المعجزة والعمر الطويل
فكر الشهيد الصدر
وقد عرفنا حتّى الآن أنّ العمر الطويل ممكن علمياً، ولكن لنفترض أنه غير ممكن علمياً، وأنّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم، ولا على خطّها الطويل أن تتغلّب عليه، وتغيّر من ظروفه وشروطه، فماذا يعني ذلك؟
عدد الزوار: 153
وقد عرفنا حتّى الآن أنّ
العمر الطويل ممكن علمياً،
ولكن لنفترض أنه غير ممكن
علمياً، وأنّ قانون
الشيخوخة والهرم قانون
صارم لا يمكن للبشرية
اليوم، ولا على خطّها
الطويل أن تتغلّب عليه،
وتغيّر من ظروفه وشروطه،
فماذا يعني ذلك؟ إنّه
يعني أنّ إطالة عمر
الإنسان - كنوح أو
كالمهديّ - قروناً
متعدّدة، هي على خلاف
القوانين الطبيعية التي
أثبتها العلم بوسائل
التجربة والاستقراء
الحديثة، وبذلك تصبح هذه
الحالة معجزة عطّلت
قانوناً طبيعياً في حالة
معيّنة للحفاظ على حياة
الشخص الذي أنيط به
الحفاظ على رسالة السماء،
وليست هذه المعجزة فريدة
من نوعها، أو غريبة على
عقيدة المسلم المستمدّة
من نصّ القرآن والسنّة1،
فليس قانون الشيخوخة
والهرم أشدّ صرامة من
قانون انتقال الحرارة من
الجسم الأكثر حرارة إلى
الجسم الأقل حرارة حتّى
يتساويا، وقد عطّل هذا
القانون لحماية حياة
إبراهيم عليه السلام، حين
كان الأسلوب الوحيد
للحفاظ عليه تعطيل ذلك
القانون. فقيل للنار حين
ألقي فيها إبراهيم
﴿قُلْنَا يَا
نَارُ كُونِي بَرْدًا
وَسَلَامًا عَلَى
إِبْرَاهِيمَ﴾2،
فخرج منها كما دخل سليماً
لم يصبه أذىً، إلى كثير
من القوانين الطبيعية
التي عطّلت لحماية أشخاص
من الأنبياء وحجج الله
على الأرض، فَفُلق البحر
لموسى3،
وشبّه للرومان أنهم قبضوا
على عيسى4 ولم
يكونوا قد قبضوا عليه،
وخرج النبيّ محمد صلى
الله عليه وآله وسلم من
داره وهي محفوفة بحشود
قريش التي ظلّت ساعات
تتربّص به لتهجم عليه،
فستره الله تعالى عن
عيونهم وهو يمشي بينهم5.
كلّ هذه الحالات تمثل
قوانين طبيعية عطّلت
لحماية شخص، كانت الحكمة
الربانية تقتضي الحفاظ
على حياته، فليكن قانون
الشيخوخة والهرم من تلك
القوانين.
وقد يمكن أن نخرج من ذلك
بمفهوم عامّ وهو أنه
كلّما توقّف الحفاظ على
حياة حجّة لله في الأرض
على تعطيل قانون طبيعيّ،
وكانت إدامة حياة ذلك
الشخص ضرورية لإنجاز
مهمّته التي أعدّ لها،
تدخّلت العناية الربانية
في تعطيل ذلك القانون
لإنجاز مهمته التي أعدّ
لها، وعلى العكس إذا كان
الشخص قد انتهت مهمته
التي أعدّ لها ربانياً
فإنه سيلقى حتفه ويموت أو
يستشهد وفقاً لما تقرّره
القوانين الطبيعية.
ونواجه عادة بمناسبة هذا
المفهوم العام السؤال
التالي: كيف يمكن أن
يتعطّل القانون؟6
وكيف تنفصم العلاقة
الضرورية التي تقوم بين
الظواهر الطبيعية؟ وهل
هذه إلاّ مناقضة للعلم
الذي اكتشف ذلك القانون
الطبيعي، وحدّد هذه
العلاقة الضرورية على أسس
تجريبية واستقرائية؟
والجواب: أنّ
العلم نفسه قد أجاب عن
هذا السؤال بالتنازل عن
فكرة الضرورة في القانون
الطبيعيّ، وتوضيح ذلك: إنّ
القوانين الطبيعية
يكتشفها العلم على أساس
التجربة والملاحظة
المنتظمة، فحين يطّرد
وقوع ظاهرة طبيعية عقيب
ظاهرة أخرى يستدلّ بهذا
الاطّراد على قانون طبيعيّ،
وهو أنّه كلّما وجدت
الظاهرة الأولى وجدت
الظاهرة الثانية عقيبها،
غير أنّ العلم لا يفترض
في هذا القانون الطبيعيّ
علاقة ضرورية بين
الظاهرتين نابعة من صميم
هذه الظاهرة وذاتها،
وصميم تلك وذاتها, لأنّ
الضرورة حالة غيبية، لا
يمكن للتجربة ووسائل
البحث الاستقرائي والعلمي
إثباتها، ولهذا فإنّ منطق
العلم الحديث يؤكد أنّ
القانون الطبيعيّ - كما
يعرّفه العلم - لا يتحدّث
عن علاقة ضرورية، بل عن
اقتران مستمر بين ظاهرتين7،
فإذا جاءت المعجزة وفصلت
إحدى الظاهرتين عن الأخرى
في قانون طبيعيّ لم يكن
ذلك فصماً لعلاقة ضرورية
بين الظاهرتين.
والحقيقة أنّ المعجزة
بمفهومها الدينيّ، قد
أصبحت في ضوء المنطق
العلميّ الحديث مفهومة
بدرجة أكبر مما كانت عليه
في ظلّ وجهة النظر
الكلاسيكية إلى علاقات
السببيّة.
فقد كانت وجهة النظر
القديمة تفترض أنّ كلّ
ظاهرتين اطّرد اقتران
إحداهما بالأخرى فالعلاقة
بينهما علاقة ضرورة،
والضرورة تعني أنّ من
المستحيل أن تنفصل إحدى
الظاهرتين عن الأخرى،
ولكن هذه العلاقة تحوّلت
في منطق العلم الحديث إلى
قانون الاقتران أو
التتابع المطّرد8
بين الظاهرتين دون افتراض
تلك الضرورة الغيبيّة.
وبهذا تصبح المعجزة حالة
استثنائية لهذا الاطّراد
في الاقتران أو التتابع
دون أن تصطدم بضرورة أو
تؤدّي إلى استحالة.
وأما على ضوء الأسس
المنطقية للاستقراء9،
فنحن نتّفق مع وجهة النظر
العلمية الحديثة، في أنّ
الاستقراء لا يبرهن على
علاقة الضرورة بين
الظاهرتين، ولكنّا نرى
أنّه يدلّ على وجود تفسير
مشترك لا اطّراد التقارن
أو التعاقب بين الظاهرتين
باستمرار، وهذا التفسير
المشترك كما يمكن صياغته
على أساس افتراض الضرورة
الذاتية، كذلك يمكن
صياغته على أساس افتراض
حكمة دعت منظّم الكون إلى
ربط ظواهر معيّنة بظواهر
أخرى باستمرار، وهذه
الحكمة نفسها تدعو
أحياناً إلى الاستثناء
فتحدث المعجزة.
* من كتاب أمل الإنسان، سلسلة المسابقات الثقافية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- أي أنّ الأمر
يصبح من قبيل المعجز، وهو
ما نطق به القرآن، وجاء
في صحيح السنّة المطهّرة،
والإعجاز حقيقة رافقت
دعوة الأنبياء، وادّعاء
سفارتهم عن الحضرة
الإلهيّة، وهو ما لا يسع
المسلم إنكاره أو الشك
فيه، بل إنّ غير المسلم
يشارك المسلم في الاعتقاد
بالمعجزات.
2- سورة الأنبياء، الآية:
69.
3- إشارة إلى قوله تعالى:
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى
مُوسَى أَنِ اضْرِب
بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ
فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ
فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ﴾ سورة
الشعراء، الآية 63.
4- إشارة إلى قوله تعالى:
﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا
صَلَبُوهُ وَلَكِن
شُبِّهَ لَهُمْ﴾ سورة
النساء: الآية 157.
5- راجع: سيرة ابن هشام،
ج2، ص127، فقد نقل هذه
الحادثة وهي مجمعٌ عليها.
6- قد يقال: إنّ القانون
بصفته قانوناً لا بدّ
يطّرد، ولا يتصور التعطيل
والانخرام، وقد لا حظ
بعضهم أنّ الانخرام إنّما
هو بقانون آخر، كما هو
الأمر بالنسبة إلى قانون
الجاذبية، الذي يستلزم
جذب الأشياء إلى المركز،
ومع ذلك فإنّ الماء يصعد
بعملية الامتصاص في
النباتات من الجذر إلى
الأعلى بواسطة الشعيرات،
وهذا بحسب قانون آخر هو
(الخاصيّة
الشعريّة).راجع: القرآن
محاولة لفهم عصري،
الدكتور مصطفى محمود.
7- وقد بسط الشهيد الصدر
قدس سره القول في هذه
المسألة في كتابه فلسفتنا
فراجع، ص295 و299.
8- راجع: فلسفتنا ص282
وما بعدها.
9- راجع بسط وشرح النظرية
في "الأسس المنطقية
للاستقراء" حيث توصّل
الإمام الشهيد الصدر قدس
سره إلى اكتشاف مهمّ
وخطير على صعيد نظرية
المعرفة بشكل عام.