّين مناصحين، ولجميع أعدائك معاندين ومبغضين آمين" 13.
* كتاب التربية الأسرية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- مستدرك الوسائل، ج
16، ص384.
2-وسائل الشيعة، ج 21، ص452.
3- م.ن، ج 21، ص468.
4-م.ن، ج 21، ص467.
5-الكافي، ج2، ص 255.
6-الكافي، ج2، ص 253.
7-نهج البلاغة، الخطبة 23.
8-ابنة الإمام الخميني.
9-البقرة، 256.
10- نهج البلاغة، الخطبة 192.
11- الحجر، 39-42.
12- نهج البلاغة، الخطبة 120.
13- الصحيفة السجادية، من دعائه عليه السلام لولده عليهم السلام.