وَفاة أَبي طالب وخديجة الكبرى
سيد المرسلين
في الوقت الذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن "القطيف" يضمُّ بين جدرانه شاباً حر الضمير شجاعاً مقداماً لم يكن له من ذنب إلا أنه الّف كتاباً باسم "أبو طالب مؤمن قريش" يتناول إِسلام "أبي طالب" وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كل ذلك من مصادر أهل السنّة
عدد الزوار: 105
في الوقت الذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن "القطيف" يضمُّ بين جدرانه
شاباً حر الضمير شجاعاً مقداماً لم يكن له من ذنب إلا أنه الّف كتاباً باسم "أبو
طالب مؤمن قريش" يتناول إِسلام "أبي طالب" وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كل ذلك من مصادر
أهل السنّة1.
فطلبت منه السلطات القضائيّة في الحجاز- وفي عصر يتسمُ بحرّية التفكير والبيان
والإعتقادِ- بأن يتراجع عن كلامه، وحيث إِنه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها
عن قناعة ويقين، حكمت عليه تلك السلطات بالاعدام.
وقد نجا هذا الفتى الشجاع والكاتب الحرّ من الاعدام اثر جهود اسلامية واسعة
وخُفّضِت عقوبته الى الحبس المؤبّد، الذي خفّض اثر جهود اسلاميةٍ مرّة اُخرى الى
عقوبة الجلد ثمانين جلدة!!.
وهو الآن يلبث في أحد السجون بانتظار المصير المجهول، اذ على المسلمين إِما أن
يهتمّوا بالأمر ويطلبوا من السلطات القضائية السعودية صرف النظر عن عقوبته، بل
والافراج عنه نهائياً.
وإِما أن يفقد هذا الشاب المجاهد الشجاع البريء حياته تحت سياط تلك السلطات الجائرة
الحاكمة زوراً وقهراً على أرض الحجاز2 3.
لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي ضدّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله والمسلمين بفعل
إِقدام ثلة من ذوي المروءة وأيضاً بفضل صمود النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وأصحابه
وثباتهم العظيم. وخرج النبيّ وأنصاره من "شِعب أبي طالب" بعد ثلاث سنوات من النفي
والعذاب وعادوا إِلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرؤوس.
وعاد التعامُل الاقتصادي مع المسلمين الى ما كان عليه قبل الحصار، وكانت أوضاع
المسلمين تسير نحو الانتعاش والانفراج شيئاً فشيئاً، واذا برسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله يُفاجَأ بحادث مؤلم مرٍّ ذلك هو وفاة شخصيةٍ كبرى أحدث فقدانها أثراً
سيّئاً في نفوس المسلمين وبخاصة المستضعفين منهم.
ولقد كان هذا الأثر عظيماً جداً بحيث لا يمكن قياسه بشيءٍ بالنظر الى تلك الظروف
الحساسة، وذلك لأن نمو أية عقيدةٍ وفكرة إِنما يكون في ظل عاملين أساسيّين: أحدهما:
حرية التعبير، والآخر: القوة الدفاعية التي تحمي أصحاب تلك العقيدة والفكرة ضدّ
حملات الخصوم التي لا ترحم.
ولقد كان المسلمون- آنذاك- يتمتعون بحرية البيان والتعبير، ولكنهم افتقدوا- بسبب
الحادث المفاجئ المذكور العامل الجوهري والمصيري الثاني يعني: حامي الاسلام
والمدافع الوحيد عنه الذي وافته المنية في تلك الايام الحساسة وحُرم المسلمون
بوفاته من حمايته ودفاعه، ووقايته.
أجل لقد فقدَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حاميه العظيم الذي تولى مهمة
كفالته والدفاع عنه، والمحافظة على حياته بصدق واخلاص وجدّ ورغبة وكان يقيه بنفسه
وذويه ويؤثره على نفسه وأولاده وينفق عليه من ماله حتى كَبُر وصار له مال وطول منذ
أن كان صلّى اللّه عليه وآله في السنة الثامنة من عمره وحتى يوم وفاة ذلك الحامي
العظيم، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الخمسين من عمره.
لقد فقَد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله شخصيةً خاطبها عبدُ المطلب عند وفاته
بالشعر قائلاً:
اُوصِيك يا عبدَ منافٍ بعدي بموحد بَعد
أبيهِ فردِ
فأجابه أبو طالب قائلاً: يا أبه لا توصِينّ بمحمّد فانه إبني وابن أخي4.
ولعلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قد تذكر في اللحظة التي ظهر فيها على جبين
ابي طالب عرقُ الموت جميع الحوادث الحلوة والمرة وقال في نفسه:
1- إن هذا الشخص المسجّى على فراش الموت هو عمّه الرؤوف الذي ظلّ يحرسه بالليل
والنهار طيلة سنوات الحصار في الشعب، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه.
ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطر من الليل
ويضجعه في موضع آخر ويضجع مكانه ولده "علي بن أبي طالب" حتى لا تغتاله قريش بعد أن
رصَدوا مكانه، وكمنوا له، وكان يفعل أبو طالب ذلك طوال الليل كله فيفديني بولده
"علي" ويقيني به حتى إذا قال له "علي" ليلة:"يا أبتاه إِني مقتول ذات ليلة".
فأجابه أبو طالب بنبرة المتحمّس الصبور
إِصبِرن يا بُنيَّ فالصبِرُ أحجى كُلُّ
حيٍّ مصِيرُه لِشُعوبِ
قد بلوناك والبلاءُ شديد لِفِداءِ النجِيبِ وابنِ النجيبِ
فأجابه "عليّ" بكلام اكثر حلاوةً وعمقاً قائلاً
أتأمُرُني بالصّبرِ في نصرِ أحمدٍ؟ وواللّهِ ما
قُلتُ الّذي قلتُ جازعاً
ولكِنّني أحببتُ أن ترَ نُصرتي وتعلمَ أنّي لم أزل لك طائِعا5
2- إن هذا الجثمان الذي فارقته الروح هو جثمان عمّي العطوف الذي شُرّد هو وذووه،
وعرّض نفسه وأهله للبلاء والمحنة بسبب الحصار لأجلي، وأمر بأن يحرسوني ليل نهار،
تاركاً زعامته وسيادته، وكلّ شؤُونه للحفاظ عليّ والإبقاء على رسالتي وأرسل إِلى
قريش رسالةً قويّة أعلن فيها عن وُقُوفه إِلى جانبي وانه لن يسلمني ويخذلني ما دام
حيّاً إِذ قال:
فلا تحسبُونا خاذِلين مُحمّداً لذي
غُربة مِنّا ولا مُتقرّب
ستَمنعُه مِنّا يد هاشِميّة ومركبُها في الناسِ أخشن مركبِ6
بعد أن تحقق موت "ابي طالب" ارتفع الصراخ والنحيب من منازله وبيوته، واجتمع حول
بيته العدوُّ والصديقُ، والقريبُ والبعيد، واشترك الجميعُ في مراسيم دفنه بقلوب
آلمتها الفجيعة به، وقرّحها الحزنُ عليه.
وهل ترى تنتهي آثار وردود فعل وفاة شخصية عظيمة الشأن مثل "ابي طالب" الذي كان زعيم
قريش، وسيد عشيرته بمثل هذه السرعة، والبساطة؟
كلا بل سيكون لفقدانه اكبر الأثر على مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلاً.
نماذج من مشاعر أبي طالب
ان التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادلها الأشخاصُ وعواطف
وديّة قويّة أبداها البعض تجاه بعض تدورُ اكثرها حول محور الدوافع المادية كالتي
تدور حول معيار الجمال أو المال، ولهذا سرعان ما يذهب الحماسُ وتنطفئُ شعلةُ الحبّ،
ويتضاءل لهيبُ العاطفةِ في كيانهم حتى تزول بالمرّة ولا يبقى منها شيء أبداً لعدم
ثبات هذه الدوافع.
ولكنّ المشاعر والعواطف التي تنبعُ من أواصر الايمان بفضائل شخص ما وكمالاتِه
الروحية والمعنوية لا تنمحي ولا تتلاشى بسرعة.
وقد كانت مودة "أبي طالب" لمحمّد صلّى اللّه عليه وآله وحبّه الشديد له تنبع من كلا
هذين الدافعين.
فقد كان "أبو طالب" يؤمن بمحمّد صلّى اللّه عليه وآله ويرى فيه من جانب الانسان
الكامل، بل يعتبره في قمة الكمال الانساني، ومن جانب آخر كان "محمّد" ابن أخيه، وقد
أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن والأخ.
لقد كانت لصفات "محمّد" وخصاله المعنوية والأخلاقية، وطهره مكانة كبرى في قلب عمّه
"أبي طالب" إلى درجة أنه كان يصطحبه معه إِلى المصلّى، ويستقي به أي انه يقسم على
اللّه بمقامه أن يدفع عن الناس القحط والجدب وينزّل عليهم الغيث، فكانت دعوتُه
تُستجاب من دون تأخير.
فقد نقل كثير من المؤرخين الحادثة التالية
قحط الناسُ في "مكة" وحواليها سنةً من السنين، ومنعتِ السماء والأرض بركاتهما عنهم
بشكل عجيب، فمشت قريش بعيون باكية إِلى "أبي طالب" تطلب منه بالحاح أن يستسقي لهم،
وان يذهب الى المصلى ويدعو ربّه لينزِّل عليهم المطر وينقذهم من تلك المحنة الصعبة.
فخرج "أبو طالب" وقد اخذ بيد غلامٍ كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها غمامة فاسند ظهره إلى
الكعبة ورفع وجهه نحو السماء وقال: يا رب هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً، دائماً
هاطلاً.
ويكتب المؤرخون ان السماء كانت صافية لا غيم فيها أبداً ساعة استسقى "أبو طالب"
برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولكن ما ان فرغ "أبو طالب" من دعائه إِلا وأقبلت
السحاب في الحال، وغطّت سماء "مكة" وما حولها من المناطق القريبة إليها، وارعدت
السماء وأبرقت ثم جرى غيث عظيم سالت به الأودية، وروّت القريب والبعيد، وسُرّ به
الجميع ورضو7.
وقد اشار "أبو طالب" في لاميّته المعروفة الى هذه الحادثة.
وقد أنشأ "أبو طالب" تلك القصيدة في أحلك الظروف واشدّها، يوم زادت قريش من ضغوطها
على حامي الرسول صلّى اللّه عليه وآله ليسلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
إِليها.
وقد ذكّر فيها "أبو طالب" قريشاً بحادثة الاستسقاء برسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله قبل الاسلام وكيف أنها اُمِطرَت ببركته، بعد قحط طويل، وجدب مهلِك، كاد يبيد
الحرث والضرع، وذلك عندما يقول:
وابيض يُستسقى الغمامُ بوجهه ربيع اليتامى عصمة
للأرامل
تلوذُ به الهُلاك مِن آل هاشم فهم عندَهُ في نعمة وفواضل
وقد نقل "ابن هشام" في سيرته8 أربعة
وتسعين بيتاً من هذه القصيدة، فيما أورد "ابن كثير" الشامي في تاريخه9 إِثنين
وتستعين بيتاً فقط.
وهي قصيدة في منتهى الروعة والعذوبة، وفي غاية القوة والجمال، وتفوق في هذه الجهات
كل المعلقات السبع التي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها، ويُعدونها من ارقى ما قيل في
مجال الشعر والنظم.
وقد أورد "ابو هفان العبدي" الجامع لديوان "أبي طالب" مائة وواحداً وعشرين بيتاً من
هذه القصيدة في ذلك الديوان، ويمكن ان تكون كلّ تلك القصيدة وتمامها.
ونحن نورد هنا أبياتاً متفرقة من هذه القصيدة مما يتصل منها برسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله بصورة صريحة.
كذِبتُم وبيتِ اللّه نبزى محمّداً
ولما نطاعِن دونه ونناضل10
ونُسلِمُه حتّى نُصرَّعَ دونَه ونذهَل عن آبنائنا
والحلائِل
لعمري لقد كلّفتُ وجداً بأحمدٍ وإِخوته دأب المحبّ المواصل
فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها وزيناً لمن والاه ربُّ
المشاكل11
فمن مثلُه في الناس أيُ مؤمّل إذا قاسَهُ الحُكام عند التفاضل
حليم رشيد عادل غير طائش يُوالي إِلهاً ليس عنه بِغافِلِ
لقد علِمُوا أنَّ ابننا لا مكذَّب لدينا ولا يُعنى بقولِ
الأباطِل
فأصبحَ فينا احمد في اُرومة تقصّر عنه سورة المتطاول12
حدِبتُ بنفسي دونَه وحميته ودافعتُ عنه بالذُّرا
والكلاكل13
فأيّدَهُ ربُّ العباد بنصره وأظهرَ ديناً حقُّه
غير باطل14
التغيير في برنامج السفر
لم يكن يمضي اكثر من إِثني عشر ربيعاً من عُمُر "محمّد" بعد، عندما أراد
"أبو طالب" التوجّه إِلى الشام مع قافلة قريش التجارية.
وعندما استعدّت القافلة لمغادرة مكة ودق جرس الرحيل، أخذ "محمّد" فجأة بزمام الناقة
التي كان يركبها عمُّه وكافله "أبو طالب" بينما اغرورقت عيناه صلّى اللّه عليه وآله
بالدموع وقال:"يا عمّ إِلى من تكلني، لا أب لي ولا اُم"؟.
هذا المشهد المؤثر وبخاصة عندما رأى "أبو طالب" عيني محمّد وقد اغرورقت بالدموع،
فعل فعلته في نفس العم الكافل الحنون، فانحدرت عبرات العطف من عينيه وقرر من فوره
ومن دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن اخيه "محمّد" معه في هذه الرحلة، ومع
أنه لم يحسب لهذا الامر- من قبل- أي حساب، فان "أبا طالب" قبل بان يتحمّل كل ما
يترتب على قراره هذا، فحمله معه على ناقته، وبقي يفكر في أمره، ويدبّر شأنه، ويحافظ
عليه طوال تلك الرحلة، وشهد منه اثناء الطريق كرامات وخوارق، وقد أنشأ في ذلك
قصيدةً موجودةً في ديوان أبي طالب، ومطلع هذه القصيدة هو:
إِنّ ابن آمنة النبيّ محمّداً عندي
يفوقُ منازل الأولاد15
الدِّفاعُ عن حوزة العقيدة والايمان
ليست هناك قوة تساعد على الثبات والمقاومة، والصمود والاستقامة، مثل قوة الايمان،
فالايمان بالهدف هو العامل القوي وراء تقدّم الانسان في ميدان الحياة، فهو الذي
يهضم في نفسه كل الآلام والمتاعب، ويدفع بالمرء الى المضي قدماً في طريق الوصول إلى
أهدافه المقدّسة، حتى ولو كلفه ذلك التعرض للموت.
إِن الجنديّ المُسلّح بقوةِ الإيمان منتصر لا محالة.
إِن الجنديّ الذي يعتقد بأن الموت في طريق العقيدة هو عين السعادة لا بدّ أن يحرز
النصر.
إِن على الجندي- قبل أن يسلّح نفسه بسلاح العصر- أن يتزود في قلبه من طاقة الإيمان
بالهدف، ويضيء قلبه بمصباح الاعتقاد بالحقيقة، وحبّها، ويجب أن يكون جهادُه وصلحُه
من أجل العقيدة والدفاع عن حوزتها، وكيانها.
إِنّ أفكارنا وعقائدنا نابعة من روحنا، وفي الحقيقة انّ فكر الانسان وليد عقله،
فكما أنَّ الانسان يحب ولده الجسماني حبّاً شديداً كذلك يحب أفكاره التي هي ولائد
عقله وروحه، بل إِن حبّ الانسان لعقيدته اكثر من حبّه لأولاده الجسمانيّين، ولهذا
فهو يدافع عن عقائده حتى الموت، ويغضي- في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة والحفاظ
عليها- عن كل شيء، بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على اولاده.
إِنّ حب المرء للمال والمنصب حبّ محدود، فهو ينساق مع هذا الحبّ مادام لم يهدّد
حياته خطرُ الموت الحقيقي، ولكنّه مستعد لأن يمضي- في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة-
الى حدّ الموت، ويؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة، ويرى الحياة
الحقيقية والواقعية في وجود الرجال المجاهدين، وهو يردد: "إِنما الحياة عقيدة
وجهاد"16.
ولنلق نظرة فاحصة على حياة بطل حديثنا (ونعني به المدافع الوحيد عن الاسلام وحامي
الرسول الاوحد في بدايات عهد الرسالة) فماذا كان دافعه الى هذا الامر، وما الذي كان
يحركه في هذا السبيل؟ واي شيء كان وراء مضيه في هذا الطريق الى حافة العدم، والغض
عن النفس والنفيس، والمقام، والقبيلة وغير ذلك والتضحية بكل ذلك في سبيل "محمّد"
صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
إن من المتيقَّن أن دافعه الى ذلك لم يكن المحرك الماديّ، وبالتالي لم يقصد من وراء
الدفاع عن ابن اخيه، وحمايته، والحدب عليه، كسب أمر مادي كتحصيل مال وثروة، لأن
النبيّ صلّى اللّه عليه وآله لم يكن له يومئذ مال، ولا ثروة.
وكما أن مقصود "أبي طالب" لم يكن أيضاً تحصيل مقام، وإحراز مكانة اجتماعية لأنه كان
يملك في ذلك المجتمع أعلى المناصب واهمها، فقد كانت له رئاسة "مكة" والبطحاء، بل هو
فقد منصبه وشخصيته الممتازة ومكانته المنقولة بسبب دفاعه عن "محمّد"، وعدم
الاستجابة لقومه في تسليمه اليهم، والتخلي عنه لأن دفاعه عن رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله قد استوجب سخط زعماء عليه، واستياءهم من موقفه، وخروجهم عن طاعته، ودفعهم
الى التمادي
قِف عند رأيك واجتهد إِنّ
الحياة عقيدة وجِهاد
في معاداة "بني هاشم" و"أبي طالب" والثورة عليهم!!
تصَوّر باطل
ربما يتصور بعض ضعفاء البصيرة أن علة حدب "أبي طالب" على رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس كانت هي: علاقة القربى، ووشيجة الرحِم،
أو بتعبير آخر: إن التعصب القبليّ، والعصبية القومية هو الذي دفع بأبي طالب إِلى ان
يعرّض نفسه لكل ذلك المكروه في سبيل ابن اخيه.
ولكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصور باطل لا غير، ويتضح بطلانه بدراسة مختصرة لأنه لا
تستطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع أحداً إلى أن يضحي بنفسه في أحد أقربائه الى هذه
الدرجة من التضحية والمفاداة، بحيث يقي مثلاً ابن أخيه عليه، ويكون مستعداً لأن
يتقطّع ولده بالسيوف إِرباً إِرباً دون ابن أخيه.
إِن العصبيات القبائلية والعائلية وان كانت تدفع بالانسان حتى الى حافة الموت، ولكن
لا معنى لان تختص، هذه الحماية الناشئة عن العصبية العائلية والقبلية الشديدة بفرد
واحدٍ، وشخص خاص معيّن من أفراد العائلة والقبيلة، في حين نجد "أبا طالب" قد قام
بكل هذه التضحية في سبيل شخص واحد، وفرد معين (أي النبيّ)، ولا يفعل مثل هذه في
سبيل غيره من أبناء "عبد المطلب" و"هاشم" وأحفادهما ومن ينتمي إِليهم بوشيجة القربى
ورابطة الرحم.
الدافع الحقيقيّ لأبي طالب
وعلى هذا الأساس فانّ المحرّك والدافِع الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمراً مادياً ولا
الجاه والمنصب، أو التعصب القومي، والعائلي، بل كان أمراً معنوياً وأن ضغوط العدوّ
وقوّته كانت تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية وذلك الأمر
المعنويّ هو اعتقاده الراسخ برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يعتبر "محمّد" مظهراً
كاملاً للفضيلة والانسانية، ويعتبر دينه أفضل برنامج للسعادة، وحيث أنه كان يحبُّ
الحقيقة، ويعشق الكمال والحق، لذلك كان من الطبيعيّ أن يدافع عن الحق والحقيقة،
وينصرهما بكل وجوده، وبكل قواه.
وهذا المعنى هو المستفاد من قصائد "أبي طالب" وأشعاره، فهو يصرح بأن "محمّد" رسول
كموسى وعيسى إِذ يقول:
لِيَعلَم خِيارُ النّاسِ أنّ مُحمّداً
نبيٌّ كمُوسى والمسيحِ بنِ مريم
أتانا بِهَدي مِثل ما أتيا بهِ فكُلّ بِأمرِ اللّهِ يهدِي
ويَعصِم17-
ويقول في قصيدة اُخرى
ألم تعلَمُوا أنّا وجدنا محمّدا نبيّاً
كمُوسى خطّ في أوّل الكتُب18
هذا وتعتبر ابياته التي سبق أن أشرنا اليها والمئات من أمثالها مما جاء ذكره في
ديوان أبي طالب، وفي ثنايا التاريخ والتفسير والحديث شواهد حيّة وقوية على أن محرك
"أبي طالب" الواقعي ودافعه الحقيقي إِلى الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
كان هو اعتقاده الخالص، واسلامه الواقعي ولم يكن له أي دافع آخر سوى الايمان
والعقيدة.
ونحن هنا نكشف النقابَ عن بعض مواقفه في الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وحمايته بعد اضطلاعه بعبء الرسالة، ونترك لك أيها القارئ بأن تدقّق في مثل هذه
المواقف الفدائية ثم تقضي بنفسك: هل تنبع مثل هذه التضحية، ومثل هذا التفاني،
والفداء إلا من الايمان والاعتقاد؟؟
لمحات من تضحيات أبي طالب
إجتمع أسياد قريش واشرافها في بيت أبي طالب والنبيّ صلّى اللّه عليه وآله حاضر،
وتبودلت بين الجانبين أحاديث حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ودينه وما خلق من
مشكلات في مكة، وحاول القرشيون إثناء النبيّ عن دعوته وعمله ولكن دون جدوى فلما
يئسوا من الحصول على النتيجة التي كانوا يريدونها نهضوا من مكانهم ليتركوا بيت "أبي
طالب"، قال "عقبة ابن أبي معيط" غاضباً مهدداً: لا نعود إِليه أبداً، وما خير من أن
نغتال محمّداً!!
فغضب "أبو طالب" من هذه الكلمة، ولكنه ماذا عساه أن يفعل فهم ضيوفه، وفي بيته.
واتفق أن خرج النبيّ صلّى اللّه عليه وآله من البيت في ذلك اليوم ولم يعد، وجاء
"أبو طالب" وعمومته الى منزله فلم يجدوه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب، ثم
قال- وهو يظن ان قريشاً كادت برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله-: ليأخذ كل واحد
منكم حديدة صارمة ثم ليتبعني إِذا دخلت المسجد، فلينظر كل فتى منكم، فليجلس الى
عظيم من عظمائهم فيهم ابن الحنظلية- يعنى أبا جهل- فانه لم يغب عن شر ان كان محمّد
قد قتِل، فقال الفتيان: نفعل فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال فقال:
يا زيد أحسست ابن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفاً.
فقال أبو طالب: لا ادخل بيتي أبداً حتى أراه.
فخرج زيد سريعاً حتى اتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو في بيت عند الصفا
ومعه أصحابه يتحدثون فاخبره الخبر، فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى أبي
طالب فقال: يا ابن أخي: اين كنت؟ اكنت في خير؟ قال: نعم، قال: ادخل بيتك، فدخل رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فلما اصبح أبو طالب غدى على رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله فاخذ بيده فوقف على اندية قريش ومعه الفتيان الهاشميون والمطلبيون فقال:
يا معشر قريش هل تدرون ما هممتُ به؟
قالوا: لا، فاخبرهم الخبر، وقال للفتيان اكشفوا عما في ايديكم، فكشفوا، فاذا كل رجل
منهم معه حديدة صارمة. فقال: واللّه لو قتلتموه ما بقّيت منكم أحداً حتى نتفانى نحن
وانتم، فانكسر القوم وكان اشدّهم انكساراً أبو جهل19.
لو لاحظت أيها القارئ الكريم هذه الصفحات وغيرها من تاريخ "أبي طالب"، ودرست حياته
لرأيت كيف ان "أبا طالب" ظلّ طوال اثنين وأربعين سنة بأيامها ولياليها يحدب على
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ويدافع عنه، ويحاميه، وبخاصة في السنوات العشر
الاخيرة من حياته التي صادفت بعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ودعوته، فقد
أظهر من الدفاع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله والحرص على حياته، وحماية هدفه
اكثر مما يُتصور.
ولقد كان العامل الوحيد الذي دفعه الى مثل هذا الموقف الراسخ العظيم في هذا السبيل
هو: عمق الايمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وقوة الاعتقاد الخالص برسالته.
ولو أننا ضممنا إِلى تضحياته الشخصية تضحيات ولده العزيز "عليّ" لأدركنا مغزى
البيتين اللذين انشدهما "ابن ابي الحديد" المعتزلي الشافعي إِذ قال:
ولولا أبو طالب وابنُه لما مثُلَ
الدِّينُ شخصاً وقاما
فذاك بمكّة آوى وحامى وهذا بِيَثرِب جسَّ الحماما20
قضيّة ذات بواعث سياسيّة
ليس من ريب في أنه لو ثبت عُشر هذا القدر من الشواهد الدالّة على اسلام "أبي طالب"
وإيمانه بالرسالة المحمّدية، لغيره ممّن هو بعيد عن قضايا السياسة، وخارج عن دائرة
الحقد والبغض لاتفق الجميع سنةً وشيعةً على إِسلامه وإِيمانه، ولكن كيف ذهب فريق
الى تكفير "أبي طالب" مع كلّ هذه الشواهد القويّة القاطعة على إيمانه؟ حتى أنّ
فريقاً من الكتاب ذهب إلى ان بعض الآيات المشعرة بالعذاب نزلت في شأنه.
بينما توقّف في هذا الأمر، وذهب أفراد معدودون من علماء السنة الى الحكم باسلامه
وايمانه، ومنهم "زيني دحلان" مفتي مكة المتوفّى سنة 1304 من الهجرة.
ولكن الانصاف هو ان يقال: أن الهدف من طرح هذه المسألة والتوقف في ايمان "أبي طالب"
أو تكفيره لم يكن إلا الطعن في أبنائه، وبخاصة أمير المؤمنين الامام عليّ عليه
السلام.
ولقد جرّ بعض كتّاب السنّة- لتبرير تكفير أبي طالب- هذه المسألة الى غير ابي طالب
ووسع دائرة التكفير هذه حتى شملت آباء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أيضاً حيث ذهب
إِلى أن أبوي النبيّ صلّى اللّه عليه وآله ماتا كافرين أيضاً.
ونحن لا يهمنا هنا أن نعلم بأنّ تكفير والدي النبيّ صلّى اللّه عليه وآله مخالف
لاجماع الامامية والزيدية، وكذا جماعة من علماء السنة، ومحقّقيهم، إِنما الكلام هو
حول من اتّهموا ببساطة متناهية حامي النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الوحيد والمدافع
عنه بلا منازع.
الأدِلّة على إِيمان أبي طالب
إن التعرّف على عقيدة أحد، ومعرفة نمط تفكيره، يمكن عن
ثلاث طرق هي
1- دراسة ما ترك من آثار علميّة وأدبية.
2- اُسلوب عمله، وتصرفاته في المجتمع.
3- رأي أقربائه، وأصدقائه غير المغرضين فيه.
ونحن نستطيع أن نتعرّف على إِيمان "أبي طالب" وعقيدته من خلال هذه الطرق.
فان أشعار "أبي طالب" تدل بجلاء لا لُبس فيه على ايمانه وإِخلاصه، وكذا تكونُ
خدماته القيمة في السنوات العشر الاخيرة من عمره شاهداً قوياً على إِيمانه العميق.
كما وأنَّ رأي أقربائه المنصفين متفق على أنَّ "أبا طالب" كان مسلماً مؤمناً ولم
يقل أحد من أقربائه، في حقه بغير هذا أبداً.
وإِليك إِثبات هذا الموضوع عن هذه الطرق الثلاث على وجه التفصيل:
آثار أبي طالب العلميّة والأدبية
نحن نختار هنا من بين قصائد "أبي طالب" المطوَّلة، بعض الأبيات التي تثبت ايمانه
برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، واعتقاده بالاسلام، في غير ابهام.
1- لِيَعلَم
خِيارُ النّاس أنّ مُحمَّداً نبيّ كمُوسى والمسيحِ بن مريم
أتانا بهدي مِثل ما أتيا به فكُلّ بِأمرِ اللّهِ يهدِي
ويعصِم21
2- تمنيتمو أن
تقتُلُوهُ وإِنّما أمانيُّكُم هذي كأحلامِ نائِم
نبيّ أتاهُ الوحيُ من عِندِ ربّهِ ومن قال لا يقرع بِها سنَّ
نادِم22
3- ألم تعلمُوا
أنّا وجدنا محمّداً رسُولاً كمُوسى خُطَّ في أوّلِ الكُتُب
وأنّ عليهِ في العِبادِ محبةً ولا حيفَ في من خصّهُ اللّه
بالحُبّ23
4- واللّهِ لن
يصِلُوا إِليكَ بِجمعِهم حتّى اُوسّدَ في التّراب دفينا
فاصدَع بِأمرِك ما عليك غضاضة وابشِر بِذاك وقرَّ مِنك عُيُونا
ودعوتني وعلمتُ أنّك ناصِح ولقد دعوت وكُنت ثمّ أمِينا
ولقد علِمتُ بأن دِينَ مُحمّد مِن خير أديان البَريّة
دينا24
5- أو تُؤمنوا بِكتاب منزل عجب على نبيّ
كمُوسى أو كذِي النون25
6- لقد علِمُوا أنّ ابننا لا مُكذَّب لدينا ولا يعني بِقولِ
الأباطِل
فأيّدهُ ربُّ العِبادِ
بِنصرِه واظهر ديناً حقُّهُ غيرُ باطل26
إِن كلّ واحدة من هذه المقطوعات الشعريّة التي تشكل قسماً صغيراً من قصائد مفصّلة
لأبي طالب، تشهد بايمانه بدين ابن اخيه "محمّد" صلّى اللّه عليه وآله.
وخلاصة القول: أنّ بيتاً واحداً من هذه الأبيات كاف في اثبات ايمان صاحبها وقائلها،
ولو أنّ أحداً قالها وهو خارج عن فلك الصراعات السياسية، وبعيد عن دوائر التعصبات
والأغراض لحكم الجميعُ- بالاتفاق- باسلام قائلها وايمانه الخالص العميق.
ولكن لما كان "أبو طالب" هو قائلها، وكانت الأجهزة الدعائية في الحكومات الاموية
والعباسيّة تعمل بكلّ جهدها ضدّ آل "أبي طالب" من هنا أبى فريق من الناس أن يُثبتوا
مِثل هذه الفضيلة الكبرى لأبي طالب عليه السلام.
هذا من جانب.
ومن جانب آخر فانّ أبا طالب والد "علي" الذي كانت سلطات الخلفاء تعمل ضدّه على
الدوام، وتستغل كل الوسائل للحط من شأنه، كان إِسلام أبيه وإِيمانه بالرسالة
المحمدية يُعدُّ فضيلة بارزة من فضائله عليه السلام في حين أن كفر آباء الخلفاء
وشركهم يعدُّ مثلبة توجب الحط من شأنهم، وقيمتهم.
وعلى كل حال قام جماعة بتكفير أبي طالب رغم كلِّ هذه الأشعار والأقوال، والمواقف
الصادقة، بل لم يكتفوا بذلك، فادعوا نزول آيات من القرآن تدل على كفره، وشركه!!!
الطريق الثاني لاثبات إِيمان أبي طالب
إِنّ الطريق الثاني للبرهنة والتدليل على إيمان "أبي طالب" هو مواقفه من رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله وكيفية دفاعه وذبه عنه وحمايته له، وحدبه عليه صلّى اللّه
عليه وآله وسلّم وما قام به من خدمات جليلة في هذا الطريق.
ان كل واحدة من هذه الخدمات تستطيع بمفردها ان تكون المرآة الصادقة التي
تعكس فكر "أبي طالب" وعقيدته وما كان يحمله بين جوانحه من إِيمان بالرسالة والرسول،
واخلاص للّه تعالى.
لقد كان "أبو طالب" هو ذلكم الشخصية التي لم يرض لنفسه بان ينكسر قلب ابن أخيه
لتركه في مكة، واصطحبه معه الى الشام في الرحلة التجارية التي سبق ذكرها، رغم
الموانع الكثيرة، وفقدان الوسائل اللازمة، ورغم ما ترتب على اصطحابه معه من متاعب.
إِن ايمانه بابن أخيه كان عميقاً إلى درجة أنه أخذه الى المصلّى واستسقى به، مقسماً
به على اللّه تعالى أن يكشف العذاب عن قومه، ويرسل رحمته عليهم، فيستجيب اللّه
دعاءه، وينزل عليهم غيثاً وافراً ممرعاً، بقيت قصته في ذاكرة التاريخ.
إِنه ذلك الرجل الذي لم يفتأ عن الحفاظ على حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
لحظة واحدة، فهو الذي تحمل في سبيله ثلاثة أعوام عجاف من الحصار الاقتصادي
والاجتماعي الصعب، مؤثراً العيش في الشعب وفي شغاف الجبال والوديان القاحلة على
زعامة قريش، ورئاسة مكة الى ان أعيته تلك المحن والمتاعب ففقد بذلك صحته، وانحرف
بذلك مزاجه، وتوفّي متأثراً بتلك المتاعب والمصاعب، والمشاق والمحن بعد نقض
الصحيفة، وانتهاء الحصار، والعودة إِلى المنازل بأيام معدودة!!
لقد كان إِيمان "أبي طالب" برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قوياً وراسخاً الى
درجة أنه رضي بأن يتعرّض كل ابنائه لخطر القتل والاغتيال ليبقى "محمّد" ولا يمسُّه
من أعدائه أيّ سوء، فكان يُضجع ولده علياً في موضعه، حتى إِذا أرادوا إِغتياله لا
يصيبه شيء وهذا يعني أنه كان يقيه بنفسه وبأولاده.
وفوق هذا كلّه استعدّ في يومٍ من الأيام لأن يقتل كل زعماء قريش وأسيادها انتقاماً
لمحمّد، وكان من الطبيعي أن يقتل في هذه العملية بنو هاشم كلُّهم أيضاً27.
وصية أبي طالب عند وفاته
وعند وفاته قال لأولاده:"اُوصيكم بمحمّد خيراً فانّه الأمينُ في قُريش وهو
الجامعُ لكلّ ما اُوصيكم به، وقد جاء بأمرٍ قبله الجنان، وانكره اللِّسان مخافة
الشنآن، وأيم اللّه لكأنّي انظرُ الى صعاليك العرب، وأهل البرّ في الاطراف،
والمستضعفين من الناس، قد أجابوا دعوته، وصدّقوا كلمته، وعظّموا أمره فخاض بهم
غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودُورُها خراباً، وضُعفاؤها
أرباباً، واذا أعظمهم عليه أحوجهم اليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده..".
ثم ختم وصيته هذه بقوله:يا معشر قريش كونوا له ولاةً، ولحزبه حماةً، واللّه لا يسلك
أحد منكم سبيله الا رشد، ولا يأخد أحد بهديه الا سعد28.
نحن لا نشك في أن "أبا طالب" كان صادقاً في اُمنيّته هذه لأن خدماته الكبرى
وتضحياته المتواصلة خلال عشر سنوات من بداية عهد الرسالة شاهدة على صدق مقاله، كما
كان صادقاً في الوعد الذي قطعه على نفسه لابن أخيه (محمّد) في مبدأ البعثة عند ما
جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أعمامه وعشيرته الأقربين ودعاهم الى الاسلام
فقال له أبو طالب:"اُخرج يا ابن أخي فانّك الرفيعُ كعباً، والمنيع حزباً، والأعلى
أباً.واللّهِ لا يسلِقُك لسان الا سلَقتهُ ألسن حِداد، واجتذَبته سيوفُ
حداد.واللّهِ لتذلَنَّ لك العربُ ذلَّ البُهم لحاضِنِه"29.
آخر الطُّرق لاثبات ايمان أبي طالب
ويحسن بنا أخيراً ان نسأل عن أبي طالب وعن ايمانه واخلاصه، اقاربَه غير المغرضين
لأن "أهل البيت ادرى بما في البيت".
1- لما مات أبو طالب جاء عليّ عليه السلام الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
فآذنه بموته، فتوجع توجعاً عظيماً، وحزن حزناً شديداً، ثم قال له امض فتولّ غسله
فاذا رفعته على سريره فاعلمني، ففعل فاعترضه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو
محمول على رؤوس الرجال: قال: "وصلتك
رحم يا عم، وجزيت خيراً فلقد ربّيت وكفلت صغيراً، ونصرت وآزرت كبير".
ثم تبعه الى حضرته، فوقف عليه فقال:"أما واللّه لاستغفرنَّ لك، ولاشفعنَّ فيك
شفاعةً يعجبُ لها الثقلان"30.
2- روي ان علي بن الحسين عليهما السلام سئِل عن ايمان أبي طالب. فقال:"واعجباً!
ان اللّه تعالى نهى رسوله ان يقرّ مسلمة على نكاح كافر، وقد كانت فاطمة بنت اسد من
السابقات إِلى الاسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتّى مات"31.
3- روي عن علي بن محمّد الباقر عليهما السلام أنه قال:"لو وُضِع إِيمان أبي
طالِب في كفّة ميزان، وإِيمانُ هذا الخلقِ في الكفّة الاُخرى لرجح إِيمانه".
ثم قال:"ألم تعلموا أنَّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام كان يأمر أن يُحجَّ
عن عبِد اللّه وأبيه"32.
4- قال الامام جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام:"إنّ مثل أبي طالِب مثلُ
أصحاب الكهف أسرُّوا الإيمان، وأظهروا الشرك فآتاهُمُ اللّهُ اَجرهم مرّتين، وأن
أبا طالِب أسرّ الإيمان، وأظهر الشرك، فآتاه اللّه أجره مرتين"33.
رأي علماء الشيعة في أبي طالب
ولقد اتفق علماءُ الاماميّة والزيديّة تبعاً لأهل بيت النبيّ صلّى اللّه عليه وآله
على: أن "أبا طالب" كان من أبرز المؤمنين برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ولم
يخرج من الدنيا إِلا بقلب يفيض إِيماناً بالاسلام، وإِخلاصاً للّه تعالى، وحبّاً
للمسلمين، وقد الّفت في هذا المجال كتب ورسائل، ودراسات عديدة، يمكن الوقوف عليها
لمن اراد ولمزيد التوسع في هذا المجال يراجع المجلد 7 ص 402- 404 من موسوعة الغدير
للعلامة الأميني طبعة النجف، أو ج 7 ص 330- 409 طبعة لبنان.
نظرة إلى حديث "الضحضاح"
واستكمالاً لهذا الحديث ينبغي أن نلقي نظرة إِلى رواية تشكك في ايمان أبي طالب فقد
روى بعض الكتّاب مثل البخاري34، ومسلم عن رواة نظير سفيان بن سعيد
الثوري، عبد الملك بن عمير، عبد العزيز بن محمّد الدراوردي حديثاً نسبوه إِلى رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله انه قال عن أبي طالب رحمه اللّه:"وجدتُه في غمرات من
النّارِ فأخرجتُه إِلى ضحضاحٍ"."لعلّهُ تنفعُه شفاعتي يومَ القيامة فيجعلُ في
ضحضاحٍ من النّارِ يبلغُ كعبيه، يغلي منهُ دماغُهُ"35.
إِنّ هذه الرواية وان كانت تكذبها عشرات الأحاديث والروايات الاسلامية، والدلائل
القاطعة الساطعة، وتثبت بطلانها وتفاهتها، ولكننا بهدف الوصول إلى مزيد من التوضيح
نعمد إِلى دراسة أمرين يرتبطين بهذا الحديث.
1- ضعف أسناد هذه الرواية
إِنّ رواة هذه الرواية- كما اسلفنا- هم عبارة عن سفيان بن سعيد الثوري وعبد الملك
بن عمير وعبد العزيز بن محمّد الدراوردي الذين سندرس أحوالهم واحداً واحداً- في ضوء
أقوال علماء الرجال المعترف بهم عند اهل السنة- عنهم:
أ- سفيان
بن سعيد الثوري
قال أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي- وهو من علماء الرجال عند اهل
السنة- في سفيان الثوري: كان يدلّس عن الضعفاء36.
إِن هذا الكلام شاهد قوي على وجود التدليس عند الثوري، وعلى روايته عن الضعفاء أو
المجهولين، وهو وصف يُسقطه عن درجة الاعتبار.
ب- عبد الملك بن عمير
قال عنه الذهبيّ المذكور: طال عُمره وساء حفظُه قال أبو حاتم: ليس بحافظ، تغيّر
حفظه، وقال أحمد: ضعيف يغلط، وقال ابن معين: مخلط وقال ابن خراش: كان شعبة لا
يرضاه، وذكر الكوسج عن احمد بن حنبل: انه ضعيف جداً37
فمن مجموع هذه العبارات نعرف ان عبد الملك كان يتصف بصفات
عديدة هي أنه
1- سيّئ الحفظ.
2- ضَعيف.
3- كثير الغلط.
4- مخلط.
ومن الواضح ان كل واحدة من الصفات والحالات المذكورة كافية لأن تبطل الاحاديث التي
يرويها عبد الملك بن عمير، والحال انه قد اجتمعت جميع نقاط الضعف هذه في هذا الرجل.
ج- عبد
العزيز بن محمد الدراوردي
ولقد وصفَهُ علماء الرجال عند اهل السنة بالنسيان، وقلة الحفظ فلا يمكن الاستناد
إِلى مروياته.
فقد قال أحمد بن حنبل عنه: إِذا حدّث من حفظه جاء بأباطيل38.
وقال أبو حاتم عنه: لا يُحتجُّ به39.
وقال أبو زرعة أيضاً: سيّئ الحفظ40. ومن مجموعة هذه العبارات
يتضح بجلاء ان الرواة الاصليين لحديث الضحضاح ضعفاء في غاية الضعف، الى درجة لا
يمكن الاعتماد على مروياتهم.
2- نص حديث الضحضاح يخالف الكتاب والسنة
لقد نُسِب إِلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في هذه الرواية أنه أخرج أبا طالب من
نار جهنم إِلى ضحضاح وبهذا خفّف عنه العذاب، أو أنه صلّى اللّه عليه وآله تمنى أن
يشفع له، فيخفّف اللّهُ عنه العذابَ، على حين نفى القرآنُ الكريم والسنة النبوية
الشريفة تخفيف العذاب عن الكفار كما ونفيا شفاعة احد في حقهم.
وعلى هذا الاساس فلو كان ابو طالب كافراً، لم يجز للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله ان
يخفف عنه العذاب او يتمنى له الشفاعة في يوم الجزاء.
وبهذا يظهر بطلان محتوى حديث الضحضاح.
واليك فيما يأتي ادلة ما قلناه من الكتاب والسنة:
أ- القرآن
الكريم
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد:﴿والّذين
كفرُوا لهُم نارُ جهنَّم لا يُقضى عليهِم فيمُوتُوا ولا يُخفّفُ عنهُم مِن عذابِها،
كذلِك نجزِي كُلَّ كفُور﴾41.
ب- السنة
النبوية
ان السنة النبوية الطاهرة تنفي أيضاً الشفاعة للكفار، ونذكر من باب النموذج بعض تلك
الأحاديث:
2015-12-01