الدَّولَة الصّفويَّة
دول الشيعة في التاريخ
من ينظر إلى الدولة الأموية وتاريخها يعلم إلى أي مدى كانت مكروهة عند الناس، ثقيلة الوطأة عليهم، وكيف قامت الفتن والثورات على عهدهم، وكثر الدعاة ضد حكمهم وسلطانهم.
عدد الزوار: 242
من ينظر إلى الدولة الأموية وتاريخها يعلم إلى أي مدى كانت مكروهة عند الناس، ثقيلة
الوطأة عليهم، وكيف قامت الفتن والثورات على عهدهم، وكثر الدعاة ضد حكمهم وسلطانهم.
فإذا ما خلا الأستاذ بتلاميذه حدثهم عن استهتار الأمويين بالقبائح والمعاصي، وإذا
انتقل المسافر من قطر إلى قطر بث مساوئهم ومظالمهم.
وقد ساعدت السياسة الأموية البغيضة أنصار العلويين، وأمدتهم بأبلغ الحجج وأقواها،
حتى أثمرت دعوتهم، وآتت أكلها في الأقطار الإسلامية، بخاصة في إيران التي هي أقرب
بلد إلى عاصمة الخلافة، وأهلها أكثر اختلاطاً بالعرب من غيرهم، ولكن الدعوة العلوية
استغلها العباسيون لمصلحتهم، كما هو معروف، وكما بيناه في كتاب «الشيعة والحاكمون»،
فالتشيع لآل البيت دخل إيران قبل أن يذهب الإمام الرضا إلى خراسان، ولكن العباسيين
زعموا أنهم هم الآل دون غيرهم1 وبعد ذهاب الرضا إلى خراسان عرفت الحقيقة، وظهر فيها
التشيع الحق.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن أفراداً من التابعين ذهبوا سنة 83 هجري إلى قم، ونشروا
التشيع بين أهلها، ومن هاتين القاعدتين: قم وخراسان انطلق التشيع إلى كثير من
الربوع الإيرانية، حتى جاء الصفوين فعمها جميعاً، وتجاوز إلى ما وراء الحدود.
الشاه إسماعيل:
هو إسماعيل بن حيدر بن جنيد بن صفي الدين الذي ينتهي نسبه إلى الإمام موسى
الكاظم (ع). وهو أول ملوك الصفوية، ومؤسس دولتهم، وكان آباؤه وأجداده من العرفاء
وشيوخ الصوفية، فلقبوا لذلك بلقب سلطان، وما أن أتم إسماعيل العام الرابع عشر من
عمره، حتى ألف جيشاً من أتباع أبيه ومريديه، وقاده بنفسه للغزو والفتح، وكانت إيران
يومذاك موزعة الأطراف بين عديد من الملوك والأمراء ورؤساء القبائل، فاستخلصها منهم
الواحد تلو الآخر، ووحدها تحت سلطانه.
في سنة 905 هجري استولى على شيروان بعد أن قتل حاكمها، وفي سنة 906 فتح تبريز بلا
مقاومة، وفي سنة 907 توجه إلى همدان، واستولى عليها بلا كبير عناء، وفي سنة 909 ملك
كيلان، وفي سنة 912 أخذ ديار بكر، وفي سنة 914 دخلت بغداد في حكمه.
قال «رونلدس» في كتاب «عقيدة الشيعة» معرب ص 77 طبعة 1946: «مد الشاه إسماعيل
سلطانه من خراسان حتى هراة، فضلاً عن ضمه المقاطعات الجنوبية إلى أملاكه، حتى إذا
جاء عام 1509 م كانت رقعة مملكته تمتد من نهر جيحون إلى خليج البصرة، ومن بلاد
الأفغان إلى الفرات».
وخاف الأتراك على سلطانهم من قوة الشاه إسماعيل، فهاجمه بايزيد بجيش مؤلف من
الأتراك والتركمان، ففرق الشاه شمله، وانتصر عليه. ولما خلع بايزيد، وقام مقامه
ولده السطان سليم هاجم إيران بمائة وخمسين ألف جندي ومائتي مدفع، وتوغل في إيران،
حتى دخل العاصمة تبريز، وكان الشاه غائباً عنها في همدان، وكان الأتراك يحاربون
بالمدافع والأسلحة الحديثة، والإيرانيون يدافعون عن أنفسهم بالسلاح القديم، ولكن
الأتراك اضطروا للانسحاب حين جاء الشتاء، لشدة البرد، وقلة الزاد، وانتشار الوباء
في جيوشهم، وكان السلطان التركي قد قتل عشرات الألوف من الشيعة.
قال «لونكريك» في كتاب «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص 17 الطبعة الثانية: «كانت
بطولة القضية السنية أول حجة تذرع بها سليم لإعلان الحرب.
وقد خلد الأشهر من حكمه بالذبح المتقن لجميع الشيعة أينما وجدوا». هذا بعد أن
استحصل السلطان من شيوخ السوء على فتوى باستباحة دماء الشيعة وحريمهم وأموالهم.
وقال السيد الأمين في ج 11 من «الأعيان» ترجمة الشاه اسماعيل: «قتل السلطان سليم
أربعة وأربعين ألفاً، وقيل سبعين ألفاً من الشيعة في الأناضول، وفي هذا العصر
استولى الاسبانيون على بلاد الأندلس، وأزالوا دولة بني الأحمر العربية، واستنجد بنو
الأحمر بالسلطان التركي والد السلطان سليم، فلم ينجدهم، حتى فعل بهم الاسبانيون ما
فعلوا، ولكن السلطان التركي قتل الشيعة المسلمين في بلاده، وحارب السلطان الفارسي
المسلم... وهكذا كان بأس الملوك المسلمين بينهم».
الشاه إسماعيل والتشيع:
قال المستشرق الكبير «براون» المتخصص بالأدب الإيراني في كتاب «الأدب في إيران»
معرب ص 20 طبعة 1954: «كان الفاطميون في مصر أكبر خصوم العباسيين من الناحية
الدينية والسياسية، وكانوا يمثلون فريقاً من الفريقين العظيمين اللذين انقسم إليهما
المتشيعون لعلي، فالفريق الأول هم الإسماعيلية الذين ينتسب إليهم الفاطميون،
والفريق العظيم الآخر من فرق الشيعة هم الاثنا عشرية، وكان الفرس دائماً يميلون
إليه، حتى اتخذوه مذهباً رسمياً لهم عند قيام الدولة الصفوية على يد الشاه عباس سنة
908 هجري».
وأمر الشاه عباس أن يؤذن بحي على خير العمل في جميع بلاد إيران، ونقش على النقود
اسم علي وآله، ونشر في الأقطار المجاورة لإيران الدعاة لمذهب التشيع، وحين دخل إلى
بغداد، وذلك في 25 جمادى الآخرة سنة 914، فرح الناس بقدومه، والتجأوا إلى عدله،
وكانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، وأخذوا يقدمون القرابين والذبائج إكراماً له، وفي
اليوم التالي بلا فاصل توجه إلى كربلاء، وأدى مراسم الزيارة، وبات ليلته معتكفاً في
الحائر، منكباً على قبر الحسين الشهيد (ع)، وأمر بصنع الصندوق المذهب للقبر الشريف،
وعلق بالحضرة 12 قنديلاً من الذهب، وفرشها بأنواع السجاد الثمين، كما أمر بصنع
صناديق أخرى للنجف الأشرف والكاظمية وسامراء بدلاً عن صناديقها القديمة.
ثم سافر إلى النجف الأشرف، وتشرف بزيارة المشهد العلوي، وقدم القناديل من الذهب
والفضة، والمفروشات الثمينة، وفي هذه السنة شرع ببناء حرم الكاظميين والمسجد الكبير
المعروف بمسجد الصفويين. وأمر بحفر النهر الذي كان قد حفره عطا ملك، ثم اندثر بمرور
الزمن، فجدده الشاه إسماعيل، ووقف ريعه على خدام المشهدين: العلوي والحسيني، هذا،
إلى حبه وتعظيمه العلماء والعلويين، وإنعامه عليهم بالأموال والمناصب، والاستعانة
بأهل الكفاءة والمقدرة على نشر المذهب، وإعلان أسماء الأئمة الاثني عشر على المنابر
وفي المحافل، وبشتى المناسبات2.
ولده الشاه عباس سنة 892، وتولى السلطنة سنة 905، وتوفي سنة 930 في تبريز، ودفن في
مقبرة جده صفي الدين بأردبيل، ومدة ملكه 24 سنة وخلفه ولده الشاه طهماسب.
الشاه طهماسب:
وما أن ملك الشاه طهماسب بعد أبيه، حتى قامت في وجهه القلاقل، والفتن الداخلية،
وثار عليه أخوه القاص ميرزا، وكان له أعوان وانصار. وأعلن سليمان القانوني ابن
السلطان سليم الحرب على الشاه، واستولى على أذربيجان، ودخل جيشه تبريز، ومكث فيها
غير أن البرد القارص، والأمطار الشديدة جرفت قسماً من المدفعية، وأماتت الحيوانات،
فاضطر الأتراك إلى الانسحاب، واتجه السلطان إلى بغداد، فاستولى عليها، وأفتى له
شيوخ السوء بقتل الشيعة المارقين3، وخرج العراق من أيدي الإيرانيين سنة 941 هجري،
وكانوا قد استولوا عليه سنة 914، وبنى السلطان قبر أبي حنيفة، كما زار العتبات
المقدسة في الكاظمية وكربلاء والنجف4.
وتدلنا هذه الحوادث، وما إليها أن الدولة الإيرانية، والدولة التركية كانتا أقوى
دول الشرق على الإطلاق، وأن غيرهما من الدول والإمارات كانت تتذبذب بين
الإمبراطوريتين، فتارة تؤثر طاعة هذه، وأخرى تلك، حسب الظروف والمناسبات.
الشاه طهماسب والتشيع:
وترسم الشاه طهماسب خطى أبيه الشاه إسماعيل في تأييد المذهب، وقد بالغ في إكرام
العلماء وأهل الدين، حتى جعل أمر المملكة بيد عالم العصر المحقق الثاني الشيخ علي
عبد العال، وقال له فيما قال: أنت أولى مني بالملك، لأنك نائب الإمام حقاً، وأنا
عامل منفذ، وكتب إلى جميع الولاة، وأرباب المناصب بإطاعة الشيخ، والعمل بأوامره
وتعاليمه، فكان الشيخ يطبق الشرع الشريف، ويقيم الحدود، كما عين الأئمة للصلاة،
والمدرسين في المدارس، والوعاظ لبث المذهب ونشره.
ومن آثار الشاه طهماسب ترميم الحائر الحسيني، واصلاحه، وتوسيع الصحن، وتجديد
المنارة المعروفة بمنارة العبد.
ولد هذا الشاه سنة 919 هجري، وملك سنة 930، ومات سنة 984، وكانت مدة ملكه 54 سنة.
وكان له أولاد كثر، تنازعوا الملك بعده، وتغلب أحدهم على اخوته، وهو إسماعيل الثاني،
وبقي في الحكم سنة واحدة وبضعة أشهر، وقام بعده أخوه محمد خدابنده، وكان أعمى، ضعيف
الرأي، وقد اضطرب أمر المملكة على عهده، وقامت ثورات وفتن، وانشق عليه ولده عباس،
واستقل بالحكم.
الشاه عباس:
استتب له الأمر سنة 996 هجري، وكان معروفاً بأصالة الرأي، وقوة العزم، وحسن
التدبير، والعدل في الرعية، وكانت البلاد الإيرانية حين تولى الملك مجزأة الأطراف،
موزعة بين الأتراك والتركمان بسوء إدارة أسلافه، فاسترجعها ووحدها تحت سلطانه،
وأنشأ لأول مرة في تاريخ إيران، أو الصفويين العلاقات السياسية والعلمية والعسكرية
بين إيران، ودول أوروبا، كفرنسا، وانكلترا، وإيطاليا.
وما أن أخضع الثائرين والخارجين عليه، حتى حشد الأتراك على الحدود الإيرانية مائة
ألف جندي، فصدهم الشاه عباس، وأرجعهم خاسرين، وقد تبين له من حربه مع الأتراك أن
الجيش الإيراني ينقصه التدريب والنظام، فاستقدم الخبراء الأجانب، فنظموا له الجيش
على الطرق الحربية الحديثة يومذاك، ولما اطمأن إلى جيشه زحف به على بقية الأقطار
التي انتزعها الأتراك من الإمبراطورية الإيرانية، واستردها قطراً بعد قطر، حتى
استرجع أذربيجان وشطوط بحر قزوين وبلاد الجراكسة والعراق والموصل وديار بكر
وكردستان وما يليها، وكانت جيوشه - بعد أن دربت تدريباً حديثاً - تتغلب على جيش
العدو الذي كان يبلغ - أحياناً - ضعفي عدد عساكره.
وقد اتخذ اصفهان قاعدة ملكه، ونظم أحوالها، واحسن تدبيرها، وكانت العاصمة قبله
مدينة تبريز، ثم قزوين.
الشاه عباس والعمران:
لا نعرف سلطاناً كان يملك عقلاً عمرانياً، ويفكر ويعمل ليل نهار لراحة الرعية
ورفاهيتها أكثر من الشاه عباس، لقد وهب هذا الشاه نفسه وخزينته، وكل ما يملك لصلاح
الشعب وإصلاحه، وجعل العمل للخير العام هدفه الأول ومثله الأعلى، وآثاره القائمة
إلى اليوم أصدق الشواهد. إن وجود ملك في عصر الظلمات تتسم جميع أعماله بطابع
الإنسانية والمصلحة العامة لهو من خوارق العادات، ولنشرع الآن في تقديم الأمثلة:
منها: أنه استقدم العديد من الخبراء بالتجارة والصناعة، مع عائلاتهم من الأرمن
وغيرهم، وبنى لهم مدينة خاصة في ضواحي أصفهان عاصمة ملكه، وأنشأ فيها الكنائس
والأسواق، وأطلق لهم الحرية الدينية بكامل معانيها، وقد تعلم الإيرانيون من هؤلاء
أنواعاً من الفنون والصناعات، وكانوا عاملاً قوياً في حضارة إيران، ورفع مستواها
الاقتصادي.
قال شاهين مكاريوس في «تاريخ إيران»: خطت البلاد في أيامه خطوة واسعة إلى العظمة
والتقدم، فكثرت التجارة مع الإفرنج، وتردد التجار والسائحون إلى البلاد، وتوطدت
العلاقات الطيبة مع دول أوربا وسلطان الهند. وشاد الصروح الفخمة، وزين المدائن،
وأمر بالعدل، وترك من الآثار العظيمة ما يخلد الذكر، بخاصة في أصفهان التي ليس لها
مثيل في الشرق5 وهو أعظم سلاطين المشرق، وأشهر ملوك إيران، حتى أن الإيرانيين
يطلقون عليه عباس شاه الكبير، ويظنون أن كل ما في إيران من الآثار القديمة هي من
حسناته».
وقال صادق نشأت، ومصطفى حجازي في «صفحات عن إيران»: «وقد نشط الشاه عباس الكبير في
إقامة علاقات سياسية مع دول أوربا مما ساعد على تبادل المعلومات الصحيحة بين إيران
وأوروبا، وكان عباس الكبير يبدي روح التسامح الديني نحو غير المسلمين، وكان يهتم
بترقية إيران صناعياً، وقد أحضر ثلاثمائة من الصناع الصينيين المهرة في صناعة الخزف،
مع عائلاتهم، ليعلموا الصناع الإيرانيين الجودة في هذه الصناعة، ويدربوهم على
إتقانها، وأخذت إيران تنتج الخزف بكميات هائلة. أما الصناعات الأخرى فإن صناعة
السجاد قد بلغت في عهد الصفويين حدا من الروعة والاتقان كان أساساً لتفوقها الكبير،
كذلك ارتفعت صناعة المنسوجات الحريرية ذات الخيوط الفضية والذهبية والنماذج
الزخرفية البديعة».
ومنها: اهتمامه البالغ بشق الطرق وتعبيدها، وتسهيل المواصلات بالأساليب المألوفة في
عهده، حتى أنه بنى ألف خان، يتسع الواحد منها لمئات المسافرين مع دوابهم وحمولتهم،
وكانوا يأوون فيها دون أي مقابل، ومعلوم أن هذه الخانات كانت ضرورية لمواصلة السير
والتنقل، ولولاها لاستحال على المسافرين أن يقطعوا المسافات النائية. وما زالت آثار
هذه الخانات قائمة، حتى اليوم.
ومنها: عنايته بالرياضيين المعروفين في إيران «بالبهلوان» فقد خصص لهم جناحاً خاصاً
في قصره، واعتبرهم من رجال بلاطه.
ومنها: تشييده المساجد والمدارس الفخمة على أحدث طراز.
ومنها: تكريمه العلماء والفقهاء بشتى أنواع التكريم والتعظيم، حتى كثرت في عهده
المؤلفات في الفقه والحديث والأصول والأخلاق، وغيرها. قال السيد محسن الأمين في
الجزء الثاني من «معادن الجواهر»: «كان سوق العلم في عصره بأصفهان في رواج عظيم،
وكان يصدر عن رأي المحقق السيد الداماد، والشيخ بهاء الدين العاملي في خطير الأمور
وحقيرها، وألف البهائي كثيراً من الكتب باسمه، كالجامع العباسي وغيره».
إلى غير ذلك من الأعمال الجليلة، هذا، وكان يرفض التفخيم والتعظيم، ويأبى أن يطلق
عليه الألقاب، وأن يُدعى بغير وكيل الرعية، لأن هذا هو واقع كل حاكم، ومن حاد عن
مفهوم الوكالة وحدودها فهو طاغية مستبد. وكان شديد الاتصال بالناس مهتماً بمعرفة
أحوالهم، وما هم عليه من بؤس أو نعيم، وكان يلبس كل ليلة لباس الدراويش ويتنقل في
الشوارع يتنسم الأخبار، ويتفقد الفقراء والمعوزين، وكان يفعل ذلك في حروبه أيضاً،
ومن طريف ما حدث له أنه دخل ذات ليلة إلى جيش الأتراك حين تجمع على حدود إيران،
متنكراً بغير زيه هو وبعض أعوانه، ولما رآهم بعض الضباط دعوهم إلى تناول الطعام،
فلبى الشاه الدعوة، وأكل مظهراً الغبطة والسرور، ثم دعا أولئك الضباط إلى زيارة
معسكر الإيرانيين، ومناولة الطعام، فقالوا: نتمنى ذلك من صميم الفؤاد، عسى أن يقع
نظرنا على الشاه الذي اشتهر هذه الشهرة الكبرى، وهو بعد في مقتبل العمر، وجاء
الضباط مع صاحب الدعوة إلى معسكر الإيرانيين، وما أن دخلوا المعسكر، حتى عرفوا
الحقيقة، فأكرمهم الشاه وأولم لهم الولائم، ثم أعادهم إلى أماكنهم، فعظمت مكانته في
نفوسهم، وظلوا يتحدثون عنه بالإكبار والإجلال6.
الشاه عباس والتشيع:
أشرنا فيما تقدم إلى عناية الشاه بعلماء المذهب، وصدوره عن رأيهم، وكثرة
تآليفهم في عهده، وكان مع كثرة حروبه ومغازيه لا يقعده شيء عن إحياء الشعائر
المذهبية، وله آثار باقية، حتى اليوم في مشاهد الأئمة بالعراق وإيران، وهو الذي بنى
الحضرة العلوية في النجف وصحنها بهندسة الشيخ البهائي، وحجره بالكاشي على الهيئة
التي هي عليها اليوم، وقد أودع في خزانة أمير المؤمنين وحفيده الرضا التحف الثمينة،
ومن آثاره النهر المعروف في النجف بنهر الشاه، وقد حفره سنة 1032 هجري بعد أن فتح
بغداد، كما أن من آثاره في النجف آباراً واسعة كثيرة، وهي تسمى اليوم «الشاه
عباسات»7.
ولد الشاه عباس سنة 979، واستقل بالملك سنة 996، وتوفي سنة 1038.
وتولى الملك بعده أولاده وأحفاده، وليس فيهم من يستأهل الذكر سوى حفيده الشاه عباس
الثاني ابن الشاه صفي، قال صاحب «تاريخ إيران»: إنه اظهر سياسة واقتداراً، وإنه عقد
صلحاً مع الأتراك، فلم تحدث الحروب في أيامه، كما نمت المتاجر وتقدمت العلوم
والصنائع، ورتعت البلاد في بحبوحة الأمن والراحة».
وقال السيد الأمين في «معادن الجواهر»: «كان عارفاً بتدبير شؤون الملك مكرماً
العلماء، وقد أمر المولى خليل القزويني بشرح كتاب الكافي للكليني بالفارسية،
والمولى محمد تقي المجلسي بشرح كتاب من لا يحضره الفقيه، وأحضر المولى محسن الكاشي،
وألزمه بإقامة الجمعة والجماعة، واقتدى به».
واستمر ملك الصفوية من سنة 905 هجري إلى سنة 1148، وهي السنة التي جلس فيها نادر
شاه أفشار على أريكة السلطنة.
ومن علماء الدور الصفوي المحقق الكركي، والسيد الداماد، والشيخ حسين عبد الصمد،
وولده الشيخ البهائي، والمجلسي الكبير صاحب البحار، وصدر المتألهين صاحب الأسفار،
والمحقق الأردبيلي، والملا عبد اللّه اليزدي، والفيض الكاشي، وغيرهم، وقال بركلمن
في الجزء الثالث من «تاريخ الشعوب الإسلامية»: «والحق أن الشاه عباس عني بالفلسفة
والعلوم الطبيعية فضلاً عن الفقه، وكذلك ازدهر الشعر والموسيقى في ظل عباس أيضاً».
1- وهكذا زعم الأمويون من قبل،
روى المسعودي في مروج الذهب أن العباسيين حين فتحوا الشام، وانتزعوها من الأمويين
حلف لهم أشياخ أهل الشام وأرباب النعم والرياسة أنهم ما علموا أن لرسول اللّه قرابة
ولا أهل غير بني أمية، حتى ذهب الأمويون، وجاء العباسيون.
2- تاريخ الشيعة للمظفر، وأعيان الشيعة ج 11 للسيد الأمين، وتاريخ إيران لمكاريوس،
وتاريخ العراق بين احتلالين للغزاوي، وأربعة قرون من تاريخ العراق للونكريك، وعقيدة
الشيعة لرولندس، والأدب في العراق لبراون وغير هذه الكتب.
3- لونكريك في «أربعة قرون من تاريخ العراق» ص 21 طبعة ثانية.
4- عن كتاب تحفة العالم إن السلطان التركي حين توجه إلى النجف الأشرف، ورأى القبة
العلوية من مسافة أربعة فراسخ ترجل عن فرسه، ولما سئل عن السبب قال: اهتزت أعضائي
لمرأى القبة، فقيل له: إنك لا تستطيع المشي، فتفأل بالقرآنِ الكريم، فخرجت هذه
الآية: «فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى»، فاضطر إلى السير على الأقدام.
5- بعد أن ننتهي من الكلام عن الصفويين ندرج فصلاً عجيباً عن هذه الآثار التي تشبه
السحر والأساطير، نقلناه عن جريدة النهار البيروتية.
6- كتاب «تاريخ إيران» لمكاريوس ص 153 طبعة 1898.
7- معادن الجواهر للسيد الأمين ج 2 وتاريخ الشيعة للشيخ المظفر.