معركة بدر
سيد المرسلين
معركة "بدر" من معارك الاسلام الكبرى ومن حروبة البارزة، وقد اكتسب الذين شاركوا في هذه المعركة منزلة خاصة بين المسلمين فيما بعد.فالواقعة التي كان يشارك فيها فرد أو عدةُ أفراد من المجاهدين في "بدر" أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال المسلمون
عدد الزوار: 94
معركة "بدر" من معارك الاسلام الكبرى ومن حروبة البارزة، وقد اكتسب الذين شاركوا في
هذه المعركة منزلة خاصة بين المسلمين فيما بعد.فالواقعة التي كان يشارك فيها فرد أو
عدةُ أفراد من المجاهدين في "بدر" أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال
المسلمون: ووافقنا عليه البدريون.أجل إِن الذين شاركوا في معركة بدر من أصحاب النبيّ
صلّى اللّه عليه وآله يدعون بالبدريين، ولم يكن هذا إِلا لاهميّة تلكم الوقعة
التاريخية. وتتضح علة هذه الأهميّة إِذا نحن استعرضنا تفاصيل هذه الوقعة.
لقد قلنا في ما سبق أنه بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في منتصف جمادى الآخرة
من السنة الثانية للهجرة، أن قافلة قريش التجارية خرجت من مكة إِلى الشام بقيادة "أبي
سفيان بن حرب".فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لملاحقتها إِلى "ذات العشيرة"
وتوقّف هناك إلى مطلع الشهر التالي، ولم يعثر على تلك القافلة، وقد كان وقت عودة
القافلة معلوماً تقريباً، فقد كانت قافلة قريش تعود من الشام إِلى مكة في أوائل
الخريف.
ومن المعلوم أنّ أوّل خطوة على طريق الانتصار في مثل هذه الحالات هو تحصيل اكبر قدر
من المعلومات حول العدوّ لأنّ قائد الجيش ما لم يعرف شيئاً عن استعدادات العدوّ،
ونقطة تمركزه وتواجده، ومعنويات أفراده، فانه ربما ينهزم وينكسر في أول مواجهة.
ولقد كان من أساليب النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله الرائعة في جميع الحروب
والمعارك التي ستقرأ تفاصيلها هو جمع المعلومات حول مدى استعداد العدوّ، ومبلغ
تهيّؤه ومكان تواجده، وتمركزه، وهذه مسألة تحظى والى اليوم بأهميّة خاصّة في الحروب
العالمية والمحلية، بل وترصد لها ميزانيّات كبرى، وتستخدم أجهزة عريضة في عالمنا
الحاضر، كما هو معلوم للجميع، وكما أشرنا الى ذلك فيما سبق.
وقد بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عَيناً له على قافلة قريش اسمه "عدي" حسب
رواية المجلسي1 أو "طلحة بن
عبيد اللّه" و"سعيد بن زيد" حسب ما قال صاحب "حياة محمّد" نقلاً عن المصادر
التاريخية2، لإخباره عن مسير تلك القافلة، وعدد حرّاسها ورجالها ونوعية
البضائع المحمّلة.
فلما عاد العين أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
1- بأن قافلة قريش قافلةُ كبرى شارك فيها كلُّ أهل مكّة، حتى أنه ما من قرشيّ أو
قرشية بمكة له مثقال فصاعداً إِلا بعث به في تلك القافلة.
2- إِن البضائع يحملُها ألفُ بعير وأن قيمتها تبلغ خمسين ألف دينار.
3- وأنه يقودها "أبو سفيان بن حرب" في أربعين رجلاً.
وحيث أن أموال المسلمين المهاجرين إِلى المدينة كانت قد صُودرت في مكة على أيدي
قريش من هنا كان الوقت مناسباً جداً لأن يأخذَ المسلمون أموال قريش في تلك القافلة،
ويحتفظوا بها ريثما تفرج قريش عن أموال المسلمين المهاجرين المصادرة بمكة، فاذا
لجوّا وأصرّوا في مصادرة أموالِ المسلمين قسَّم المسلمون في المقابل أموال قريش
المأخوذة فيما بينهم وتصرفوا فيها كغنائم حرب من هنا قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله لهم: "هذا عِيرُ قريش (أي
قافلتهم) فيها أموالهم، فاخرجوا اليها لعَلّ اللّه ينفلِكُمُوها"3.
من هنا استخلفَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في المدينة "عبد اللّه بن اُمّ
مكتوم" للصلاة بالناس، والقيام بالشؤون الدينية، و"أبا لبابة" للقيام بالشؤون
السياسية.
ثم خرج من المدينة في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً لمصادرة أموال قريش أو بالاحرى
توفيقها وحبسها.
النبيّ يتوجه الى منطقة ذَفران 4
لقد ترك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المدينة بعد أن أتاه خبر عن تحرك قافلة
قريش، قاصداً وادي ذفران حيث طريق القافلة في يوم الاثنين، الثامن من شهر رمضان،
وقد عقد رايتين سلّم إِحداهما إِلى مصعب بن عمير، والاُخرى (وتسمى العقاب) إِلى علي
بن أبي طالب عليه السلام.
ولقد كانت المجموعة التي خرج بها النبيّ صلّى اللّه عليه وآله تتألّف من إِثنين
وثمانين من المهاجرين، ومائة وسبعين من الخزرج، وواحد وستين من الأوس، وكان عندهم
ثلاثة أفراس فقط.وقد ذكر ابن هشام في سيرته جميع المراحل التي طواها رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله من المدينة إِلى ذفران ومنه إِلى بدر الذي ارتحل اليه رسول
اللّه بعد أن بلغه نبأ تحرك قافلة قريش.
وبدر كان موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كلّ عام يتبايعون فيه ويتفاخرون
على غرار سوق عكاظ، وكان يقع على طريق مكة والمدينة والشام.(راجع السيرة النبوية: ج
1 ص 613- 618).ولقد بلغ حبُّ الشهادة عند الاشخاص في المجتمع الاسلامي يومئذ مبلغاً
عجيباً حتى أنّ فتياناً دون الحلم اشتركوا في هذه المعركة، وردّ النبيّ صلّى اللّه
عليه وآله بعضهم إِلى المدينة لمّا استصغرهم 5.
إِن كلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يفيد بأنه صلّى اللّه عليه وآله قد وعدهم
بالرخاء والانفراج في المعيشة وذلك عن طريق السيطرة على أموال قريش، وأخذِ بضائعها،
وكان المسوّغ لهذا العمل هو ما سبق أن ذكرناه، وهو أن قريشاً كانت قد صادرت كل
أموال المهاجرين المسلمين في مكة، منقولها وغير منقولها، ومنعت من دخولهم مكة،
وخروجهم منها.
ومن الواضح أن يسمح العاقل لنفسه أيّاً كان بأن يعامِلَ عدوه بمثل هذه المعاملة
التي عامَلَهُ بها العدوُّ.
وأساساً يجب أن نعلم أنّ سبب هجوم المسلمين على قافلة قريش هو أنهم قد ظُلِمُوا
وقُهِروا، الأمُر الذي يذكره القرآن الكريم أيضاً، ولذلك يسمح للمسلمين بأن يقاتلوا
عدوَّهم ويعترضوا تجارتهم إِذ يقول: ﴿اُذِنَ
لِلَّذينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِموا وَأنَّ اللّهَ عَلى نَصرِهِم لَقدير﴾6.
ولقد كان أبو سفيان قد عرف عند توجهه بالقافلة إِلى الشام أن رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله يترصد القافلة، ولهذا اتخذ كافة الاحتياطات عند قفوله ورجوعه من الشام،
فكان يسأل القوافلَ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وكان إِذا رأى أحداً منهم
سأله: هل أحسستَ أَحداً؟!
وروي أنه كان الرجل يساهم أباه في الخروج مع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله رغبةً في
الجهاد في سبيل اللّه والشهادة فكان ممن ساهم "سعد بن خيثمة" وأبوه في الخروج إِلى
بدر، فقال سعد لأبيه: انه لو كان غير الجنة آثرتك به، إِني لأرجو الشهادة في وجهي
هذا.
فقال خيثمة:آثِرني، وقرّمع نسائك! فأبى سعد.
فقال خيثمة:إِنه لا بدَّ لأحدنا من أن يقيم، فاستَهَما (أي اقترعا) فخرج سهم سعد
فقتل ببدر (المصدر).وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد خرج مع أصحابه من
المدينة، يلاحق قافلة قريش، وقد نزل في وادي ذفران.
ولما أحسّ أبو سفيان بذلك أحجم عن الاقتراب الى منطقة بدر ولم ير بُدّاً من أن يخبر
قريشاً بالخطر الذي يحدق بتجارتهم، وأموالهم، ويطلب مساعدتهم، فاستأجر رجلاً يدعى "ضمضم
بن عمرو الغفاري" وأمرهُ بأن يجدع بعيره (يقطع أنفه) ويحوّل رَحله، ويشقَّ قميصَه
من قُبُله وَدُبُرِه ويصيح الغوث! الغوث، ويخبر قريشاً أنّ محمّداً تعرّض لتجارتهم!!
فخرج ضمضم سريعاً إِلى مكّة، ولمّا قدِمها وقف ببطن الوادي يصيح بأعلى الصَوت:يا
معشر قريش اللطيمة اللطيمة7، أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد
في أصحابه، لا أرى ان تدركوها، الغوث الغوث8.
فأثار هذا المنظر المثير، واستغاثات ضمضم المتتابعة أهل مكة، فتجهزوا سراعاً،
وتهيّأوا للخروج، وأعدَّ كلُ صناديد قريش ورجالها المقاتلون أنفسهم للتحرّك نحو
المدينة إِلا أبو لهب الذي لم يشترك في هذا الخروج، وارسل مكانه "العاصي بن هشام"
لقاء أجرٍ قدرُه أربعة آلاف درهم.وأراد "اُميّة بن خلف" هو الآخر أن يتخلّف لاسباب
خاصّة، فقد قيل له:أن محمّداً يقول:لأقتلنّ اُميّة بن خلف9.
فرأى أشراف قريش وسادات مكة أن تخلف رجل مثله يضرّ بقريش ويوهن من عزيمة الجيش،
فقرروا إِثارته وتحريكه فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وهو جالس في المسجد بين
ظهرانّي قومِه، بمجمرةٍ يحملانه فيها نارُ وعودُ يتبخَّر به حتى وضعاها بين يديه ثم
قالا له: "يا اُميّة استجمر فإنّما
أنتَ من النساء"!فغضب اُميّة، وهاجت به الحمية، فتجهز من فوره، وخرج مع الناس 10.
وخلاصة القول أنه
ارعبت قريش لمّا سمعت بتعرض قافلتها وأموالها للخطر من قبل النبيّ صلّى اللّه عليه
وآله وأصحابه، فكانوا بين رجلين إِما خارج أو باعث مكانه رجلاً، وما بقي أحد من
عظماء قريش إِلا أخرج مالاً لتجهيز الجيش، وأخرجوا معهم المغنيات يضربن بالدفوف
ويهيّجن الرجال للقتال.
المشكلة التي كانت تواجهها قريش
ولما اُعلن عن موعد الرحيل تذكرت قريش بأن بينهم وبين قبيلة "بني بكر" عداءً
قديماً، فخافوا أن يوجهوا اليهم ضربةً من الخلف، أو يحملوا على نسائهم وذراريهم في
مكة في غياب منهم فكاد ذلك يثنيهم عن الخروج.
وقد كان العداء بين قريش وبني بكر يعود اإِلى دمٍ سُفك بينهم في قصة ذكرها ابن هشام
وغيره من كتّاب السيرة11.
ولكن سراقة بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة وهم من بني بكر طمأنهم، ووعدهم
بأن لا تاتيهم بنو بكر من خلفهم بشيء يكرهونه، ولما اطمأنّوا خرجوا صوب المدينة
سراعاً.وكان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وأصحابُه قد خرجوا من المدينة لاعتراض
قافلةِ قريش التجارية، وهبطوا في وادي ذفران، وبقوا هناك ينتظرون مرورها، ولكنه
فجأة بلغه خبرُ جديدُ غيّر أفكار قادة الجيش الاسلامي، وفتح في الحقيقة فصلاً
جديداً في حياتهم.
فقد أتاه الخبر عن مسير قريش باتجاه المدينة لحماية قافلتها التجارية، وأن جيشها قد
وَصَل إِلى مشارف المنطقة التي يتواجد فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وأصحابه، وأن طوائف متعددة قد ساهمت وشاركت في تكوين هذا الجيش.
فوجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والقائد الاعلى للمسلمين نفسَه أمام
خيارين:إِما أن يقاتل، ولكنّه لم يخرج هو أو أصحابه لمقاتلة الجيش المكّي الكبير،
لا من حيث العدد، ولا من حيث العُدّة.وإِما أن يرجع إِلى المدينة من حيث أتى، وهذا
يعني أن ينهار كلُّ ما كسبوه من الهيبة والمهابة، بفضل المناورات العسكرية، والعروض
النظامية السابقة.
وبخاصة إِذا تقدم العدوّ نحو المدينة في ظل هذا الانسحاب واجتاح مركز الإسلام
"المدينة المنورة".فرأى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أن لا ينسحب، بل يقاتل العدوّ
بما عنده من العدة القليلة والعدد القليل ويقاوم حتى اللحظة الأخيرة والنفس
الأخير.والجدير بالذكر أنّ أكثر الذين كانوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
كانوا من شبّان الأنصار وكان عدد المهاجرين لا يتجاوز 82 شخصاً.
وكانت بيعة العقبة التي بايع فيها الأنصار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بيعةً
على الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وحمايته لا القتال والحروب.أي انهم
بايعوه صلّى اللّه عليه وآله على أن يمنعوه في المدينة فلا يصل إِليه أحد من أعدائه
وهو بينهم.أمّا أن يخرجوا معه الى خارج المدينة لقتال العدوّ فلم يبايعوا النبيّ
صلّى اللّه عليه وآله على مثل ذلك فماذا يفعل القائدُ الأعلى للمسلمين.إِنه لم يرَ
مناصاً من استشارة الناس الذين معه، ومعرفة رأيهم في ما يجب اتخاذه من طريقةِ حلٍ
لهذه المشكلة.
النبيّ يعقد شورى عسكرية
وهنا وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في تلك الجماعة وقال:أشيرواعليَّ أيُّها
الناس.
فقام أبو بكر وقال:يا رسول اللّه إِنّها قريش وخيلاؤها ما آمَنَت منذ كَفَرت، ولا
ذَلَّت مُنذ عزّت ولم نخرج على أهبة الحرب!!
وهذا يعني أنه رأى من الصالح أن ينسحبوا الى المدينة، ولا يواجهوا قريشاً.
فقال له رسول اللّه:إِجلس.
ثم قام عمر بن الخطاب، وكرّر نفس مقالة أبي بكر، فأمره النبيّ صلّى اللّه عليه وآله
بالجلوس أيضاً.
ثم قام "المقداد بن عمرو" وقال:يا رسولَ اللّه إِمض لِنا أراك اللّهُ فنحنُ معك،
واللّهِ لا نقولُ لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى:إِذهَب أنت وربُّك فقاتِلا إِنّا
هاهُنا قاعِدُون.
ولكن إِذَهب انتَ وربُّك فقاتِلا، وإِنا مَعَكُما مُقاتِلون.
فَوَالّذي بعثكَ بالحقِ لو سِرتَ الى برك الغماد (وهو موضع بناحية اليمن) لجالَدنا
معك مِن دونه، حتى تبلغَه، ولو أمرتنا أن نخوضَ جَمر الغضا (أي النار المتقدة)
وشوكَ الهراس (وهو شجر كبير الشوك) لخضناه معك.فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله خيراً ودعا له به.
إِخفاء الحقائق وكتمانها
إِذا كان اخفاء الحقائق، والتعتيم عليها وسترها، والتعصب الباطل أمراً مشيناً مِن
كلّ من ألَّفَ وكتَبَ، فإنّه ولا شك أقبحُ من المؤرّخ، المؤتَمن على التاريخ
وحقائقه.
فان على المؤرخ أن يكون مرآةً صادقة للأجيال القادمة لا يكدرها غبار التعصب، وغشاوة
التحريف والتبديل والكتمان للحقائق.ولقد ذكر ابن هشام 12 والمقريزي 13والطبري 14 ما
وقع في الشورى العسكرية التي عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأدرجوا فيها
ما قاله المقداد، وقاله سعد بن معاذ في كتبهم على وجه التفصيل، ولكنهم أحجموا عن
إِدراج ما قاله أبو بكر وعمر وإِنما قالوا: وقال فلان وأحسَنَ، وقال فلان واحسنَ!!
وهنا نسأل ذينك المؤرخين اذا كان ما قاله فلان وفلان حسناً أرضى رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله فلماذا تركوه ذكرا على نحو التفصيل كما فعلوا بالنسبة إِلى كلام
مقداد وسعد.
بلى، إِنهما لم يقولا إلا ما ذكرناه قبل قليل، ليس غير.وإِذا كان اُولئك المؤلفون
يكتمون الحقائق، فقد أظهرها الآخرون وسجلوا نصّ ما قاله الرجلان 15، ولم يكن قولاً
حسناً ولا كلاماً طيباً، بل كان كلامهما مثبطاً، ينمّ عن خوف، ووحشة، فهما صوّرا
قريشاً قوةً لا تُقهر، وجيشاً لا يُدحَر، غير آبهين بما تترك كلماتهم من الاثر
السيئ في نفوس المسلمين في ذلك الظرف الدقيق، واللحظة الخطيرة!!
وإِنك أيها القارئ لتستطيع أن تعرفَ مدى إِنزعاج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من
مقالتهما، مما ذكره الطبري نفسُه في الصفحة ذاتها، فان الشيخين كما تلاحظ، كانا
أوّل من نطقا في تلك الشورى، ثم تكلّم بعدهما المقداد، وسعد بن معاذ.
فان الطبري يروي عن ابن مسعود أنه قال:لقد شهدت من المقداد مشهداً لئن أكون أنا
صاحبه احبُّ إِليّ مما في الارض من شيء كان رجلاً فارساً .
قال الواقدي:ثم قال عمر:يا رسول اللّه أنها واللّه قريش وعزّها، واللّه ما ذلّت منذ
عزّت، واللّه ما آمنت منذ كفرت، واللّه لا تسلم عزّها أبداً، ولتقاتلِنَّك فاتّهب
لذلك اُهبته، وأعِد لذلك عُدَّته!
كما جاء في صحيح مسلم:ج 5 ص 170 باب غزوة بدر ومسند أحمد:ج 3 ص 219 بطريقين انه حين
بلغ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله اقبال ابي سفيان شاور أصحابه، فتكلم أبو بكر فاعرض
عنه، ثم تكلم عمر فاعرض عنه.
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اذا غضب احمارّت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك
الحال 16 فقال:أبشر
يا رسول اللّه فواللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: "إِذهب
أنت وربُّك فقاتلا إِنّا هاهنا قاعدون، ولكن إِذهب انت وربُّك فقاتلا إِنّا معكما
مقاتلون"17.
ولقد كان ذلك المجلسُ مجلسَ استشارة وتبادل للرأي وكان لكل أحدٍ الحقُّ في أن يُدلي
برأيه، ويطرح نظره على القائد الأعلى، ولكنَّ مجريات الاحداث أثبتت أن مقداد كان
أقرب إِلى الصواب، وأكثر توفيقاً في اصابة الحق من ذينك الرجلين.
وقد أشار القرآن الكريم إِلى تخوف بعض المسلمين من مواجهة العدوّ في هذه الموقعة
إِذ قال سبحانه: "كما أخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بالحقّ وان فريقاً مِنَ
المؤمنين لكارِهُون"18.
وقال تعالى: ﴿يُجادِلُونَكَ
في الحقِّ بَعْدَ ما تَبيّنَ كأنَّما يُساقُونَ الى الموْت وهُمْ ينظُرون﴾19.
قرار الشورى الحاسِم أو رأي زعيم الأنصار
كانت الآراء التي طُرِحت آراء شخصيّة وفردية على العموم، والحالَ أن الهدف الاساسيّ
من عقد تلك الشورى كان هو الحصول على رأي الأنصار، فلمّا لم يدلِ الأنصارُ برأيهم
لم يمكن لتلك الشورى أن تتخذ رأياً حاسماً، وتبتّ في أمر.
من هنا أعاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قوله: "أشيروا
عليّ أيه الناس" وهو يريد الأنصار.
فقام سعد بن معاذ الأنصاري وقال:واللّه لكأنك يا رسول اللّه تريدنا؟
فقال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله:أجل.
فقال سعد:بأبي أنتَ واُمّي يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِنا قد آمنا بكَ،
وصدقناك وشهدنا أن ما جئتَ به حق مِن عند اللّه، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على
السمع والطاعة فامض يا رسول اللّهِ لما اردتَ فنحنُ معك، فوالذي بعثك بالحق، لو
استعرضت بنا هذا البحر20 فخضته
لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكرهُ أن تلقى بنا عدونا غداً.
إنا لصبرُ في الحرب، صُدق في اللقاء لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك فسِر بنا
على بركة اللّه، وصِل مَن شئتَ، واقطعْ من شئتَ وخذْ مِن أموالنا ما شئتَ، وما أخذت
من أموالنا أحبُّ إِلينا مما تركتَ.
فسرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بقول سعد ونشّطه ذلك، وأزال سحابة اليأس من
النفوس، وأشعل ضياء الأمل في القلوب.ولهذا لم يفرغ ذلك الأنصاريُ البطل والقائد
المؤمن الشجاع من مشورته الشجاعة إِلا وأصدر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمره
بالرحيل قائل: "سيروا على بركة اللّه وابشروا فانّ اللّه قد وعدني إِحدى الطائفتين
ولن يخلف اللّه وعده.واللّه لكأنّي الان أنظُر الى مصارع القوم".وتحرك الجيشُ
الاسلاميُّ بقيادة النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله ونَزَل عند آبار "بدر"21.
تحصيلُ المعلومات حول العدوّ
مع أنّ المبادئ العسكريّة والتكتيكات الحربية في الوقت الحاضر تختلف عما كانت عليه
في العصور الغابرة اختلافاً كبيراً إِلا أنّ مسألة تحصيل المعلومات حول العدوّ
ومعرفة أسراره العسكرية، ومدى استعداداته ومبلغ قواه التي يستخدمها، ودرجة معنويات
أفراده لا تزال على أهميتها وقيمتها، لم تتغير من هذه، بل ازدادت أهمية في العصر
الحاضر كما أسلفنا.
فهي تشكل الآن أيضاً مفتاحاً في الحروب، ومنطلقاً للانتصارات العسكرية.على أن هذه
المسألة قد اتخذت اليوم صبغة التعليم والتمرين، فقد أصبح لها اليومَ كتب ومعاهدُ
تتولى تعليم طرائق التجسس العسكري واساليبه، كما ويعزي قادة المعسكر الغربي والشرقي
الكثير من نجاحاتهم إِلى نجاحهم في توسعة دوائر التجسس ومنظماته التي تستطيع إِطلاع
أصحابها على معلومات دقيقةٍ ومفصّلة عن خطط العدو وقواه، واماكن تمركزه وتواجده،
وخطوط إِمداده، وتموينه تمهيداً لإفشالِ تحركاته أو إجهاضها فوراً.
من هنا استقر الجيشُ الاسلاميّ في منطقةٍ تلائم مبادئ التستر بشكل كامل، ومنع عن أي
عمل من شأنه انكشاف أسراره، كما أن فرقاً مختلفةً ومتعددة كُلّفت بتحصيل وجمع
المعلومات عن قريش وقافلتها وجيشها.
فكانت المعلومات التي توفرت لدى القيادة الاسلامية هي
كالتالي
أ- انّ النبيّ نفسه ركب هو ورجل من قادة جيشه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن
قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فأخبرهم بأن محمّد وأصحابه خرجوا يوم كذا
وكذا، وانه إِن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي كان به
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وان قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، وانه ان كان الذي
أخبره صدقه فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش.وهكذا عرف رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله نقطة تواجد قريش، واستقرار قواتهم.
ب- بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جماعة "الزبير بن العوام" و"سعد بن أبي
وقاص" بقيادة عليّ عليه السلام الى ماء بدر يلتمسون له الخبر، فأصابوا إِبلاً يستقى
عليها الماء لقريش فيها غلامان أحدهما لبني الحجاج والآخر لبني العاص فأتوا بهما
إِلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فسألهما النبيّ عن قريش فقالا:هم واللّه وراء
هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:كم القوم وما عدّتهم فقالا:لا ندري،
كثير.فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: كم ينحرون (من الابل) كل يوم؟ قالا:
يوماً تسعاً ويوماً عشراً.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:القوم فيما بين التسعمائة والألف.
ثم سألهما:فمن فيهم من أشراف قريش؟
قالا:عتبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام وشيبة بن ربيعة وأبو جهل
بن هشام وأميّة بن خلف و.. و..
فأقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على أصحابه وقال: "هذه
مكّة قد ألقَت إِليكم أفلاذ كبدها"22.
جيم/ كُلِفَ شخصان بالدخول الى قرية بدر وتقصّي الحقائق حول قافلة قريش فيها فمضيا
حتى نزلا بدراً فأناخا ابلهما الى تلّ قريب من الماء، ثم تظاهرا بأنّهما يريدان أن
يستسقيا، وكان على الماء جاريتان تستسقيان وتقول إِحداهما للاُخرى:إِنما تأتي
القافلة غداً أو بعد غدٍ فأعملُ لهم ثم أقضيك الذي لك.
فقال لها "مجدي بن عمرو الجهني"، وكان على مقربة منها:صدقت ثم خلص بينهما.فسرّ
صاحبا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لما سمعا فعادا في سرّية كاملة إِلى رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبراه بما سمعا 23.
والآن وبعد أن أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عارفاً بوقتِ ورود القافلة،
ومكان تواجد قريش، معرفةً دقيقة عمد إلى ترتيب المقدمات اللازمة.
كيف هربَ أبو سفيان؟
لقد تعرّض أبو سفيان قائد قافلة قريش لدى توجّهه بها إِلى الشام للملاحقة من قبل
مجموعة من المسلمين، ولهذا فانه كان يعلم جيداً بأنهم سوف يتعرضون له عند قفوله من
الشام أيضاً.
ولهذا عندما وصل بقافلة قريش إِلى المنطقة الخاضعة للمراقبة الاسلامية أراحَها في
منطقة بعيدة عن متناول أيدي المسلمين ودخل هو قرية"بدر" يتجسس، ويسأل عن أخبار رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فالتقى "مجدي بن عمرو" على ماء بدر فسأله:هل أحسستَ
أحداً؟ (ويقصد هل رأيتَ أحداً من عيون محمّد ورجاله؟).
فأجابه مجدي قائلاً: ما رايتُ أحداً اُنكرِه، إِلا أني قد رأيتُ راكبين قد أناخا
الى هذا التلّ ثم استقيا في شنٍّ لهم، ثم انطلقا.
فأتى أبو سفيان مُناخهماً، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتّه، فاذا فيه النوى فقال:هذه
واللّه علائف يثرب. هذه عيون محمّد وأصحابه، ما أرى القوم إِلا قريباً.
فرجع إِلى أصحابه سريعاً وحرّك القافلة من فوره، وابتعد عن بدر وأخذ بها جهة ساحل
البحر الأحمر كما أنه كلّف أحداً بإخبار قريش فوراً، بأنّ قافلتهم أفلتت من يد
محمّد وأصحابه، وأن أموالهم نجت فليرجعوا وليتركوا محمّداً تكفيه العرب.
دليل الخارطة
1- القلعة 2- مدينة بدر 3- النخيل 4- مسجد العريش 5- بيوت بدر
علم المسلمين بإفلات قافلة قريش
عرف المسلمون بإفلات قافلة قريش، وانتشر هذا النبأ بينهم بسرعة، فاغتمّ من خرجَ مع
المسلمين يريد الحصولَ على شيء من تلك الأموال، فقال اللّه تعالى تثبيتاً لهم
وتسكيناً لقلوبهم: ﴿وَإِذ
يَعدُكُم اللّهُ إِحدى الطائفَتَين أنّها لكُم وَتوُدون أن غيرَ ذات السَّوكَة
تكُونُ لَكُم وَيُريدُ اللّهُ أن يُحقَّ الحقّ بكلماتهِ وَيَقطَعَ دابِرَ
الكافرينَ. ليحق الحقَّ ويبطِلَ الباطِلَ وَلَو كَرِهَ المجُرِمُون﴾24.
إِختلاف قريش في القتال
عندما وافى رسول أبي سفيان قريشاً وهم بالجحفة، وأبلغهم رسالة أبي سفيانُ وطلب منهم
الرجوعَ إِلى مكة حدث بين رجال قريش اختلاف عجيب.وقال بنو زهرة والأخنس بن شريق
وكانوا حلفاء على الرجوع قائلين: قد خلصت أموال سيد بني زهرة: "مخرمة بن نوفل"
وانما نفرنا لنمنعه وماله، فلا حاجة بأن نخرج في غير منفعة.
ورجع طالب (ابن أبي طالب) إِلى مكة وكان قد استُكرِهَ على الخروج من مكة، وذلك بعد
مشاجرة بينه وبين رجل من قريش قال له: "واللّه لقد عرفنا يابني هاشم، وإِن خرجتم
معنا أن هواكم لمع محمّد"25.
وأما أبو جهل فقد أصرّ على مواصلة التقدم نحو المدينة، وعدم الرجوع إِلى مكّة
خلافاً لطلب أبي سفيان، قائلاً:واللّه لانرجع حتى نرد بدراً فنقيمَ عليه ثلاثاً
فننحر الجزر (الأباعر) ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان والمغنيات،
وتسمع بنا العرب وبمسيرنا، وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا!!
فحملت كلماتُ أبي جهل المغرية قريشاً على مواصلة التقدم نحو المدينة، ونزلت في مكان
مرتفع26 خلف كثيب.وأمطرت
المساء مطراً غزيراً فأصاب قريشاً منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، ومنعهم من
مزيد التقدم.بينما لم يُحدِث المطرُ أي مشكلة في العدوة الدنيا للمسلمين ولم يمنع
من تحركهم بل كان بحيث لبدّ الأرض حتى ثبتت أقدامهم27.
و"بدر" منطقة واسعة يتكون جنوبها من مكان مرتفع (العدوة القصوى) وشمالها من مكان
منخفض منحدر (العدوة الدنيا) وكانت في هذا الوادي الواسع بضع آبار وعيون ماء، فكان
منزلا للقوافل ينزلون فيه ويستقون، ويستريحون ردحاً من الزمن.
وهنا تقدم "الحباب بن منذر" وكان فارساً مجرباً وعسكرياً محنكاً باقتراح الى النبيّ
صلّى اللّه عليه وآله إِذ قال:يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل منزلاً أنزلكهُ اللّه
ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "بَل
هو الرأيُ والحرب والمكيدة".
فقال:يا رسول اللّه فانَ هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتّى أدنى ماء من القوم،
فننزله فنغوّر (أي ندفن العين)ما وراء القُلُب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ثم
نقاتل القوم فنشربَ ولا يشربون.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقد أشرتَ بالرأي.
فنهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ومَن مَعه فسار حتى إِذا أدنى ماء من القوم
نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب (الآبار)فغوّرت، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه
فملئ ماءً قذفوا فيه الآنية.إِن هذه الحادثة تكشف جيّداً على إِهتمام رسول الإسلام
بالمشاورة،
واحترامه لآراء الآخرين واتساع صدره لاقتراحاتهم، والأخذ بما يفيد منها دون تكبرّ
أو انزعاج28.
"العريش" أو غرفة القيادة
وقيل إن سعد بن معاذ تقدم هو الآخر بمقترح عسكري رائع وهو بناء واقامة برج لرسول
اللّه يقود منه العمليات ويشرف على سيرها ويكون مأمناً له من كيد الاعداء فقال: يا
رسول اللّه ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدوَّنا فان
أعزّنا اللّه وأظهرّنا على عدوّنا، كان ذلك ما أحببنا، وان كانت الاُخرى جلست على
ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ اللّه ما نحن بأشد لك حباً
منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك اللّه بهم، يناصحونك ويجاهدون
معك.
فأثنى عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ودعا له بخير، ثم بني له صلّى اللّه
عليه وآله عريش فوق مكان مرتفع مشرف على ساحة القتال والحرب، وكان سعد وجماعة من
فتيان الأنصار يحرسونه في بعض حالات القتال!!29.
نظرة الى مسألة "العريش"
ان مسألة بناء العريش لرسول اللّه، وحراسة سعد بن معاذ وجماعة من فتيان الأنصار له
هو مما ذكره ورواه الطبري في تاريخه نقلاً عن ابن اسحاق وتبعه الآخرون في ذلك، ولكن
هذه القصة لايمكن القبول بها لاسباب هي:
أوّلاً: أن
هذا العمل يفتّ في عَضُد الجنود، ويضعف من معنوياتهم القتالية لأن معناه أن القائد
يفكر في وسيلة لنجاة نفسه دون أن يفكر في نجاة جنوده، ومثل هذه القيادة لا يمكنها
ان تستحوذ على قلوب جنودها، وتجعلها مطيعة لأوامرها.
ثانياً: أنّ هذه القصة
تتنافى مع الاخبار القطعية التي بشر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بها المسلمين
في ضوء ما نزل عليه من آيات.فهو صلّى الّه عليه وآله قبل أن يواجه المسلمون قريشاً
قال لأصحابه الذين خرجوا معه من المدينة وعدهم إِحدى الطائفتين، أي إِما الظفر
بقافلة قريش التجارية قطعاً، أو الانتصار على الجيش المكي حتماً ويقيناً إِذ قال
اللّه تعالى:﴿وَإِذ يَعِدُكُمُ اللّهُ
إِحدى الطّائِفَتَينِ أنّها لَكُم وَتُوَدُّونَ أن غَيرَ ذاتِ الشَّوكَةِ تَكُونُ
لَكُم وَيُريدُ اللّهُ أن يُحِقَّ الحق بِكَلِماتِه وَيَقطَع دابِرَ الكافِرين﴾30.
وإِنما اُقدم على بناء العريش لرسول اللّه بناء ً على رواية الطبري في الوقتِ الذي
كانت قافلة قريش قد أفلتت وهربت من أيدي المسلمين، ولم يبق الا الجماعة المسلحة
التي خرجت لحماية القافلة، وكان المسلمون يعلمون طبقا لذلك الوَعد الإِلهي القاطع
أنهم سينتصرون على تلك الجماعة الكافرة: "ويقطعَ
دابرَ الكافرين" فلم يكن المجال
مجال تردد وشك.
وبهذا يكون حديث هزيمة المسلمين في هذه المواجهة ولزوم بناء عريش لحماية النبيّ
واعداد ابل سريعة السير عند العريش لينجو صلّى اللّه عليه وآله عليها بنفسه حديثاً
باطلاً لا مبرّر له، ولا مسوّغ.
يقول ابن سعد نقلاً عن عمر بن الخطاب قال:لما نزلت "سيُهزِم الجمعُ ويوُلّون
الدُبُر" فعلمتُ ان اللّه تبارك وتعالى سيُهزمهم31.
ومع هذا هل يحتمل أن يدور في خلد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه شيء حول
الهزيمة أو يحدثوا أنفسهم بالفرار؟
ثالثاً: أن
النبيّ الذي يصف الامام علي عليه السلام موقفه وحالته عند اشتداد ضراوة القتال لا
تنسجم أبداً ولا تلائم هذا التكتيك الذي لا يتسم بالشجاعة والثبات.
يقول عليّ عليه السلام: "كُنّا إِذا
احمرَّ البَأسُ اتقّينا برسول اللّه صلّى عليه وآله فلم يكن أحدُ منّا أقربَ إِلى
العدوّ منه"32.
فهل يفكر مثل هذه الشخصيّة التي يصفها أول تلامذة مدرسته، وأقرب صحابته اليه بمثل
هذا الوصف، في الفرار، أو اتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك.نحن نعتقد أن بناء العريش
لم يكن إِلا من باب إِعداد غرفة للعمليّات ولمراقبة سير القتال من مكان مشرف على
ساحة القتال، لأن القيادة ما لم تكن مشرفة على ساحة القتال لا يمكنها أن تتصرف
بواقعية واتقان، ولا يمكنها أن تقود الجنود والحشود من منطلق الواقع القتالي
والعسكري.
من هنا لم يكن الهدف من العريش ان صحّ أصل القصة هو الإعداد والتحسب للفرار وما
شاكل ذلك.
تحرك قريش باتجاه بدر
في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ارتحلت قريش من وراء
الكثيب وانحدرت إِلى وادي بدر، فلما رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال:
"اللّهم هذهِ قريشُ قد أَقبَلَت بخُيَلائِها، وفَخرِها تحادُّك وَتكذّبُ
رسُولَك.اللّهمَّ فَنَصرُك الّذي وَعَدتني بهِ، اللّهمَّ أحِنهم33 الغداة".
قريش تشاور في القتال
استقرت قوى قريش في منطقة من أرض بدر استعداداً للمواجهة، وحيث أنهم لم يكونوا
يعرفون شيئاً عن عدد أفراد المسلمين ومبلغ إِستعداداتهم، لذلك كلفوا "عمير بن وهب
الجمحيّ" وكان فارساً ماهراً في الاحصاء والتخمين بأن يحرز (ويقدر بالحدس) عدد
أصحاب محمّد.
فاستجال بفرسه حول عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم رجع الى قريش
وقال:ثلاثمائة رجل يزيدون أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى انظرَ ألِلقومِ كمينة، أو
مددُ.
فضَرب في الوادي حتى أبعد ولكنه لم يرَ شيئاً.فرجع الى قريش ثانيةً وهو يحمل لهم
خبراً مرعباً إِذ قال: ما وجدت شيئاً (أي كميناً او مدداً وراء المسلمين) ولكني قد
رأيتُ يا معشر قريش البلايا 34تحمل المنايا، نواضح 35 يثرب
تحمل الموتَ الناقع ِ36،
قومُ ليسَ مَعَهُم مَنعةُ ولا مَلجأ إِلا سيوفُهم.
واللّه ما أرى أن يُقتلَ رَجلُ منهم حتّى يَقتلَ رجلاً منكم، فاذا اصابوا منكم
أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فَرَوا رأيكم!وروى الواقدي عبارات عمير بنحو آخر إذ
قال: قال عمير: واللّه ما رأيت جلداً ولا عدداً ولا حلقة ولا كراعاً، ولكني رأيت
قوماً لا يريدون أن يؤوبوا الى أهليهم، قوماً مستميتين ليست لهم مَنَعَة ولا ملجأ
إِلا سيوفهم، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجَفَ37 38.
وروى المجلسي ما قاله عمير بنحو ثالث إِذ قال:قال عمير:ما لهم كمينُ ولا مددُ، ولكن
نواضح يثرب قد حملت الموت الناقَع أما ترونهم خُرساً لا يتكلمون يتلمظون تلمّظ
الافاعي مالهم ملجأ إِلا سيوفهم ما أراهم يولون حتى يقتلوا، ولا يُقتلون حتّى
يقتُلوا بعددهم فارتأوا رأيكم 39.
اختلاف قادة قريش في امر القتال
أوجدت كلمات عمير الفارس الشجاع ضجة كبرى بين رجال قريش وسادتها وزعمائها، وانتاب
الجميعَ خوفُ بالغ ورعبُ شديدُ من المسلمين.
فمشى حكيم بن حزام الى عتبة بن ربيعة ليقنعه بالعدول عن مقاتلة المسلمين، فقال له:
يا أبا الوليد إِنّك كبير قريش وسيّدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزل تذكر
فيها بخير الى آخر الدهر، ترجع بالناس وتحمل أمرّ (دم) حليف عمرو بن الحضرمي، وما
أصاب محمّد من ماله ببطن نخلة 40 إِنكم
لا تطلبون من محمّد شيئاً غير هذا الدم والمال؟!
فاقتنع عتبة برأي حكيم، فجلس من فوره على جمله، ووقف يخطب في المشركين من قريش بنطق
جميل وبليغ يقول:يا قوم أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه (يعني رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله)، يامعاشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، إن محمّداً له
آل (أي قرابة) وذمة وهو ابن عمكم فخلّوه والعرب، إِنكم والّله ما تصنعون بأن تلقوا
محمّداً وأصحابه شيئاً، واللّه لئن اصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره
النظر اليه قتل إِبن عمه أو خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلّوا بين محمّد
وسائر العرب، فان أصابوه فذاك الذي أردتم وان كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما
تريدون 41.
وانطلق حكيم بن حزام الى أبي جهل وأخبره برأي عتبة ومقالته، هذا وأبو جهل يهيئ
درعه، فانزعج أبو جهل من مقالة عتبة وموقفه إِنزعاجاً شديداً وثارت ثائرته حسداً
على عتبة، وتعنتاً عن الحق 42،
وبعث من فوره رجلاً إِلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو الذي قُتل في غزوة عبد اللّه بن
جحش بنخلة
وقال له:هذا حليفك (عتبة) يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم وانشد
خفرتك 43 ومقتل
(أو دم) أخيك.
فقام عامر وكشف عن رأسه، وأخذ يحثو التراب على رأسه، وصاح مستغيثاً واعَمراه
واعمراه، تحريكاً للناس وإِثارةً لمشاعرهم.
فهاج الناس لمنظر عامر وثارت مشاعرهم لندبته، وأجمعوا على الحرب، وتناسَوا اقتراح
عتبة، ونصيحته البليغة الحكيمة لهم.
ولكن عتبة هذا الذي كان يميل الى اعتزال الجيش وترك الحرب، هاجت مشاعره هو الآخر
فقام من فوره ولبس لامة حربه واستعد لقتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وأصحابه44.
وهكذا نجد كيف يتضاءل نور العقل عند هبوب رياح العاطفة الملتهبة، والمشاعر الثائرة
الباطلة وتنطفئ شعلة الفكر، ولا يعود يضيء لصاحبه درب المستقبل حتى أن الرجل الذي
كان قبل قليل داعية السلام، والتعايش الاخوي يتحول تحت تأثير ذلك الهياج العاطفي،
العابر، الاحمق إِلى مبادر الى القتال وسفك الدماء وازهاق الارواح!!!
ما الذي حتّم القتال؟
لما أبصر الاسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلاً شرساً سيئ الخلق الحوض الذي بناه
المسلمون عند البئر لشربهم قال:اعاهد اللّه لاشربن من حوضهم أو لاهدمنّه أو لأموتنّ
دونه!!
ثم خرج من بين صفوف المشركين وشد حتى دنا من الحوض فاستقبله حمزة، ولما التقيا ضربه
بسيفه حمزة فاطار قدمه، وهو دون الحوض فوقع على الأرض تشخب رجله دماً ثم حبا الى
الحوض حتى اقتحم فيه يريد ان يشرب منه أو ان يبر يمينه، فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله
في الحوض.فتسببت هذه الحادثة في أن يصبح القتال امراً مسلّماً وحتمياً، لانه ليس
ثمة شيء يقدر على تحريك المشاعر، واثارة العواطف ودفع الناس للقتال كسفك
الدم.فالذين كان الغيظ والحنق على المسلمين يكاد يقتلهم، وكانوا يبحثون عن ذريعة
يشعلون بها نيران الحرب ويفجّرون فتيلها قد حصلوا الآن على ما يريدون 45.
المبارزات الفردية أولاً
كان التقليد المتبَّع عند العرب في الحروب أن يبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة ثم
تقع بعدها الحملاتُ الجماعية.
فلما قُتِلَ الاسودُ المخزومي خرج ثلاثة فرسان من صناديد قريش المعروفين من صفوف
الجيش المكي ودعوا الى المبارزة.
وهؤلاء الصناديد الثلاثة هم
1- عتبة 46.
2- شيبة.
وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس.
3- الوليد بن عتبة بن ربيعة
فأخذوا يجولون في ميدان القتال ويدعون الى المبارزة، فخرج اليهم من المسلمين فتية
من الأنصار ثلاثة وهم "عوف" و"معوذ" ابنا الحارث و"عبد اللّه بن رواحة"
ولما عرف عتبة أنهم من رجال المدينة قال:مالنا بكم من حاجة.
ثم نادى مناديهم:يا محمّد، أخرج الينا أكفاءنا من قومنا.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "قم يا عبيدَةَ بن الحارث وقم يا حمزة، وقم
يا عليّ".
فقاموا، وخرجوا للمبارزة، ولما دَنَوا منهم، سألهم عتبة عن أسمائهم فعرّفَ أبطالُ
الاسلام أنفسهم وذكروا أسماءهم.
فقال رجال المشركين الثلاثة:نعم أكفاء كرام.
ويرى البعض أنه بارز كلُّ من هؤلاء الثلاثة من كان على سنّه من الكفار فبارز عليُّ
عليه السلام الوليدَ (خال معاوية بن أبي سفيان) وبارز حمزة (وهو أوسطهم) عتبة (جدّ
معاوية لاُمه) وبارز عبيدة (وهو أسنّ الثلاثة) شيبة وهو أسنّ الكفار الثلاثة.غير أن
ابن هشام يقول: بارز "حمزة" شيبة، وبارز "عبيدة" عتبة، وبارز "عليُّ" الوليد بن
عتبة 47.
وهذا يعني أن حمزة (الاوسط في السن) قاتل الاسنّ من الكفار.
فأيّ القولين هو الأصح؟
إن ملاحظة أمرين توضح الحقيقة في هذا المجال
الأوّل: إن
المؤَرخين كتبوا:أن علياً وحمزة قتلا خصميهما في الحال، ثمّ ساعدا عبيدة على قتل
خصمه48.
الثاني: إن
الامام أمير المؤمنين عليه السلام كتب في كتاب له الى معاوية: "وَعِنديَ
السِيفُ الذي أعضَضتُه بِجَدكَ وَخالِكَ وَأخِيكَ في مَقامٍ واحِدٍ"49.
فمن هذا الكتاب يتضح بجلاء أن الامام عليه السلام شارك في قتل جدّ معاوية (أي عتبة)
هذا من جانب.
كما أننا نعلم من جانب آخر أن كلاً من حمزة وعليٍّ قد قتل خصمه في اللحظة الاُولى
من المبارزة.فاذا كان خصم حمزة هو عتبة (جدّ معاوية) لم يكن حينئذ أي معنى لقول
الامام عليه السلام: "أنا قتلت
جدَك".
فلا مناص من أن نقول: إِن الذي بارز حمزة هو شيبة، وأن الذي بارز عبيدة هو عتبة
ليصح حينئذ أن يقال أن علياً وحمزة، ذهبا بعد الفراغ من قتل خصميهما الى عتبة وكرّا
بأسيافهما عليه وقتلاه، ثم احتملا صاحبَهما "عبيدة" وأتيا به الى رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله 50.وبهذا تترجح النظرية الثانية، والقاضية بعدم التكافؤ بين أسنان
كلٍّ من المتبارزين.
الهجومُ العامُّ
إِثر م
2015-12-01