من الزواج الى البعثة
سيد المرسلين
تُعتبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ الغريزة الجنسية نضجها وكمالها، وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب طوفان الشهوة على فضاء العقل، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير،
عدد الزوار: 112
تُعتبر فترةُ الشباب من أهمّ وأخطر الفترات في حياة الإنسان ففي هذه الفترة تبلغ
الغريزة الجنسية نضجها وكمالها، وتصبحُ النفسُ البشرية لعبة في أيدي الأهواء ويغلب
طوفان الشهوة على فضاء العقل، ويغطّي الظلامُ سماء التفكير، وتشتد حاكمية الغرائز
المادية، وتتضاءل شعلة العقل، وتترائى أمام عيون الشباب بين الحين والآخر، وصباحاً
مساءً صروح عظيمة من الآمال الخيالية.
ولو ملك الإنسانُ- في مثل هذه الفترة- شيئاً من الثروة، لتحوّلت حياته إلى مسألة في
غاية الخطورة فالغرائز الحيوانية، وصحة المزاج من جهة والامكانات المادية والمالية
من جهة اُخرى تتعاضدان وتغرقان المرء في بحر من الشهوات، والنزوات، وتهيُّئان له
عالِماً بعيداً عن التفكير في المستقبل.
ومن هنا يصف المربّون العلماء تلك الفترة الحساسة بأنها الحدّ الفاصل بين الشقاء
والسعادة، والفترة التي قلما يستطيع شاب أن يرسم لنفسه فيها مساراً معقولاً، ويختار
لنفسه طريقاً واضحاً على أمل الحصول على الملكات الفاضلة، والنفسية الرفيعة الطاهرة
التي تحفظه عن أي خطر متوقع1. حقاً إن كبح جماح النفس، وزمّها وحفظها
مِن الإنزلاق في مهاوي الشهوات، والنزوات في مثل هذه الفترة لهو أمر جدّ عسير، ولو
أن الانسان حُرم من تربية عائلية صحيحة مستقيمة كان عليه أن ينتظر مصيراً سيّئاً،
ومستقبلاً في غاية البؤس والشقاء.
فترةُ الشبابِ في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:
ليس من شك في ان فتى قريش "محمّد" صلّى اللّه عليه وآله كان يتمتع في أيام شبابه
بصحة جيدة، وقوة بدنية عالية، وكان شجاعاً قوياً، لأنّه صلّى اللّه عليه وآله قد
تربى في بيئة حرة بعيدة عن ضوضاء الحياة، وفتح عينيه في عائلة اتصف جميع أفرادها
واعضائها بالشجاعة والفروسية، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان يمتلك ثروة "خديجة"
الطائلة فكانت ظروفُ الترف، والعيش الشهواني متوفرة له بشكل كامل، ولكن كيف ترى
استفاد من هذه الامكانات المادية؟
هل مدّ موائد العيش واللذة وشارك في مجالس السهر والسمر واللهو واللعب، واطلق
العنان لشهوته، وفكر في إشباع غرائزه الجنسية كغيره من شباب ذلك العصر، وتلك البيئة
الفاسدة؟
أم أنّه اختار لنفسه منهجاً آخر في حياته، واستفاد من كل تلك الإمكانات في سبيل
تحقيق حياة زاخرة بالمعنوية، الأمر الذي تبدو ملامحه بجلاء لمن تتبع تلك الفترة
الحساسة من تاريخه.
ان التاريخ ليشهد بأنه صلّى اللّه عليه وآله كان يعيش كما يعيش أي رجل رجلٍ عاقلٍ
لبيبٍ وفاضلٍ رشيدٍ، وأنه طوى تلك السنوات الحساسة من حياته كأحسن ما يكون، بعيداً
عن العبث والترف والضياع والانزلاق إلى الشهوات والانسياق وراء التوافه.
بل ان التاريخ ليشهد بأنه كان اشد ما يكون نفوراً من اللهو، والعبث، والترف والمجون
فقد كانت تلوح على محيّاه دائماً آثار التفكّر والتأمل، وكثيراً ما كان يلجأ الى
سفوح الجبال او الكهوف والمغارات للابتعاد عن الجوّ الإجتماعي الموبوء في مكة، يلبث
هناك أياماً يتأمل فيها في آثار القدرة الإلهية، وفي عظمة الصنع الالهي، الرائع
البديع.
احاسيسه ومشاعره الإنسانية في فترة الشباب:
ولقد وقعت في احدى أسواق مكة ذات يوم حادثة هيّجت مشاعره الانسانية وحركت عواطفه
واحاسيسه، فقد رأى مقامراً قد خسر بعيره وبيته، بل بلغ الأمر به أن استرقهُ منافسُه
عشرة أعوام.
وقد آلمت هذه القصة المأساوية فتى قريش "محمّد" بشدة، الى درجة أنّه لم يعُد يحتمل
البقاء في "مكة" ذلك اليوم فغادرها من فوره وذهب الى الجبال المحيطة بمكة ثم عاد
بعد هزيع من الليل.
لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ينزعج بشدة لهذه المشاهد المحزنة والاوضاع
المأساوية، وكان يتعجب من ضعف عقول قومه، وانحطاط مداركهم.
ولقد كان بيت "خديجة" قبل زواج النبيُّ صلّى اللّه عليه وآله بها ملاذاً للفقراء
وكعبة لآمال المساكين والمحرومين، وبعد أن تزوج النبيُ صلّى اللّه عليه وآله بها لم
يطرأ على وضع ذلك البيت أيُّ تغيير من جهة الانفاق والبذل.
ففي سنين الجدب والقحط التي كانت تضرب مكة وضواحيها بين الحين والآخر ربما قدمت
"حليمة السعدية" مكة لتزور ولدها الرضاعي "محمّد" فكان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله
يكرمها ويحترمها، ويفرش رداءه تحت أقدامها، ويصغي لكلامها بعناية ولطف، وفاء
لجميلها، وعرفاناً لعواطفها واُمومتها.
فقد روي أن "حليمة" قدِمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مكة بعد تزوّجه
خديجة، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك المواشي فكلَّم رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه
وآله "خديجة" فأعطتها بعيراً واربعين شاة، وانصرفت الى أهلها موفورة، مسرورة.
وروي أيضاً انه استأذنت "حليمة" عليه ذات مرة فلما دخلت عليه قال: "اُمّي اُمّي"
وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه2.
أولادُ خديجة:
لا ريب في أنّ وجود الأولاد في الحياة العائليّة ممّا يقوّي أواصر الوشيجة الزوجية،
ويعمّق جذُورها، ويمنح الجوّ العائليّ بهاء، ورونقاً، وجمالاً خاصاً.
ولقد أنجبت "خديجةُ" لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ستة من الأولاد اثنين من
الذكور، أكبرُهما "القاسم" ثم "عبدُ اللّه" اللّذان كانا يُدعيان ب: "الطاهر"
و"الطيّب" واربعة من الإناث.
كتب ابن هشام يقول في هذا الصدد: أكبرُ بناته رُقيّة ثم زينب ثم اُمُّ كلثوم، ثم
فاطمة.
فأما الذكور من أولاده صلّى اللّه عليه وآله فماتوا قبل البعثة، وأما بناته فكلُّهن
أدركن الإسلام3.
ورغم أن النبي صلّى اللّه عليه وآله قد عُرف بصبره وجلده في الحوادث والنوائب فربما
انعكست احزانه القلبية في قطرات دموعه الساخنة المنحدرة على خدّيه الشريفتين في موت
أولاده.
ولقد بلغ به الحزنُ والغمُّ لموت ولده "إبراهيم" من زوجته ماريّة القبطية حداً لم
يحدث لغيره من أولاده، إلا أنّه رغم ذلك الحزن الآخذ من قلبه مأخذاً لم يفتر لسانه
عن حمد اللّه وشكره حتى أن اعرابياً اعترض عليه صلّى اللّه عليه وآله لما وجده يبكي
على ولده قائلاً: أوَلم تكن نهيت عن البكاء اجابه بقوله: "انما
هذا رحمة، ومن لا يرحَم لا يُرحم"4.
حدسٌ لا أساس له من الواقع !!
لقد كتب الدكتور هيكل في كتابه: "حياة محمّد" يقول: "لا ريب أن خديجة عند موت كل
واحد منهما (اي ولدي النبي: القاسم وعبد اللّه) في الجاهلية توجّهت إلى آلهتها
الاصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وبره"5.
إنّ هذا الكلام لا يستند إلى أي دليل تاريخي، وليس هو بالتالي إلا حدسٌ باطل،
وإدعاء فارغ ليس له من منشأ إلا ان أغلبية أهل ذلك العصر كانوا عبدة أوثان، فلا
بُدّ ان خديجة كانت على منوالهم !!
في حين ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يبغض الأصنام والأوثان من بداية
شبابه، وقد اتضح موقفُه منها أكثر في سفرته الى الشام في أموال خديجة يوم قال لمن
استحلفه باللات والعزى: "اليك عني، فما تكلَّمت العربُ بكلمةٍ أثقل عليّ من هذه".
مع ذلك كيف يمكنُ القولُ بأن امرأة لبيبة عاقلة لم يكن شدةُ حبها وشغفها بزوجها
موضع شك، أن تتوجّه عند موت ولديها إلى الاصنام التي كانت ابغض الأشياء عند زوجها،
وخاصة أن حبها لزوجها "محمّد" وبل إقدامها على الزواج منه انما كان بسبب ما كان
يتحلى به من ايمان ومعنوية، وصفات فاضلة، وملكات اخلاقية عالية، فهي قد سمعت عنه
بأنه آخر نبيّ، وأنه خاتم المرسلين، فكيف والحال هذه يمكن ان يحتمل احد انها- مع
هذا الاعتقاد- بثت شكواها وحزنها الى الاوثان والاصنام ؟؟!
دَعِيُّ رسول اللّه: زيد بن حارثة:
عند الحجر الاسود أعلن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه وآله) عن تبنيه له... ذلك هو
زيد بن حارثة.
وكان "زيدٌ" ممّن سباهُ العرب من حدود الشام، وباعُوه في أسواق مكة رقيقاً لأحد
أقرباء "خديجة" يُدعى "حكيم بن حزام"، ولكن لا يُعرف كيف انتقل إلى "خديجة" في ما
بعد ؟ يقول هيكل في كتابه "حياة محمّد" في هذا الصدد "لقد ترك موتُ ولدي رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله في نفس النبي أثراً عميقاً حتى إذا جيء بزيد بن حارثة يُباعُ
طلب الى "خديجة" أن تبتاعه ففعلت ثم اعتقه وتبناه"6.
ولكن اكثر المؤرخين يقولون: ان "حكيم بن حزام" قد اشتراه لعمته "خديجة بنت خويلد"،
وقد أحبّه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لذكائه وطهره، فوهبته "خديجة" له
عند زواجه صلّى اللّه عليه وآله منها.
ففتش عنه والدُه "حارثة" حتى عرف بمكانه في مكة، فقدمها، ودخل على النبيّ صلّى
اللّه عليه وآله، فطلب منه صلّى اللّه عليه وآله أن يأذن لزيد ليرحل معه إلى موطنه،
فدعاه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وخيّره بين المقام معه صلّى اللّه عليه
وآله والرحيل الى موطنه مع أبيه، فاختار المقام مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
لما وجد من خلقه، وحنانه، ولطفه العظيم فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وسلم ذلك اخرجه الى الحجر وأعتقه ثم تبناه على مرأى من الناس ومسمع قائلاً: "يا من
حضر اشهدوا أن زيداً ابني"7.
بدايةُ الخِلاف بين الوثنيّين:
لقد أوجدت البعثة النبويّةُ خلافاً واختلافاً كبيراً في أوساط قريش وفرّقت صفوفهم،
غير أنّ هذا الاختلاف قد وُجدت أسبابُه وعواملُه، وظهرت بوادرُه وعلائمُه قبل
البعثة المباركة.
فقد أبدى جماعةٌ من الناس في الجزيرة العربية استياءهم من دين العرب وانكروا
عقائدهم الباطلة، وطالما كانوا يتحدثون عن قرب ظهور النبي العربيّ الذي يتُّم على
يديه إحياء التوحيد.
وكان اليهود يتوعدون أهل الاصنام بالنبيّ صلّى اللّه عليه وآله ويقولون: ليخرجنَّ
نبيٌّ فليكسرن أصنامكم8.
وكتب ابن هشام يقول: كان اليهود يقولون للعرب: إنه قد تقارب زمان نبيّ يُبعث الآن
نقتلكم معه قتل عاد وارم.
وكتب يقول أيضاً: وكانت الاحبار من اليهود، والرهبان من النصارى والكهّان من العرب
قد تحدثوا بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قبل مبعثه.
هذه الكلمات تُصوِّر انقضاء عهد الوثنية في نظرهم إلى درجة أن بعض القبائل أجابت
النبيّ صلّى اللّه عليه وآله لما بُعث، ودعاهم الله، بينما احجمت اليهودُ عن
الايمان به وبرسالته وبقيت على كفرها وجحودها لنبوته التي طالما بشرت بها.
وقد نزل فيهم قولُه تعالى: (ولمّا
جاءهُم كتابٌ مِن عندِ اللّه مُصدِّقٌ لِما معهم وكانوا مِن قبلُ يستفتِحُون على
الّذين كفرُوا فلمّا جاءهم ما عرفُوا كفرُوا به فلعنةُ اللّه على الكافِرين)9-10.
أعمدةُ الوثنيّة تهتزُّ:
ولقد شهد أحدُ أعياد قريش حادثاً غريباً كان في نظر العقلاء وأصحاب الفكر الثاقب
منهم بمثابة جرس إنذار اذن باقتراب سقوط دولة الوثنيين، وإنهيار صروح الوثنيّة
وعبادة الأصنام، وانقراضها.
فقد اجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له،
ويعكفون عنده، فتنحّى أربعةٌ ممن عُرفوا بالعلم ناحية، وأخذوا يتحدّثون سرّاً،
وأخذوا ينتقدون عبادة الأوثان والأصنام، وما عليه قومهم من فساد العقيدة.
فقال بعضهم لبعض: واللّه ما قومكم على شيء، لقد اخطأوا دين أبيهم إبراهيم !! ما
حجرٌ نُطيف به لا يسمعُ ولا يبصرُ، ولا يضرُّ ولا ينفعُ، يا قوم التمسوا لأنفسكم
ديناً...
وكان هؤلاء الأربعة هم:
1- "ورقة بن نوفل" الّذي اختار النصرانية بعد أن طالع كُتُبها، واتصل بأهلها.
2- "عبيد اللّه بن جحش" الذي أسلم عند ظهور الإسلام، ثم هاجر مع المسلمين إلى
الحبشة.
3- "عثمان بن الحويرث" الذي قدم على قيصر ملك الروم، فتنصّر.
4- "زيد بن عمرو بن نفيل" الذي اعتزل الأوثان، وقال: اعبدُ رب إبراهيم11.
إن ظهور مثل هذا الاستنكار والجحد للأوثان والوثنية لا يعني أبداً أنّ دعوة رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله كانت تعقيباً لدعوة هذه الجماعة، واستمراراً لها !!
كيف يمكن أن نعتبر دعوة رسول اللّه العالمية مع ما انطوت عليه من أهداف كبرى،
واستندت اليه من معارف وأحكام لا تُحصى، ردّة فعل لمثل هذا الحادث الصغير وتعبيراً
عن مثل هذا الاستنكار المحدود؟
إن الحنيفية وهي سُنّة إبراهيم ودينه لم تكن قد مُحِيت كليّاً في الحجاز بعد أيام
بعثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بل كان هناك لا يزال بعض الأحناف (وهم الذين
كانوا على دين إبراهيم عليه السّلام) منتشرين في أنحاء الجزيرة العربية، إلا أن ذلك
لا يعني أنّهم كانوا قادرين على التظاهر بعقيدتهم بين الناس، أو قيادة حركة، أو
تربية أفراد على نهجهم، أو أن توجُّهاتهم التوحيدية كانت من القوة بحيث تستطيع أن
تكون مصدر إلهام لقيم ومعارف وتعاليم وأحكام لِشخصيّة مثل رسول الإسلام "محمّد"
صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
فلم يُنقل عن هؤلاء سوى بعض الإعتقادات المعدودة المحدودة مثل الاعتقاد بالمعاد
واليوم الآخر، وشيء بسيط من البرامج الأخلاقية، وحتى ما نقل عنهم من أبيات توحيدية
لا يمكن تأكيد انتسابها إليهم، وان لم يمكن نفي ذلك أيضاً12.
فهل يمكن والحال هذه أن نعتبر الثقافة الإسلامية العظيمة، والمعارف العقلية
العالية، والقوانين والتشريعات المفصلة، والانظمة الأخلاقية والسياسية والإقتصادية
الإسلامية، الشاملة الكاملة، كنتيجة لمتابعة اُولئك النفر المعدود من "الأحناف"
الموحدين المنتشرين في انحاء مختلفة من بلاد الحجاز الذين كانت جلُّ عقائدهم تتألف
من مجرد الاعتقاد بوجود اللّه، واليوم الآخر وقضية أو قضيتين من قضايا الأخلاق؟!
نموذج آخر عن ضعف قريش:
لم يكن يمضي على عُمر فتى قريش اكثر من خمس وثلاثين عاماً يوم واجه
إختلافاً كبيراً بين قريش، فأزال بحكمته ذلك التخاصم، ولقد كشفت هذه الحادثة عن مدى
الإحترام الذي كان فتى قريش "محمّد" يحظى به لدى قريش، كما وتكشف عن قوة اعتقادهم
بصدقه وأمانته.
واليك تفصيل هذه الحادثة:
إنحدر سيلٌ رهيب من جبال مكة المرتفعة نحو بيت اللّه المعظّم "الكعبة المقدسة" فلم
يسلم من هذا السيل بيت في مكة حتى الكعبة المعظمة، التي تصدّعت جدرانُها تصدعاً
كبيراً بفعل ذلك السيل. فعزمت
قريشٌ على بحديد تلك البنية المعظمة، ولكنها تهيّبت ذلك، وترددت في هدم الكعبة،
فأقدم "الوليد بن المغيرة" وهدم ركنين منها على شيء من الخوف، فانتظر أهلُ مكة أن
يحل به أمرٌ، ولكنهم لما رأوا "الوليد" لم يصبه غضب من الآلهة، اطمأنوا إلى أنه لم
يرتكب قبيحاً، وأنه عمل ما فيه رضى آلهتهم، فاقدمُوا جميعاً على هدم ما تبقى من
الكعبة، واتفق أن تحطّمت سفينة قادمة من "مصر" في تجارة لروميّ عند ميناء "جدة"
بفعل الرياح والعواصف، فعلمت بذلك قريش، وأرسلت رجالاً يبتاعون أخشابها ليستخدموها
في بناء الكعبة المعظمة، وأوكلوا أمر نجارتها إلى نجّار قِبطيّ محترف كان يقطن
"مكة".
ولما ارتفعت جدران الكعبة إلى قامة الرجل، وآن الأوان لوضع الحجر الأسود في محله من
الركن وقع الاختلاف بين زعماء قريش، وتنازعوا في من يتولّى وضع الحجر الاسود في
مكانه.
وتحالفت قبيلة "بني عبد الدار" مع "بني عديّ" على أن يمنعوا من أن ينال هذا الفخار
غيرُهم، وعمدوا إلى اناء مملوء بالدم فوضعوا أيديهم فيه تأكيداً لذلك الميثاق.
من هنا تأخرت عملية البناء وتوقّفت خمسة أيام بلياليها، وكاد أن تنشب بينهم حربٌ
دامية، وربما طويلة، فقد اجتمعت طوائف مختلفة من قريش في المسجد الحرام وهي تنتظر
حادثة خطيرة، فعمد- في الأخير- شيخ من شيوخ قريش يدعى "أبو اُميّة بن مغيرة
المخزومي" من زعماء قريش وقال: يا معشر قريش، إجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول
مَن يدخل من باب هذا المسجد13 يقضي
بينكم فيه، فقبلوا برأيه اجمع، فكان اول داخل عليه فتى قريش "محمّد" صلّى اللّه
عليه وآله فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمّد.
فقال صلّى اللّه عليه وآله: هلم اليّ ثوباً، فأخذ الحجر ووضعه فيه ثم قال: "لتأخذ
كلُّ قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوهُ جميع"
ففعلوا حتى إذا بلغوا في موضعه من الركن وضعه صلّى اللّه عليه وآله هو بيده مكانه،
وبهذا حال دون وقوع حوادث دامية كادت أن تقع بسبب تنازع قريش، واختلافها، وحلّ
الوفاق محل الشقاق بعد أن رضي الكلُّ بحكمه.
وإلى قضية التحكيم هذه يشير "هبيرة بن أبي وهب" في أبيات صوَّرت هذه الحادثة
التاريخية الكبرى، اذ قال:
تشاجرَتِ الأحياء في فصل خطةٍ جرت
بينهم بالنحس مِن بعد أسعد
تلاقوا بها بالبُغض بعد مودّة وأوقد
ناراً بينهم شرّ موقد
فلما رأينا الأمر قد جدّ جدُّه ولم
يبق شيء غيرُ سل المهند
رضينا وقلنا العدل أولُ طالع يجيء
من البطحاء من غير موعد
ففاجأنا هذا الامينُ محمّدٌ فقلنا
رضينا بالأمين محمّد
بخير قريش كلِها أمس شيمة وفي
اليوم مع ما يُحدثُ اللّه في غد
فجاء بأمر لم ير الناس مثلَه أعمّ
وأرضى في العواقب والبَدِ
وتلك يدٌ منهُ علينا عظيمة يروبُ
لها هذا الزمان ويعتدي14
أمينُ قريش يكفُلُ عليّاً:
أجدبت مكةُ وضواحيها سنة من السنين، وقل فيها الماء، وأصابت الناس أزمة شديدة، وكان
أبو طالب عليه السّلام كثير العيال، فعزم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على أن
يساعد عمه أبا طالب، ويخفف عنه عبء العيال، فانطلق الى عمه العباس وقال له: "إن
أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه
فلنخفّف من عياله آخذ من بنيه رجلاً وتأخذ أنت رجل".
فكفل العباسُ جعفراً، وكفل رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم علياً عليه
السّلام.
يقول أبو الفرج الاصفهاني المؤرخ المعروف في هذا الصدد: وكان رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله أخذ "علي" من أبيه وهو صغير في سنة اصابت قريشاً وقحط نالهم، وأخذ حمزة
جعفراً وأخذ العباس طالباً ليكفوا أباهم مؤونتهم ويخففوا عن ثقلهم، وأخذ هو (أي ابو
طالب) عقيلاً لميله كان اليه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "اخترتُ من
اختار اللّه لي عليكم: علي".
إن هذه الحادثة وإن كانت في ظاهرها تعني ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أقدم
على هذا الأمر ليساعِد عمّه أبا طالب في تلك الازمة، لكن الهدف الأعلى والأخير كان
أمراً آخر وهو أن: يتربّى علي عليه السّلام في حجر النبي، ويغتذي من مكارم اخلاقه
ويتبعه في كريم افعاله.
ولقد اشار الإمام عليٌّ عليه السّلام نفسُه الى هذا الموضوع بقوله:
"ولقد علِمتُم موضعِي مِن رسُول اللّه صلّى اللّه عليهوآله بالقرابَةِ القريبَة
والمنزلَةِ الخصيصة وضعني في حجره وأنا ولدٌ يضمُّني إلى صدره ويكنفُني في
فِراشِه... ولقد كُنتُ أتَّبعُهُ اتّباع الفصِل أثر امِّه يرفعُ لِي في كُلِّ يوم
مِن أخلاقِهِ علماً ويأمُرُني بالإقتداء به"15.
ايمان النبي وآبائه وكفلائه قبل الإسلام
تدلُّ الدلائل التاريخيّة، القوية، فضلاً عن الأدلة العقلية والمنطقية على أن النبي
الاكرم صلّى اللّه عليه وآله لم يعبُد غير اللّه تعالى منذ وُلِد من اُمّه، والى أن
رحل الى ربه، بل وكان كفلاؤه مثل عبد المطلب وأبي طالب مؤمنون موحِّدُون هم أيضاً.
ايمان جده عبد المطّلب:
وأما عبد المطلب كفيل النبيّ الاوَّل فلا ننسى أنه عندما قصد "أبرهة" هدم الكعبة في
جيش الفيل، نزل في جوف الليل الى الكعبة وأخذ بحلقة بابها يدعُو اللّه ويقول
مناجياً اللّه سبحانه: "اللّهم أنيس المُستوحشِين، ولا وحشة معك فالبيتُ بيتُك،
والحرم حرمك والدارُ دارُك، ونحنُ جيرانُك، انك تمنعُ عنه ما تشاء، وربّ الدّار
اُولى بالدّار".
ثم أنشأ يقول:
يا ربّ لا أرجُو لهُم سِواكا يا
ربِّ فامنع مِنهُمُو حِماكا
إن عدُوّ البيت من عاداكا إمنعهُمُو
أن يُخربوا فناكا16
وهذا يكشف بوضوح عن ايمان عبد المطلب باللّه تعالى، وتوكله عليه سبحانه، وانه كان
الرجل الموحد الذي لا يلتجئ في المصائب والمكاره إلى غير كهف اللّه، ولا يعرف الا
باب اللّه على عكس ما كانت الوثنية عليه فان قومه كانوا يستغيثون بالاصنام المنصوبة
حول الكعبة.
وممّا يدل على ايمانه ايضاً توسله لكشف غمته باللّه سبحانه فقد تتابعت على قريش
سنون جدب ذهبت بالأموال، واشرفت الانفس واجتمعت قريش لعبد المطلب، وعلوا جبل ابي
قبيس ومعهم النبي صلّى اللّه عليه وآله محّمد وهو غلام فتقدم عبد المطلب وقال: لا
هم (اي اللّهم) هؤلاء عبيدك وإماؤك وبنو امائك، وقد نزل بنا ما ترى، وتتابعت علينا
هذه السنون فذهبت بالظلف والخف والحافر، فاشرفت على الانفس فأذهِب عنا الجدب،
وائتنا بالحياء والخصب، فما برحوا حتى سالت الأودية، وفي هذه الحالة تقول رقيقة:
بشيبة الحمد اسقى اللّه بلدتنا وقد
عدمنا الحيا واجلوّذ المطر
إلى أن تقول:
مبارك الاُم يستسقى الغمام به ما
في الانام له عدل ولا خطر
والى هذه الواقعة يشير ابو طالب في قصيدة أولها:
ابونا شفيع الناس حين سقوا به من
الغيث رجاس العشير بكور
ونحن- سنين المحل- قام شفيعنا بمكة
يدعو والمياه تغور17
وقد نقل الشهرستاني هذه الواقعة في كتابه "الملل والنحل" قال: وممّا يدل على معرفته
(أي عبد المطلب) بِحال الرسالة وشرف النبوة ان اهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب
العظيم، وامسك السحاب عنهم سنتين أمر ابا طالب ابنه، ان يُحضر المصطفى محمّداً صلّى
اللّه عليه وآله فاحضره ابو طالب، وهو رضيع في قماط، فوضعه على يديه واستقبل
الكعبة، ورماه الى السماء، وقال: يا رب بحق هذا الغلام، ورماه ثانياً وثالثاً وكان
يقول: بحق هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هطلاً، فلم يلبث ساعة أن طبق
السماء وجه السماء وأمطر، حتى خافوا على المسجد، وقال ايضاً: وببركة ذلك النور كان
عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الاخلاق، وينهاهم عن
دنيات الاُمور.
وكان يقول في وصاياه: "انه لن يخرج من الدنيا ظلومٌ حتى ينتقم اللّه منه وتصيبه
عقوبة"، الى ان هلك رجل ظلوم حتف انفه لم تصبه عقوبة، فقيل لعبد المطلب في ذلك،
ففكر وقال: ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسن باحسانه ويعاقب فيها المسيء
باساءته18.
ان توسل عبد المطلب باللّه سبحانه وتوليه عن الاصنام والاوثان، والتجاءه إلى رب
الارباب آية توحيده الخالص، وايمانه باللّه وعرفانه بالرسالة الخاتمة، وقداسة
صاحبها، فلو لم يكن له الا هذه الوقائع لكفت في البرهنة على ايمانه باللّه، وتوحيده
له.
وقد اعترف المؤرخون لعبد المطلب بهذا فقد قال اليعقوبي: "ورفض عبد المطلب عبادة
الاوثان والاصنام، ووحد اللّه عزّ وجلّ ووفى بالنذر، وسنّ سنناً نزل القرآن
باكثرها، وجاءت السنة الشريفة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بها، وهي الوفاء
بالنذر، ومائة من الابل في الدية، وان لا تنكح ذاتُ محرم، ولا تؤتى البيوت من
ظهورها وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤودة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا،
والحدّ عليه، والقرعة، وان لا يطوف احد بالبيت عرياناً، واضافة الضيف وان لا ينفقوا
اذا حجوا الا من طيب اموالهم، وتعظيم الاشهر الحُرُم، ونفي ذوات الرايات19.
هذا وعن اُم أيمن "رضي اللّه عنه" قالت: كنتُ أحضن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله (اي
اقوم بتربيته وحفظه)، فغفلت عنه يوماً فلم ادر الا بعبد المطلب قائماً على رأسي
يقول "يا بركة".
قلت: لبيك.
قال: أتدرين اين وجدتُ إبني ؟
قلت: لا ادري.
قال: وجدته مع غلمان قريباً من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فان أهل الكتاب يزعمون
انه نبيّ هذه الاُمة، وأنا لا آمن عليه منهم20.
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً الا يقول عليّ بابني (اي احضروه) ويجلسه بجنبه،
وربما اقعده على فخذه، ويؤثره بأطيب طعامه.
ثم انه لما بلغ أجله اوصى إلى ابي طالب برسول اللّه وقال له: قد خلّفت في ايديكم
الشرف العظيم الذي تطؤون به رقاب الناس وقال له أيضاً:
اُوصيك يا عبد منافٍ بعدي بمفرد
بعد ابيه فرد
فارقهُ وهو ضجيع المهد فكنت
كالاُم له في الوجد
تدنيه من أحشائها والكبد فانت
من أرجى بنيَّ بعدي
لدفع ضيم أو لشدّ عقدٍ21
هذا هو عبد المطلب، وتعوذه ببيت اللّه الحرام، ومواقفه بين قومه، وكلماته في المبدأ
والمعاد وعطفه وحنانه على رسول الإسلام، واهتمامه برسالة خاتم النبيين، وهي
بمجموعها من اقوى الشواهد على توحيده، وايمانه باللّه، واعترافه برسالة الرسول
الكريم.
إيمان كفيله وعمه أبي طالب:
وهكذا كان حال كفيل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله الثاني أبي طالب عليه السّلام، فان
له مواقف بارزة وكثيرة قبل البعثة النبوية وبعدها تكشف عن عمق إيمان شيخ الاباطح،
وتوحيده.
ومن تلك المواقف استسقاؤه برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في صباه:
فقد اصاب مكة قحطٌ شديدٌ في سنة من السنين فطلبت قريش من "أبي طالب" أن يستسقي لها
فخرج ومعه غلامٌ- وهو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله- كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها
سحابة قتماء وحوله اُغيلمةٌ، فأخذه "أبو طالب" فألصق ظهره بالكعبة، ولاذ الغلام
باصبعه (أي أشار بها إلى السماء) وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من ها هنا وها
هنا، وأغدق، واغدودق وانفجر له الوادي، واخصب البادي والنادي.
ففي ذلك يقول ابو طالب- في مدح رسول اللّه-:
وابيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمالُ
اليتامى عِصمةٌ لِلأرامِلِ
يلُوذُ بِه الهُلاكُ مِن آل هاشِم فهُم
عِنده في نعمةٍ وفواضِل
وميزانُ عدل لا يخيسُ شعيرة ووزّانُ
صِدق وزنُه غير هائل22
وكل هذا يعرب عن توحيد كفيلي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الخالص، وايمانهما
باللّه تعالى، ولو لم يكن لهما إلا هذين الموقفين لكفياهما دليلاً وبرهاناً على
كونهما مؤمنين موحدِّين.
كما ان ذلك يدل ايضاً على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله نشأ وترعرع ونما في
بيتٍ كانت الديانة السائدة فيه هي توحيد اللّه، وعبادته وحده ورفض الاصنام
والاوثان.
إيمان والدي النبي الاكرم:
لقد نقلت عن عبد اللّه والد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كلمات وابيات تدل على
ايمانه ومن ذلك ما نقله اهل السير عندما عرضت فاطمة الخثعمية نفسها عليه فقال رداً
عليها:
أما الحرامُ فالمماتُ دونه والحِلّ
لا حِلّ فاستبينُه
يحمي الكريمُ عرضه ودينه فكيف
بالأمر الذي تبغينه23
وقد روي عن النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله انه قال: "لم أزل اُنقل من أصلاب
الطاهرين الى أرحام الطاهرات" ولعل فيه ايعازاً إلى طهارة آبائه وامهاته من كل دنس
وشرك24.
واما الوالدة فيكفي في اثبات ايمانها ما رواه الحفاظ عنها عند وفاتها فانها (رضي
اللّه عنها) خرجت مع النبي صلّى اللّه عليه وآله وهو ابن خمس أو ست سنين ونزلت
بالمدينة تزور أخوال جده وهم بنو عدي بن النجار ومعها ام ايمن "بركة" الحبشية،
فاقامت عندهم، وكان الرسول بعد الهجرة يذكر اموراً حدثت في مقامه ويقول: "ان اُمي
نزلت في تلك الدار، وكان قوم من اليهود يختلفون وينظرون إليّ فنظر اليّ رجلٌّ من
اليهود فقال: يا غلام ما اسمك ؟ فقلت: أحمد، فنظر الى ظهري، وسمعته يقول: هذا نبي
هذه الاُمة، ثم راح الى اخوانه فاخبرهم فخافت اُمّي عليّ فخرجنا من المدينة، فلما
كانت بالابواء توفيت ودُفنت فيها.
وروى ابو نعيم في دلائل النبوة عن اسماء بنت رهم قالت: شهدت آمنة اُمّ النبي صلّى
اللّه عليه وآله في علتها التي ماتت بها، ومحمّد عليه السّلام غلام يفع (اي يافع)
له خمس سنين عند رأسها فنظرت الى وجهه وخاطبته بقولها:
إن صحّ ما أبصرتُ في المنام فانت
مبعوثٌ الى الانام
فاللّه انهاك عن الاصنام ان
لا تواليها مع الاقوام
ثمّ قالت: كل حي ميت وكل جديد بال، وكل كبير يفنى، وانا ميتة وذكري باق وولدتُ
طهراً.
وقال الزرقاني في شرح المواهب نقلاً عن جلال الدين السيوطي تعليقاً على قولها: وهذا
القول منها صريح في انها كانت موحِّدة اذ ذكرت دين ابراهيم عليه السّلام، وبشرت
ابنها بالاسلام من عند اللّه، وهل التوحيد شيء غير هذا، فان التوحيد هو الاعتراف
باللّه وانه لا شريك له، والبراءة من عبادة الاصنام25.
ونلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى ما قاله المرحوم الشيخ المفيد في كتابه "اوائل
المقالات" في هذا الصدد:
اتفقت الإمامية على أن آباء رسول اللّه من لدن آدم إلى عبد اللّه بن عبد المطلب
مؤمنون باللّه عزّ
وجلّ موحدون له، واحتجوا في ذلك بالقرآن والاخبار قال اللّه عزّ وجلّ: "الذي يراك
حين تقوم وتقلبك في الساجدين"26.
ثمّ إن هنا سؤالين هما:
1- هل كان صلّى اللّه عليه وآله قبل البعثة مُوحِّداً ؟
2- بِماذا وبأيِّ دين كان يتعبَّد صلّى اللّه عليه وآله قبل البعثة ؟
واليك الحديث في هاتين الجهتين:
ايمان النبي باللّه وتوحيده قبل البعثة:
إن الدلائل التاريخية- بالاضافة إلى البراهين العقلية والكلامية- تدل على انه- صلّى
اللّه عليه وآله- كان قبل ان يبعثه اللّه بالإسلام، مؤمناً باللّه، موحّداً إياه،
لم يعبد وثناً قط، ولم يسجد لصنمٍ أبداً، وان ذلك من المسلمات.
وهذا الامر وان كان أمراً مسلّماً وواضحاً كوضوح الشمس إلا اننا نذكر بعض ما جاء في
التاريخ الثابت الصحيح ليقترن ذلك الاتفاق بأصح الدلائل التاريخية:
اما بغضه للأصنام وتجنبه للاوثان وما يكون من هذا القبيل فإليك بعض ما ذكره التاريخ
الصحيح في هذا المجال:
1- جاء في حديثٍ طويلٍ: ان النبي صلّى اللّه عليه وآله لما تم له ثلاث سنين قال
يوماً لوالدته (لمرضعته) حليمة السعدية: مالي لا أرى أخويَّ بالنهار، قالت له: يا
بُنيّ انّهما يرعيان غُنيمات. قال:
فما لي لا أخرج معهما، قالت له: أتحبُّ ذلك ؟ قال: نعم، فلما أصبَحَ محمّد دهّنتُه
(تقول حليمة) وكحّلته وعلّقتُ في عنقه خيطاً فيه جِزعٌ يمانيٌّ، فنزعه ثم قال
لاُمّه: "مهلاً يا امّاهُ فاِنّ معي من يحفظي"27.
2- روي ان "بحير" الراهب قال للنبي صلّى اللّه عليه وآله في سفرته الاولى مع عمّه
أبي طالب الى الشام: يا غلام اسألك بحق اللات والعزى الا أخبرتني عما اسألك، فقال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "لا
تسألنِي باللات والعُزّى فواللّه ما ابغضتُ شيئاً بغضهُم" قال الراهب: باللّه الا
أخبرتني عما أسألك عنه، قال صلّى اللّه عليه وآله: سلني عمّا بدا لك28.
3- روي أنه قد وقع بين النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وبين رجل تلاح في سفرته الثانية
الى الشام للتجارة بأموال خديجة مع غلامها "ميسرة" بعد أن باع صلّى اللّه عليه وآله
سلعته، فقال له الرجل: إحلِف باللات والعزى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:
"ما حلفتُ بهما قطُّ، وإنّي لأمُرُّ فاُعرِضُ عنهم".
وفي رواية اُخرى: "إليك عني ثكلتك امُّكُ فما تكلمت العربُ بكلمة اثقل عليّ من هذه
الكلمة". فقال
الرجل: القولُ قولك. ثم قال لميسرة: هذا واللّه نبيٌّ29.
واما عبادته للّه تعالى فقد أجمع المؤرخون على أنه صلّى اللّه عليه وآله كان يخلو
بحراء كل عام أشهراً يعبد فيه اللّه تعالى.
وقد قال الامام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السّلام في هذا المجال: "ولقد
كان يُجاورُ في كلِّ سنة بحراء، فأراه ولا يراهُ غيري"30.
حتى أن جبرئيل وافاهُ بالرسالة في ذلك المكان، وفي تلك الحال.
وقد صرّح بهذا أصحابُ الصحاح الستة أيضاً اذ قالوا: "وكان يخلو بحراء فيتحنّثُ فيه،
وهو التعبد في الليالي ذوات العدد"31.
كما ان الإمام امير المؤمنين عليه السّلام وصف هذا المقطع من حياة النبي صلّى اللّه
عليه وآله بقوله: "ولقد قرن اللّهُ به صلّى اللّه عليه وآله من لدُن أن كان فطيماً
أعظم ملك من ملائكته يسلكُ به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره"32.
وجاء في الأخبار انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حجّ قبل البعثة حجات عديدة
وكان يأتي بمناسكها على وجه صحيح بعيداً عن أعين قريش.
قال الإمامُ الصادقُ عليه السّلام: في حديث ابن أبي يعفور: "حج رسُولُ اللّه صلّى
اللّه عليه وآله عشر حجّات مُستتراً في كُلِّه"33. وفي رواية: عشرين حجة34.
والسبب في هذا الاستتار هو أن قريشاً كانت قد اسقطت بعض مناسك الحج، والعمرة، فكانت
تؤدّي الحج بصورة غير صحيحة وربما غيرت أشهر الحج احياناً لبعض الاعتبارات السياسية
والمادية، وهو ما سمي بالنسيء وقد مرّ بيانه35.
ان هذه الوقائع وغيرها- وهي ليست بقليلة اصدق دليل على إيمانه صلّى اللّه عليه
وآله، وتوحيده، اذ كيف يمكن أن يتنكَّب مثل هذه الشخصية التي نشأت وترعرعت في ذلك
البيت الطاهر، وقرن اللّه به ملكاً يتولاه بالتربية والهداية عن جادة التوحيد.
ثم أن ممّا لا ريب فيه أن الرسول الخاتم صلّى اللّه عليه وآله هو أفضل من جميع
الأنبياء والمرسلين بنص القرآن الكريم.وقد صرح القرآن بان بعض الانبياء بلغوا درجة
النبوة في الصغر، أو الصبا، ونزلت عليهم الكتب في تلك الفترات. فمثلاً
يقول القرآن الكريم عن يحيى بن زكريا: "يا يحيى خُذ الكِتاب بقوّة وآتيناهُ الحُكم
صبِيّ"36.
ثمّ يقول عن "عيسى بن مريم" عندما كان في المهد وكان وجوه القوم من بني اسرائيل قد
استنكروا ولادته من غير أب، وطلبوا من "مريم البتول" ان توضح لهم الامر، وتبيّن لهم
كيف حملت بعيسى ؟!! فأشارت الى المسيح عليه السّلام أن كلِّموه وهو آنذاك في المهد
لم يمض على ولادته سوى أيام معدودات، فنطق المسيح بفصاحة كبيرة وقال: ﴿قَالَ
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
مَا دُمْتُ حَيًّا﴾37.
لقد بيّن وليد "مريم" للناس اُصول دينه وفُروعه في فترة الطفولة والرضاعة، وأعلن
لهم عن توحيده وايمانه باللّه سبحانه.فهل يرضى ضميرك أيها القارئ الكريم أن يكون
"يحيى" و"المسيح" عليهما السّلام مؤمنين معلنين عن توحيدهما، وإيمانهما منذ
طفولتهما، وصباهما، ويكون أفضل الأنبياء والمرسلين، وأشرف الخلق أجمعين إلى سِنّ
الأربعين على غير إيمان، وتوحيد، مع أنه صلّى اللّه عليه وآله كان مشتغلاً بالتعبّد
في جبل "حراء" عند نزول ملاك الوحي عليه لأول مرة ؟
واليك بعض ما قاله المؤرخون، والعلماء في هذا المجال استكمالاً لهذا المبحث: قال
ابن هشام: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من
جاءه من المساكين فاذا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله جواره من شهره ذلك كان
أول ما يبدأ به اذا انصرف من جواره الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوفُ به سبعاً أو
ما شاء اللّه من ذلك، ثم يرجع الى بيته حتى اذا كان الشهر الذي أراد اللّه تعالى به
فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه اللّه تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان،
خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الى "حراء" كما كان يخرج لجواره ومعه اهله حتى
اذا كانت الليلة التي اكرمه اللّه فيها برسالته ورحم العباد بها جاءه جبرئيل عليه
السّلام بامر اللّه تعالى38.
وقال العلامة المجلسي: قد ورد أخبار كثيرة انه صلّى اللّه عليه وآله كان يطوف، وانه
كان يعبد اللّه في حراء، وانه كان يراعي الآداب المنقولة من التسمية والتحميد عند
الاكل وغيره، وكيف يجوّز ذو مسكة من العقل على اللّه تعالى ان يهمل افضل انبيائه
اربعين سنة بغير عبادة ؟ والمكابرة في ذلك سفسطة.
فايمان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وتوحيده قبل البعثة، اذن، أمرٌ مسلمٌ لا
شبهة فيه، ولا غبار عليه.
ولكن بعض الكُتاب من المسيحيين ومن تبعهم، من المستشرقين وغيرهم، أبوا إلا أن
ينتقصوا النبيّ الاكرم صلّى اللّه عليه وآله فادّعوا ضلالَهُ قبل البعثة، وإنه كان
على غير إيمان، أو توحيد، واستدلّوا لزعمهم الباطل هذا بما توهّموا أنه يدلّ على
دعواهم من الآيات القرآنية، وأبرزها الآيات التالية:
1- ﴿ألم
يجدكَ يتيماً فآوى. ووجدك ضالاً فهدى﴾39.
2- ﴿وثيابَك
فطهِّر. والرُّجز فاهجُر﴾40.
3- ﴿وكذلِك
أوحينا إليك رُوحاً مِن أمرنا ما كُنتَ تدري ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولكِن
جعلناهُ نُوراً نهدي بهِ من نشاء مِن عِبادنا وإنّك لتهدي إلى صِراط مستقيم﴾41.
4- ﴿قُل
لو شاء اللّه ما تلوتُه عليكُم ولا أدريكُم بهِ فقد لبِثتُ فِيكُم عُمراً مِن قبله
أفلا تعقِلُون﴾42.
5- ﴿وما
كُنت ترجُو أن يُلقى إليك الكِتابُ إلا رحمَة مِن ربِّك﴾2015-12-01