حوادث السنة السابعة من الهجرة: النبيّ يعلن عن رسالته العالمية
سيد المرسلين
لقد أراحت معاهدةُ الحديبية بالَ رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله من ناحية الجنوب (أي مكة)، وقد آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولبّى دعوته في ظل الهدوء والأمن والاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب، ورجالها البارزين.
عدد الزوار: 92
لقد أراحت معاهدةُ الحديبية بالَ رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله من ناحية
الجنوب (أي مكة)، وقد آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولبّى دعوته في ظل
الهدوء والأمن والاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب، ورجالها
البارزين.
واغتنم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم وزعماء
القبائل، ورجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة، فكاتبهم ووجّه اليهم رسائل
كثيرة عبر رسله وسفرائه، وقد عرض فيها عليهم رسالته ودعوته التي كانت يومذاك لا
تخرج عن صورة العقيدة البسيطة وكان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد، وفي اطار
التعاليم الاخلاقية والانسانية كل البشرية.
وقد كانت هذه هي الخطوة الاُولى التي خطاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعد 19
عاماً من الصراع مع قريش العاتية.
ولو أن الاعداء الداخليين لم يشغلوه بالصراعات والحروب لاستطاع رسول الاسلام ان
يقوم بتوجيه دعوته الى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت، ولكن الحملات الظالمة
والمضايقات الشديدة التي قام بها العربُ الوثنيون الجهلة طوال ما يقرب من عقدين من
عمر الرسالة أجبرت رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله على أن يصرف قسماً عظيماً من
أوقاته الغالية في ترتيب شؤون الدفاع عن حياض الاسلام وكيان المسلمين.
إن الرسائل التي وجّهها رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى الامراء والسلاطين،
وإلى رؤساء القبائل، والشخصيات الدينية والسياسية البارزة داخل الجزيرة العربية
وخارجها لدعوتهم إلى الاسلام تكشف عن طريقته في الدعوة والتبليغ، والارشاد والهداية.
وبين أيدينا الآن نصوص 185 1 رسالة
وكتاب من مكاتيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ورسائله التي دعا فيها من أرسلها
إليهم، إلى الإسلام، أو كتبه التي تشكّل معاهداته ومواثيقه صلّى اللّه عليه وآله
التي أعطاها أو عقدها مع الاطراف المختلفة وقد جمعها، وضبطها أرباب السير وكتّاب
التاريخ وهي تكشف برمتها عن أن اسلوب الاسلام في الدعوة والتبليغ يعتمد على المنطق
والبرهان، لا على السيف والقهر وعلى الاقناع لا الاكراه.
فيوم اطمأن بالُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأمن جانب قريش وحلفائها، وجّه
نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم وذلك عن طريق ارسال الرسائل، أو بعث
المبلغين والدعاة إلى شتى أنحاء العالم.
إن نُصوص هذه الرسائل، والارشادات الموجودة في خلالها، ونصائحه التي كان يوجّهها
صلّى اللّه عليه وآله إلى الناس، والتسامح الذي كان يبديه من نفسه خلال عقد
الاتفاقيات وإبرام المعاهدات مع الأجانب، تشكّلُ برمتها شواهد قاطعة، ودامغة ضدّ
نظرية المستشرقين الذين أرادُوا مسخَ وجه الاسلام المشرق، بكيل الاتهامات الباطلة
له، والزعم بأن تقدّم الاسلام وانتشاره كان بفعل القهر، وبقوة السيف، وتحت عامل
الفرض والاجبار واننا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة وتقييم تلك الرسائل والكتب
واستجلاء هذه النقاط المذكورة واستخراح خطوط السياسة النبوية ومعالم الدعوة
المحمدية، من ثنايا تلكم الرسائل والكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا
العمل بيان اُسلوب الاسلام في نشر دينه في شتى نقاط العالم.
الرسالةُ المحمَّدية كانت عالمية
ينظر بعض الجهلة اإلى مسألة عالمية المحمَّدية بنظر الشك والترديد، وهم يتبعون في
مثل هذه النظرة ما يروجّه بعض الكتاب العملاء، وفي مقدمة هؤلاء المغرضين مستشرقُ
معاد للإسلام هو "السير ويليم موير" الذي يقول: إن موضوع عالمية الرسالة المحمَّدية
قد ظهر وتبلور في ما بعد، وأن محمَّداً إقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة
وفاته على العرب، ولم يكن "محمَّد" يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.
ولقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز، وحاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة
الآيات الكثيرة التي تشهد- بجلاء- بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يدعو
البشر عامة إلى التوحيد والاعتقاد برسالته وقال: انَّ محمَّداً كان يقتصر في دعوته
على العرب خاصة.
ونحن هنا ندرج بعض الآيات التي تشهد بأن رسالة الاسلام، وأن الدعوة المحمَّدية كانت
منذ بداية ظهورها دعوة عالمية، ويمكن مراجعة كتب التفسير والعقائد للوقوف على
المزيد من التوضيح في هذا المجال.
1- هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما
أ- عالمّية الرسالة المحمَّدية.
آيات تدل على عالمية الرسالة المحمَّدية
1- "وَما أَرسَلناكَ إلا كافّة
للِنّاس بَشيراً وَنَذير"2.
2- "وَمَا هُوَ إلا ذِكر
للِعَاَمينَ"3.
3- "لِيُنذِرَ مَن كانَ حَيّ"4.
4- "هُوَ الَّذي أَرسلَ رَسُولهُ
بِالهُدى وَدِين الحقِّ لِيظهِرهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرهَ المُشركُونَ"5.
والآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي: كيفَ تقول- مع هذه الدعوة العالمية- أن موضوع
عالمية الرسالة الاسلامية قد ظهر وتبلور في ما بعد.
فهَل مع وجود هذه الآيات ونظائرها مع وجود سفراء رسول اللّه ومبعوثيه الى المناطق
النائية، والبلاد البعيدة، وإلى نصوص الرسائل التي بقيت مسجلة في صفحات التاريخ عن
رسول الإسلام صلّى اللّه عليه وآله وخاصة ما بقي منها محفوظاً بعينه الى الآن في
المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشك أحد في عالمية رسالته.
والعجيب أن الكاتب المذكور يكتب بكل وقاحة قائلاً: ان محمَّداً لم يكن
ب- خاتمية الرسالة المحمَّدية.
وفي الاُولى تعالج مسألة عالمّية رسالة النبيّ محمَّد، وعدم عالميتها وانه صلّى
اللّه عليه وآله هل كان مبعوثاً لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر،
وللنّاس كافة، في حين أن المحور في المسألة الثانية هو أنه صلّى اللّه عليه وآله هل
هو آخر نبي أو لا على انه يمكن ان يقول البعض ان دينه كان عالمياً إلا أن نبوته لم
تكن خاتمة النبوات بل سيأتي بعده نبي آخر وشريعة اُخرى.
من هنا لا بد من البحث- في النبوة الخاصة- حول كلتا المسألتين بصورة مستقلة، وقد
بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسعة.
يعرف غير الحجاز، في حين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سافر يوم كان في ربيعه
السادس عشر مع عمه أبي طالب الى الشام كما سافر الى الشام في تجارة خديجة في سنّ
الخامسة والعشرين، مع قافلة قريش التجارية.
حقاً ان من العجيب العجاب أننا كلّما قرأنا في التاريخ أن شاباً يونانياً (هو
الاسكندر المقدوني) كان يريد أن يسيطر على العالم، أو نسمع أن نابليون بونابرت كان
يفكر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد لم يبعثنا كلّ ذلك على الاستغراب والدهشة
ولكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأن قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الاسلام-
وبأمر اللّه- الى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم وبين قومه علاقات تجارية
عريقة انكروا ذلك وبوقاحة، واعتبروه أمراً محالاً.
رُسُل الاسلام الى المناطق النائية
طرح رسول الاسلام قضية دعوة الملوك والامراء الى الاسلام على شورى كبيرة من أصحابه
كغيرها من المسائل المهمة فقال:"ايها الناس ان اللّه قد بعثني رحمة وكافَّة فلا
تختلفوا عليَّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم".
فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريون يا رسول اللّه؟ قال:"دعاهم إلى الذي دعوتكم
إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم واما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه
وتثاقل".
ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اختار ستة أشخاص من خيرة أصحابه وكتب معهم
كتباً إلى الملوك تضمنت دعوته العالمية، وبعثهم إلى مختلف نقاط الأَرض.
وهكذا توجّه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحمَّدية في يوم واحد إلى إيران، والروم،
والحبشة، ومصر واليمامة، والبحرين، والحيرة، (الاُردن) وسوف نقرأ معاً مفصل ما
احتوته رسائله صلّى اللّه عليه وآله6.
وعندما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطلاع والعلم بأحوال بلاطات
الملوك آنذاك قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يا رسول اللّه: إن الملوك لا
يقرأون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يومئذ خاتماً من
فضة، فصّه منه، نقشه ثلاثة أسطر: محمَّد رسول اللّه، في الاعلى لفظة الجلالة وتليه
كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف، وختم به الكتب.
ولم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعاناً في السرية، والحفاظ
عليها من التزوير7.
أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية
كانت الامبراطوريتان (الرومية والفارسية) تقتسمان آنذاك قيادة العالم، وكانت الحروب
قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم وساق، ومنذ زمن بعيد.
فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران والروم منذ عهد الهخامنشيين، واستمرّ حتى عصر
الساسانيين ملوك ايران.
فكان الشرق تحت النفوذ الايراني، كما كانت العراق واليمن وشيء من آسيا الصغرى تعدّ
من توابع الامبراطورية الإيرانية ومستعمراتها.
وأمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي وغربي لأن "تئودوز
الكبير" امبراطور الروم قسم بلاده في سنة (395) ميلادية بين ولديه، ومن هنا ظهرت
الروم الشرقية والروم الغربية.
ولقد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحشي وبرابرة شمال اُروبا، ولكن الروم
الشرقية التي كان مركزها يومذاك "القسطنطنية" وكانت تسيطر على الشام ومصر، فكانت
تسيطر أبان ظهور الاسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت
القسطنطنية عام (1453) على يد السلطان محمَّد الثاني "محمَّد الفاتح"، وبذلك غربت
شمس دولة الروم الشرقية، واضمحلّت نهائياً.
وقد كانت أرضُ الحجاز محاصرة بين هذين القطبين ومحاطة بهاتين القوتين العظيمتين،
ولكن حيث أن أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة، وكان أهلها في الأغلب من الرحَّل
المتفرقين في البراري والقفار، لذلك لم تُبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في
الاستيلاء على تلك الأراضي، فقد كانت النخوة والظلم، والحروب التي اتسمت بها طبيعة
وحياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحول سياسي يقع في
هذه المنطقة من العالم.
فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكن شعب- كان بعيداً عن روح الحضارة والمدنية- من
وضع نهاية لإمبراطوريّتهم، بفضل ما اُوتوا من ايمان، وإنارة النقاط التي كانت ترزح
في ظلام جور السلطات الرومية وظلمها بنور الإسلام المشرق، ولو كانوا يعرفون شيئاً
عن هذه النهضة المشرقة وهذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في
أوّل الأمر، ولم يتركوه يمتد إلى ملكهم، ويقلب كل شيء رأساً على عقب.
رسولُ النبي صلّى اللّه عليه وآله في أرض الروم
كان قيصر الرُّوم قد عاَهدَ اللّه إذا غلب الفرس أن يسير الى بيت المقدس من عاصمته:
"القسطنطنية" مشياً على القدم للزيارة، شكراً للّه، وقد وفى بنذره هذا بعد انتصاره
على إيران، وسار مشياً على القدم إلى بيت المقدس.
فكلِّف "دحية الكلبي" بإيصال كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى قيصر، وكان
دحيد قد سافر مراراً الى الشام، وكان عارفاً بمناطقها وعاداتها معرفة كاملة، وكان
إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة، ولهذا كان جديراً بتحمل هذه المسؤولية الخطيرة
لائقاً لها.
وقد توجَّه إلى "القسطنطنية" رأساً بعد أن كلّفه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله
بايصال كتابه إلى قيصر، ولكنه ما أن وصل إلى بصرى (من مدن الشام) إلا وبلغه أن
قيصراً قد فارقها قاصداً بيت المقدس ولهذا بادر الى الاتصال بحاكم بصرى8:
"الحارث بن أبي شمر" واخبره بالمهمة الخطيرة التي جاء من اجلها.
يقول مؤلفُ الطبقات الكبرى: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله دحية بن خليفة
الكلبي الى قيصر يدعوه إلى الاسلام، وكتب معه كتاباً، وأمره أن يدفعه إلى عظيم
بُصري ليدفعه إلي قيصر، (ولعل النبي صلّى اللّه عليه وآله كان يعرف بمغادرة قيصر
لعاصمة ملكه أو لعل ذلك الأمر كان مراعاة لامكانيات دحية المحدودة، وكون السفر الى
قسطنطنية كان يتطلب جهداً كبيراً أو لا يخلو من محاذير).
فدفعه عظيم بصري إليه وهو يومئذ بحمص، وذلك بان استدعى عدي بن حاتم ووجهه مع سفير
النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ليوصل كتابه إلى قيصر، فذهب به اليه، ولما أراد الدخول
على قيصر قال قومه لدحية: اذا رأيت الملك فاسجد له، ثم لا ترفع رأسك حتى يأذن لك.
فقال دحية: لا افعل هذا أبداً، ولا أسجد لغير اللّه! (أي انني قد جئت لتحطيم هذه
السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها، انما جئتكم من قبل نبي لابلّغ ملككم بأن عهد
عبادة البشر قد انقضى وانتهى وأنه لا يحق السجود إلا للّه وحده، فكيف يمكنني ذلك
وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية اليكم؟!)9.
ولقد أعجب قوم قيصر بمنطق دحية القوي، وموقفه الصلب، فقال له رجل منهم: أنا أدلك
على أمر يؤخذ فيه كتابك، ولا تسجد له، ضع صحيفتك تجاه المنبر فان أحداً لا يحركها
حتى يأخذها هو، ثم يدعو صاحبها فشكر دحية الرجل، وأخذ بنصيحته، وفعل ما اشار به.
فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية
فاذا فيه:
"بسم اللّه الرحمن الرحيم. مِن محمَّد بن عَبد اللّه إلى هرقل عظيم الرّوم سلام على
من اتبع الهدى.
أمّا بعدُ فانّي أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلَم يؤتكَ اللّه اَجرَك مرَّتين. فإن
تولّيت فإنّما عليك إثمُ الأريسيّين10 ويا
أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبُد إلا اللّه ولا نشرك به
شيئاً وَلا يَتخذَ بعضُنا بَعضاً أرباباً مِن دون اللّه، فإن تَولَّوا فَقُولوا
اشهَدوا بانّا مُسلِمُونَ محمَّد رسولُ اللّه".
قيصر يحقّق حولَ النبي
احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو: "احمد الموعود" الذي بشرت به
الانجيلُ والتوراة، ولهذا قرّر أن يحقق حول شخصيته، ويتعرف على خصوصيات حياته،
الدقيقة.
فبعث أحداً إلى الشام فوراً ليأتي له بقريب لمحمَّد، أو من يعرف شيئاً عنه. حتى
يسأله عن شخصية رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله فاتفق أن كان أبو سفيان بن حرب
يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش، فأخذهم ويؤيد هذا الرأي الاخير أنه جاء في
بعض النسخ (الكامل: ج 2 ص 145) كلمة الاكارين بدل الاريسيين والاكار هو المزارع،
واحتمل البعض أن يكون الاريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.
صاحب شرطة "قيصر" إلى بيت المقدس، فادخلهم على "قيصر" في مجلسه وحوله عظماء الروم.
فقال قيصر: أيّكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟.
فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً.
فقال قيصر: أدنوه منّي، وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل
لهم: إني سائلُ هذا عن هذا الرجل، فان كذّبني فكذّبوه.
ثم طرح قيصر على أبي سفيان الاسئلة التالية
1- كيف نسبُ محمَّد فيكم؟
هو فينا ذو نسب.
2- فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟
لا.
3- فهل كان في آبائه من مَلِك؟
لا.
4- فأشرافُ الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟
بل ضعفاؤهم.
5- أيزيدون أم ينقصون؟
بل يزيدون.
6- فهل يرتدّ منهم أحد سُخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟
لا.
7- فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
لا.
8- فهل يغدر؟
لا.
9- فهل قاتلتموه؟
نعم.
10- فكيف كان قتالُكم ايّاه؟
الحربُ بيننا وبينه سجال، ينالُ منّا، وننالُ منه.
11- فماذا يأمرُكم؟
اعبدوا اللّه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمُرنا بالصلاة
والصدقة والعفاف والصلة، ويأمرنا بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة.
فقال قيصر للترجمان قل لأبي سفيان ومن معه: إن كان ما تقول حقاً فسيملكُ موضعَ
قدميّ هاتين فهذه صفة نبيّ، وقد كنت اعلم أنه خارج لم اكن أظنّه منكم، فلو أنّي
أخلصُ إليه لتجشمتُ لقاه، ولو كنتُ عنده لغسلتُ قدميه!!
فاعترض ابن أخي قيصر على كتاب رسول اللّه وقال لعمه: قد ابتدأ بنفسه وسمّاك صاحب
الروم.
فقال قيصر: واللّه انك لضعيف الرأي. أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الاكبر، وهو
أحقُ أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، واللّه مالكي، مالكه.
قال أبو سفيان: فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الاصواتُ عنده، وكثر اللغط، فأمر
بنا فاُخرجنا قال: قلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمرَ أمرُ ابن أبي كبشة، أنه ليخافه
ملك بني الأصفر.
وروى أيضاً أن أبا سفيان قال: لما سألني قيصر عن رسول اللّه جعلتُ اُزهّدُ له شأنه،
واُصغّر له أمره واقول له: أيها الملك، ما يهمّك من أمره، إن شأنه دون ما يبلغك،
وجعل قيصر لا يلتفت إلى ذلك، ثم قال: أنبئني عما أسألك من شأنه11.
أثر رسالة النبي إلى قيصر
لم يكتف قيصر بالمعلومات التي حصلها من أبي سفيان حول رسول الاسلام صلّى اللّه عليه
وآله بل كتب إلى أحد علماء الروم وأساقفتهم يسألهم عن هذا الأمر.
فأجابه ذلك الاسقف: هذا النبيُ الذي كنا ننتظره، بشرنا به عيسى بن مريم.
فعمد قيصر إلى خطة ليجسّ بها نبض قومه، ويختبرهم ويعرف ما اذا كانوا يرضون باسلامه
أو لا، فجمع عظماءهم في صومعة له بحمص فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح
والرشد، وان يثبت لكم ملككم وتتبعون ما قال عيسى بن مريم.
فقالت الروم: وما ذاك أيها الملك؟
قال: تتبعون هذا النبي العربي.
فثاروا في وجهه، ورفعوا الصليب، فلما رأى منهم ذلك يئس من اسلامهم وخافهم على نفسه
وملكه، فسكنهم ثم قال: إنما قلتُ لكم ما قلتُ اختبركم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم،
فقد رأيتُ منكم الذي اُحب. فسكنوا ورضوا عنه.ثم أمر باكرام دحية، وكتب جواباً على
رسالة النبي صلّى اللّه عليه وآله وأرسله مع دحية وارسل بهدية الى النبي صلّى اللّه
عليه وآله12.
سَفير النبيّ في البلاط الإيراني
يوم توجّه سفير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بكتابه إلى البلاط الإيراني كان
الملك الذي يحكم هذه الأرض الواسعة هو "خسروابرويز" ثاني ملك بعد انوشيروان، الذي
جلس على العرش الملكي الإيراني مدة 32 عاماً قبل الهجرة النبوية المباركة.
وقد واجهت حكومة هذا الملك خلال مدة سلطانه أنواعاً عديدة من الحوادث المرة
والحلوة، وكانت مكانة ايران في عهده تعاني من الاضطراب، وعدم الاستقرار بشكل ملحوظ.
وقد امتدّ النفوذ الإيرانيُ ذات يوم حتى شملَ آسيا الصغرى، وامتدّ الى مشارف
القسطنطنية، وأتى بصليب عيسى الذي كان أقدس شيء عند النصارى إلى طيسفون (المدائن)،
فطلب سلطان الروم الصلح وبعث سفيراً من قبله الى البلاط الإيراني لعقد معاهدة
الصلح.
بيد أنّ سوء تدبير الملوك في تلك الدولة العظمى، وانغماسهم في اللذة والمجون أكثر
من المتعارف تسبب في أن تصبح ايران على حافة السقوط والانهيار في أواخر العهد
الساساني، فقد خرجت المستعمرات من تحت النفوذ الإيراني الواحدة تلو الاُخرى، واجتاح
العدوُ الروميُّ الاراضي الايرانية إلى الاعماق، ووصل الأمر بخسروابرويز امبراطور
ايران الى أن يهرب من وجه الروم الغزاة، وقد أثار هذا الهروب الخانع وهذه الهزيمة
المنكرة سخط الشعب يومذاك، فقُتِلَ بيد ابنه "شيرويه".
ويُعزي محلّلو التاريخ القديم تخلّف إيران وضياع قوتها إلى غرور قادتها وحكامها
وميلهم الى البذخ والترف، وبلهنية العيش ورغد الحياة، والزينة واللذة. ولو كان ذلك
الملك يتلقى رسالة السلام التي عرضها الاسلام بالصورة اللائقة لبقيت عظمة إيران على
حالها في ظل السلام دون أن يصيبها ما أصابها.
ولو أن رسالة رسول الاسلام لم تترك أثراً حسناً في نفس "خسروابرويز" يومذاك فان ذلك
لم يكن لتقصير أو عيب في تلك الرسالة أو في سلوك حاملها الى البلاط الايراني، بل
كان لنفسيّة ذلك الحاكم المغرور، المنحرفة، وأنانيته الطاغية، التي لم تسمح له
بالتفكير بعض اللحظات في كتاب رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله كما فعل "قيصر"،
أو غيره. بل لم يمهل المترجم حتى ينتهي من قراءة كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله، إنما صاح به في تلك الاثناء، وأخذ منه رسالة النبي صلّى اللّه عليه وآله
ومزّقها بوقاحة بالغة، واسلوب بالغ في الجفاف، وسوء الادب.
واليك تفصيل الحادث
في مطلع السنة الهجرية السابعة بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله احد فرسانه
الشجعان وهو "عبد اللّه بن حذافة السهمي"، الى ايران وكتب معه كتاباً إلى
"خسروابروير" ملك ايران يومذاك يدعوه فيه الى الاسلام وامره أن يدفع الكتاب الى
كسرى نفسه واليك نص هذه الرسالة:"بسم اللّه الرّحمن الرَّحيم من محمَّد رسول
اللّه إلى كسرى عظيم فارس. سلامُ على من اتبع الهُدى وآمن باللّه ورسوله، واشهدُ أن
لا اله الا اللّه وحده لا شريك له، وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله. أدعوك بدعاية
اللّه، فإني أنا رسول اللّه كافة لاُنذرَ مَن كانَ حيّاً، ويحقَّ القولُ على
الكافرين أسلِم تسَلم، فان أبيتَ فعليك اثمُ المجوس".
فلما دخل سفيرُ النبي صلّى اللّه عليه وآله على "خسروابرويز" أمر بأن يؤخذ منه كتاب
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولكن عبد اللّه بن حذافة قال: لا حتى أدفعه اليك
كما امرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ثم دنا وسلّم الكتاب فدعى كسرى بمترجمه
ليقرأ الكتاب، فلما قرأه، فاذا فيه: من محمَّد رسول اللّه الى كسرى عظيم فارس أغضبه
حين بدأ رسولُ اللّه بنفسه، وصاح، وأخذ الكتاب، فمزّقه قبل أن يعلم ما فيه وقال:
يكتب إليّ بهذا.
ثم أمر باخراج حامل الكتاب من قصره، فاُخرجَ عبد اللّه بن حذافة السلمي، ولما رأى
ذلك قعد على راحلته وسار حتى وصل إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله، فأخبره الخبر،
فغضب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من موقف كسرى فدعا عليه قائلاً: اللَّهم مزّق
ملكه13.
نظرية اليعقوبي
ويختلف ابن واضح الاخباري المعروف باليعقوبي في تاريخه- مع عامة المؤرخين-: قرأ
كتاب النبي صلّى اللّه عليه وآله ثم كتب كتاباً إليه جعله بين سرقتي حرير وجعل
فيهما مسكاً، فلما دفعه الرسول إلى النبي فتحه فأخذ قبضة من المسك فشمّه، وناوله
أصحابهُ، وقال: لا حاجة لنا في هذا الحرير، ليس من لباسنا، وقال: لتدخلنَّ في أمري
أو لآتينّك بنفسي ومن معي، وأمر اللّه اسرع من ذلك14.
ولكن هذا رأي ينفرد به اليعقوبي ولا يوافقه عليه أحدُ من أرباب السيَر إلا احمد بن
حنبل الذي يقول: أهدى كسرى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقبل منه15.
أوامر "خسرو" إلى واليه على اليمن
تقع أرض اليمن الخصبة في جنوب مكة، وكان ملوكها وحكامها ولاة منصوبين من قبَل
البلاط الايراني بأجمعهم، وكان الذي يحكم اليمن يوم مراسلة النبي لقادة العالم
وملوكه رجلُ يدعى "باذان" فكتب طاغية ايران المغرور "خسرو" بعد أن مزّق رسالة
النبيّ إلى عامله باليمن (باذان):
بلغني أن في أرضك رجلاً يتنبّأ فاستتبه، فان تاب والا فابعث به إليّ.
فبعث "باذان" رجلين من فرسانه يدعى أحدهما: "فيروز" والآخر "خرخسره" وكتب معهما
كتاباً إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يأمره فيه أن ينصرف معهما إلى كسرى أو
أن يجبراه على الرجوع الى دين آبائه وان أبى قتلوه وأرسلوا برأسه الى الملك حسب
رواية ابن حجر في الاصابة.
إن رسالة كسرى إلى "باذان" تكشف عن جهل هذا الحاكم، وعدم معرفته بما كان يجري في
بلاده ومستعمراته، فقد بلغ من جهله أنه لم يكن يعلم أن هذا الرجل الذي يدّعي النبوة16 قد
مضى على ادعائه النبوة أكثر من 19 عاماً.
ثم إن الذي ادعى النبوة في منطقة نائية، وانتشر دينه، وأصبح من القوة والشوكة بحيث
يجرأ على مراسلة الامبراطور، ودعوته إلى دينه لا يمكن أخذه واحضاره إلى اليمن
بواسطة رجلين. وأن الأمر- بالتالي- لن يتم بمثل هذه السهولة، والبساطة، التي
تصورها.
وعلى كل حال لما قدم مبعوثا "باذان" المدينة ودخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله قدّما رسالة "باذان" اليه صلّى اللّه عليه وآله وقالا: لقد بعثنا "باذان" إليك
لتنطلق معنا، فان فعلت كتبَ فيك إلى مَلِك الملوك بكتاب ينفعك، ويكف عنك به، وإن
أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.
وكانا قد دخلا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد حلقا لحاهما وأطلقا
شواربهما، فاستمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى كلامهما، وقبل أن يجيب على
مطلبهما دعاهما إلى الاسلام، وقد كره النظر إليهما لما كانا عليه من الهيئة فقال
لها: من أمركما بهذا؟! قالا: أمرنا بهذا ربُّنا (يعنيان كسرى) فقال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله:"لكِنّ رَبِّي أمرَني بإعفاء لِحيَتي وقصّ شاربي"17.
فأرعبتهما هيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وجلال محضره، بحيث أخذا يرتجفان
عند ما عرض رسول الله الاسلام عليهما.
ثم قال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"إرجعا حَتّى تأتِياني غد".
وفي هذه الاثناء أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الخبر من السماء أن اللّه عز
وجّل قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا وكذا وكذا لكذا، وكذا من
الليل.
فلما حضر الرجلان (مبعوثا باذان) عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من غد قال
لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"إنّ رَبِّي قد قَتل رَبَّكُما ليلةَ كذا
وكذا مِن شهر كذا وكذا. بعد ما مضى من الليل كذا وكذا سلّط عليه شيرويه فقتله"18.
وكانت الليلة التي ذكرها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله هي ليلة الثلاثاء العاشر
من شهر جمادى الاولى سنة سبع من الهجرة.
فاستغرب الرجلان لخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قالا: هل تدري ما تقول؟ إنا
قد نقمنا منكَ ما هو أيسر من هذا. فنكتب بها عنك ونخبر الملك (أي باذان).
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"نعم أخبراهُ ذلك عَنِّي وقولا لَهُ: إن
دِيني وسُلطاني سَيبلغُ ما بلغ مَلكُ كسرى، وينتهي إلى منتهى الخُفّ والحافر، وقولا
له: إن أسلمَتَ اَعطيتُكَ ما تحتَ يديك، ومَلكتك على قومك".
ثم أعطى رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله لخرخسره منطقة (أي حراماً) فيها ذهب وفضة
كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان باليمن واخبراه الخبر.
فقال باذان: واللّه ما هذا بكلام ملك وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول، ولننظر ما قد
قال، فلئن كان ما قد قال حقاً فانه لا ريب نبُي مرسلُ، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم يلبث أن قدم عليه كتابُ شيرويه: أما بعد فاني قد قتلتُ كسرى ولم أقتله الا
غضباً لفارس، لما كان استحل من قتل أشرافهم، فاذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن
قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب اليك فيه فلا تهجهُ حتى يأتيك أمري فيه.وقد
تسبّب كتاب "شيرويه" هذا في أن يعتنق "باذان" الاسلام هو وجميع رجال دولته وكانوا
من الفرس، وكتب إلى رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله بإسلامه واسلام أعضاء حكومته19.
سفير النبيّ في أَرض مصر
تُعتبر "مصر" مهد الحضارات والمدنيات العريقة، ومركز سلطان الفراعنة، وموضع سيادة
الاقباط.
ويوم أشرقت شمس الاسلام على أرض الحجاز كانت "مصر" قد فقدت استقلالها، وقوتها، وكان
المقوقس قد فوض إليه حكم "مصر" من قِبَل قيصر الروم لقاء 19 مليون دينار يدفعها الى
قيصر.
وكان "حاطب بن أبي بلتعة"- وكان فارساً بارعاً وله قصة في تاريخ الاسلام سيأتي
ذكّرها في حوادث السنة الثامنة- احد الستة الذين كلِّفوا بابلاغ كتب رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله إلى الملوك والرؤساء يومذاك وقد أمره رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله بايصال كتابه إلى المقوقس حاكم "مصر".
واليك نصَ كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى المقوقس:
"بسم اللّه الرحمن الرحيم مِن محمَّد بن عَبد اللّه إلى المقوقس عظيم القبط،
سلامُ على من اتبَعَ الُهدى.
أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك اللّه أجرك مرَّتين، فان
تولّيت فإنّما عليكَ إثمُ القِبط "ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كَلِمَة سواء بيننا
وبينكم أن لا نعبد الا اللّه ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من
دون اللّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مُسلُمُون"20.
فخرج "حاطب" بكتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى قدمَ "مصر"، وأراد الدخول
على حاكمها، "المقوقس" علم بأنه يسكن في أحد قصوره الشامخة على ضفاف النهر، في
الأسكندرية، فركب زورقاً، نقله إلى قصر "المقوقس".
فلما وصل "حاطب" إلى قصر "المقوقس" أكرمه وأخذ كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله وقرأه، وفكرّ في مضمونه بعض الوقت، ثم قال لسفير النبي صلّى اللّه عليه وآله:
ما منعه إن كان نبيّاً أن يدعو على من خالفه (أي من قومه) وأخرجوه من بلده إلى
غيرها أن يسلّط عليهم.
فقال حاطب وكان حكيماً فهيماً: ألست تشهدُ أن عيسى بن مريم رسول اللّه؟ فماله حيث
أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم اللّه تعالى حتى رفعه
اللّه إليه؟
فأعجب المقوقس- الذي لم يكن يتوقع أن يجابه بهذا المنطق القوي المفحم- برد حاطب
وقال له: أحسنت، انت حكيم جاء من عند حكيم21.
فتجرأ حاطب لما رأى هذا الموقف الخاضع من ملك مصر وقال: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه
الربُ الأعلى (يعني فرعون) فأخذه اللّه نكال الآخرة والاولى، فانتقم به، ثمّ انتقم
منه فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرُك بك، ان هذا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله دعا
الناس فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى ولعمري ما
بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلا كبشارة عيسى بمحمَّد صلّى اللّه عليه
وآله وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهلَ التوراة إلى الانجيل، وكلُ نبي
أدرك قوماً فهم اُمَّتُه، فالحق عليهم أن يطيعوهُ، فانت ممّن أدرك هذا النبيّ،
ولسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السَّلام ولكنا نأمرك به.
وهو يقصد بكلامه الأخير أن الاسلام هو الصورة الاكمل لدين المسيح.
انتهى الحوار بين حاطب سفير النبي صلّى اللّه عليه وآله والمقوقس حاكم مصر إلا أن
المقوقس لم يعطه جواباً قاطعاً في ذلك المجلس، فكان على حاطب أن يلبث في مصر مدة
حتى يتلقى جواب كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله22.
ثم طلب المقوقس حاطباً ذات يوم وانفرد به في قصره، وسأله عن ما جاء به رسول اللّه
وإلى مَ يدعو؟ فقال له حاطب: إلى أن نعبد اللّه وحده، ويأمر بالصلاة، خمس صلوات في
اليوم والليلة ويأمر بصيام رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة
والدمّ.. و.. و..
فقال له المقوقس: صفه لي.
قال حاطب: فوصفتُ فَأَوجزتُ.
فقال المقوقس مصدِّقاً ما ذكره حاطب من أوصاف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: هذه
صفته، وكنتُ أعلمُ أن نبيّاً قد بقي، وكنتُ اُظنُ أن مخرجَهُ بالشام وهناك كانت
تخرجُ الانبياء من قبله، فأراه قد خرج في أرض العرب، في أرض جهد وبؤس، والقبط لا
تطاوعني في اتّباعه، وسيظهر على البلاد، وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه، حتى
يظهروا على ما هاهنا.
ثم طلب المقوقس من حاطب أن يكتم أمر هذا الحوار الذي دار بينه وبين حاطب عن قومه
قائلاً: وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفاً واحداً، ولا أحب أن يعلم بمحادثني (أو
بمحاورتي) اياك23.
ثم إنه اكرم حاطباً مدة اقامته بمصر إكراماً بالغاً، وأحسن قراه، وضيافته24.
المقوقس يكتب كتاباً الى النبيّ
ثم إنّ حاكم "مصر" المقوقس دعا كاتبه العربّي، وأمره أن يكتب كتاباً إلى رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله هذا نصه:"بسم اللّه الرحمن الرحيم. لمحمَّد بن عبد اللّه
من المقوقس عظيم القبط،، سلام عليك، أما بعد فقد قرأتُ كتابَك، وفهمتُ ما ذكرتَ
فيه، وما تدعو إليه، وقد علمتُ أن نبياً قد بقي، وقد كنت أظنُ أنه يخرج بالشام وقد
أكرمت رسولك، وبعثتُ اليك بجاريتين لهما مكانُ في القبط عظيمُ، وبثياب، وأهديت إليك
بغلة لتركبها والسلام عليك"25.
إن الاحترام الذي أبداه "الموقس" في رسالته المذكورة، وتقديم اسم النبيّ صلّى اللّه
عليه وآله على اسمه وكذا هداياه التي بعثها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وتكريم سفير النبي صلّى اللّه عليه وآله كلها تحكي عن أنّ المقوقس قبل دعوة النبي
صلّى اللّه عليه وآله في سرّه ولكن حبّه في البقاء في السلطة منعه من التظاهر
بايمانه وإسلامه، ومن الإنقياد العمليّ والعلني للاسلام.
خرج "حاطب" بصحبة جماعة من الحرس المحافظين وهو يحمل الهدايا التي بعثها المقوقس من
عند المقوقس ولما وصل الى الشام أذن للمحافظين بالانصراف ثم واصل هو سفره ضمن قافلة
إلى المدينة، ولما قدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سلّم إليه كتاب
المقوقس وهداياه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:"ضَنَّ بملكه، ولا بقاء
لملكه"26.
المغيرة بن شعبة في البلاط المصري
توجه المغيرة بن شعبة الذي كان معروفاً بحكمه وعقله ودهائه، والذي اصبح في ما بعد
من رجال السياسة العرب ودهاتها المعروفين.
توجّه في جمع من قبيلة ثقيف إلى البلاط المصري، فسألهم كبير المصريين (المقوقس):
كيف خلصتم إلىَّ، وبيني وبينكم محمَّد وأصحابه.
فقال: لصقنا بالبحر.
قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم اليه؟
قالوا: ماتبعه منّا رجلُ واحد.
قال: فكيف صنع قومُه؟
قالوا: تبعه أحداثُهم، وقد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة.
قال: فالى ماذا يدعو؟
قالوا: إلى أن نعبد اللّه وحده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا، ويدعو إلى الصلاة،
والزكاة، ويأمر بصلة الرحم، ووفاء العهد، وتحريم الزنا، والربا، والخمر.
فقاطعهم المقوقس قائلاً: هذا نبي مرسَلُ إلى الناس كافة، ولو أصاب القبط، والروم
لاتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى، وهذا الذي تصفون منه نعت الانبياء من قبله، وستكون
له العاقبة حتى لا ينازعه أحد، ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر.
فاستاء رجال ثقيف من هذا الكلام وقالوا بكل صلافة ووقاحة: لو دخل الناسُ كلّهم معه
ما دخلنا معه.
فهزّ المقوقس رأسه ساخراً بهم وقال: أنتم في اللعب27. بيد ان هذه
الرواية لا توافق بقية المصادر التاريخية لان النبي صلّى اللّه عليه وآله كاتب ملوك
العالم وقادته في السنة السابعة من الهجرة، على حين كان المغيرة في معركة الخندق قد
آمن، وكان في الحديبية في صفوف المسلمين، حتى أنه كان بينه وبين مندوب قريش المفاوض
عروة بن مسعود الثقفي مشاجرة مر ذكرها عند استعراض قصة الصلح.
وعلى فرض صحة هذه الرواية لا بد من القول بأن المغيرة لم يكن في وفد ثقيف.
وفي الختام ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن الواقدي نقل نص رسالة النبي إلى
عظيم القبط بصورة اُخرى.
ولكن أسلوب الرسالة وعباراتها تدل على أن هذه الصورة لا أساس لها من الصحة، لانها
تتضمن تهديداً من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعظيم القبط بالحرب والغزو اذ
جاء فيه: "وأمرني (أي اللّه)
بالإعذار والانذار، ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني"28.
وممّا لا شك فيه أن هذا غير صحيح لأن امكانيات المسلمين في ذلك اليوم لم تكن لتسمح
لهم بمقاتلة المكيين فكيف يغزو "مصر" وهي منطقة نائية جداً.
هذا مضافاً إلى أن صدور مثل هذا الكلام عن النبي في أول دعوة له إلى الاسلام لا
يتلاءم ونفسية وخلق ذلك الرجل العظيم الذي كان يقدّر الظروف آنذاك أفضل من غيره.
سفير النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في أرض الذكريات "الحبشة"
تقع "الحبشة" في آخر أفريقيا الشرقية وتبلغ مساحتها 1800 كيلو متراً مربعاً،
وعاصمتها اليوم: أديس أبابا.
ولقد تعرّف الشرقيون على هذه الأَرض قبل ظهور الاسلام بقرن، وذلك على أثر هجوم
الجيش الايراني الذي تمّ في عهد حكومة الملك الفارسي "انوشيروان"، وبلغ هذا التعرف
والتردد ذروته في هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة (الهجرة الاُولى والهجرة
الثانية).
ويوم قرر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يبعث ستة من خيرة رجاله الشجعان إلى
نقاط مختلفة، ونائية من العالم لإبلاغ نداء رسالته العالمّية كلّف: "عمرو بن اُمية
الضميري" بأن يأخذ كتابه إلى الحبشة، ويسلِّمهُ إلى النجاشيّ ملكِها العادل الطيب.
على أن الكتاب الذي ستقرأ نصّه قريباً ليس هو الكتاب الوحيد الذي بعثه رسول الاسلام
صلّى اللّه عليه وآله إلى النجاشي، بل سبق أن كتب صلّى اللّه عليه وآله إليه قبل
هذا يوصيه بالمهاجرين المسلمين، ويطلب منه فيه أن يلطف بهم، ويرعاهم، ولا يزال نصّ
هذين الكتابين موجوداً في المصادر التاريخية الاسلامية29.
وربما حصل اشتباه بين هذين الكتابين (الرسالة التي بعثها النبي لابلاغ دعوته
العالمية، والرسالة التي أوصى فيها النجاشي بالمهاجرين) فخلط بعض المؤرخين بين
عبارتيهما.
ويوم قدم سفيرُ النبي بكتاب الدعوة إلى الاسلام، الحبشة على النجاشي كان بعض
المهاجرين المسلمين لا يزالون في أرض الحبشة، يعيشون في كنف النجاشي وحمايته، بينما
عاد بعضهم من قبل إلى المدينة، وهم يحملون أجمل الذكريات والخواطر عن عَدل حاكمها
الطيب "النجاشي"، ولطفه، وحسن وفادته.
من هنا كانت أرض الحبشة في نظر المسلمين تُعتبر أرض الذكريات الجميلة والخواطر
الحلوة، وكانوا يمدحون حاكمها ويصفونهم بالعدل والاستقامة. ولو اننا لاحظنا في كتاب
النبي صلّي اللّه عليه وآله اليه نوعاً من اللطف واللين في القول فان ذلك مردّه إلى
معرفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بنفسية النجاشي وخلقه وحسن موقفه.
فانك لا تجد لتهديدات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في كتبه ورسائله الاخرى إلى
الملوك والزعماء، بالعقاب الالهي إن رفضوا القبول بدعوته، وحمّلهم مسؤولية شعوبهم
في عبارات صريحة وقاطعة، أيَّ أثر في هذا الكتاب.
فقد كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى النجاشي ما يلي:"بسم اللّه
الرَّحمن الرَّحيم. مِن مُحمَّد رَسُول اللّه إلى النجاشي مِلك الحبشة. سلامُ
عليكَ، أحمد اللّه الذي لا اله إلا هو الملك القدّوس السلامُ المؤمنُ المهيمنُ،
وأشهدُ أن عيسى بن مريم روحُ اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة
فحملت بعيسى، حَملَتهُ من رُوحه، ونفخِه، كما خَلقَ آدم بيده، وإني أدعوك إلى اللّه
وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني، فإني رسولُ
اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وإنّي أدعوك وجنودك وقد بلّغتُ ونصحت فاقبلوا نصيحتي
والسلام على من اتبع الهدى"30.
لقد بدأ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله كتابه بالتسليم على حاكم الحبشة وأرسل
اليه بتحياته الشخصية، ولكنه لم يفعل هذا في كتاب غيره، فلم يرسل بتحياته الشخصية
الى "كسرى" و"قيصر" و"المقوقس" حكّام إيران والروم ومصر، بل بدأ كتبه إليهم بالسلام
العام حيث قال: "السلامُ على من
اتبع الهدى".
ولكنه صلّى اللّه عليه وآله سلّم في كتابه هذا، على النجاشي نفسه، وقال: "السلام
عليك"، وبهذا خصّه دون غيره من الزعماء والملوك باحترام وتكريم خاصّين.
ولقد أشار صلّى اللّه عليه وآله في هذا الكتاب الى جملة من صفات اللّه البارزة التي
تدلّ جميعُها على تنزهه سبحانه، وعظمته وجلاله.
ثم أشار إلى مسألة اُلوهية المسيح (التي هي من ولائد التفكير الكنسي المنحطّ) وردّ
على ذلك باستدلال قويٍّ خاصّ مستلهَم من القرآن الكريم. حيث قايس ولادة المسيح عليه
السَّلام بخلقه آدم، وأثبت ان ولادة شخص من دون أب لو كان دليلاً على اُلوهّيته، أو
كونه إبناً للّه، لصحّ ذلك في حق آدم، الذي خلق من غير أب ولا اُمّ، ولكن لا يرى
أحدُ
2015-12-01