آية الولاية
آيات الإمامة والولاية
روى الكثير من المفسرين والمحدثين في سبب نزول هذه الأية أنّها نزلت بحق عليّ عليه السلام.
عدد الزوار: 440
قال تعالى : ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
الَّذيِنَ يُقِيُمونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة/
55).
سبب النزول :
روى الكثير من المفسرين والمحدثين في سبب نزول هذه الأية أنّها نزلت بحق عليّ عليه
السلام.
فقد نقل السيوطي في «الدر المنثور» عن ابن عباس : إنّ علياً كان راكعاً وإذا سائل
فأعطاه خاتمه، فسأله النبي صلى الله عليه و آله من الذي أَعطاك هذا الخاتم؟ فأَومأَ
إلى علي عليه السلام وقال :
ذلك الراكع، فنزلت آية : ﴿إنّما وليكم اللَّه ...﴾ (1).
وفي الكتاب نفسه رويت روايات عديدة بنفس المضمون عن «ابن عباس»، و «سلمة بن كهيل»
وعن علي عليه السلام نفسه (2).
وروي المعنى نفسه في كتاب «أسباب النزول» للواحدي عن «جابر بن عبد اللَّه»، وكذا
عن «ابن عباس» (3).
يقول المفسر الشهير «جاراللَّه الزمخشري» في كتاب «الكشاف» : «إنّها نزلت في علي
عليه السلام حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه» (4)، وينقل الفخر
الرازي في تفسيره عن «عبد اللَّه بن سلام» : لما نزلت هذه الآية، قلت : يا رسول
اللَّه أنا رأيت علياً تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه.
كما ويروى عن أبي ذر قوله : صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوماً صلاة
الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللّهم
اشهد أني سألت في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فما أعطاني أحد شيئاً،
وعلي عليه السلام كان راكعاً فأوما إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل
السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى الله عليه و آله فقال : «اللّهم إنّ أخي
موسى سألك فقال : رب اشرح لي صدري- وأشركه في أمري فأنزلت قرآنا ناطقاً «سنشدُّ
عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً» فنزلت الآية (5).
وبطبيعة الحال فإنّ للفخر الرازي- وكالعادة- شبهات على كيفية دلالة هذه الآية على
الإمامة حيث سنشير إليها لاحقاً.
ويروي الطبري أيضاً في تفسيره روايات عديدة في ذيل هذه الآية وسبب نزولها، إذ تفيد
أكثرها أنّ هذه الآية نزلت بحق علي عليه السلام (6).
وأوردت طائفة اخرى هذه الرواية بعبارات مختلفة في حق علي عليه السلام، منها في كنز
العمال ج 6، ص 319 حيث ينقل هذه الرواية عن ابن عباس.
كما ينقل «الحاكم الحسكاني» الحنفي النيشابوري من علماء القرن الخامس المعروفين في
«شواهد التنزيل» بخمسة طرق عن «ابن عباس»، واثنين عن «انس بن مالك»، ومثلهما عن «محمد
بن الحنفية»، وواحد عن «عطاء بن السائب»، ومثله عن «عبد الملك بن جريح المكي» عن
النبي صلى الله عليه و آله آية «إنّما وليكم اللَّه» نزلت بحق علي عليه السلام
عندما تصدق بخاتمه وهو راكع (7).
ونقل المرحوم العلّامة الأميني هذه الرواية ونزول هذه الآية بحق علي عليه السلام عن
كثير من كتب السنّة فقارب العشرين كتاباً (مع ذكر دقيق لمصادرها ووثائقها)، وبإمكان
الراغبين مراجعة ذلك الكتاب للمزيد من الاطلاع (8).
ونقل هذا المعنى في كتاب احقاق الحق عن كثير من الكتب (9).
والأمر اللطيف الآخر هو أنّ شاعر الرسول صلى الله عليه و آله المعروف «حسان بن ثابت»
أورد هذه القضية في شعره على أنّها مسألة تاريخية مُسلّم بها.
فهو يقول في شعره مخاطباً علياً عليه السلام :
وأنت الذي أعطيتَ إذ كنتَ راكعاً***زكاةً فدتكَ النفس يا خير راكعِ
فانزل فيك اللَّه خير ولاية***وَبَيّنها في محكمات الشرائعِ (10)
ونقرأ في القصيدة الاخرى التي رواها «سبط بن الجوزي» عن «حسان» :
منْ ذا بخاتمه تَصدَّقَ راكعاً***واسرَّها في نفسه اسرارا! (11)
وموجز القول : إنّ نزول هذه الآية بحق علي عليه السلام ليس بالأمر الذي يُشككُّ أو
يرتاب فيه حتى أنّ مؤلف «منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة»، يقول : لقد نقلت
روايات «متظافرة» بل متواترة عن طرق أهل السنّة وأتباع مذهب أهل البيت عليهم
السلام بهذا الصدد. والمهم هو تبيين كيفية دلالتها على الولاية وخلافة النبي صلى
الله عليه و آله.
كيفية دلالة الآية على الخلافة :
لقد استند في الآية المذكورة على مفهوم كلمة «الولي»، وذكر الإمام علي عليه السلام
على أنّه ولي المسلمين، صحيح أنّ لكلمة الولي معانِيَ عديدة كما أشرنا إليها آنفاً،
فتارة تعني الناصر والصديق، واخرى جاءت بمعنى المتصرّف والحاكم المشرف وكما يقول
الراغب : إنّ أصلها بمعنى أن يحصل شيئان فصاعداً حصولًا ليس بينهما ما ليس منهما
ثم يضيف : «الولاية» بكسر الواو بمعنى «النصرة» و «الولاية» بفتح الواو تعني تولي
الأمر (12).
أمّا القرينة الموجودة في الآية فهي تدلّ على أنّ «الولي» هنا تعني المتولي
والمشرف وصاحب الخيار لأنّها لو كانت تعني الناصر والصديق والمعين لشملت المؤمنين
جميعاً، كما نقرأ في الآية : ﴿وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾. (التوبة/ 71)
بَيدَ أنّ الولاية في آية البحث اعتبرت منحصرة في حالة خاصة بذلك المتصدق في ركوعه،
وكلمة «إنّما» التي تفيد الحصر جاءت معها (تأملوا جيداً).
إنّ هذا التعبير يجعلنا نتيقن بأنّ «الولاية» في الآية الآنفة الذكر لا تعني
الصداقة والنصرة (وكذا سائر المعاني المشابهة والقريبة لهذا المعنى)، وعلى هذا
الأساس فلا مجال إلّا أن تكون بمعنى المتولي وصاحب الأمر المشرف، الذي توازي
ولايته ولاية اللَّه والنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.
والآية التالية : ﴿وَمَنْ يَتَولَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ﴾.
وحقيقة هذه الآية أنّها تتمّة لمضمون الآية المذكورة، وتلاحظ فيها قرينة اخرى على
تفسير الولاية بمعنى تولي الأمر والاشراف، لأنّ التعبير ب «حزب اللَّه» وانتصارهم
على الأعداء يتعلق بإقامة حكومة إسلامية لا على أساس الصداقة العادية، وهذا يفيد
أنّ كلمة الولي في الآية تعني المشرف والحاكم والماسك بزمام امور الإسلام والمسلمين،
لانّ معنى «الحزب» هو ضربٌ من التنظيم والتضامن الاجتماعي من أجل تأمين اهداف
مشتركة.
شبهات واعتراضات :
إنّ دلالة الآية على الإمامة والخلافة- كما رأينا- واضحةٌ، ولو كانت هذه الآية قد
نزلت بحق الآخرين ربّما لم يجرِ حولها أَدنى جدال! ولكن لكونها قد نزلت بحق علي
عليه السلام ولا تنسجم مع الغاية الناشئة عن الطائفية، فقد أصر البعض على إيراد
الشبهات على صدر الآية وذيلها وسبب نزولها ودلالتها من كل جانب.
ويمكن تصنيف هذه الشبهات إلى صنفين : فبعضها ذات صبغة علمية ظاهراً فيجب الرد
عليها بصورة علمية، إلّا أنّ البعض يستند إلى ما يُستَشَهدُ بهِ، وكذلك وجود
المبررات حسب زعم مثيريها فينبغي أيضاً بحثها ونقدها بشكل إجمالي :
1- الشبهة الاولى التي تعتبر من الصنف الأول هي أنّ الضمائر والأسماء الموصولة
التي في الآية جاءت بصيغة ضمير الجمع، مثل «الذين آمنوا» و «الذين يقيمون الصلاة»
و «يؤتون الزكاة» و «هم راكعون» فكيف والحالة هذه تنطبق على فردٍ واحدٍ.
فالآية تقول : إنّ أولياءكم هم الذين يتمتعون بهذه المزايا أي علي بن أبي طالب عليه
السلام.
والجواب : بالنظر إلى أن سبب نزول الآية الذي نقل بشكل مستفيض بل متواتر في كتب
الشيعة والسنّة لم يبق مجال للشكّ في أنّها ناظرةٌ إلى شخص واحد، وبتعبير آخر : إنّ
الروايات والتاريخ الإسلامي يشهد بأنّ التصدق على السائل في حال الركوع يختص بعلي
عليه السلام لأنّ القائم بالتصدّق واحد، ولم تقم به مجموعة، من هنا لابدّ من القول
: إنّ التعبير بصيغة الجمع جاء من أجل احترام وتعظيم منزلة ذلك الشخص.
وكثيراً ما يُشاهد في الأدب العربي أنّ لفظ الجمع جاء تعبيراً عن المفرد، فمثلًا
جاءت كلمة «نسائنا» في آية المباهلة بصورة الجمع، بينما المقصود منها فاطمة الزهراء
عليها السلام فقط طبقاً لصريح سبب النزول، وفي نفس الآية جاءت كلمة «أنفسنا» بصيغة
الجمع، والحال أنّ الجميع يسلّمون بأنّ لا أحد شارك في المباهلة غير النبي صلى الله
عليه و آله وعلي عليه السلام، وجاء في القرآن أيضاً في قصة «غزوة حمراء الأسد» : ﴿الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران/
173).
وهنا ذكر الناطق بهذا الكلام كلمة «الناس» التي تفيد الجمع بينما جاء في التاريخ أنّ
القائل ليس سوى «نعيم بن مسعود».
وجاء أيضاً بشأن نزول الآية : ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ
يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ...﴾. (المائدة/
52)
إذ نعلم هنا أنّها نزلت بشأن «عبد اللَّه بن أبي»، والحال أنّ الضمائر هنا جاءت
بصيغة الجمع.
كما أنّ الخطاب في الآية الاولى من سورة الممتحنة عامٌ بينما نزلت بشأن رجل يدعى
«حاطب بن أبي بلتعة»، وفي الآية التالية جاء الضمير بصيغة الجمع أيضاً : ﴿يَقُولُونَ
لَئِنْ رَّجَعنا إِلَى المَدِينَة ...﴾ (المنافقون/ 8) بينما كان القائل هو «عبد
اللَّه بن أُبى).
وكذلك في الآية : ﴿الَّذِينَ يُنِفقُونَ امَوَالَهُمْ بِالَّليلِ وَالنَّهَارِ﴾. (البقرة/
274)
التي نزلت في حق علي عليه السلام طبقاً للكثير من الروايات، بينما ضمائرها جميعاً
جاءت بصيغة الجميع.
وجاءت الآية 215 من سورة البقرة المتعلقة بالسؤال عن الأشياء التي يجب أن ينفقوها :
﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ بصيغة الجمع بينما كان السائل هو شخص يدعى «عمرو
بن الجموح» (13).
ولكن ما السبب في أن يأتي الكلام بصيغة الجمع في هذه الحالات مع أنّ المراد شخص
واحد؟ ربّما يكون سببه في بعض الحالات، الاحترام، وفي بعضها إشارة إلى مؤازرة
الآخرين لذلك الشخص، وبالتمعّن في الحالات أعلاه يمكن تمييز حالات الاحترام عن
حالات المؤازرة.
فضلًا عن كل ذلك فنحن نعلم أنّ ضمير الجمع «المتكلم مع الغير» قد استخدم في آيات
القرآن في حالات لا حصر لها أثناء حديث اللَّه عن نفسه، مع أنّ ذاته المقدّسة لا
نظير لها في الوحدانية والتفرد، وهو «أحد واحد» من جميع الجوانب، وهذا مرده إلى أنّ
العظيم يمتلك جنوداً مطيعين وممثلين لأوامره في أداء ما يشاء، وهذا يؤدّي إلى
استخدام ضمير الجمع مع كونه مفرداً، وبتعبير آخر أنّ ضمير الجمع هذا دليلٌ على
عظمته وسمو مقامه.
3- الشبهة الثانية هي أنّ من المُسلَّم به أنّ علياً عليه السلام لم تكن له ولاية
بمعنى الحكم وقيادة المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه و آله، فكيف يتعين تفسير
الآية هكذا؟ الجواب عن هذا السؤال واضح، فكثيراً ما شاهدنا خلال التعابير اليومية
بأنّ يطلق اسم أو عنوان على أشخاص مرشحين أو منتخبين لذلك المنصب وإن لم يمارسوا
العمل به بعد، أو بتعبير آخر : إنّهم يتمتعون بذلك المقام بالقوة لا بالفعل.
فمثلًا يقوم إنسان في حياته بتعيين شخص ما «وصياً» له، وبالرغم من كونه حياً فإننا
نقول : إنّ فلاناً وصيّه أو القيِّم على أطفاله.
فإطلاق الوصي والخليفة على علي عليه السلام في عهد النبي صلى الله عليه و آله كان
من هذا القبيل أيضاً، حيث اختاره النبي صلى الله عليه و آله في حياته لهذا الأمر
بإذنٍ من اللَّه، وأثبت له الخلافة بعد رحيله.
ويلاحظ هذا المعنى أيضاً في الآية الكريمة إذ يطلب زكريا من اللَّه تعالى : ﴿هَبْ
لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّ﴾ (مريم/ 5).
واستجاب اللَّه له ووهبه يحيى، ومن المسلم به أنّ يحيى لم يكن خليفته ووليه
ووارثه في حياته، بل عُيّنَ لما بعد حياته.
ويشاهد نظير هذا الكلام في واقعة «يوم الانذار» (اليوم الذي جمع به النبي صلى الله
عليه و آله أقرباءَه ليدعوهم إلى الإسلام للمرة الاولى)، فطبقاً لما ذكره «المؤرخون»
الإسلاميون سواء من السنّة أو الشيعة، أنّ النبي صلى الله عليه و آله أومأ إلى علي
صلى الله عليه و آله في ذلك اليوم وقال :
«إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوه» (14).
فهل يتسبب التعبير أعلاه في خلق مشكلة في عهد النبي صلى الله عليه و آله؟
فلا شكّ في أنّ الجواب سيكون بالنفي، فالتعبير بالولي في آية البحث هو كما أشرنا
إليه.
أمّا شبهات الفريق الثاني (التبريرات) فهي عديدة أيضاً منها :
1- قولهم : أي زكاة واجبة كانت متعلقة بذمة علي عليه السلام وهو الذي لم يكن يجمع
لنفسه من مال الدنيا أي شيء؟ وإذا كان المراد الصدقة المستحبة فلا يقال لها زكاة؟
الجواب :
أولًا : إنّ موارد إطلاق الزكاة في القرآن الكريم على الزكاة المستحبة كثيرة،
فكثيراً ما ورد في العديد من السور المكية اسم «الزكاة» والمراد منها الزكاة
المستحبة، إذ إنّ وجوبها كان بعد هجرة النبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة.
والآيات 3 من سورة النمل، و 39 من سورة هود، و 4 من سورة لقمان من جملة الموارد
التي جاءت فيها كلمة الزكاة، ونظراً لكون هذه السور مكية فإنّ المراد هو الزكاة
المستحبة.
ثانياً : صحيح أنّ علياً عليه السلام لم يدخر من مال الدنيا إلّا أنّه كانت
تأتيه حصة من بيت المال، ومن المتيقن أنّه كان يمتلك وارداً بسيطاً من مجهوده أيضاً،
وأنّ الخاتم المذكور من الفضة والظاهر أنّه كان رخيصاً، على هذا الأساس فإنّ تعلق
هذا القدر من الزكاة البسيطة به عليه السلام ليس مستبعداً أبداً، وأنّ المبالغة بما
قالوه بشأن قيمة ذلك الخاتم لا أساس لها من الصحة على الاطلاق.
ثالثاً : ألا يتعارض الانتباه إلى السائل مع حضور القلب في الصلاة
والاستغراق في مناجاة الخالق جل وعلا مع القول السائد عنه : (حتى عرف بأنّ نصلًا
وقع في رجله فأخرجوه أثناء الصلاة ولم يُحسّ) (15) فكيف يتسنى له الانتباه إلى
السائل أثناء الصلاة؟!
الجواب : إنّ الذي يورد هذا الإشكال غافل عن سماع صوت السائل ومساعدته فما قام به
عليٌّ عليه السلام لا يعتبر توجها إلى غير اللَّه، أو إلى الذات أو الامور
الدنيوية، بل إنّه في واقع الأمر توجّه إلى اللَّه.
فقد كان القلب المقدس لعلي عليه السلام يشعر بالسائلين، ويستجيب لندائهم فقد مزج
عمله العبادي هذا بعبادة اخرى، وتصدق أثناء الصلاة، وكلاهما كان للَّه وفي سبيله.
ومثل هذا الإشكال في الحقيقة إشكال على القرآن الكريم، لأنّ اللَّه تعالى قد
امتدح في هذه الآية اعطاء الزكاة أثناء الركوع، ولو كان هذا العمل دليلًا على
الغفلة عن ذكر اللَّه فلا ينبغي أن يستند إليها كصفة سامية وفائقة الأهميّة.
فهؤلاء المتعصبون يريدون في الواقع انكار فضل علي عليه السلام فيُشكلون على اللَّه
عزّ وجلّ.
انتبهوا هنا إلى كلام الرازي فهو يقول : «وهو أنّ اللائق بعلي عليه السلام أن يكون
مستغرق القلب بذكر اللَّه حال ما يكون في الصلاة، والظاهر أنّ من كان كذلك فانّه لا
يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه» (16).
علينا أن نسأل الفخر الرازي أن إذا كان هذا العمل خلافاً لآداب الصلاة وحضور القلب،
فلماذا اثنى عليه الباري جلّ وعلا، واعتبر ولاية المؤمنين حقيقة بمثل هذا الشخص؟!
على أيّة حال، فلا مجال للشك في أنّ سماع صوت المحتاج والاستجابة له في حال الصلاة
عبادة مضاعفة حصلت في آن واحد، وعلينا أن نعوذ باللَّه من التعصب الذي يبعدنا عن
الحقائق.
3- ومن جملة التبريرات التي طرحت هنا بصيغة إشكال هو : إنّ التصدق بالخاتم على
السائل فعل كثير ويتعارض مع الصلاة!.
ليس هناك ما يدعو للعجب، فعندما يريد الإنسان أن لا يذعن للواقع فإنّه يصطنع
التبريرات ليحاجج بها، وهو على يقين بأنَّ تبريراته واهية؟!
والجواب :
أولًا : إنّ عملية اخراج الخاتم تمّت بإشارة بسيطة وعلى ضوء جميع الفتاوى فإنّ هذا العمل لا يعتبر فعلًا كثيراً ولا يوجب الإشكال في الصلاة، لا سيما إذا أشار الإمام عليه السلام إشارة بسيطة، والسائل اخرجه بنفسه.
ثانياً : لقد صرح الفقهاء بأنّ
حتى قتل الحيوان اللادغ مثل «العقرب» أثناء الصلاة، أو رفع الطفل أثناء الصلاة، أو
حساب عدد الركعات عن طريق الحصى، بل وحتى غسل جانب من اللباس أو اليد إذا تنجست
أثناء الصلاة، لا يضر بالصلاة، بينما يعتبر اعطاء الخاتم للسائل أو اخراجه أبسط من
ذلك بكثير.
4- يقول المبررون : من اين جاء علي عليه السلام بذلك الخاتم النفيس؟ وألم يكن
التختم به إسرافاً؟
الجواب : من الذي قال : إنَّ ذلك الخاتم كان نفيساً، ولماذا نصغي ونصدّق بمثل ذلك
الهراء الفارغ، ونسير رويداً رويداً نحو إنكار آية قرآنية؟
لقد ورد في رواية واحدة مرسلة وضعيفة أنّ قيمة ذلك الخاتم كانت تعادل خراج الشام!
حيث من المسلم به أنّها أكثر شِبهاً بالخرافة لا بالحقيقة، ولعلها جعلت من قبل
الذين وضعوها بقصد التقليل من قيمة هذه الفضيلة العظيمة.
إنَّ في مثل هذه الحالات ليس المهم أن ينفق فيها بل المهم هو أنّ الإنسان نفسه
محتاج إلى الشيء ويغضُّ الطرف عنه في سبيل اللَّه، ويكون هذا الفعل مقروناً بغاية
الاخلاص في النيّة.
فعندما تنزل سورة كاملة في القرآن وهي (سورة هل أتى) بسبب اعطاء بضعة اقراص من
الخبز (وفي حالة من الجوع طبعاً) إلى المسكين واليتيم والأسير في سبيل اللَّه، فما
العجب في أن تنزل آية بشأن التصدق بخاتم على فقير أثناء الصلاة.
وأمثال هذه الشبهات التي يؤدّي التطرق إلى ذكرها والرد عليها إلى ضياع الوقت.
* المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الكتاب أو المصدر : نفحات
القران
(1) تفسير در المنثور، ج 2، ص
293.
(2) المصدر السابق.
(3) أسباب النزول، ص 148.
(4) تفسير الكشاف، ج 1، ص 649.
(5) تفسير الكبير، ج 12، ص 26.
(6) تفسير جامع البيان، ج 6، ص 186.
(7) للمزيد من الاطلاع على الطرق المذكورة، راجعوا شواهد التنزيل ص 161- 168.
(8) الغدير، ج 2، ص 52 و 53.
(9) احقاق الحق، ج 2، ص 399- 407.
(10) روي شعر حسان بن ثابت في كثير من الكتب باختلاف بسيط، منها في تفسير روح
المعاني، وكفاية الطالب للكنجي الشافعي وكتب اخرى.
(11) تذكرة الخواص، ص 10، ونقله الكنجي الشافعي أيضاً في كفاية الطالب ص 123 وعد
قائليه بعدة شعراء.
(12) مفردات الراغب، مادة (ولي) وذكر البعض 27 معنى للمولى (الغدير، ج 1، ص 362)
إلّا أنّ اصول معانيها ذانك المعنيان والبقيّة ترجع إليهما.
(13) للمزيد من الاطلاع على مصادر هذه الروايات، يراجع التفسير الأمثل، ذيل الآية
215 من سورة البقرة.
(14) روى هذا الحديث الكثير من علماء السنّة مثل، ابن أبي جرير وابن أبي حاتم وابن
مردويه وأبي نعيم والبيهقي والثعلبي والطبري، وأورد ابن الأثير هذا الكلام في ج 2
من كتاب الكامل، وكذلك «أبو الفداء» في الجزء الأول من تاريخه، وجماعة آخرون
(للمزيد من الاطلاع انتظروا البحوث الآتية).
(15) نص الرواية هكذا، روي أنّه وقع نصلٌ في رجله فلم يُتَمكن من اخراجه فقالت
فاطمة عليها السلام أخرجوه في حال صلاته فإنّه لا يحسّ بما يجري عليه حينئذٍ فأُخرج
وهو في صلاته (المحجة البيضاء، ج 1، ص 398- احقاق الحق، ج 2، ص 414).
(16) التفسير الكبير، ج 12، ص 30