أسلاف رسول الإسلام صلّى اللّه عليه وآله
سيد المرسلين
إن الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليل عليه السَّلام هو التعريف بأجداد النبيّ محمَّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأسلافه، لانتهاء نسبه الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السّلام،
عدد الزوار: 96
1 -بطل التوحيد :إبراهيم الخليل عليه السَّلام
إن الهدف من استعراض حياة النبيّ العظيم إبراهيم الخليل عليه السَّلام
هو التعريف بأجداد النبيّ محمَّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأسلافه، لانتهاء نسبه
الشريف إلى النبيّ إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السّلام، وحيث ان لهاتين
الشخصيتين العظيمتين وبعض أسلاف النبيّ العظام نصيباً هاماً في تاريخ العرب
والإسلام، لهذا ينبغي الحديث عن أحوالهم بصورة مختصرة، خاصّة أنَّ حوادث التاريخ
الإسلامي ترتبط ارتباطاً كاملاً - كحلقات سلسلة واحدة - بالحوادث السابقة، او
المقارنة لبزوغ الإسلام.
فعلى سبيل المثال تُعتَبر كفالة "عبد المطلب" لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وحمايته له، وجهود "ابي طالب" ودفاعه الطويل عن النبيّ، وعظمة الهاشميين وسموّ
مقامهم واخلافهم، وجذور معاداة الأمويين لهم، الاسس والقواعد الموضوعية لحوادث
التاريخ الإسلامي، ولهذا كان لا بدّ من تخصيص فصل كامل في التاريخ الإسلامي لهذه
الابحاث.
إنّ في حياة حامل راية التوحيد النبيّ "إبراهيم الخليل" عليه السَّلام نقاطاً مشرقة
وبارزة جداً.
فجهاده العظيم في سبيل ارساء قواعد التوحيد واقتلاع جذور الوثنية ممّا لا ينسى.
وهكذا حواره اللطيف والزاخر بالمعاني مع عبَدة النجوم والكواكب في عصره والذي ذكره
القرآن الكريم لمعرفتنا، افضل واسمى درس توحيدي لطلاب الحقيقة وبغاة الحق.
مولد إبراهيم
لقد وُلدَ بطلُ التوحيد في بيئةٍ مظلمة كانت تسربلها ظلمات الوثنية، وعبادة البشر...
في بيئة كان الإنسان فيها يخضع لأصنام نحتها بيديه، كما يخضع لكواكب ونجوم.
ولقد وُلد حامل لواء التوحيد : "إبراهيم الخليل" عليه السّلام في "بابل" الذي
يعدّها المؤرخون إحدى عجائب الدنيا السبع، ويذكرون حولها قصصاً واُموراً كثيرة تنبئ
عن عظمتها وأهمية حضارتها، فيقول "هيرودتس" المؤرخ المعروف - مثلاً - : لقد كانت
بابل بنية بشكل مربَّع طول كل ضلع من اضلاعه الاربعة 120 فرسخاً ومحيطه 480 فرسخاً1.
إنَّ هذا الكلام مهما كان مبالغاً فيه إلا أنه على كل حال يكشف عن حقيقة لا تقبل
الإنكار، إذا ما ضُمّ إلى ما كتبه الآخرون عن تلك المدينة التاريخية.
غير اننا لا نرى من تلك المدينة اليوم ومن مناظرها الجميلة، وقصورها الرائعة، إلا
تلاً من التراب في منطقة بين "دجلة" و"الفرات"، فالموت يخيّم على كل تلك المنطقة،
اللّهم الا عندما يكسر علماء الآثار بتنقيباتهم جدار الصمت أحياناً، بحثاً عن آثار
تلك المدينة، ويستخرجون بقاياها الموقوف على معالم من حضارة اصحابها وسكانها.
لقد فتح رائد التوحيد ومُرسي اركانه "إبراهيم الخليل" عليه السَّلام عينيه في دولة
"نمرود بن كنعان".
وكان نمرود هذا رغم أنه يعبدُ الصنم يدّعي الألوهيّة ويأمر الناس بعبادته.
وقد يبدو هذا الامر عجيباً جداً فكيف يمكن ان يكون الشخص عابد صنم ومع ذلك يدّعي
الاُلوهية في الوقت نفسه، إلا أن القرآن الكريم يذكر لنا نظير هذه المسألة في شأن "فرعون
مصر"، وذلك عندما هزّ النبي موسى بن عمران عليه السّلام قواعد العرش الفرعوني
بمنطقه القويّ، وحجته الصاعقة، فاعترض أنصار فرعون وملأه على هذا الأمر، وخاطبوا
فرعون بلهجة معترضة قائلين : ﴿أتذرُ
موسى وقومه لِيُفسِدوا في الأرض ويذرك وآلهتك﴾2.
ومن الواضح جدّاً أن "فرعون" كان يدعي الالوهية فهو الذي كان يقول : ﴿أنا
ربُّكُم الأعلى﴾3 وهو
القائل : ﴿ما
علِمت لكُم مِن الهٍ غيري﴾4 ولكنه
كان في الوقت نفسه عابد صنم ووثنياً.
بيد أنّ هذه الازدواجية ليست بأمر غريبٍ عند الوثنيين، ولا يمنع مانع في منطقهم أن
يكون الشخصُ نفسه وثنياً يعبد الصنم، ومع ذلك يدَّعي أنه الهٌ ويدعو الناس إلى
عبادته فيكون الهاً معبوداً، يعبد الهاً أعلى منه، لأن المقصود من المعبود والاله
ليس هو خالق الكون بل هو من يتفوَّق على الآخرين بنحو من أنحاء التفوق ويمتلك زمام
حياتهم بشكل من الإشكال.
هذا والتاريخ يحدثنا أن العوائد في بلاد الروم كانت تعبد كبارها ومع ذلك كان اولئك
الكبار المعبودين انفسهم يتخذون لأنفسهم معبوداً أو معبودات اُخرى.
إن أكبر وسيلة توسَّل بها "نمرودُ" في هذا السبيل هو استقطاب جماعة من الكهنة
والمنجمين الذين كانوا يُعدّون الطبقة العالمة والمثقَّفة في ذلك العصر.
فقد كان خضوعُ هذه الطبقة يمهّد لاستعمار الطبقة المنحطة وغير الواعية من الناس.
هذا مضافاً إلى أنه كان يُناصر "نمرود" بعضُ من ينتسب إلى "الخليل" عليه السّلام
بوشيجة القربى مثل "آزر" الذي كان يصنع التماثيل، وكان عارفاً بأحوال النجوم والفلك
أيضاً، وكان هذا هو الآخر أحد العراقيل التي كانت تمنع الخليل من انجاح مهمته، لأنه
مضافاً إلى مخالفة الرأي العام له، كان يواجه مخالفة أقاربه ايضاً.
لقد كان نمرود غارقاً في عالم خيالي عندما دق المنجمون فجأة أول ناقوس للخطر وقالوا
له : سوف تنهار حكومتُك، ويتهاوى عرشك وسلطانك على يد رجل يولد في تلك البيئة،
الأمر الذي أيقظ أفكاره النائمة، فتساءل من فوره : وهل وُلد هذا الرجل ؟ فقيل له :
لا، انه لم يولد بعد. فأمر من فوره بعزل الرجال عن النساء وذلك في الليلة التي
انعقدت فيها نطفة ابراهيم الخليل عليه السّلام عدو نمرود، وهادم ملكه، ومزيل سلطانه
وهي الليلة التي حددها وتكهن بها المنجمون والكهنة من انصار نمرود ومع ذلك كان
جلاوزة "نمرود" يقتلون كل وليد ذكر، وكان على القوابل ان يسجِّلن اسماء المواليد في
مكتبه الخاص.
ولقد اتفق أن انعقدت نطفةُ "الخليل" في نفس الليلة التي منع فيها أي لقاء جنسي بين
الرجال، وازواجهم.
لقد حملت اُم إبراهيم به كما حلمت اُم موسى به، وامضت فترة حملها في خفاء وتستر، ثم
لجأت بعد وضع وليدها العزيز الى غار بجبل على مقربة من المدينة حفاظاً عليه، وراحت
تتفقده بين حين وآخر من الليل والنهار، قدر المستطاع.
وقد أرضى هذا الاسلوبُ الظالمُ "نمروداً" وأراح باله بمرور الزمن، اذ أيقن بانه قد
قضى به على عدو عرشه، وهادم سلطانه، وتخلص منه.
لقد قضى "إبراهيم" عليه السَّلام ثلاثة عشر عاماً في ذلك الغار الذي كان يتصل
بالعالم الخارجي عبر باب ضيّق، ثم أخرجته اُمه من ذلك الغار بعد ثلاثة عشر عاماً،
ودخل "إبراهيم" في المجتمع، فاستغرب المجتمع النمرودي وجوده وانكروه5.
لقد خرج "إبراهيم" من الغار، مؤمناً باللّه بفطرته، وقوّى توحيده الفطري، بمشاهدة
الأرض والسماء، والنظر في سطوع الكواكب والنجوم والتأمل في ما يجري في عالم النبات
من نمو وحركة إلى غير ذلك ممّا يجري في عالم الطبيعة العجيب.
لقد واجه إبراهيم عليه السَّلام بعد خروجه من الغار جماعة من الناس بهرتهم أحوال
الكواكب وعظمة أمرها، ففقدوا عقولهم تجاه هذه الظاهرة، كما راى جماعةٌ اُخرى أحطّ
فكريّاً من سابقتها يعبدون اصناماً منحوتة، بل واجه ما هو اسوأ بكثير من أعضاء
الطوائف والجماعات الضالة اذ رأى رجلاً يستغل جهل الناس وغبائهم ويدعي الالوهية
ويفرض عليهم عبادته والخضوع له !!
لقد كان إبراهيم عليه السّلام يرى أنّ عليه أن يهيّئ نفسه لخوض المعركة في هذه
الجبهات الثلاث المختلفة، وقد نقل القرآن الكريم قصة نضال النبيّ "إبراهيم" عليه
السّلام في هذه الاصعدة والجبهات الثلاث وسننقل لك في ما يأتي وباختصار ما ذكره
القرآن في هذا المجال.
إبراهيم ومكافحته للوثنية
كانت ظلمات الوثنية قد خيّمت على منطقة بابل موضع ولادة الخليل برمتها.
فالآلهة المدَّعاة، والمعبودات السماوية والارضية الباطلة قد سحرت عقول مختلف فئات
الشعب، فبعضها في نظرهم هي أرباب القدرة والسلطة، وبعضها الآخر وسيلة الزلفى
والتقرب الى اللّه إلى غير ذلك من التصورات السخيفة في هذا الصعيد.
وحيث أن طريقة الأنبياء في هداية البشرية وارشادهم هي الاستدلال بالبراهين،
والاحتجاج بالمنطق، لانهم إنما يتعاملون مع قلوب الناس وعقولهم، ويبتغون ايجاد
حكومة تقوم على أساس الإيمان واليقين، ومثل هذه الحكومة لا يمكن اقامتها بالسيف او
بالنار والحديد. لهذا يبدأون حركتهم بالتوعية الفكرية.
إن علينا أن نفرق بين الحكومات التي يريد الأنبياء تأسيسها، وحكومة الفراعنة
والنماردة.
ان هدف الطائفة الثانية هو : الرئاسة والزعامة، والحفاظ عليها بكل وسيلة ممكنة في
حياتهم، وإن تلاشت وتهاوت من بعدهم.
ولكن الانبياء والرسل يريدون حكومة تبقى قائمة في جميع الحالات وماثلة في جميع
الاوقات، في الخلوة والجلوة، في وقت الضعف، وفي وقت القوة، في حياتهم وبعد مماتهم...
انهم يريدون أن يحكموا على القلوب لا على الابدان، وهذا الهدف لا يتحقق ابداً عن
طريق القوة واستخدام العنف والقهر !! انما يتحقق عن طريق الحجة والبرهان.
لقد بدأ النبيُ "إبراهيم" عملَه بمكافحة ما كان عليه أقرباؤه الذين كان في طليعتهم
وعلى رأسهم "آزر" وهو الوثنية وعبادة الاصنام، ولكنه لم ينته من هذه المعركة ولم
يحرز إنتصاراً كاملاً في هذه الجبهة بعد إلا وواجه عليه السّلام جبهة اُخرى، وكانت
هذه الجماعة أعلى مستوى من افراد الجماعة السابقة في الفهم والثقافة. لان هذه
الجماعة - على خلاف أقرباء إبراهيم قد نبذت عبادة الأوثان والأصنام6،
والمعبودات الارضية الحقيرة، وتوجهت بعبادتها وتقديسها الى الكواكب والنجوم
والاجرام السماوية.
ولقد بيَّن "الخليل" عليه السَّلام في حواره العقائدي مع عُبّاد الاجرام السماوية،
ومكافحته لمعتقداتهم الفاسدة، سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية التي لم يصل
إليها الفكر البشري يومذاك، وذلك ببيان بسيط مدعوم بأدلة لا تزال الى اليوم موضع
اعجاب كبار العلماء، ورواد الفلسفة والكلام.
والأهم من ذلك - في هذا المجال - أن القرآن الكريم نقل أدلة "إبراهيم الخليل" عليه
السّلام باهتمام خاص وعناية بالغة ولهذا ينبغي لنا أن نتوقف عندها قليلاً، وهذا ما
سنفعله في هذه الصفحات.
حوار الخليل مع عبدة الكواكب
ذات ليلة وقف إبراهيم عليه السّلام عند ابتداء مغيب الشمس يتطلع في السماء - وهو
ينوي هداية الناس - وبقي ينظر الى النجوم والكواكب من أول الغروب من تلك الليلة الى
الغروب من الليلة التالية، وخلال هذه الساعات الاربع والعشرين حاور وجادل ثلاث فرق،
من عبدة النجوم وابطل عقيدة كل فرقة منها بأدلة محكمة، وبراهين متقنة قوية.
فعندما أقبل الليلُ وخيّم الظلام على كل مكان وهو يخفي كل مظاهر الوجود ومعالمه في
عالم الطبيعة ظهر كوكبُ "الزُهرة" من جانب الاُفق وهو يتلألأ. فقال إبراهيم لِعباد
هذا الكوكب - وهو يتظاهر بموافقتهم جلباً لهم، ومقدمة للدخول معهم في حوار - : "هذا
ربي".
وعندما افل ذلك الكوكب وغاب عن الانظار قال : "لا احب الآفلين".
وبمثل هذا المنطق الجميل أبطل عقيدة عبدة الزهرة، واظهر خواءها وفسادها.
ثمّ إنه عليه السّلام نظر الى كوكب القمر المنير الذي يسحر القلوب بنوره وضوئه،
فقال - متظاهراً بموافقة عبدة القمر - : "هذا ربي" ثم ردّ باسلوب منطقي محكم تلك
العقيدة أيضاً، عندما امتدت يد القدرة المطلقة ولملمت أشعة القمر من عالم الطبيعة،
وعندما إتخذ ابراهيم عليه السّلام هيئة الباحث عن الحقيقة ومن دون أن يصدم تلك
الفرق المشركة ويجرح مشاعرها اذ قال :﴿لَئن
لم يهدِني ربِّي لأكُوننّ مِن القوم الظالين﴾7 لأن
القمر قد أفل أيضاً كما أفل سابقُه فهو كغيره أسير نظام عُلويٍّ لا يتخلف، وما كان
كذلك لا يمكن ان يُعدَّ رباً يُعبد، ويتوجه اليه بالتقديس والتضرع.
ولما ولّى الليل وأدبر، واكتسحت الشمس الوضاءة باشعتها حجب الظلام، وبثت خيوطها
الذهبية على الوهاد والسهول، والتفت عبدَة الشمس الى معبودهم، تظاهر ابراهيم
بالاقرار بربوبيتها اتباعاً لقواعد الجدل والمناظرة ولكن افول الشمس وغروبها اثبت
هو الآخر بطلان عبادتها ايضاً بعد أن اثبت خضوعها للنظام الكوني العام، فتبرأ "الخليل"
عليه السّلام من عبادتها بصراحة.
وعندئذ أعرض عليه السّلام عن تلك الطوائف الثلاث وقال :﴿إنّي
وجَّهتُ وجهي للّذي فطر السَّماواتِ والأرض حنِيفاً وما أنا مِن المُشركين﴾8.
لقد كان المخاطبون في كلام إبراهيم عليه السّلام هم الذين يعتقدون بأن تدبير
الكائنات الارضية، ومنها الانسان، قد انيطت إلى الاجرام السماوية وفوضت اليها !!
وهذا الكلام يفيد أن الخليل عليه السّلام لم يقصد المطالب
الثلاث التالية
1 - اثبات الصانع الخالق.
2 - توحيد الذات وأنه واحد غير متعدد.
3 - التوحيد في الخالقية، وأنه لا خالق سواه.
بل كان تركيزه عليه السّلام على التوحيد في "الربوبية" و"التدبير" وادارة الكون،
وانه لا مدبّر ولا مربي للموجودات الأرضية إلا اللّه سبحانه وتعالى، ومن هنا فانه
عليه السّلام فور إبطاله لربوبية الاجرام السماوية قال : "وجّهتُ وجهِي للّذي فطر
السماواتِ والأرض..." وهو يعني ان خالق السماوات والأرض هو نفسه مدبرها وربُها،
وانه لم يفوّض أي شيء من تدبير الكون، - لا كله ولا بعضه - الى الاجرام السماوية،
فتكون النتيجة : أن الخالق والمدبر واحد لا أن الخالق هو اللّه والمدبر شيء آخر.
ولقد وقع المفسرون، والباحثون في معارف القرآن في خطأ، والتباس عند التعرض لمنطق "إبراهيم"
عليه السّلام وشرح حواره هذا، حيث تصوروا أن الخليل عليه السّلام قصد نفي "اُلوهية"
هذه الأجرام يعني الالوهية التي تعتقد بها جميع شعوب الأرض ويكون هذا الكون الصاخِب
آية وجوده.
بينما تصوّر فريق آخر ان "إبراهيم" كان يقصد نفي "الخالقية" عن هذه الأجرام
السماوية، لأنه من الممكن ان يخلق إله العالم كائناً كامل الوجود والصفات ثم يفوض
اليه مقام الخالقية في حين أن هذين التفسيرين غير صحيحين، بل كان هدف الخليل عليه
السّلام - بعد التسليم بوجود اله واجب الوجود، وتوحيده، ووحدانية الخالق - البحث في
قسم آخر من التوحيد، الا وهو التوحيد "الربوبي"، وبالتالي اثبات أن خالق الكون هو
نفسُه مدبر ذلك الكون أيضاً، وعبارة : "وجّهتُ وجهِي..." أفضل شاهد على هذا النوع
من التفسير.
من هنا كان التركيز الأكبر في بحث ابراهيم على مسألة "الربّ" و"الربوبية" في صعيد
الاجرام كالقمر والزهرة والشمس9.
هذا واستكمالاً للبحث الحاضر لابدَّ من توضيح برهان النبيّ "ابراهيم" عليه السّلام.
لقد استدل "ابراهيم" في جميع المراحل الثلاث باُفول هذه الاجرام على أنها لا تليق
بتدبير الظواهر الارضية وبخاصة الإنسان.
وهنا ينطرح سؤال :لماذا يُعتبر اُفول هذه الاجرام شاهداً على عدم مدبِّريتها ؟
إن هذا الموضوع يمكن بيانُه بصور مختلفة، كل واحدة منها تناسب طائفة معينة من الناس.
ان تفسير منطق "الخليل" عليه السّلام واسلوبه في إبطال مدبِّرية الاجرام السماوية
وربوبيّتها بأشكال وصور مختلفة أفضل شاهد على أن للقرآن الكريم أبعاداً مختلفة وأن
كل بُعدٍ منها يناسب طائفة من الناس.
واليك ما يلي التفاسير المختلفة لهذا الاستدلال
الف :إن
الهدف من اتخاذ الربّ هو أن يستطيع الكائن الضعيف في ظل قدرة ذلك الرب من الوصول
الى مرحلة الكمال ولابدّ ان يكون لمثل هذا الربّ ارتباطٌ قريب مع الموجودات المراد
تربيتها بحيث يكون واقفاً على أحوالها، غير منفصل عنها، ولا غريب عليها.
ولكن كيف يستطيع الكائن الذي يغيب ساعات كثيرة عن الفرد المحتاج اليه في التربية
ويُحرم ذلك الفرد من فيضه وبركته، ان يكون رباً للموجودات الأرضية ومدبراً لها ؟!
من هنا يكون اُفول النجم، وغروبه، الذي هو علامة غربته وانقطاعه عن الموجودات
الارضية خير شاهد على أن للموجودات الأرضية ربّاً آخر، منزهاً عن تلك النقيصة عارياً
عن ذلك العيب.
باء :انّ
طلوع الأجرام السماوية وغروبها وحركتها المنظمة دليل على أنها جميعاً خاضعة لمشيئة
فوقها، وانها في قبضة القوانين الحاكمة عليها، والخضوع لقوانين منظمة هو بذاته دليل
على ضعف تلك الموجودات، ومثل هذه الموجودات الضعيفة لا يمكن أن تكون حاكمة على
الكون، أو شيء من الظواهر الطبيعية، وأما استفادة الموجودات الارضية من نور تلك
الأجرام وضوئها فلا يدل أبداً على ربوبية تلك الأجرام، بل هو دليل على أن تلك
الأجرام تؤدّي وظيفة تجاه الموجودات الأرضية بأمر من موجود أعلى.
وبعبارة اُخرى :إن هذا الأمر دليل على التناسق
الكوني، وارتباط الكائنات بعضها ببعض.
جيم :ما
هو الهدف من حركة هذه الموجودات ؟ هل الهدف هو أن تسير من النقص إلى الكمال أو
بالعكس ؟
وحيث أن الصورة الثانية غير معقولة، وعلى فرض تصورها لا معنى لأن يسير المربّي
والمدبر للكون من مرحلة الكمال الى النقص والفناء، يبقى الفرضُ الاول وهو بنفسه
دليل على وجود مربٍّ آخر يوصل هذه الموجودات القوية في ظاهرها من مرحلة الى مرحلة،
هو - في الحقيقة - الربُّ الذي يبلغ بهذه الموجودات وما دونها إلى الكمال.
طريقة الأنبياء في الحوار والجدال
لقد اسلفنا في ما سبق أن "ابراهيم" - بعد خروجه من الغار
- واجه صنفين منحرفين عن جادة التوحيد هما
1 - الوثنيون.
2 - عبدة الاجرام السماوية.
ولقد سمعنا حوار "ابراهيم" عليه السّلام وجداله مع الفريق الثاني، وعلينا الآن أن
نعرف كيف حاور الوثنيين وعبدة الاصنام ؟
إن تاريخ الانبياء والرسل يكشف لنا عن أنهم كانوا يبدأون دعوتهم من انذار الاقربين
ثم يوسعون دائرة الدعوة لتشمل عامة الناس كما فعل رسول الإسلام في بدء دعوته حيث
بدأ بانذار عشيرته الاقربين لما امره اللّه تعالى بذلك اذ قال : ﴿وأنذِر
عشيرَتك الأقربين﴾10. وبذلك
أسّس دعوته على إصلاح اقربائه وعشيرته.
ولقد سلك "الخليل" عليه السّلام نفس هذا المسلك أيضاً إذ بدأ عمله الاصلاحي باصلاح
اقربائه.
ولقد كان لآزر بين قومه مكانة اجتماعية عليا فهو - مضافاً إلى معلوماته في الصناعة
وغيرها - كان منجماً ماهراً، وذا كلمة مسموعة ورأي مقبول في بلاط "نمرود" في كل ما
يخبر به من أخبار النجوم، وكل ما يستخرجه وما يستنبطه من الامور الفلكية ويذكره من
تكهنات.
لقد ادرك "ابراهيم" ان بجلبه لآزر عمّه يستطيع ان يسيطر على اوساط الوثنيين،
ويجردهم من ركيزة هامة من كبريات ركائزهم، ولهذا بادر الى منع عمّه آزر - وبافضل
الاساليب - عن عبادة الاوثان، بيد أن بعض الأسباب أوجبت أن لا يقبل "آزر" بنصائح "ابراهيم"
عليه السّلام، والمهم لنا في هذا المجال هو ان نتعرف على كيفية دعوة الخليل وعلى
اسلوب حواره مع "آزر".
ان الامعان في الآيات التي تنقل حوار "ابراهيم" عليه السّلام مع "آزر" توضح لنا أدب
الانبياء، واسلوبهم الرائع في الدعوة والارشاد، ولنقف عند حوار ابراهيم ودعوته،
ليتضح لنا ذلك.
يقول القرآن الكريم عن ذلك :إذ قال لأبيهِ يا أبتِ لِم تعبُد ما لا يسمعُ ولا يُبصر
ولا يُغني عنك شيئاً. يا أبتِ إنِّي قد جائني مِن العِلم ما لم يأتِك فاتّبعني
أهدِك صِراطاً سوياً. يا ابتِ لا تعبُد الشيطان إن الشّيطان كان لِلرّحمن عصِيّاً.
يا أبت إنّي اخافُ أن يمسَّك عذابٌ مِن الرَّحمن فتكُون لِلشّيطان وليّاً.
فاجابه "آزر" قائلاً :أراغبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيمُ لئن لم تنته لأرجُمنَّك
واهجُرني مليّاً.
ولكن "ابراهيم" بسعة صدره وعظمة روحه تجاهل رد "آزر" العنيف ذلك وأجابه قائلاً :﴿سلامٌ
عليك سأستغفِرُ لك ربِّي﴾11.
وأيّ جواب أفضلُ مِن هذا البيان وأيُّ لُغة أليَن مِن هذه اللغة واحبّ الى القلب،
واكثر رحمة ولطفاً.
هل كان آزر والدَ إبراهيم ؟
ان الظاهر من الآيات المذكورة وكذا الآية 115 من سورة "التوبة" والآية 14 من سورة
الممتحنة هو : أنّ "آزر" كان والد إبراهيم عليه السّلام.
وقد كان إبراهيم يسميه أباً في حين كان "آزر" وثنياً، فكيف يصح ذلك وقد اتفقت كلمة
علماء الشيعة عامة على كون والد النبيّ الكريم "محمّد" صلّى اللّه عليه وآله وسلّم
وجميع الأنبياء مؤمنين باللّه سبحان موحدين اياه تعالى.
ولقد ذكر الشيخ المفيد رضوان اللّه عليه في كتابه القيم "أوائل المقالات"12 ان
هذا الامر هو موضع اتفاق علماء الشيعة الامامية كافة بل وافقهم في ذلك كثير من
علماء السنة ايضاً.
وفي هذه الصورة ما هو الموقف من ظواهر الآيات المذكورة التي تفيد اُبوّة "آزر"
لإبراهيم، وما هو الحل الصحيح لهذه المشكلة ؟؟
يذهب أكثر المفسّرين إلى أن لفظة "الأب" وان كانت تُستعمل عادة في لغة العرب في
"الوالد"، إلا أن مورد استعمالها لا ينحصر في ذلك.
بل ربما استعملت - في لغة العرب وكذا في مصطلح القرآن الكريم - في : العمّ أيضاً.
كما وقع ذلك في الآية التالية التي استعملت فيها لفظة الأب بمعنى العم اذ يقول
سبحانه :إذ قالَ لِبنيه ما تعبُدون مِن بعدي قالُوا نعبُد إلهك وإله آبائك إبراهيم
واسماعيل وإسحاق إلهاً واحِداً ونحن لهُ مسلمون13.
فإنّ ممّا لا ريب فيه أن "اسماعيل" كان عماً ليعقوب لا والداً له، فيعقوب هو ابن
اسحاق، واسحاق هو أخو اسماعيل.
ومع ذلك سمّى أولادُ يعقوب "اسماعيل" الذي كان عمَّهم أباً.
ومع وجود هذين الاستعمالين استعمال الاب في الوالد تارة، وفي العم تارة اُخرى يصبح
احتمال كون المراد بالاب في الآيات المرتبطة بهداية "آزر" هو العمّ أمراً وارداً،
وبخاصة إذا ضممنا الى ذلك قرينة قوية في المقام وهي : اجماع العلماء الذي نقله
المفيد رحمه اللّه على طهارة آباء الانبياء واجدادهم من رجس الشرك والوثنية.
ولعل السبب في تسمية النبي "ابراهيم" عمّه بالأب هو أنه كان الكافل لابراهيم ردحاً
من الزمن، ومن هنا كان "ابراهيم" ينظر اليه بنظر الأب، وينزله منزلة الوالد.
القرآن ينفي اُبوّة "آزر" لإبراهيم
ولكي نعرف رأي القرآن الكريم في مسألة العلاقة بين "آزر"
و"ابراهيم" عليه السّلام نلفت نظر القارئ الكريم الى توضيح آيتين
1 - لقد أشرقت منطقةُ الحجاز بنور الايمان والإسلام بفضل جهود النبيّ "محمَّد" صلّى
اللّه عليه وآله وسلّم وتضحياته الكبرى، وآمن اكثر الناس به عن رغبة ورضا، وعلموا
بأن عاقبة الشرك، وعبادة الاوثان والاصنام هو الجحيم والعذاب الاليم.
إلا أنهم رغم ابتهاجهم وسرورهم بما وُفقوا له من إيمان وهداية، كانت ذكريات آبائهم
واُمهاتهم الذين مضوا على الشرك والوثنية تزعج خواطرهم وتثير شفقتهم، واسفهم.
وكان سماع الآيات التي تشرح أحوال المشركين في يوم القيامة يحزنهم ويؤلمهم، وبغية
ازالة هذا الالم الروحي المجهد طلبوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يستغفر
لآبائهم واُمهاتهم كما فعل "إبراهيم" في شأن "آزر" فنزلت الآية في مقام الرد على
طلبهم ذاك، اذ قال سبحانه :﴿ما كان
لِلنَّبيِّ والَّذين آمنوا أن يستغفِروا لِلمُشركين ولو كانُوا اُولي قربى مِن بعد
ما تبيَّن لهُم أنَّهُم أصحاب الجحيم. وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا عن
موعِدَة وعدها إيّاهُ فلمّا تبيّن لهُ أنَّه عدُوٌ للّه تبرَّأ مِنه إنّ إبراهيم
لأوّاهٌ حليم﴾ٌ14.
إنَّ ثمت قرائن كثيرة تدل على أنّ محادثة النبيّ "إبراهيم" وحواره مع "آزر" ووعده
بطلب المغفرة له من اللّه سبحانه قد انتهى إلى قطع العلاقات، والتبرّي منه في عهد
فتوَّة "إبراهيم"، وشبابه، أي عندما كان "إبراهيم" لا يزال في مسقط رأسه "بابل" ولم
يتوجه بعد الى فلسطين ومصر وأرض الحجاز.
إننا نستنتج من هذه الآية أن "إبراهيم" قطع علاقته مع "آزر" - في أيام شبابه - بعد
ما أصرّ "آزر" على كفره، ووثنيته، ولم يعد يذكره الى آخر حياته.
2 - لقد دعا "إبراهيم" عليه السّلام في اُخريات حياته - أي في عهد شيخوخته - وبعد
أن فرغ من تنفيذ مهمته الكبرى تعمير الكعبة واسكان ذريته في أرض مكة القاحلة، دعا
وبكل اخلاص وصدق جماعة منهم والداه، وطلب من اللّه إجابة دعائه، إذ قال في حين
الدعاء :ربّنا اغفِر لي ولوالديّ ولِلمؤمِنين يومَ يقِوم الحِساب15.
إن هذه الآية تفيد بصراحة - أن الدعاء المذكور كان بعد الفراغ من بناء الكعبة
المعظمة، وتشييدها، يوم كان إبراهيم يمر بفترة الشيخوخة، فاذا كان مقصودُه من
الوالد في الدعاء المذكور هو "آزر" وانه المراد له المغفرة الالهية كان معنى ذلك أن
"ابراهيم" كان لم يزل على صلة ب"آزر" حتى أنه كان يستغفر له في حين أن الآية التي
نزلت رداً على طلب المشركين أوضحت بأن "إبراهيم" كان قد قطع علاقاته ب"آزر" في
أيّام شبابه، وتبرّأ منه، ولا ينسجم الاستغفار مع قطع العلاقات.
إن ضمَّ هاتين الآيتين بعضهما الى بعض يكشف عن أنّ الذي تبرّأ منه "ابراهيم" في
أيام شبابه، وقطع علاقاته معه، واتخذه عدواً هو غير الشخص الذي بقي يذكره، ويستغفر
له الى اُخريات حياته16.
إبراهيم محطِّم الأصنام
لقد حلَّ موسم العيد، وخرج أهلُ بابل المغفّلون الجهلة إلى الصحراء للاستجمام،
ولقضاء فترة العيد، وإجراء مراسيمه، وقد أخلوا المدينة.ولقد كانت سوابق "إبراهيم"،
وتحامله على الأصنام، واستهزاؤه بها قد أوجدت قلقاً وشكاً لدى أهل بابل، ولهذا
طلبوا منه - وهم الذين يساورهم القلق من موقفه تجاه اصنامهم - الخروج معهم إلى
الصحراء، والمشاركة في تلك المراسيم، ولكن اقتراحهم هذا بل إصرارهم واجه رفض
إبراهيم الذي رد على طلبهم بحجة المرض اذ قال : "إنّي سقِيم" وهكذا لم يشترك في
عيدهم، وخروجهم وبقي في المدينة.
حقاً لقد كان ذلك اليوم يوم ابتهاج وفرح للموحد والمشرك، وأمّا للمشركين فقد كان
عيداً قديماً عريقاً يخرجون للاحتفال به، واقامة مراسيمه وتجديد ما كان عليه الآباء
والاسلاف الى الصحراء حيث السفوح الخضراء والمزارع الجميلة.
وكان عيداً لإبراهيم بطل التوحيد كذلك، عيداً لم يسبق به مثيل، عيداً طال انتظارُه،
وافرح حضوره وحلوله، فها هو إبراهيم يجد المدينة فارغة من الاغيار، والفرصة مناسبة
للانقضاض على مظاهر الشرك والوثنية، وحدث هذا فعلاً.
فعندما خرج آخر فريق من اهل بابل من المدينة، إغتنم "إبراهيم" تلك الفرصة ودخل وهو
ممتلئ ايماناً ويقيناً باللّه في معبدهم حيث الأصنام والأوثان المنحوتة الخاوية،
وأمامها الأطعمةُ الكثيرة التي احضرها الوثنيون هناك بقصد التبرك بها، وقد لفتت هذه
الاطعمةُ نظر "الخليل" عليه السّلام، فأخذ بيده منها كسرة خبز، وقدمها مستهزئاً الى
تلك الاصنام قائلاً : لماذا لا تأكلون من هذه الاطعمة ؟
ومن المعلوم أن معبودات المشركين الجوفاء هذه لم تكن قادرة على فعل أي شيء أو حركة
مطلقاً فكيف بالاكل.
لقد كان يخيم على ذلك جوّ ذلك المعبد الكبير سحابة من الصمت القاتل ولكنه سرعان ما
اخترقته اصوات المعول الذي اخذ "إبراهيم" يهوي به على رؤوس تلك التماثيل الجامدة
الواقفة بلا حراك، وايديها.
لقد حطم "الخليل" عليه السّلام جميع الاصنام وتركها ركاماً من الاعواد المهشمة،
والمعدن المتحطم، واذا بتلك الاصنام المنصوبة في اطراف ذلك الهيكل قد تحولت الى تلة
في وسط المعبد.
غير ان "ابراهيم" ترك الصنم الأكبر من دون ان يمسه بسوء، ووضع المعول على عاتقه،
وهو يريد بذلك ان يظهر للقوم بأن محطِّم تلك الأصنام هو ذلك الصنمُ الكبير، إلا أن
هدفه الحقيقي من وراء ذلك كان امراً آخر سنبينه في ما بعد.
لقد كان "إبراهيم" عليه السّلام يعلم بأنّ المشركين بعد عودتهم من الصحراء، ومن
عيدهم سيزورون المعبد، وسوف يبحثون عن علة هذه الحادثة، وأنهم بالتالي سوف يرون ان
وراء هذا الظاهر واقعاً آخر، اذ ليس من المعقول ان يكون صاحب تلك الضربات القاضية
هو هذا الصنم الكبير الذي لا يقدر أساساً على فعل شيء على الاطلاق.
وفي هذه الحالة سوف يستطيع "إبراهيم" عليه السّلام أن يستفيد من هذه الفرصة في عمله
التبليغي، ويستغل اعتراضهم بأن هذا الصنم الكبير لا يقدر على شيء أبداً، لتوجيه
السؤال التالي اليهم : اذن كيف تعبدونه ؟ !!
فمنذ أن اخذت الشمس تدنو الى المغيب ويقتربُ موعد غروبها، وتتقلص اشعتها وتنكمش من
الرَّوابي والسهول، أخذ الناسُ يؤوبون إلى المدينة أفواجاً افواجاً.
وعندما آن موعد العبادة، وتوجّهوا إلى حيث اصنامهم، واجهوا منظراً فظيعاً وامراً
عجيباً لم يكونوا ليتوقَّعونه !!
اجل إن اللّه الذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر، والاشعاع للشمس لقادر على
سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب
الاسباب، ومعطلها.
غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية
الكاملة في الدعوة والتبليغ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد
"إبراهيم" ونفيه، وقد فتح هذا الأمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم، وتهيأت
بذلك اسبابُ رحلته الى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.
هجرة الخليل عليه السّلام
لقد حكمت محكمة "بابل" على "إبراهيم" بالنفي والإبعاد من وطنه، ولهذا اضطرّ عليه
السّلام ان يغادر مسقط رأسه، ويتوجه صوب فلسطين ومصر، وهناك واجه استقبال العمالقة
الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم التي كان من جملتها
جارية تدعى "هاجر".
وكانت زوجته "سارة " لم تُرزق بولد الى ذلك الحين، فحركت هذه الحادثة عواطفها
ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرزقُ
منها بولد، تقرّ به عينُه وتزدهر به حياته.
فكان ذلك، وولدت "هاجر" لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل، ولم يمض شيء من الزمان
حتى حبلت سارة هي أيضاً وولدت - بفضل اللّه ولطفه - ولداً سمي باسحاق17.
وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى "إبراهيم" بان يذهب بإسماعيل واُمه "هاجر" إلى
جنوب الشام أي ارض مكة ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف الى ذلك الحين... واد لم
يسكنه احدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية الذاهبة من الشام الى اليمن،
والعائدة منها الى الشام، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً، وأما في بقية أوقات السنة
فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة، خالية عن أي ساكن مقيم.
لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لإمرأة عاشت في
ديار العمالقة وألفت حياتهم وحضارتهم، وترفهم وبذخهم.
فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام
ابصار المقيمين.
وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر، ولهذا فإنّه
فيما كان عازماً على ترك زوجته "هاجر" وولده "إسماعيل" في ذلك الواد قال لزوجته
"هاجر" وعيناه تدمعاه : "إن الذي أمرني أن اضعكُم في هذا المكان هو الذي يكفيكم".
ثمّ قال في ضراعة خاصة :" ربِّ اجعل
هذا بلداً آمناً وارزُق أهلَهُ مِن الثمرات من آمن مِنهُم بِاللّه واليومِ الآخ"18.
وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : "ربّنا
إنّي أسكنتُ مِن ذُرِّيتي بِواد غير ذي زرعٍ عند بيتك المُحرم ربَّنا ليُقيموا
الصّلاة فاجعل أفئدةً مِن النّاس تهوي إليهم وارزُقهم مِن الثّمراتِ لعلَّهُم
يشكرُون"19.
إنّ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً، وعملية لا تطاق، إلا أن
نتائجها الكبرى التي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل، لأنّ بِناء
الكعبة، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع،
وخلق نواة نهضة، عميقة، دينية، انبثقت على يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وسلّم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم، كلُّ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.
عين زمزم كيف ظهرت ؟
لقد غادر "إبراهيم" عليه السّلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده "إسماعيل" بعيون
دامعة، وقلب يملأه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.
فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب، وجف اللبن في ثديي "هاجر"،
وتدهورت أحوال الرضيع "إسماعيل"، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره، وهي
تشاهد حال وليدها الذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.
فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتى وصلت إلى جبل "الصفا" فرأت من بعيد منظر
ماء عند جبل "مروة"، فاسرعت إليه مهرولة، غير ان الذي رأته وظنته ماء لم يكن الا
السراب الخادع، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب
الى الصفا والمروة أملاً في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر، والذهاب
والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت الى وليدها قانطةً يائسةً.
كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية، ولم
يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتى على الانين.
ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه "إبراهيم"،
اذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام "اسماعيل".
فسرت تلك الام المضطربة - التي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من
حياته، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً، وجهداً - سروراً عظيماً بمنظر
الماء، وبرق في عينيها بريق الحياة، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق،
فشربت من ذلك الماء العذب، وسقت منه رضيعها الظامئ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما
بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس، وسحُب القنوط التي تلبدت وخيمت على
حياتها.
ولقد ادى ظهور هذه العين التي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق
فوق تلك البقعة التي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور، وارتادتها الحمائم، وهذا هو
ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور
ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا
حقيقة الأمر، وبعد بحث طويل وكثير، انتهيا الى حيث حلت الرحمة الالهية، وعندما
اقتربا إلى "هاجر" وشاهداً بام عينيهما "امرأة" و"طفلاً" عند عين من الماء الزلال
الذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا، وأخبرا كبار القبيلة بما
شاهداه، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة
المباركة، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن "هاجر" وولدها مرارة الغربة، ووحشة الوحدة،
وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا
من تلك القبيلة، ويصاهرهم، وبذلك يحظى بحمايتهم له، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم
له.
فانه لم يمض زمانٌ حتى إختار "إسماعيل" زوجة من هذه القبيلة، ولهذا ينتمي ابناء
"إسماعيل" الى هذه القبيلة من جهة الاُم.
تجديد اللقاء
كان إبراهيم عليه السّلام بعد أن ترك زوجته "هاجر" وولده "إسماعيل" في ارض "مكة"
بأمر اللّه، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.
وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل "مكة" فلم يجد ولده "إسماعيل" في بيته،
وكان ولده الذي أصبح رجلاً قوياً، قد تزوج بامرأة من جرهم.
فسأل "إبراهيم" زوجته قائلاً : اين زوجك ؟ فقالت : خرج يتصيَّد، فقال لها : هل عندك
ضيافة ؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد، فقال لها إبراهيم : "اذا جاء زوجك
فأقرئيه السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه".
وذهب إبراهيم عليه السّلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه "إسماعيل" له وقد قال لها
ما قال.
ولمّا جاء إسماعيل عليه السّلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد ؟ قالت :
جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه، قال : فماذا قال لك ؟ قالت : قال لي
أقرئي زوجك السلام وقولي له: فليغيّر عتبة بابه !!
فطلقها وتزوج اُخرى، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة20.
وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيم عليه السّلام هناك قليلاً ليرى ولده
إسماعيل بعد عودته من الصيد، وقد قطع تلك المسافة الطويلة، وكيف سمح لنفسه بان يعود
بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز ؟!
يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد
اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً، ففعل ذلك حتى لا يخلف. وهذا من اخلاق
الانبياء.
ثمّ إن "إبراهيم" سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه، وليبني الكعبة التي تهدمت
في طوفان "نوح"، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.
إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض "مكة" قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة
إبراهيم عليه السّلام، لأن إبراهيم دعا بُعيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :ربِّ
اجعل هذا البلد آمِناً واجنُبني وبنِيَّ أن نعبُدَ الأصنام21 على
حين دعا عند نزوله مع زوجته، وابنه إسماعيل في تلك الأرض قائلاً :ربِّ اجعل هذا
بلداً آمِناً22.
وهذا يكشف عن ان مكة تحولت الى مدينة عامرة في حياة الخليل عليه السّلام، بعد ان
كانت صحراء قاحلة، وواد غير ذي زرع.ولقد كان من المُستحسن استكمالاً لهذا البحث أن
نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك، بيد أننا لكي
لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل
عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّه، صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، في التاريخ.
2 - قُصيُّ بنُ كلاب
إن أسلاف الرَّسول العظيم صلّى اللّه عليه وآله هم على التوالي : عبدُ اللّه، عبد
المُطَّلِب، هاشم، عبدُ مناف، قُصّيّ، كِلابٌ، مُرَّة، كعب، لُؤيّ، غالِب، فِهر،
مالِك، النضر، كِنانة، خُزيمة، مُدركة، إلياس، مُضر، نزار، معدّ، عدنان23.
من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرم صلّى اللّه عليه وآله إلى عدنان هو ما ذُكر، فلا
خلاف فيه، إنما وقع الخلاف في عدد، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيل عليه
السَّلام، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله اذ قال : "إذا بلَغ نسبي إلى عدنان فأمسِكُوا"24 هذا
مضافاً إلى أن النبيّ نفسه كان اذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك، ونهى عن ذكر
من بعده الى إسماعيل، وقد روي عنه صلّى اللّه عليه وآله أنه قال : كذِب النسّابُون.
ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه، ونعمد الى الحديث عن حياة كلِّ واحد منهم.
ولقد كان كلُّ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين، ومشهورين في تاريخ العرب، بيد أن حياة
طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام، ولهذا فاننا نقف عند حياة "قصيّ" ومن لحقه إلى
والد النبيّ "عبد اللّه" ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافه صلّى اللّه
عليه وآله ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة25.
أمّا "قُصيّ" وهو الجدّ الرابع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فاُمّه "فاطمة"
التي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : "زهرة" و"قصي" إلا أن زوج
فاطمة قد توفي، وهذا الاخير لم يزل في المهد، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة، وسافرت
معه الى الشام، وبقي "قصيّ" يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتى وقع خلاف بين قصيّ وقوم
ربيعة، واشتد ذلك الخلاف حتى انتهى إلى طرده من قبيلتهم، ممّا أحزن ذلك اُمَّه،
واضطرت الى إرجاعه الى "مكة". وهكذا اتت به يد القدر إلى "مكة"، وسبّبت قابلياته
الك
2015-12-01