لقاء الإمام الخامنئي مع عائلة الشهيد الآشوري
2015
لم تنته الجملة حتى انحدرت دموع أم الشهيد. أيها الأخوة! إنها تحتاج إلى وقت أكثر لتصدق! وقت بمقدار عدة ثوانٍ. وقد تلاشى اختناق آلفرد وآلبرت بالعبرة مع أولى الكلمات التي خرجت منهما...
عدد الزوار: 252بسم الله الرحمن الرحيم
العنوان:
قصة لقاء قائد الثورة الإسلامية مع عائلة الشهيد الآشوري "روبرت لازار"
التاريخ: 6/ 10/ 1394 هـ ش الموافق لـ 27/ 12/ 2015م
"لقد خرج مسيحيو إيران مرفوعي الرأس من الثورة والحرب"
الكاتب: محمد تقي خرسندي
"يا حاجة! أنا مدين لك باعتذار؛
فالذي سيأتي إلى منزلكم بعد دقائق هو السيد الخامنئي...".
لم تنته الجملة حتى انحدرت دموع أم الشهيد. أيها الأخوة! إنها تحتاج إلى وقت أكثر
لتصدق! وقت بمقدار عدة ثوانٍ. وقد تلاشى اختناق آلفرد وآلبرت بالعبرة مع أولى
الكلمات التي خرجت منهما...
ولا عجب من تعجبهم؛ فتعجبهم كان بمقدار تعجبنا نحن عندما دخلنا، ورأينا على حائط
منزل مسيحي إطاري صورتين، إحداهما لصورة الشهيد روبرت لازار، والأخرى لصورة الإمام
والقائد، وهما إطاران باهتا اللون وقديمان.
إنها الساعة السادسة والنصف مساء. وليس في المنزل سوى أم الشهيد وأخويه، أما
الزوجات والأحفاد فقد ذهبوا إلى الكنيسة للمشاركة في احتفال ليلة ميلاد عيسى المسيح
(عليه السلام).
والأم التي كانت إلى دقائق سابقة قليلة تصر علينا باستمرار أن نأكل من فواكه ليلة
عيدهم وحلوياتها ومكسراتها، صار إصرارها الآن أشد، ونحن سنطمئن بالها بكلمة واحدة:
"اصبري حتى يأتي القائد ويذهب، وسوف نفرغ لكم الطاولة بأكملها"، فترتسم على شفاهها
ضحكة، وتذهب وتجلس على الكنبة إلى جانب سروة صغيرة صناعية.
كان البيت صغيرا جدا، وأم الشهيد قلقة؛ لأن أرفع مسؤول في البلاد سيدخل منزلا صغيرا
كهذا. هم مسؤولون عن برنامج اللقاء، لكنهم يسعون إلى جبر خاطرها بأن لا شيء مهما.
استأذنوا منهم، وبدأوا ينقلون الكنبات وطاولة السفرة؛ ليتسع المكان عدة أمتار أكثر،
بينما كان أخوا الشهيد يجلسان إلى جانب أمهما.
افتتح آلفرد الكلام: "كان العام 1996م، حيث كنت راجعا من كاشان إلى طهران، وتعرضت
سيارتي لحادث، فأخذوا أوراقي الثبوتية إلى قم.
ذهبت إلى قم، فقالوا: إن الضابط المختص قد ذهب إلى جمكران. وكان الوقت شهر رمضان،
فإما أن أترك الأمر، وأعود إلى طهران؛ لأرجع بعد عدة أيام، وإما أن أذهب إلى جمكران.
قلت في نفسي لقد ترددت على هذا الطريق كل هذه المدة، ولم أذهب إلى جمكران حتى الآن،
فلأذهبْ إلى هناك. كانت ليلة الأربعاء من شهر رمضان، وكان جمكران مزدحما، فقلت: يا
صاحب الزمان! أحضر لي خبر أخي، هل هو حي أم شهيد؟ مع أنني لم أكن أعرف صاحب الزمان!
ولكنني رأيت جميع الناس يدعون، فوقع في قلبي أن أدعو لأخي المفقود. وفي تلك اللحظة
جاء شخص وقدم لي "الآش" ـ شوربة إيرانيةـ، وأعطاني آخر قطعة من الخبز. والخلاصة أن
عملي مع الضابط انتهى ورجعت إلى طهران. وكان ذلك في يوم الأربعاء. وفي يوم الخميس
جاءنا خبر من مؤسسة "معراج" أن أخي رجع، وأنه سيشيع غدا مع ألف شهيد. وكان اليوم
التالي يوم القدس. ولم تكن أمي تعلم بشيء، ولكن قلبها كان قد أُلهم، فذهبت إلى صلاة
الجمعة من أجل التشييع، وقد كان ذلك اليوم صاخبا، فلم يحصل أي تشييع كهذا التشييع؛
فجميع جيراننا في المنطقة من المسلمين كانوا قد جاؤوا لتشييع جنازة أخي. وقد
اجتمعوا هنا في كنيسة "مارجيوجيز" وهم يلطمون على صدورهم ويقولون: "السيد المسيح هو
صاحب العزاء اليوم...".
يتقدم أحد المسؤولين ويقول: "يا حاجة! هل تذكرين العام 2007م عندما قلت أريد أن أرى
القائد؟ وها هو القائد الآن في منزلكم...".
وكأن الأم غير ملتفتة لكلام ابنها أصلا! وهي لا تتعجب من لقب "حاجة" الذي يتكرر
دائما، فهي غارقة مع نفسها، فقالت: "قلت للجميع: ليت القائد يأتي لزيارتنا، أو نذهب
نحن لزيارته". يذهب آلفرد ويأتي بجريدة قديمة "همشهرى محله ـ ابن المنطقة ـ،
المنطقة الحادية عشرة، 2/ 1/ 2008م"، إنها مقابلة من نصف صفحة مع أم الشهيد، وقد
كتب في عمود منها: "طلبت الأم في لقاءاتها المتكررة مع مسؤولي مؤسسة الشهيد أن
يهيئوا لها لقاءً مع القائد. ولكن الطلب بقي بلا إجابة، فهي تحب أن ترى القائد، وهي
تتوقع حصول هذا الأمر".
تجاوزت الساعة السابعة، فتسلمت أم الشهيد الكلام: "عندما ذهبت مع "راهيان نور" ـ
رحلات لزيارة أماكن الجبهة ـ لم أذهب إلى مكان شهادة ابني؛ لقد كان بعيدا جدا، فما
الفرق؟ كل الشهداء أولادي! وقد دفنا ولدي في مقبرة الأقليات الدينية على طريق ساوة،
ونحن نزوره باستمرار، فقد كنا هناك منذ يومين، ونحن نذهب في العيد للتنظيف أيضا،
وفي عشرة الفجر نذهب لمدة يوم لنفض الغبار...".
وفي أثناء هذه الأحاديث يصل قائد الثورة، فتذهب الأم للاستقبال، ويتقدم الأبناء
ويقدمون الاحترام، تقول الأم: "السلام عليك، السلام على شعب إيران كله".
يقول القائد: "حفظكم الله!".
فتجيب الأم: "تحت ظلكم!".
فيدعو القائد: "حشر الله ولدكم مع أوليائه".
ويجلس الجميع وتقول أم الشهيد: "لقد امتلأ بيتي الصغير! لقد سررت كثيرا لتشريفكم...".
ولكن العبرة لا تسمح لها بإكمال كلامها، فتمكث لحظة ثم تتابع: "كنت أقول للجميع:
القائد لي أنا أيضا! أوهل هو للمسلمين فقط؟ هو للجميع".
فيعتذر قائد الثورة لتأخرهم في المجيء، ويبرز سروره لحصول هذا اللقاء في ليلة عيد
الآشوريين. وحسب العادة فإنه يسأل عن الشهيد، فيجيب آلفرد: "بقيتْ أيام لانتهاء
خدمته للعلم، إلا أنه لم يقبل أن يرجع، وقد استشهد بعد قرار الأمم المتحدة. قالوا
أولاً إنه أسر، وبعد مدة عندما ذهبنا إلى منزل رفيق سلاحه، فقد كان يقول: كان خلف
المدفع الرشاش حتى آخر لحظة، ومهما قلنا فلنتراجع، إلا أنه لم يتراجع، حتى سقطت
قذيفة هاون على دشمتنا وجرح، فأسرونا، قالوا لي: أين البقية؟ قلنا: لم يبق أحد!
فضربوني بأخمص البندقية على رأسي حتى أغمي عليّ، واستعدت وعيي في بعقوبة، فسألت: هل
أحضرتم أحدا معي؟ قالوا: لا!" وهذه قصة بداية ثماني سنوات من فقدان أمي لأي خبر عن
ولدها ابن الاثنين والعشرين عاما.
يقول القائد: هذا يبعث على الفخر، ليس فقط لعائلة الشهيد، بل للوطن بأكمله، ويشير
إلى أمن البلد الناشئ من هذه التضحيات، ثم يقول مشيرا إلى أم الشهيد: وهذا يعرفه
الجميع، لكن الأمر المهم هو: "أن خلف هذه التضحية تضحية هذه المرأة، فهذه الروحية
ذات قيمة كبيرة، فأحيانا يتزلزل شخص إلى درجة أنه يمنع الآخرين من متابعة طريقهم،
ولكن رضى الأم والأب، ومن ثم صبرُها يخلق هذا الجو. وأينما أذهب فإن روحيات الأمهات
تكون غالبا أفضل من روحيات الآباء، فنحن الرجال لا نستطيع أن نفهم أحاسيس الأمهات،
فالآباء يحبون أبناءهم أيضا، ولكن الأم تختلف".
فيصدق آلفرد كلام القائد قائلا: "ذهبت إلى مؤسسة "معراج" وعندما رأيت الجثمان،
عرفته، فقد كان أخي جسيما جدا، لقد تعرفت إليه من عظامه، ولكنهم قالوا: يجب أن تأتي
أمه لتتعرف إليه".
وتخرج الأم من ذكرياته لتقول: "لقد كان ولدي بطلا".
ثم يأخذ القائد بالكلام مجددا ويقول: "الأقلية المسيحية من الأرمن والآشوريين خرجت
من الثورة والحرب مرفوعة الرأس، بوصفها إيرانية، وفية، عاقلة، بصيرة، وشجاعة".
فتقول أم الشهيد التي خرجت شيئا فشيئا من دهشة أول اللقاء: "عقدوا مؤتمرا صحفيا في
كرمانشاه، فقلت: أنا لا أتكلم الفارسية جيدا. قالوا: لا مشكلة! وقد تحدثت أفضل من
الجميع! قلت: يجب أن يضع المسلمون والمسيحيون أيديهم بأيدي بعض لنبني إيران. وقلت:
أعطوني سلاحا لأذهب إلى الحرب".
فينظر القائد ويقول: "لو أعطوها لذهبت! فروحيتها قوية...". وهنا أذاب صوت الضحك
جليد اللقاء. وتتابع الأم: "كنت أدعو الله أن أرى صدام يوما..."، ولكنها حنونة إلى
درجة أنها لم يطعها قلبها أن تكمل فعل الجملة، فتمكث لحظة وتقول مختنقة بعبرتها:
"رأيته، واسترحت!"، ولم تسمح لدموعها بالانحدار، فتكمل: "ولأننا لم نكن أهل حرب،
جاؤوا إلينا وفعلوا هذا..."، فيصدق القائد كلامها قائلا: "إنهم كذلك! فهم لا يقدرون
على تحمل استقلالنا".
قالت الأم شيئا لولدها باللغة
الآشورية، فيسأل آلفرد القائد مرددا: "هل تأكلون حلويات منزلية؟" وعندما يوافق
القائد تفتحت أزاهير الأم، فقد كان معلوما أنه من صنع يديها، وهنا تقول للقائد
مسرورة: "أقول: كلّفوني بشيء؛ لأقدم خدمة للوطن".
فيجيب القائد بوجه مسرور: "كلامكم هذا هو عمل كبير، فقد كان "البيان" أحد وظائف
الأنبياء، والكثير من الناس يسيرون على الطريق الخطأ؛ لأنهم لا يعرفون، ولو وجد
البيان؛ لاتضح الطريق. فخصائص هذه المرأة، وقول هذا الكلام هو عمل كبير، فالنساء
قمنَ بأعمال عظيمة في الحرب، ذهبْنَ إلى الجبهة، وطبَّبنَ الجرحى، ولكن البيان أهم
من كل شيء، فكلامكم هذا سواء في الكنيسة أو الخارج، وإظهار هذه الروحية لَعملٌ عظيم
جدا، أسأل الله أن يطيل عمركم، وأن تحفظوا هذه الروحية".
ويتناول القائد قطعة من الحلوى ويقول للحاضرين: "إنها حلوى لذيذة جدا! ألا تأكلون
أنتم؟".
فتقول الأم وولداها معا: "هنيئا!". وتذهب صينية الحلوى بين الأعضاء المرافقين ولا
تعود.
تقول الأم: "يجب أن تأكل الفواكه أيضا! وأن تأكل المكسرات!"، ثم تقول بخجل: "بيتي
صغير..."، ولكن القائد لم يسمح لخجلها أن يطول فقال: "يجب أن يكون القلب كبيرا!
وعندما يكون للإنسان هدف، فأينما يكون فهو جيد" ثم ينشد قائلا:
أنى تكون معي فأنا سعيد***حتى ولو في زاوية بئر منزلي
ويعطون للقائد جريدة اللقاء مع أم الشهيد، فينظر ويقول: لأي سنة تعود؟ وعندما يسمع
بسنة 2007 م يقول بحسرة: "لماذا هي قديمة إلى هذا الحد؟ ليتنا جئنا قبل هذا! أو
جئتم أنتم! أو جئت أنا!".
ويصل الكلام إلى أحوال المسيحيين في إيران، فيقول آلفرد: أصبح موضوع الدين بعد
الثورة أكثر أهمية، فالآن حتى أسقف الآشوريين هو إيراني، في حين أنه كان يأتي من
العراق سابقا، وأسقف الأرمن كان يأتي من لبنان. فيتذكر القائد أسقف الأرمن الراحل "آراك
مانوكيان" الذي كان مع الإمام الخميني (رحمه الله) منذ بداية الثورة، ثم يتحدث
قليلا عن الآشوريين الذين هم حسب اعتقاده أقدم المسيحيين بعد مسيحيي فلسطين "مهد
النبي عيسى (عليه السلام)".
ثم انجرّ البحث إلى اللغة الآشورية
وقربها من اللغة العربية والعبرية بل والفارسية، فيرفع آلفرد الفواكه والمكسرات عن
الطاولة، ويشير إلى قماش مطرز بالإبرة موضوع عليها، وقد كتب عليه باللغة الآرامية "ايدوخون
هو بريخا" ويقول أي "عيدكم مبارك"، فيستند القائد إلى ذلك بوصفه عنوانا للشبه
اللغوي حيث إن "ايدوخون" قريبة من كلمة "عيد" و "بريخا" هي من جنس كلمة "البركة".
حان وقت الوداع، فيقدم قائد الثورة هدية لأم الشهيد ويقول: "أسأل الله أن يكون
عيدكم مباركا! لقد كانت ليلة جيدة".
فتقول الأم والأولاد معا: "إنها ليلة لن ننساها أبدا!".
فيقول القائد: "نحن نقدم القرآن هدية للمسلمين، ولو تمكنت من الحصول على إنجيل جيد
لأحضرته، لكنّ أناجيل اليوم هي رواية عموما، وليست كلام الوحي. طبعا، إن يوحنا،
ولوقا، وبطرس و... هم عظماء المسيحية، وقد استشهد بعضهم أيضا، وجاؤوا بالمسيحية إلى
إيران وروما و...، ولولاهم لبقيت المسيحية في الشرق، وقد كان فيهم نبي وخليفة نبي،
والحواريون هم من عظماء الدين أيضا. وفي الإسلام كل من ينكر عصمة السيد المسيح
وعصمة أمه مريم فإنه يخرج من الإسلام، فاحترامنا للمسيحية هو على هذا الشكل.
والإنجيل مثل القرآن والتوراة قد نزل من السماء، ولكنّ الأناجيل الفعلية، تلك التي
قرأتُها هي رواية، وليست ذلك الذي نزل من السماء، ولو حصلنا على ذلك الإنجيل
لوضعناه على عيوننا".
وآلبرت الذي كان طوال الجلسة ساكتا تقريبا ومطأطأ الرأس، عندما رأى الآن قائد
الثورة مودعا قال: "كان الدكتور أحمدي نجاد قد زار منزلنا، وقال: هل تحتاجون شيئا؟
قلنا: سلامة القائد فقط! ومجيئكم إلى هنا يساوي عندنا الدنيا وما فيها". فيجيب
القائد: "روحيات الوفاء هذه ذات قيمة عظيمة، فلبعضهم نظرة مادية فقط، وهم لا يعرفون
سوى المال، أما هذه فمن المعنويات".
ووفق العادة فإن القائد يستأذن للانصراف. يقف وقبل الذهاب يقدّم الهدايا للأولاد
والأحفاد أيضا يوصلها إليهم الآباءُ. يقول أحد المرافقين بهدوء: "أخت الشهيد في
أرومية". فيقدم القائد هدية للأم أيضا؛ لتعطيها لابنتها، ثم يودّعهم ليذهب للقاء
عائلة الشهيد المسيحي الآخر.
كنا نجمع أغراضنا، وكأن الأم تذكرت وعدنا الأول، فبدأت توزع الفواكه والمكسرات
بالقوة بين المرافقين. ومهما قلنا الآن يأتي الأحفاد من الكنيسة وتبقينَ من دون
ضيافة فإنها لم ترضَ، وهي تقول: "لو قالوا لي إن السيد سيأتي لاشتريت خروفا؛ لأضحيه
أمام رجليه، فما قيمة هذه الضيافة...".