يتم التحميل...

قصّة الهجرة

سيد المرسلين

كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في "دار الندوة" لحل المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبةٍ من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها، ومن خلال تضافر الجهود على حلها، ورفعها أو دفعها.

عدد الزوار: 93

كان زعماء قريش ورؤساؤها يجتمعون عند كل نائبة تنوبهم في "دار الندوة" لحل المشاكل ومعالجة ما عرض لهم من نائبةٍ من خلال التشاور حولها وتداول الرأي فيها، ومن خلال تضافر الجهود على حلها، ورفعها أو دفعها.

وفي السنوات: الثانية عشرة، والثالثة عشرة من البعثة واجه أهل مكة خطراً كبيراً جدّياً، فقد حصل المسلمون على مركز هام، وقاعدة صلبة في يثرب، وتعهّد اليثربيون الشجعان بحماية رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والدفاع عنه، وكلُّ هذا كان من علامات ومظاهر ذلك التهديد الخطير، الذي بات يهدد كيان المشركين والوثنيين والزعامة القرشية.

وفي شهر ربيع الأوّل من السنة الثالثة عشرة من البعثة التي وقعت فيه هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وبينما لم يكن قد بقي من المسلمين في مكة إِلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وعلي وأبو بكر وجماعة قليلة من المسلمين المحبوسين، أو المرضى، أو العجزة، وكان هؤلاء على أبواب الهجرة ومغادرة مكة الى المدينة اتخذت قريش فجأة قراراً قاطعاً وحاسماً وخطيراً جداً في هذا المجال.

فقد انعقدت جلسة هامة للتشاور في "دار الندوة" حضرها رؤساء قريش وزعماؤها وبدأ متكلمهم1 يتحدث عن تجمع القوى والعناصر الإسلامية وتمركزها في المدينة والبيعة التي تمت بين الخزرجيين والأوسيين وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم أضاف قائلاً:

يا معشر قريش إِنه لم يكن أحد من العرب أعزَّ مِنّا، نحن أهل اللّه تفد إِلينا العرب في السنة مرتين، ويكرموننا، ونحن في حرم اللّه لا يطمع فينا طامع، فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا "محمّد بن عبد اللّه" فكنّا نسميّه (الأمين) لصلاحه، وسكونه، وصدق لهجته، حتى إِذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنه رسول اللّه، وأن أخبار السماء تأتيه، فسفّه أحلامنا، وسبّ آلهتنا، وأفسد شبّاننا، وفرق جماعتنا، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا، وقد رأيت فيه رأياً، رأيت أن ندسّ اليه رجلاً منّا ليقتله، فان طلبت بنو هاشم بدمه2 اعطيناهم عشر ديات.

فقال رجل مجهول حضر ذلك المجلس ووصف نفسه بانه نجدي: ما هذا برأي لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة، فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم؟ فانه اذا قُتِل محمّد تعصّب بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة، وإن بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمّد على وجه الارض فيقع بينكم الحروب وتتفانوا.
فقال أبو البختري: نلقيه في بيت ونلقي اليه قوته حتى يأتيه ريبُ المنون.
فقال الشيخ النجديّ مرةً اُخرى: وهذا رأي أخبث من الآخر، لأن بني هاشم لا ترضى بذلك، فاذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم، واجتمعوا عليكم فاخرجوه.
فقال ثالث: نُخرجه من بلادنا ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا، أو قال نرحّل بعيراً صعباً ونوثّق محمّداً عليه كتافاً، ثم نضربُ البعير بأطراف الرماح فيوشَكُ أن يقطّعه بين الصخور والجبال إِرباً إِرباً.

فانبرى ذلك النجدي يخطّئ هذا الرأي أيضاً قائلاً: أرأيتم إِن خلص به البعير سالماً إِلى بعض الناس فأخذ بقلوبهم بسحر بيانه وطلاقة لسانه، فصبأ3 القوم اليه، واستجابت القبائل له قبيلة فقبيلةً، فليسيرنّ حينئذ اليكم الكتائب والجيوش فلتهلكنّ كما هلكت أياد ومن كان قبلكم.

فتحيّروا وساد الصمت ذلك المجلس، وفجأة قال أبو جهل (وعلى رواية: قال ذلك الشيخ النجدي): ليس هناك من رأي إِلا أن تعمدوا الى قبائلكم فتختاروا من كل قبيلة منها رجلاً قوياً ثم تسلّحوه حساماً عضباً وليهجموا عليه معاً بالليل ويقطعوه إِرباً إِرباً فيتفرق دمه في قبائل قريش جميعاً فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة قبائل قريش كلها في صاحبهم فيرضون حينئذ بالدية منهم!!

فاستحسن الجميعُ هذا الرأي، واتفقوا عليه، ثم اختاروا القتلة وتقرّر ان يقوموا بمهمتهم اذا جنّ الليل وساد الظلام كل مكان4.

الإمدادات الغيبية والعنايات الالهية
لقد كان اولئك العتاة الجهلة يتصورون أن رسالة محمّد صلّى اللّه عليه وآله المدعومة من قبل اللّه تعالى والمؤيّدة من جانبه سبحانه يمكن ان يقضى عليها بواسطة هذه الحيل والمكائد، والخطط والمؤامرات، ولم يكونوا يدركون أن هذا النبيّ- كغيره من الأنبياء- يتمتع بالمدد الالهيّ الغيبي، وان اليد التي حفظت مشعل الاسلام طوال ثلاثة عشر عاماً في وجه الاعاصير والرياح، قادرة على افشال هذه الخطة الاثيمة، وتعطيل هذه المؤامرة أيضاً.

يقول المفسرون: بعد أن دبّر الكفار ما دبروا نزل ملك الوحي "جبرئيل"، على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخبره بما حاك ضدّه المشركون من مؤامرة اذ قرأ عليه قول اللّه تعالى:﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين5.

وعندئذ اُمِر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالهجرة من مكة إِلى المدينة، ولكنّ التخلص من أيدي القساة المكلّفين بقتله من قبل زعماء الوثنيين وبالنظر الى المراقبة الدقيقة التي كانوا يقومون بها لجميع التحركات، لم يكن بالأمر السهل وخاصة بالنظر الى بُعد المسافة بين مكة والمدينة.

فاذا لم يكن رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله يخرج من مكة وفق خطة دقيقة صحيحة كان من المحتمل جداً أن يدركه المكيّون في أثناء الطريق ويقبضوا عليه ويسفكوا دمه الشريف قبل ان يصل الى أتباعه وأصحابه.

ولقد ذكر المفسرون والمؤرخون صوراً مختلفة لكيفية خروج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وهجرته، والاختلاف الذي نلاحظه بين هؤلاء المفسرين والمؤرخين في خصوصيات وتفاصيل هذه الواقعة مما يقل نظيره في غيره من الوقائع.

وقد استطاع مؤلف "السيرة الحلبية" أن يُوفّق الى درجةٍ ما، بين المنقولات والمرويات المختلفة ببيان خاص، ولكنه لم يوفّق لازالة التناقض والاختلاف في بعض الموارد في هذا الصعيد.

على أنّ الموضوع الجدير بالإهتمام هو أن اكثر المؤرّخين الشيعة والسنة نقل كيفية هجرة النبيّ، وخروجه من منزله، ثم من مكة بنحو مؤداه إِسناد نجاة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وخلاصه إِلى عامل الاعجاز، وبالتالي فقد اسبغوا عليه صبغة الكرامة، والمعجزة.

في حين أن الإمعان في تفاصيل هذه القصة يكشف عن أن نجاة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كانت نتيجة سلسلة من الاجراءات الاحترازية، والتحسبات، والتدابير الحكيمة، وإن إِرادة اللّه تعالى تعلّقت بان ينجّي نبيّه الكريم، عن طريق الأسباب العادية المألوفة، وليس عن طريق التدخّل الغيبيّ وإِعمال قدرته تعالى الغيبية.

ويدل على هذا المطلب أنّ النبيّ توسل بالعِلل الطبيعية، والوسائل والأسباب العادية (كمبيت شخص في فراش النبيّ، واختفاء رسول اللّه في الغار وغير ذلك مما سيأتي ذكره)، وبهذا الطريق نجّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفسه، وتخلّص من أيدي اعدائه، العازمين على إراقة دمه.

ملك الوحي يخبر رسول اللّه
لقد اخبر ملك الوحي "جبرئيل" رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بخطة قريش المشؤومة لاغتياله وامره بالهجرة، وتقرر- بغية إِفشال عملية الملاحقة- ان يبيت شخص في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليتصوّر المشركون أنّ النبيّ لا يزال في منزله، ولم يخرج بعد، وبالتالي يركّزوا كلّ إِهتمامهم على محاصرة البيت، وينصرفوا عن مراقبة طرقات مكة، ونواحيها.

ولقد كانت فائدة هذا العمل أي حصر اهتمام المراقبين ببيت النبيّ انه تسنى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اغتنام الفرصة والخروج من مكة، والاختفاء في مكان ما من دون ان يحس به أحد من الذين باتوا يراقبون بيته، ويبغون قتله.

والآن يجب أن نرى من الذي تطوّع للمبيت في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وفدى النبيّ بنفسه، ووقاه بحياته؟

ستقولون حتماً: إِن الذي سبق جميع المسلمين الى الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويقي من بدء بعثته والى ذلك الحين يذب عنه، هو الذي يتعيّن أن يضحّي بنفسه في هذا السبيل، وبقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بحياته في هذه اللحظة الخطيرة، وهذا المضحّي بحياته ونفسه، هو "عليّ" ليس سواه احد، انه تقدير صحيح، وحدس مصيب.

فليس غير "علي" يصلح لهذه المهمة الخطيرة.

ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السلام:"يا عليّ إِن قريشاً اجتمعت عَلى المكر بي وقتلي، وإِنّه اُوحيَ إِليّ عن ربّي أن اهجر دار قومي، فنَم على فراشي والتحف ببردي الحضرميّ لِتُخفي بمبيتك عليهم أثري فما أنت قائل وصانع؟؟

فقال علي عليه السلام: أوَتَسلَمَنَّ بِمَبِيتي هناك يا نبيَّ اللّه؟

قال: نعم، فتبسّم عليّ عليه السلام ضاحكاً مسروراً وأهوى إِلى الأرض ساجداً، شكراً لما أنبأه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من سلامته، فلما رفع رأسه قال للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله:إِمض لما اُمرتَ فِداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومُرني بما شئتَ اكن فيه كمسرّتك، واقع فيه بحيث مرادك، وإِن توفيقي إِلا باللّه.

ثم رقدَ عليّ عليه السلام على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واشتمل ببرده الحضرمي الاخضر، ولما مضى شطر من الليل حاصرَ رصَد قريش- وهم اربعون رجلاً- بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وقد جرّدوا سيوفهم، ينتظرون لحظة الهجوم على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ويتطلّعون إِلى داخل البيت من فرجة الباب بين الحين والآخر ليتأكدوا من بقاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في مضجعه، فيظنون أنّ النائمَ في الفراش هو النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.

وهنا أراد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أن يخرج من بيته.

فمن جانب يحاصر الأعداءُ بيته صلّى اللّه عليه وآله من كل جانب، ويراقبون كلّ شيء، ومن جانب آخر تعلّقت مشيئة اللّه تعالى وارادته القاهرة الغالبة أن ينجو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من ايدي تلك الزمرة المنحطة، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله سورة (يس) لمناسبة مطلعها لظروفه حتى بلغ الى قوله تعالى: "فهم لا يبصرون"6 وخرج من باب البيت دون ان يشعر به رصدُ قريش المكلّفون بقتله، وذهب الى المكان الذي كان من المقرر ان يختبئ فيه على النحو الذي سيأتي تفصيله.

وأما كيف استطاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ان يخترق الحصار البشري المشدّد الذي ضُرِبَ على بيته، ويتجاوز رصد قريش من غير ان يشعروا به فذلك غير معلوم جيداً.

إِلا أنه يستفاد من رواية نقلها المفسرُ الشيعيٌّ المعروفُ المرحومُ عليٌّ بن ابراهيم في تفسيره: قول اللّه تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ان رجال قريش كانوا نياماً ينتظرون الفجر عند خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولم يكونوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد عرف بتدبيرهم ومؤامرتهم.

ولكن يصرّح غيره من المؤرّخين وكُتّاب السيرة7 بان المحاصرين لمنزل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كانوا يقظين حتى لحظة الهجوم على بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله خرج من البيت عن طريق الاعجاز والكرامة من دون ان يروه ويحسوا به.

إِن امكان وقوع مثل هذه الكرامة ليس موضع شك، ولكن هل كان هناك ما يوجب ذلك؟؟

ان دراسة قصة الهجرة بصورة كاملة تجعل هذه المسألة أمراً قطعياً وهي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كان عارفاً بمؤامرة القوم قبل محاصرة بيته، وكان قد دبّر ورسم لنجاته خطةً طبيعيةً عاديةً، ولم يكن في الأمر أي اعجاز.

ولقد كان يريد صلّى اللّه عليه وآله باضجاع علي عليه السلام في فراشه أن ينجو بنفسه من أيدي المشركين من الطرق العادية والقنوات الطبيعية من غير الاستعانة بالاعجاز والكرامة.

وعلى هذا كان في مقدور النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ان يتحسب لمسألة المحاصرة والطوق الذي كان سيُضرَب على بيته من أوائل الليل، وذلك بمغادرة بيته قبل المحاصرة وقبل الغروب.

ولكن يمكن ان يكون لتوقف النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في البيت حتى ساعة المحاصرة علة لا نعرفها الآن.

من هنا يكون إِدّعاء هذا الموضوع "وهو خروج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من البيت في الليل) غير مقطوع به لدى الجميع لاعتقاد البعض بان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله غادر منزله قبل فرض الحصار عليه، وقبل غروب الشمس"8.

إقتحام الاعداء لبيت الوحي
طوّقت قوى الكفر مهبط الوحي وبيت الرسالة وباتت تنتظر لحظة الإذن في إِقتحامه، والهجوم على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في فراشه وضربه وتقطيعه بالسيوف إِرباً إِرباً!

وقد أصرّ جماعة منهم أن ينفّذوا خطتهم المشؤومة هذه في منتصف الليل وقبل الفجر فمنعهم أبو لهب من ذلك وقال: لا أدعُكم أن تدخلوا عليه بالليل، فإنّ في الدار صبياناً ونساءً من بني هاشم، ولا نأمن أن تقع يد خاطئة، فنحرسه الليلة، فإذا أصبحنا دخلنا عليه.

وربما يقال أن علّة التأخير هي أنهم أرادوا أن يقتلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عند الصباح أمام أعين بني هاشم حتى يروا أن قاتله جماعة وليس واحداً.

وانقشع الظلام شيئاً فشيئاً، وانفجر الصبحُ، ودبّ في المشركين شوق غريب، مع اقتراب ساعة الصفر، فقد كانوا يتصوّرون بأنهم سينالون ما يريدون قريباً، وبينما هم ينتضون سيوفهم دخلوا حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وبينما هم يهمّون بأخذ من كان راقداً في الفراش بسيوفهم، إِذا بهم يواجهون علياً عليه السلام يثب في وجوههم وهو يكشف عن نفسه برد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الأخضر، وقال لهم في منتهى الطمأنينة والشجاعة: ما شأنكم؟ وماذا تريدون؟؟

فقالوا له بغضب: أين محمّد؟
فقال عليه السلام: اَجعلتموني عليه رقيباً؟!

فغضِب القوم غضباً شديداً، وكاد الغيظ يخنقهم، فقد ندموا على إِنتظارهم انفجار الصبح وحمّلوا أبا لهب الذي منعهم من تنفيذ الهجوم على النبيّ في منتصف الليل فشل الخطة وتفويت الفرصة، فاقبلوا عليه يلومونه ويوبخونه!!

أجل لقد انزعجت قريش بشدة لفشل هذه المؤامرة، ووجدوا انفسهم أمام هزيمة نكراء بدّدت كلّ أحلامهم، وحيث أنهم كانوا يتصوّرون بأن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله لا يستطيع الخروج عن حدود مكة في مثل تلك المدة القصيرة فهو إِما مختبئ في مكة، أو أنه لا يزال في طريق المدينة، لذلك أقدموا فوراً على العمل على ترتيب أمر ملاحقته والقبض عليه.

النبيُّ في غار ثور
ان ما هو مسلّم به هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمضى هو وأبو بكر ليلة الهجرة وليلتين اخريين بعدها في غار ثور الذي يقع في جنوب مكة في النقطة المحاذية للمدينة المنورة9.
وليس من الواضح كيف تمت هذه المصاحبة والمرافقة ولماذا، فان هذه المسألة من القضايا التاريخية الغامضة.
فان البعض يعتقد بان هذه المصاحبة كانت بالصدفة، فقد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أبا بكر في الطريق، فاصطحبه معه الى غار ثور.
وروى فريق آخر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذهب في نفس الليلة إلى بيت أبي بكر، ثم خرجا معاً في منتصف الليل إِلى غار ثور10.
وقال فريق ثالث: أن أبا بكر جاء هو بنفسه يريد النبيّ وكان صلّى اللّه عليه وآله قد خرج من قبل فأرشدهُ "عليّ" إِلى مخبأ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله.

وعلى كل حال فان كثيراً من المؤرخين يُعدّون هذه المصاحبة من مفاخر الخليفة ومناقبه، ويذكرون هذه الفضيلة ويتحدثون عنها بكثير من الاسهاب والاطناب، وبمزيد من الاكبار والاعجاب.

قريش تفتش عن النبيّ
لقد تسبب فشل قريش في تغيير خطتها، فقد بادرت إِلى بث العيون والجواسيس في طرقات مكة، ومراقبة مداخلها ومخارجها مراقبةً شديدةً، وبعثت القافّة تقتص أثره في كل مكان، وفي طريق مكة- المدينة خاصة.

ومن جانب آخر جعلت مائة ابل لمن ياخذ نبي اللّه، ويردّه عليهم أو يأتي عنه بخبرٍ صحيح.

وعمد جماعة من قريش إِلى ملاحقة رسول اللّه والتفتيش عنه في شمال مكة، حيث الطريق المؤدي الى المدينة، على حين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان قد اختبأ- كما قلنا- في نقطة بجنوب مكة لافشال عملية الملاحقة.

وتصدت مجموعة اُخرى لتتبع أثر قدم النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ورفيقه!!

وكان الذي يقفو لهم الأثر يدعى أبا مكرز فوقف بهم على باب حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقال هذه قدم محمّد، فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار فانقطع عنه الأثر فقال: ما جاوز محمد ومن معه هذا المكان، إِما أن يكونا صعدا إِلى السماء، أو دخلا تحت الأرض، فان بباب هذا الغار- كما ترون عليه- نسجَ العنكبوت والقبجة حاضنة على بيضها بباب الغار11، فلم يدخلوا الغار.

ولقد استمرت هذه المحاولات بحثاً عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ثلاثة أيام بلياليها ولكن دون جدوى، فلما يئس القوم بعد ثلاثة ايام من السعي تركوا التفتيش وكفوا عن الملاحقة.

التفاني في سبيل الحق
ان النقطة المهمة في هذه الصفحة من التاريخ هي ما قام به علي عليه السلام من تفان في سبيل الحق، والحقيقة.
إِن التفاني في سبيل الحق من شيمة الرجال الذين أحبّوا الحق وعشقوه بكل وجودهم وكيانهم.
إِن الذين يغضون نظرهم عن كلّ شيء من أشياء الدنيا ويضحُّون بالنفس والمال والشخصية، ويستخدمون كل طاقاتهم المادية والمعنوية في سبيل خدمة الحق، واحيائه، واقامته هم ولا شك من عشاق الحق والحقيقة الصادقين.
انهم يرون كمالهم وسعادتهم في هدفهم، وهذا هو الذي يدفعهم إلى أن يصرفوا النظر عن الحياة العابرة، والعيش الموقت، ويلتحقوا بركب الحياة الواقعيّة الأبدية.
إِنّ مبيت عليّ عليه السلام في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في تلك الليلة الرهيبة لنموذج بارز من هذا الحبّ الحقيقيّ للحق، والعشق الصادق للحقيقة، فان الدافع وراء التطوّع لمثل هذه المهمة الخطيرة لم يكن إلا حبّ "عليّ" لبقاء الاسلام الذي يكفل سعادة المجتمع، ويضمن ازدهار الحياة، لا غير.

إِن لهذه التضحية والتفاني من القيمة العظمى بحيث مدحها اللّه تعالى في كتابه العظيم، ووصفها بأنها كانت تضحية صادقة لكسب مرضاة اللّه، فان الآية التالية نزلت- حسب رواية اكثر المفسرين- في هذا المورد:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ12.

ان عظمة هذه الفضيلة واهمية هذا العمل التضحويّ العظيم دفعت بكبار علماء الاسلام إِلى اعتبارها واحدة من أكبر فضائل الامام علي عليه السلام وإِلى أن يَصِفُوا بها علياً بالفداء والبذل والايثار، وإِلى ان يعتبروا نزول الآية المذكورة في شأنه من المسلّمات كلّما بلغ الحديث في التفسير والتاريخ اليها13.

إِنّ هذه الحقيقة مما لا ينسى أبداً فانه من الممكن اخفاء وجه الواقع والتعتيم عليه بعض الوقت إِلا أنه سرعان ما تمزق أشعةُ الحقيقة الساطعة حجب الاوهام، وتخرج شمس الحقيقة من وراء الغيوم.

إِنّ معاداة معاوية لأهل بيت النبوة وبخاصة للامام أمير المؤمنين علي عليه السلام مما لا يمكن النقاش فيه.

فقد أراد هذا الطاغية من خلال تطميع بعض صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أن يلوّث صفحات التاريخ اللامعة ويخفي حقائقه بوضع الاكاذيب، ولكنه لم يحرز في هذا السبيل نجاحاً.

فقد عمد "سمرة بن جندب" الذي ادرك عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ثم انضمّ بعد وفاته صلّى اللّه عليه وآله إِلى بلاط معاوية بالشام، عمد إِلى تحريف الحقائق لقاء اموال أخذها من الجهاز الأموي، الحاقد على أهل البيت.
 
فقد طلب منه معاوية باصرار أن يرقى المنبر ويكذّب نزول هذه الآية في شأن علي عليه السلام، ويقول للناس أنها نزلت في حق قاتل عليّ (أي عبد الرحمن بن ملجم المرادي)، ويأخذ في مقابل هذه الاكذوبة الكبرى، وهذا الاختلاق الفظيع الذي أهلك به دينه مائة ألف درهم.

فلم يقبل "سمرة" بهذا العرض ولكن معاوية زاد له في المبلغ حتى بلغ اربعمائة ألف درهم، فقبل الرجل بذلك فقام بتحريف الحقائق الثابتة، مسوداً بذلك صفحته السوداء اكثر من ذي قبل وذلك عندما رقي المنبر وفعل ما طلب منه معاوية14.

وقبل السامعون البسطاء قوله، ولم يخطر ببال أحد منهم أبداً ان (عبد الرحمن بن ملجم) اليمنيّ لم يكن يوم نزول الآية في الحجاز بل لعلّه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك. فكيف يصح؟!

ولكن الحقيقة لا يمكن ان تخفى بمثل هذه الحجب الواهية، ولا يمكن ان تنسى بمثل هذه المحاولات العنكبوتية الرخيصة.

فقد تعرّضت حكومة معاوية وتعرض أهلها وانصارها للحوادث، واندثرت آثار الاختلاق والافتعال الذي وقع في عهده المشؤوم، وطلعت شمس الحقيقة والواقع من وراء حُجُب الجهل والافتراء مرة اُخرى، واعترف اغلبُ المفسرين الأجلّة15والمحدّثين الافاضل- في العصور والادوار المختلفة، بأن الآية المذكورة نزلت في "ليلة المبيت" في بذل علي عليه السلام ومفاداته النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بنفسه16.

ومن جرائم هذا الرجل انه قتل يوم وُلّيَ البصرة على عهد زياد بن أبيه في العراق ثمانية آلاف ممّن كانوا يحبون أهلَ البيت ويوالونهم وعندما سأله معاوية: هل تخاف ان تكونَ قد قتلتَ أحداً بريئاً؟

أجاب قائلاً: لو قتلتُ اليهم مثلَهم ما خشيت!!

هذا ومخازي هذا الرجل اكثر من ان تستوعبه هذه الصفحات القلائل.

وسمرة هذا هو ذلك الرجل الصلف الجاف الذي رد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله طلبَه بأن يراعي حقَّ جاره في قضية النخلة مراراً فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله له: "إنك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار في الاسلام" ولمزيد التوضيح راجع كتب الحديث والتراجم والتاريخ.

كلام من ابن تيمية
احمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبليّ الذي مات في سجن بدمشق عام 728 من علماء السنّة، تعود اليه اكثر معتقدات الوهابيين، وأفكارهم.

ولابن تيمية هذا آراء ومواقف خاصة من النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله وأمير المؤمنين، وعامة أهل بيت النبوة، وقد صرح باكثر آرائه ومعتقداته هذه في كتابه "منهاج السنة".

وقد دفعت عقائدُه المنحرفة وآراؤه الضالّة الكثير من علماء عصره إِلى تكفيره، والتبرّي منه.

ولابن تيمية رأي عجيب حول هذه الفضيلة نذكره للقارئ الكريم مع تصرف بسيط في الألفاظ17.

ومن المؤسف ان يكون قد تأثر بآرائه بعض السذّج والجاهلين، فنجدهم يشيعون آراءه في المجتمع من دون تحقيق فيما قال، ومن دون مراجعة ذوي الاختصاص لمعرفة رأيهم في أفكاره ومعتقداته وهم غافلون عن أنّ مثل هذه الآراء قد صدرت من منحرف وكذّبه بل وكفّره بسببها أهل مذهبه.

هذا واليك خلاصة رأيه في فضيلة "المبيت".

يقول: ان مبيت "عليّ" في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لا تعدّ فضيلة لأن عليّاً عرف من طريقين بانه لن يصيبَه شيء في تلك الليلة:

الأوّل: إِخبار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الصادق المصدَّق نفسه ايّاه بذلك إِذ قال له في نفس تلك الليلة: "نَم في فِراشي فإنه لا يَخلُصُ إِليك شيء تكرَهُهُ"!!.

الثاني: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله كلّفه بردّ الودائع واداء الامانات التي أودعها أهل مكة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، إِلى أصحابها.فعلم- من ذلك- أنهُ لن يُقتل والا لكلّفَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الآخرين بها.فعرف "عليّ" من هذا التكليف أنه لن يلحقه أذىً في هذه العمليّة وانه سيوفَّق لأداء ما كلّفَهُ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.


الجواب:وقبل أن نجيب عن هذا الكلام على نحو التفصيل نقول إِجمالاً: إِن ابن تيميّة بانكاره هذه الفضيلة أثبت فضيلة أعلى لعلي عليه السلام لأنه إِمّا كان ايمان عليّ بصدق مقالة الرسول كان ايماناً عادياً، وإِما أن كان إِيماناً قوياً جدّاً، وكانت جميع اقوال النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وإِخباراته لديه- في ضوء ايمانه- كالنهار في وضوحه.

وعلى الفرض الاوّل لم يكن لعليّ يقين بنجاته من تلك الواقعة لأنه لا يحصل لمثل هذه الطبقة من الناس (ولا شك أن عليّاً ليس منهم حتماً) يقين من كلام النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، وحتى لو قبلوا به في الظاهر، فانهم سيساورهم القلق، ولا يفارقهم الاضطراب، واذا هم باتوا في فراشه في لحظات الخطر، فانه سيبقون فريسة الخوف والوجل وستمرّ في نفوسهم إِحتمالات كثيرة حول مآل الأمر ومصيره، وسيتمثل أمامهم شبح الموت المرعب في كل لحظة وآن.

وعلى هذا الفرض لا بد أن يقال: بأنَّ علياً عليه السلام لم يقدم على هذا الأمر الخطير إِلا وهو يحتمل الهلاك على أيدي المشركين، لا أنه بات وهو يتيقن النجاة والسلامة.

وأما بناءً على الفرض الثاني فانه تثبت لعليّ عليه السلام فضيلة أعلى واعظم، لأن ايمان الرجل يجب ان يبلغ من القوة والكمال بحيث لا يفرّق بين صدق كلام النبيّ وبين وضوح النهار أي أنهما يكونان عنده بمنزلة سواء.

ولا شك ان أهمية مثل هذا الايمان لا يمكن أن يعادِلها شيء.

ونتيجة هذا الايمان هي أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله عندما قال له: نَم في فراشي فلن يصيبك من هجوم الاعداء الحاقدين مكروه أن ينام في فراش النبيّ صلّى اللّه عليه وآله بقلبٍ واثِقٍ بالسلامة، ونفس مطمئنةٍ الى النجاة، ومن دون أن يخالج نفسَهُ أقل إِحتمال للخطر.

ولو كان مراد ابن تيمية من قوله: ان عليّاً كان واثقاً من سلامته، لأن الصادق المصدّق أخبره بذلك هو: إِثبات أعلى درجات الإيمان لعليّ عليه السلام فقد اثبت له عليه السلام من حيث لا يشعر اكبر فضيلة، وأعلى منقبة، وهي كمال الايمان والثقة برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وأخباره.

هذا هو الجواب الاجمالي واليك الجواب التفصيلي:

الجواب التفصيلي
فنقول عن الدليل الأول: إِن عبارة "لا يخلص اليك شيء تكرهه" لم ينقلها بعض أرباب السيرة ورجال علم التاريخ الذين لهم سابقة لا تنكر في هذا الصعيد18.
نعم روى ابن الاثير المتوفى عام  19630، والطبري المتوفى عام 310 20 هذه العبارة وكأنّما قد اخذاها عن ابن هشام في سيرته21 التي نقل فيها تلك العبارة بالصورة المتقدمة الذكر، خاصة أنّ عبارة ذينك المؤلّفين (الطبري وابن الأثير) تطابق عبارة ابن هشام في هذا المجال تماماً.هذا مضافاً إِلى أنّ القضية لا توجد بهذه الصورة في مؤلفات علماء الشيعة على ما نعلم.

ولقد نقل شيخُ الطائفة الامامية محمّد بن الحسن الطوسيّ المتوفى عام 460 في أماليه قصة الهجرة بشكل اكثر تفصيلاً ودقة، وذكر العبارة المذكورة مع تغيير بسيطٍ، الا أنه تختلف صورة القضيّة مع ذلك عما هي عليه في كتب أهل السنة، فانه رحمه اللّه يصرّح بان عليّاً عليه السلام انطلق هو و"هند بن أبي هالة" ابن خديجة وربيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في منتصف الليل بعد ليلتين من الهجرة حتى دخلا على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله فقال صلّى اللّه عليه وآله لعليّ:"إِنّهم لن يَصِلُوا مِن الآن إِليك يا علي بأمرٍ تكرهه حتّى تقدم عليَّ"22.

وهذه الجملة تشبه الجملة التي ذكرها ابن هشام والطبري وابن الأثير، ولكن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قالها لعليّ عليه السلام مطمئِناً إِياه بعد ليلتين من المبيت في الفراش، وليس ليلة المبيت كما يروي الثلاثة المذكورون.
هذا علاوة على أنّ كلام علي نفسه خير شاهد على ما نقول:فلقد عدّ عليّ عليه السلام عمله هذا (أي المبيت في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في تلك الليلة الرهيبة) نموذجاً من بذله وتفانيه في سبيل الحق كما يتضح ذلك بجلاء من اشعاره حيث يقول:

وَقَيتُ بنفسي خيرَ من وطَأ الحصا               ومَن طاف بالبيتِ العتيقِ وبِالحجر

محمّد لما خافَ أن يمكُروا به                    فوقاهُ ربّي ذُو الجلالِ مِن المَكرِ

وبِتُّ اُراعي منهم ما يسوءني                    وقد وطّنت نفسي على القتل والأسر

وباتَ رسُولُ اللّهِ في الغار آمِناً                    هناك وفي حفظِ الاله وفي سَتر
ِ23


ومع هذه العبارات الصريحة لا مجال للاعتماد على قول ابن هشام الذي تدل قرائنُ كثيرة على خطأه، ويُحتمل، احتمالاً قوياً، بأن اشتباهه وخطأه قد نشأ من تلخيصه لسيرة ابن اسحاق، وحيث أنه (ونعني ابن هشام) قد بنى في سيرته على الاختصار لذلك اكتفى بنقل أصل العبارة، مهملاً ظرف النطق بها لعدم أهمية زمن النطق بها وأنها قيلت في الليلة الثانية او الثالثة، في نظره، وروى الموضوع بنحوٍ يوهم بان جميع هذه الامور وقعت في ليلةٍ واحدةٍ!!

ويؤيد رأينا هذا أيضاً الحديث المعروف الذي رواه كثير من علماء السنة والشيعة وهو: أن اللّه أوحى إِلى جبرئيل وميكائيل عليهما السلام أنّي قد آخيت بينكما وجعلت عمر احدكما أطول من عمر صاحبه فأيّكما يؤثر أخاه.

وكلاهما كره الموت، فاوحى اللّه إليهما: عبداي ألا كنتما مثل وليي "عليّ" آخيت بينه وبين "محمّد" نبيي فآثره بالحياة على نفسه؟ أو قال: قد نام على فراشه يقيه بمهجته.ثم أمرهما بالهبوط إِلى الأرض وحراسة عليّ وحفظه من عدوه24.

واما الدليل الثاني الذي يستفيد منه ابن تيمية أن عليّاً كان يعلم بمصيره هو توصية النبيّ صلّى اللّه عليه وآله به بأداء الامانات والودائع إلى أهلها، التي كانت تكشف عن ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يعلم بأنه لن يصلَ إِليه مكروه، ولهذا امره بردّ الودائع والامانات إِلى أصحابها.

ولكنّنا نعتقد ان في مقدورنا الحصول على حلٍّ لهذه المشكلة إِذا استعرضنا بقية قصة الهجرة بشكل صريحٍ وكاملٍ.

واليك بقيّة قصة الهجرة.

الخطيب وقضية المبيت
وينبغي أن نختم هذا الفصل بما كتبه الاستاذ عبد الكريم الخطيب حول مبيت علي عليه السلام في فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حيث قال: لقد دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّاً ليلة الهجرة، وطلب إِليه أن يبيت في المكان الذي اعتاد الرسول صلّى اللّه عليه وآله ان يبيت فيه، وان يتغطى بالبرد الحضرميّ الذي كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يتغطى به حتى اذا نظر ناظر من قريش الى الدار رأى كأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله نائم في مكانه مغطى بالبرد الذي يتغطى به، وهذا الذي كان من عليّ في ليلة الهجرة اذا نظر اليه في مجرى الاحداث التي عرضت للامام علي في حياته بعد تلك الليلة فانه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة واشارت دالة على ان هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً بل هو عن حكمة لها آثارها- الى ان قال- انه اذا غاب شخص الرسول كان علي هو الشخصية المهيّأة لأن تخلفه وتمثّل شخصه وتقوم مقامه، حين نظرنا إِلى عليّ وهو في برد الرسول وفي مثوى منامه الذي اعتاد أن ينام فيه فقلنا: هذا خلَفُ الرسول صلّى اللّه عليه وآله والقائم مقامه25.

بقية قصةِ هجرةِ النبيّ
انتهت المراحلُ الاُولى لنجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وفق تخطيط صحيح، بنجاح، فقد لجأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في منتصف الليل الى غار ثور، واختبأ فيه، وبذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه.

ولقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله طوال هذا الوقت مطمئناً لا يحسُّ في نفسه بأيّ قلق أو إِضطراب، حتى انه طمأن رفيق سفره عندما وجده مضطرباً في تلك اللحظات الحساسة بقوله:(لا تحزَن إِنَّ اللّه مَعَنا)26.

وبقي هناك ثلاث ليال محروساً بعين اللّه تعالى ومشمولاً بعنايته ولطفه، وكان يتردّد عليه صلّى اللّه عليه وآله في هذه الاثناء علي عليه السلام وهند بن ابي هالة (ابن خديجة) على رواية الشيخ الطوسي في أماليه، وعبد اللّه بن أبي بكر وعامر بن فهيرة راعي اغنام أبي بكر (بناء على رواية كثير من المؤرّخين).

يقول ابن الاثير: كان عبد اللّه بن أبي بكر يتسمّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلاً، وكان يرعى غنمه نهاره على مقربة من الغار، وكان اذا غدا من عندهما عفى على أثر الغنم27.

يقول الشيخ الطوسي في أماليه: عندما دخل علي عليه السلام وهند على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الغار (بعد ليلة الهجرة) أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عليّاً أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه، فقال أبو بكر: قد كنتُ أعددت لي ولك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما الى يثرب.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إِني لا آخذهما ولا أحدهما إِلا بالثمن. ثم أمر صلّى اللّه عليه وآله عليّاً عليه السلام فدفع إِليه ثمن البعيرين28.

وكان من جملة وصايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السلام في الغار في تلك الليلة ان يؤدي أمانته على أعين الناس ظاهراً وذلك بأن يقيم صارخاً بالابطح غدوة وعشياً: ألا من كان له قِبل محمّد أمانة او وديعة فليأت فلنؤدِّ اليه أمانته29.

ثم أَوصاه صلّى اللّه عليه وآله بالفواطم (والفواطم هن: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الحبيبة لديه، والأثيرة عنده، وفاطمة بنت أسد اُمّ عليّ عليه السلام وفاطمة بنت الزبير ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم)، وأمره بترتيب أمر ترحيلهم معه الى يثرب وتهيئة ما يحتاجون اليه من زاد وراحلة.

وهنا قال صلّى اللّه عليه وآله عبارته التي تذرّع بها ابن تيمية في دليله الأول: "انهم لن يصلوا من الآن اليك يا عليّ بأمرٍ تكرهه حتى تقدم عليَّ".
فالملاحظ للقارئ هو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إنما قال هذه العبارة عندما أمره بأداء أمانته، وذلك بعد انقضاء قضية ليلة المبيت.
أي انه أمر علياً بذلك، وقال له تلك العبارة وهو يتهيّأ للخروج من غار ثور.

يقول الحلبي في سيرته: "وصى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في احدى الليالي وهو بالغار علياً رضي اللّه عنه بحفظ ذمته واداء امانته ظاهراً على اعين الناس"30.وثم ينقل عن مؤلف كتاب "الدر" ما يقتضي انه اجتمع به عند خروجه من الغار.

وخلاصة القول: انه مع رواية شيخ جليل من مشائخ الشيعة الامامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أن الأمر بردّ الودائع والامانات صدر من جانب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إِلى عليّ عليه السلام بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح، ونعمد إِلى الهاء العامة بالتوافه، وأما رواية مؤرخي اهل السنة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهرهُ بأن جميع وصايا النبيّ صلّى اللّه عليه وآله لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة الهجرة (ليلة المبيت) فقابل للتفسير والتوجيه، لأنه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركزة على رواية أصل الموضوع، ولم يكن لظرف صدور هذه الوصايا والأوامر ووقت بيانها اهمية عندهم.

الخروج من الغار
هيّأ علي عليه السلام بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ثلاث رواحل ودليلاً اميناً يدعى أريقظ ليترحلوها إلى المدينة، ويدلّهم الدليل على طريقها وأرسل كل ذلك إلى الغار.
ولما سمع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله رغاء البعير او نداء الدليل نزل هو وصاحبه من الغار وركبا البعيرين وتوجها من أسفل مكة إِلى "يثرب" سالكين إِلى ذلك الخط الساحلي، وقد جاء ذكر المنازل التي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام31وفي الهوامش المثبتة على التاريخ الكامل لابن الاثير32.

صفحةُ التاريخ الاُولى
اجل لقد حلّ الظلام في كل مكان، ولملمت الشمس اشعّتها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها الى الوجه الآخر منها.
وعاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا كل طريق في مكة وضواحيها بحثاً عن النبيّ، ثلاثة أيام، بلياليها، الى بيوتهم ومنازلهم متعبين مرهقين، وقد يئسوا من الظفر بالجائزة (وهي مائة من الإبل) التي وضعتها سادة قريش جائزةً لمن يأخذ محمّداً أو يدل على مكانه، واُعيد فتح طريق مكة- المدينة التي اُغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله-33.

وفي هذه اللحظات بالذات بلغ نداء الدليل الذي كان يصطحب معه ثلاث رواحل ومقداراً من الطعام، الى مسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ورفيقه وهما في الغار وقد كان يقول بصوت خافت: لا بد ان نتخذ من ظلام هذا الليل ستراً، ونسرع في الخروج من حدود المكيّين، ونختار طريقاً يقلّ سالكوه ولا يهتدي إليه أحد.ويبدأ تاريخ المسلمين من العام الذي تضمَّن تلك الليلة بالضبط، وجعل المسلمون يقيسون كل ما يقع من الحوادث بذلك العام وبذلك يحددون تاريخه وزمان حدوثه.

لماذا أصبح العامُ الهجريُّ مبدأ للتاريخ
إِن الاسلام أكمل الشرائع السماوية قاطبة، وقد جاء الى البشرية باتتضمنه بشريعة موسى وعيسى عليهما السلام ولكن بصورة أكمل وبصيغة تطابق وتتمشى مع جميع الظروف والأوضاع.

ومع أن السيد المسيح عليه السلام وميلاده المبارك يحظى بالاحترام عند المسلمين إِلا أنّ ميلاده عليه السلام لم يُتخذ لديهم مبدأ للتاريخ، والتوقيت.

وكانت العرب قد جعلت عام الفيل34 مبدأً لتاريخها، وكانت تقيس حوادثها واُمورها إِليه فترة من الزمن، ومع أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان قَد وُلِدَ في ذلك العام نفسه، إِلا أن المسلمين لم يتخذوه مع ذلك مبدأً للتاريخ، لأنه لم يكن ينطوي على ما يتصل بقضية الإيمان والاسلام.

ولاجل هذا أيضاً لم يتخذوا عام البعثة مبدأً لتاريخ المسلمين أيضاً لأن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز في ذلك اليوم ثلاثة أشخاص، إِذن فلم يكن في أي واحد من تلك الحوادث ما يعطي مبرراً قوياً لاتخاذه مبدأً للتوقيت والتاريخ، إذ لا بد ان يكون ما يتخذ لذلك قضية مصيرية بالغة الأهمية.

ولكنه في السنة الاولى من الاعوام الهجرية حقق المسلمون انتصاراً عظيماً وباهراً، وقد اُسست فيه حكومة مستقلة وتخلّص المسلمون من التشرذم والتبعثر، وتمركزت قواهم وعناصرهم في نقطةٍ واحدةٍ، وبيئةٍ حرةٍ لا أثر فيها للكبت والاضطهاد، من هنا جعلوا ذلك العام (أي العام الذي تحققت فيه هجرة النبيّ العظيم) مبدأً لتاريخهم، واخذوا يقيسون اليه- وحتى الآن- كل ما يحدث ويقع من خير وشر، لتحديد تاريخ وقوعه.

من هنا يكون قد مضى على عام هجرة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من مكة الى المدينة الف واربعمائة وتسعة اعوام.

الهجرة النبوية مبدأ لتاريخ المسلمين كافة
ولقد جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله التاريخ الهجريّ بنفسه.وانّ أيَّ إِعراض وتجاهلٍ لهذا التاريخ، واختيار تاريخٍ آخر مكانه إِعراض عن سنة رسول الاسلام الكريم صلّى اللّه عليه وآله، ومخالفة لما رسمه للمسلمين في هذا المجال.إِن وجود تاريخ معين ثابت (مؤلّفٍ من السنة والشهر واليوم) في الحياة الإجتماعية البشرية، من الاُمور الضرورية بل هو في غاية الضرورة والحيوية، من أجل أن لا تتوقف عجلة الحياة الإجتماعية البشرية عن الدوران والحركة بسبب فقدان مقياس زمني ثابت ومعلوم للامور والحوادث.

وتلك حقيقة لا حاجة إِلى اقامة البرهان عليها لأنَّ الاستدلال عليها يكون مثل الاستدلال على الامور البديهية.

فهل يكون تنظيم المعاهدات، والمواثيق السياسية والعسكرية، والاتفاقيات والعقود الاقتصادية وتحويل وتسديد السندات والحوالات التجارية ودفع الديون وكتابة الرسائل العائلية من دون ذكر تاريخ معين فيها أمراً مفيداً؟ كلا حتماً، ودون ريب.

فعندما سأل بعض الصحابة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله عن علة اختلاف أشكال القمر، وانه لماذا يكون هلالاً تارة ثم بدراً اُخرى. ثم يعود إِلى سيرته الاُولى هلالاً، نزل الوحيُ الالهي، يبيّنُ بعض حكمة هذه الظاهرة الطبيعية اذ قال تعالى:

﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاس2015-12-01