يتم التحميل...

الأسلحةُ الصَديئة والاساليب الفاشلة

سيد المرسلين

نظّم أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

عدد الزوار: 94

نظّم أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن المضيّ في مواصلة دعوته، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وما شابه ذلك، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه، وبدّد آمالهم في إثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية: "واللّه لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر بما فعلتُ" وهو يعني ان تمليكه العالم كلّه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِب اليه، وارسل به.

فعمدوا الى سلاح آخر هو التهديد والأذى، والتنكيل به وباصحابه وانصاره، ولكنهم واجهوا صموده وصمود أنصاره واصحابه، وثباتهم الذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بلغَ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن، وترك الأهل والعيال، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجبهات والميادين وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية، وفشل جميع الأسلحة التي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، لانه صحيح أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في "مكة" تمنع غيرهم من سُكان "مكّة" من الإنضواء إلى الإسلام إلا ان الحجيج الذين كانوا يسافرون الى مكة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثّرون بدعوة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ويتزعزعُ اعتقادُهم بالأوثان على الأقل، إن لم يؤمنوا بدينه، ولم يستجيبوا لدعوته، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله إلى مواطنهم، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجّه إلى صرح الوثنية في مكة، وعاملاً قوياً في انتشار عقيدة التوحيد، وسطوع أمره.

من هنا اتخذ سادةُ قريش اُسلوباً آخر، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

واليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب، وهذه الخطة

1- الاتّهاماتُ الباطلة
يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤُه من شتائم وسباب، وما يكيلون له من اتهامات ونسب، فان العدو يسعى دائماً الى أن يتهم خصمه بنوع من انواع التهم ليُضِلَّ الناس، ويصرفهم عنه، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى ان ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل، ويوجبُ شكّهم في صدقه، ويتجنب تلك النِّسب التي لا تصدَّق في شأنه، ولا تناسبُ اخلاقه وافعاله المعروفة عنه، ولا تمسه بشكلٍ من الأشكال، لأنه سوف لا يجني في هذه الحالة إلا عكس ما يقصد، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه، وعلى مكانته الإجتماعية، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات، ونسب باطلة واتهامات، لأنّ العدوّ الذي لا يخاف أحداً لا يقصِّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُه وتخدمُ غرضه إلى الطرف الآخر، ويستخدم هذا السلاح (أيّ سلاح الدعاية) ما استطاع، وما ساعدته معرفتُه بالظروف، ودرايته بالفرص.

فاذا لم ينسب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه، ونقاء صفحته، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء، وتحمِلُ من حِقد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح، وتستخدمه كاملاً.

فقد كانت تفكّر في نفسها: ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب اليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!1 كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ الى درجة ما، وبقي معها حتى لحظة انعقاد هذه الشورى في "دار الندوة" بهدف الدعاية ضدّه، ولم يُعهد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتهم محمّداً الصادق الأمين، الطاهر العفيف، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدّق في حقه، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيّر سادة "دار الندوة" وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقرّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه، وهو "الوليد بن المُغيرة" وكان ذا سنّ فيهم، ومكانة، فقال لهم:

يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً، ويردُّ قولُكم بعضُه بعضاً.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.
قال: بل أنتم قولوا أسمَع.
قالوا: نقول كاهن.
قال: لا واللّه ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول: مجنون.
قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته.
قالوا: فنقول: ساحر.
فقال: ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.
وهكذا تحيّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.
وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا: أنه ساحر جاء بقول هو سِحر يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.
ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الّذين كان يضرب بهم المثل في الوحدة والاتفاق2.

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة "المدثر" هذه القصة بنحو آخر فقالوا: لمّا اُنزل على رسول اللّه "حم تنزيلُ الكِتاب..." قام الى المسجد و"الوليد بن المغيرة" قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لاستماعه لقراءته، أعاد قراءة الآية، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله، ولم يخرج منه أيّاماً، فسخرت منه قريش وقالت: صبأ- واللّه- الوليدُ ثم مشى رجال من قريش اليه وسألوه رأيه في قرآن محمّد، واقترح كل واحد منهم أمراً، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر "الوليد" في نفسه ثم قال: ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله، ووُلده ومواليه، فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر3.

ويرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى:﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًاً. وَبَنِينَ شُهُودًاً. وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا.سَأُرْهِقُهُ صَعُودًاً.إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ.فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ.  ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ.  ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ.فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ... (الى قوله: )فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ. فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ4.

الإصرار في نسبة الجنون اليه صلّى اللّه عليه وآله وسّلم
يعتبر إتصاف النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلم واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمر اعترف به حتى أعداؤه الالدّاء، فقد دانوا بفضله، وأقرُّوا بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة، دون تلكؤ، ولا إبطاء.

وقد كان من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه "الصادق" "الامين" وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى5 حتى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده، واستمر هذا الأمر حتى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث أن دعوته صلّى اللّه عليه وآله قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون اليه من بعض النسب التي توجب سوء الظنّ به، ومن ثم إفشال دعوته، وحيث أنهم كانوا يعلمون أن النِّسبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً، لأنها اُمور بسيطة في نظرهم، من هنا رأوا بأن يتهموه بالجنون، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو إلا من نسج الخيال، ومن أثر الجنون الذي لا يتنافى مع الزهد، والأمانة، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة، واتخذت وسائل عديدة وماكرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك، والترديد اذ يقولون:﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾6.

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية التي يتوسّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عندما يريدون تكذيب المصلحين العظام، وإسقاط خطواتهم وأفكارهم من الاعتبار، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى أنّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمّدية، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل، والانبياء إذ يقول عنهم:﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ7.

وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى عن ان المسيح عليه السّلام عند ما وعظ اليهود قالوا: إنّ فيه شيطاناً، فهو يهذي فلماذا تسمعون اليه؟!8.

ومن المسلّم والبديهي أنّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتهم رسول اللّه الصادق الأمين صلّى اللّه عليه وآله بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك، ولكن حياة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا اليه شيئاً من تلك النسب القبيحة، الذميمة.

لقد كانت "قريش" مستعدة لأن تستخدم أي شيء- مهما صغر- ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله.

فمثلاً عندما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى "جبر" عند المروة، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّه صلّى اللّه عليه وآله فوراً فقالوا: واللّه ما يُعلِّمُ محمّداً كثيراً ممّا يأتي به الا "جبر" النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله:﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ9.﴿وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ10.

القرآن يرد على جميع الاتهامات
وربما نسبوا اليه صلّى اللّه عليه وآله الكهانة، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن11 أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل، وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ12.

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة وهذا الزعم اذ قال تعالى:﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ13 كما ردّ ايضاً تهمة السحر، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم:﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ14.

وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا15.

وقال سبحانه متعجباً مِنهم: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾16.

وقال تعالى: ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ17.

وقال سبحانه: ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ18.

وقال عزّ وجلّ: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾19.

وقال تعالى: ﴿قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ20.

وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ﴾21.

وقال سبحانه: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا22.

وقال سبحانه: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ23.

وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ24.

وقال تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ25.

وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله:﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾26.

عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

-وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام والتشويش على الشخصية المحمّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب، فمرة وصفوه بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه معلَّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفتري او مجنون على سبيل الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بأن ما يقوله ما هو الا أضغاث احلام.

2- فكرةُ معارضةِ القرآن
لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نفعاً، ولم تأتِ بالثمار التي كان يتوخاها المشركون منه، لأن الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة، وأنهم لم يسمعوا كلاماً حلواً، وحديثاً عذباً مثله.

ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُ قلب، وتسكن اليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الا من نسج الخيال، ونتائج الجنون، شيئاً، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه، وعن الاستماع إلى كتابه، ألا وهو: معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى "النضر بن الحارث" وكان من شياطين قريش، وممّن كان يؤذي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وينصب له العداوة، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس واحاديث "رُستم" و"إسفنديار" وقصصهم، وحكاياتهم، وأساطيرهم، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مجلساً فذكّر الناس فيه باللّه، وحذر قومه ما أصاب من قبلَهم من الاُمم من نقمة اللّه، خلفه "النضرُ" في مجلسه اذا قام صلّى اللّه عليه وآله ثم قال: أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ، فأنا اُحدِّثكم أحسن من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و"رستم" و"اسفنديار" ثم يقول:بماذا محمّد أحسن حديثاً مني وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتُها؟27.

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنها لم تدم إلا عدة ايام لا اكثر حتى أن قريشاً سأمت من أحاديث "النضر" وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقد نزل في هذا الشأن آيات هي:﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا28.

تحججات صبيانيّة وجاهليّة
وربما جسّدوا معارضتهم للدعوة المحمّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه ورسالته، تنم عن تكبر وجهل، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر ابرزها:

أ- لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!
قال تعالى حاكياً قولهم:﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾29.

ب- لماذا لم يرسل اليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!
قال تعالى عنهم:﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً﴾30.

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً:﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾31.

ج- انّه يدعو الى خلاف ما كان عليه الآباء، من الدين والعقيدة والسلوك؟
يقول عنهم سبحانه:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾32.

د- تبديل الآلهة بالهٍ واحدٍ.
قال اللّه عنهم:﴿وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ33.

ه- القول بحشر الاجساد وتجدد الحياة في يوم القيامة.
قال تعالى عنهم:﴿وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ34.

و- لماذا ليس عنده مثل ما كان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.
يقول اللّه عنهم:﴿فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى﴾35.

ز- لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهد ويحضر معه في كل مقام ومشهد.
قال تعالى:﴿وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾36.

مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة
وكان المشركون اذا نفدت تحججاتهم واعتراضاتهم الواهية، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله من قومه:

لقد اقترحوا عليه
1- ان يعبد اصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطاً لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة "الكافرون":﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ. وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ.

2- تبديل القرآن، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية، والازراء على الاصنام، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام، وابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا:﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾37.

فردّ اللّه عليهم بقوله:﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾38.

3- مطاليب مادية عجيبة!!

وقد عمدوا- بسبب عنادهم وعتوهم- الى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع، او يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً، أو يصعد إلى السماء، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب التي كانت إما مستحيلة في نفسها او تناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك:﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًاً. أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء39.

صبر النبيّ واستقامته وثباته
ولقد قابل رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله كل هذه التحججات الايذائية وما طرح مِن الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل، ايماناً منه بدعوته، وحرصاً على ابلاغ رسالته، وبفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد

1- ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾40.

2- ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾41.

3- ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾42.

4- ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾43.

5- ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾44.

6- ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾45.

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن

وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمعاجز وآيات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد، وإلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة اُخرى غير القرآن، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته، والايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير الى أبرز هذه المعاجز وهي:

1- شقّ القمر

فقط طلب المشركون من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ان يشق لهم القمر نصفين حتى يؤمنوا به، فلمّا فعل ذلك لهم باذن اللّه كفروا به وقالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى:﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ46.

2- المعراج

ان العروج برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والذي سيأتي مفصلاً هو الآخر معجزة من معاجزه القوية، وقد نطق بها القرآن بقوله:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ47.

3- مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مع مَن خرج بهم إلى المباهلة، واحجام النصارى عن مباهلته، معجزة اُخرى من معاجزه صلّى اللّه عليه وآله وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية اذ قال:﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ48.

وستأتي قصّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

4- الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكياً عنه:﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ49.

هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين: قال تعالى:﴿الم. غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(الروم: 1- 4).

واخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى:﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ..الخ.

وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه:﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ(القمر: 45).

ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام امير المؤمنين علّي بن أبي طالب- كما في نهج البلاغة- حول سؤال المشركين من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديّ باذن اللّه.

فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب، علواً واستكباراً.

وقد صرح الامام في كلامه هذا أن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة التي طلبوها، وان فيهم من يطرح في القليب (في معركة بدر) وان منهم من يحزّب الأحزاب (لمعركة الخندق)50.

اصرار النبيّ على هداية قريش

بل كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الا أمر نابع من تقليد الآباء، والجدود، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم.

من هنا فانَّ أيّ انقلاب يحصل ويحدث في اوساط السادة والكبراء بأن يؤمن أحدهم مثلاً كان كفيلاً بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ "الوليد بن المغيرة" الذي أصبح ابنه "خالد" في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الاسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمّدية، لأنّه كان أسنَّ من في قريش واكثرهم نفوذاً، وأعلاهُم شخصية، وكان يُدعى حكيم العرب، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

وقد كلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذات يوم في ذلك وقد طمع في اسلامه، فبينا هو في ذلك إذ مرّ به "ابن اُم مكتوم"، فكلم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وجعل يستقرئه القرآن فشقَّ ذلك منه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى أضجره، وذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر "الوليد"، وما طمع فيه من إسلامه، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً وتركه، فنزل قوله تعالى:﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءهُ الْأَعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى. فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى. وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى. وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ51  52.

وقد فنّد علماء الشيعة ومحقّقوهم هذه الرواية التاريخية، واستبعدوا صدور مثل هذا السلوك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الذي امتدحَهُ ربُّ العالمين بالخلق العظيم، ووصفه بالرأفة بالمؤمنين، وقالوا: ليس في الآيات ما يدل على أن الذي عبس وتولّى هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.

وقد روي عن الامام الصادق عليه السّلام أن المراد رجل من بني اُميّة، فإنّه عبس وتولّى عند ما حضر "ابنُ ام مكتوم" الأعمى عند رسول اللّه فنزلت هذه الآيات توبيخاً له53.

3- تحريم استماع القرآن
كانت البرامجُ الواسعة التي دبرها الوثنيّون في "مكة" لمكافحة الاسلام، والحيلولة دون انتشاره بين القبائل والجماعات، تُنفّذ الواحدة تلو الآخرى، ولكن دون جدوى، ودون ان يكسب اصحابُها من ورائها أي نجاح، واية نتائج على المستوى المطلوب، فقد كانت تلك المؤامرات تفشل في كل مرة، ولا يجني المشركون منها سوى الخيبة والفشل، وسوى النتائج المعكوسة في أغلب الأحايين.

فقد مارسوا الدعاية ضد رسول اللّه فترة من الزمن ولكن لم يحالفهم التوفيقُ الكاملُ في ذلك، فقد وجدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله اكثر ثباتاً واستقامة في طريقه وأشدّ إصراراً على هدفه، وكانوا يرون باُم أعينهم بأن عقيدة التوحيد في انتشار مستمر ومتزايد، يوماً بعد يوم.

ولهذا قرّر سادة قريش وزعماء "مكة" المشركون أن يمنعوا الناس عن سماع القرآن.

ولكي تتحقق خطتهم هذه وتلبس ثوب الوجود بثّوا جواسيسهم في كل انحاء مكة ومداخلها ليمنعوا من يفدُ اليها للحج او التجارة من الاتصال بمحمّد، ومنعه بكل صورة ممكنة، عن الاستماع الى القرآن، وأعلن مناديهم ما ذكره القرآن عند قوله تعالى:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ54.

لقد كان القرآن اقوى أسلحة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله، فقد القى رعباً عجيباً في نفوس الاعداء واقضّ مضاجعهم.

وكان اشراف قريش وأسيادها يرون باُم أعينهم كيف أنّ اعدى أعداء النبيِّ صلّى اللّه عليه وآله (وهو أبو جهل) عندما مشى إليه ليستهزئ به، ويسخر منه، ما ان اسمع آيات من القرآن، إلا وفقد السيطرة على نفسه، ولان قلبه، وأصبح من أصحابه ومؤيديه الأقوياء، ولهذا لم يكن أمام اُولئك الاسياد إلا أن يمنعوا من سماع القرآن منعاً باتا، ويحرموا التحدث الى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله تحريماً قاطعاً55.

ولهذا كان الرجل منهم إذا أراد أن يسمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعض ما يتلوه من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقاً منهم، فان رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهُم فلم يستمع56.

واضعو القرار ينقضون قرارهم!!

ولكن من الطريق العجيب أن نفس الذين كانوا يمنعون الناس بشدة عن الاستماع إلى القرآن، وكانوا يعدون كل من يتجاهل قرار (تحريم الاستماع الى القرآن) مخالفاً يتعرض للملاحقة والعقاب، نقضوا بعد أيام من إصدار هذا القرار قرارهم وانضمُّوا إلى صفوف المخالفين له في الخفاء.

فاذا بالذين يمنعون من سماع القرآن في العلن، يستمعون اليه في الخفاء! واليك بعض ما جرى في هذا الصعيد:

خرج "أبو سفيان" و"أبو جهل" و"الاخنس" ليلة ليستمعوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كلُ رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريقُ فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ثم انصرفوا، حتى اذا كانت الليلة الثانيةُ عاد كلُ رجل منهم الى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة، ثم انصرفوا، حتى اذا كانت الليلة الثالثة اخذ كلُ رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى اذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود، فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرّقوا57.

4- منع الاشخاص من الايمان برسول اللّه

بعد خطة (تحريم الاستماع الى القرآن) بدأوا بتنفيلذ خطة اُخرى وهو منع كل قريب وبعيد ممّن رغبوا في الإسلام وقدموا إلى مكة ليتعرفوا على النبيّ، وعلى ما اتى به من كتاب ودين، من الاتصال بالنبي صلّى اللّه عليه وآله.

فبثت قريش جواسيسها في الطرق المؤدية إلى مكة ليتصلوا بمن يلقونه من هؤلاء ويبادروا الى منعه من الاتصال برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والايمان برسالته، بشتى الحيل والاساليب.

واليك نموذجين حييّن من هذا الامر
1- "الاعى"

وكان من شعراء العهد الجاهلي البارزين، وكانت قصائده تتناقلها مجالس السمر القرشية، وتتغنى بها محافل انسهم.

وقد بلغ "الاعشى" في كبره نبأ ما جاء به رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله من التوحيد ومن تعاليم الاسلام العظيمة، وكان يعيش في منطقة نائية عن مكة، حيث لم تصل اليها أشعة الرسالة الاسلامية على وجه التفصيل بعد، ولكن ما قد سمع به من تعاليم الاسلام على نحو الاجمال قد اوجد في نفسه هياجاً خاصاً وحرّك مشاعره فأنشأ قصيدة مطوّلة يمدح فيها رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ثم خرج الى مكة ليهديها اليه صلّى اللّه عليه وآله وهو في نفس الوقت يريد الاسلام.

ورغم ان تلكم القصيدة لا تتجاوز أبياتُها 24 بيتاً، ولكنها تُعدّ من أفضل وافصح ما قيل من الشعر في الاسلام، وفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في العهد النبوي ويوجد نصّها الكامل في ديوان "الأعشى" وقد قال فيها وهو يذكر بعض تعاليم الاسلام:

نبيّاً يرى ما لا يرون وذكرُه                أغار لعمري في البلاد وأنجدا

فاياك والميتات لا تقربنّها                   ولا تاخذن سهماً حديداً لتفصدا

وذا النُصب المنصوب لا تُنسكُنّه           ولا تعبد الأوثان واللّه فاعبُدا

ولا تقربنّ حُرّة كان سرُّها                  عليك حراماً فانكحن او تأبّدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنّه              لعاقبة، ولا الاسير المقيّدا

وسبِّح على حين العشيات والضحى      ولا تحمد الشيطان واللّه فاحمدا


فلما كان بمكة أو قريباً منها اعترضه جواسيس قريش ورجالها فسألوه عن أمره وقصده فأخبرهم بانه جاء يريد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ليسلم، وحيث أنهم كانوا يعرفون بأن "الاعشى" رجل يحب النساء والخمر حبّاً كبيراً لذلك عمدوا إلى الضرب على هذا الوتر لينفّروه من الاسلام، فقالوا له: يا أبا بصير (وهي كنية الاعشى) إنه يحرم الزنا.

فقال الاعشى: واللّه ذلك لأمر مالي فيه من ارب.
فقالوا له: يا أبا بصير فانّه يحرِّم الخمر.
فقال الأعشى- وقد صُدِم بهذا الخبر- أمّا هذه فواللّه في النفس منها لعلالات، ولكني منصرف فاتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاُسلم!! فانصرف فمات في عامه ذلك، ولم يعُد الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله58. 

2- الطُفيل بنُ عَمرو الدوسيّ

وهو الشاعر العربي الحكيم العذب اللسان، صاحب النفوذ والكلمة المسموعة في قبيلته.

يروى انه قدم "مكة" ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بها، وكانت قريش تخشى ان يتصل بالنبيّ صلّى اللّه عليه وآله فيسلم.

ومن البديهي أن اسلام رجل مثله كان ممّا يشق على قريش جدّاً ولهذا مشى إليه رجال منهم وقالوا له- محذرين ايّاه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله-:

يا طُفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجلُ الذي بين أظهرنا قد اعضل بنا، وقد فرّق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وبين ابيه، وبين الرجل وبين اخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلمنّه، ولا تسمعنّ منه شيئاً.

ففعلت تحذيراتُ قريش فعلتها في نفس الطفيل وهم يكرّرونها عليه بقوة وإصرار، حتى انه قرر ان لا يسمع من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله شيئاً، ولا يكلّمه، وحشّى اُذنه- حين غدى الى المسجد للطواف- قطناً، خوفاً من أن يبلغه شيء من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو لا يريد ان يسمعه!!!

يقول الطفيل: فغدوت الى المسجد فاذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قائم يصلي عند الكعبة، فقمتُ منه قريباً فسمعتُ كلاماً حسناً من غير اختيار مني فقلت في نفسي: واثكل اُمي، واللّه اني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسَنُ من القبيح، فما يمنعني أن اسمع من هذا الرجل ما يقول، فان كان الذي يأتي به حسناً قبلتُه، وان كان قبيحاً تركتُه؟

فمكثتُ حتى انصرف رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى بيته فاتّبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمّد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا، فواللّه ما برحوا يخوّفونني أمرُك حتى سردت اُذني بكرسف لئلا اسمع قولك ثم اَبى اللّه إلا أن يُسمعني قولك فسمعتهُ قولاً حسناً، فاعرض عليّ أمرك، فعرض عليِّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الاسلام، وتلا عليّ القرآن، فلا واللّه ما سمعت قولاً قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق.

ثم قلت: يا نبيّ اللّه إني امرؤ مطاع في قومي وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الاسلام.

ثم يكتب ابن هشام قائلاً: إن الطفيل لم يزل بارض "دوس" يدعوهم الى الاسلام حتى هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى المدينة ومضى "بدر" و"اُحد" و"الخندق" فقدم على رسول 2015-12-01