الانشاءُ - 3 - النداءُ والتمنِّي
البلاغة
إذَا أَردْنَا إقبالَ أَحدٍ علينَا دعونَاهُ بذكرِ اسمِهِ أو صفةٍ مِنْ صفاتِهِ بعدَ حرفٍ نائبٍ منابَ "أدعو"، ويسمَّى هذا بالنداءِ. فالنداءُ هوَ طلبُ توجّهِ المخاطَبِ إلى المتكلّمِ بحرفٍ يفيد معنَى: "أنادي".
عدد الزوار: 211
النداءُ:
إذَا أَردْنَا إقبالَ أَحدٍ علينَا دعونَاهُ بذكرِ اسمِهِ أو صفةٍ مِنْ صفاتِهِ بعدَ
حرفٍ نائبٍ منابَ "أدعو"، ويسمَّى هذا بالنداءِ. فالنداءُ هوَ طلبُ توجّهِ المخاطَبِ
إلى المتكلّمِ بحرفٍ يفيد معنَى: "أنادي".
وأَدواتُ النداءِ هِيَ: الهمزةُ، ويا، وأيُّ، وأي، و، وأيَا، وهَيَا، و وا.
1- الهمزةُ: كقولِ أميرِ المؤمنين عليّ عليه السلام فِي شِعرٍ منسوبٍ إليهِ:
أَحُسَينُ إِنّي واعِظٌ وَمؤَدِّبٌ فَافهَم فَأَنتَ العاقِلُ المُتَأَدِّبُ
2- يا: كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾1.
3- أيُّ: كقولِ أميرِ المؤمنين عليّ عليه السلام:
"أيُّها النَّاس إنَّ أَخوَفَ مَا أَخَافُ عليكم اثنتانِ: اتّباعُ الهَوى، وطُولُ
الأمَلِ. فأمَّا اتّباعُ الهَوَى، فيصدُّ عَنِ الحقّ، وأمَّا طُولُ الأمَلِ، فينسِي
الآخرةَ"2.
4- أيْ: كقولِ الإمامِ علي بنِ الحسينِ عليهما السلام فِي دعاءِ أبي حمزةَ
الثماليّ: "أَيْ رَبِّ مِنْكَ اَطْلُبُ، وَاِلَيْكَ اَرْغَبُ، وِايّاكَ اَرْجُو،
وَاَنْتَ اَهْل ذلِكَ، لا اَرْجُو غَيْرَكَ وَلا اَثِقُ إلاّ بِكَ يا اَرْحَمَ
الرّاحِمينَ"3.
5- أيا: كقولِ الشريفِ المرتَضَى4:
أَيا ذاهباً ولّى وخلّفَ بعدَه عَليَّ مِنَ الأحزانِ مِلْءَ جَوانبي
هَيَا: كقولِ الشَّاعِرِ5:
فأصاخَ يرجُو أن يكون حَياً ويقول من طَمَع: هَيَا رَبَّا
6- كقولِ أبي العلاءِ المعرّيِ:
فوا عجباً كم يدعي الفضل ناقصٌ؟ ووا أسفاً كم يظهرُ النقصَ فاضلُ؟
بعد ذكرِ أدواتِ النِّداءِ والتَّعرُّفِ إليهَا نقولُ: إنَّ منهَا مَا يُستعمَلُ
لنِدَاءِ القريبِ، ومنهَا مَا هوَ للبعيدِ، والأصلُ في نداءِ القريبِ أنْ يُنادَى
بـ"الهمزةِ" أو "أي"، كقولِ أميرِ المؤمنينَ عليّ عليه السلام في وصيتّهِ لولدِهِ
الحسنِ عليهما السلام: "...أيْ بُنَي إنِّي وإنْ لمْ أكنْ عُمِّرتُ عُمْرَ مَنْ
كَانَ قَبْلِي فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِم، وفَكَّرتُ فِي أَخْبَارِهِم،
وسِرْتُ فِي آَثَارِهِم حتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِم"6.
وكقولِ الشاعر:
أَبُنَيَّ إِنَّ أَباكَ كارِبُ يَومِهِ فإِذا دُعِيتَ إِلى المَكارِمِ فاعْجَلِ7
فإنَّه فِي كِلا النداءينِ استعمالٌ للأصلِ8.
والأصلُ فِي نِداءِ البَعيدِ أَنْ ينادَى بغيرهِمَا مِن بقيَّة الأدواتِ، غيرَ أنَّ
هناكَ أسبابَاً بلاغيَّة تدعُو إِلى مخالفةِ هَذَا الأصلِ، و سنَشرحُ هَذِهِ
الأسبابَ فيما يأتِي:
1- كتبَ أبو الطيّب المتنبّي إِلى الوالِي وهوَ فِي الاعتقالِ:
أَمالِكَ رِقّي وَمَن شَأنُهُ هِباتُ اللُجَينِ وَعِتْقُ العَبيدِ
دَعَوتُكَ عِندَ اِنقِطاعِ الرَجا ءِ وَالمَوتُ مِنّي كَحَبلِ الوَريدِ
نتأَملُ هَذَا المثالَ، فنجدُ المنادَى فيهِ بعيداً، ولكنَّ أبَا الطيِّب نادُاه
بالهمزةِ الموضوعة للقريبِ، فمَا السببُ البلاغيُّ هنَا؟ السببُ أَنَّ أبَا الطيِّب
أرادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ المنادَى عَلَى الرَّغمِ مِنْ بُعدِهِ فِي المكانِ، قريبٌ
مِن قلبِهِ مستحضَرٌ فِي ذهنِهِ لا يغيبُ عنْ بالِهِ، فكأنَّه حاضرٌ معَه فِي مَكانٍ
واحدٍ. وهذه لطيفةٌ بلاغيَّة تُسَوِّغُ استعمالَ "الهمزةِ" و"أي" فِي نداءِ البعيدِ.
2- وفي دعاءِ كُمَيل بنِ زيادٍ يقولُ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام:
"يا رَبِّ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، يا اِلهي وَسَيِّدي وَمَوْلايَ وَمالِكَ رِقّى، يا
مَنْ بِيَدِهِ ناصِيَتى ياعَليماً بِضُرّى وَمَسْكَنَتى، يا خَبيراً بِفَقْرى
وَفاقَتى"9.
نجدُ المنادَى فِي هَذَا الدُّعاءِ قريباً، بَل أقربُ إلينَا مِن حبلِ الوريدِ، وهوَ
اللهُ - سبحانَه وتَعَالَى -، ولكنَّ الإمام عليّاً عليه السلام استعْملَ فيهِ أحرفَ
النَّداء الموضوعةَ للبعيدِ فمَا سببُ هَذَا؟ السَّببُ أنَّ المنادَى هنَا جليلُ
القَدْرِ خطيرُ الشَّأنِ، فكأَنَّ بُعدَ درجتِهِ فِي العِظمِ بعدٌ فِي المسافةِ،
ولذلكَ اختارَ عليه السلام في ندائِهِ الحرفَ الموضوعَ لنداءِ البعيدِ ليُشيرَ إلَى
هَذَا الشَّأنِ الرَّفيعِ.
3- قالَ الإمامُ الحسينُ عليه السلام لرجلٍ اغتابَ عندَه رجلاً: "يَا هَذَا، كفَّ
عَنِ الغِيبةِ، فإنَّها إدَامُ كلابِ النَّارِ"10.
فَفِي هَذَا الحديثِ كانَ المخاطَبُ فِي اعتقادِ الإمامِ الحسينِ عليه السلام وضيعَ
الشَّأنِ صغيرَ القدرِ، فكأنَّ بُعدَ درجتِهِ فِي الانحطاطِ، بعدٌ في المسافة، فلذلك ناداه بأداةِ البعيدِ وهوَ منهُ قريبٌ.
4- يقول أبو العتاهية11:
أَيا بانِيَ الدُنيا لِغَيرِكَ تَبتَني وَيا جامِعَ الدُنيا لِغَيرِكَ تَجمَعُ
لأنَّ المخاطَبَ لغفلتِهِ و ذهولِهِ كأنَّه غيرُ حاضِرٍ معَ المتكلمِ فِي مكانٍ
واحدٍ، فلذلكَ استخدمَ الشاعِرُ اداةَ البعيدِ في خطابِهِ وهوَ قريبٌ. ومثلُ هَذا
البيتِ قولُ شاعرٍ:
أَيا جامِعَ الدنيَا لِغَير بَلاغَةٍ لِمنْ تَجْمَعُ الدُّنْيَا وأنت تَمُوتُ؟!12
قد تخرجُ ألفاظُ الندَاءِ عن معناها الأصليِّ إلى معانٍ أخرَى، تُفهَمُ من السِّياق
بمعونةِ القرائنِ، ومن أهمِّ ذلكَ:
أ- الإغراءُ، كقولنا لمن أقبل
يتظَّلَّمُ: يا مظلومُ.
ب- الاستغاثةُ، كقولِ أبي فراس:
يا لِلرِجالِ، أَمَا لِلهِ مُنتَصِفٌ مِنَ الطُغاةِ، أَمَا لِلدينِ مُنتَقِم13
ج- الندبةُ، كقولِ المتنبّي:
واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
د- الزجرُ، كقولِ الشيخِ البهائيّ14:
الا يَا خَائِضَاً بَحْرَ الأَمَانِي هَدَاكَ اللهُ مَا هَذَا التَّوَانِي
أَضَعْتَ العُمْرَ عِصْيَانَاً وَجَهْلا فَمَهْلاً أيُّهَا المَغْرُورُ مَهْلا
هـ- التحسُّر والتَّوجُّع، كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿...أَن تَقُولَ نَفْسٌ
يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ
السَّاخِرِينَ﴾15.
التمنِّي:
وهوَ طلبُ حصولِ شيءٍ عَلَى سبيلِ المحبةِ16
1- إمَّا لكونِهِ مستحيلاً، كقولِ أبي العتاهيّة17:
ألا ليتَ الشَّبابَ يعودُ يوماً فأُخبرَه بما صنع المَشِيبُ
2- وإمَّا لكونِهِ ممكناً غيرَ مطموعٍ في نيلِهِ، كقولِهِ - تَعَالَى -:
﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾18.
وإذَا كانَ الامرُ المحبوبُ ممَّا يُرجَى حصولُهُ كانَ طلبُهُ ترجِّي، ويعبَّر
فيهِ "بعسى، ولعل" كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ
أَمْرً﴾19 وقولِهِ: ﴿فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ
عِندِهِ﴾20.
وقدْ تستعمَلُ فِي الترجِّي "ليتَ" لغرضٍ بلاغيًّ، وهو إبرازُ المرجوِّ فِي صورةِ
المستحيلِ مبالغةً في بُعْدِ نيلِهِ، كقولِ المتنبّي:
فَيا لَيتَ ما بَيني وَبَينَ أَحِبَّتي مِنَ البُعدِ ما بَيني وَبَينَ المَصائِبِ
وقَدْ تستعملُ أيضاً للتندُّمِ، كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ
مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلً﴾21.
أدواتُ التمنّي:
للتمنّي أربعُ أدواتٍ، واحدةٌ أصليّةٌ
هِي "ليتَ" وثلاثٌ غيرُ أصليّةٍ، نائبةٌ عنهَ، ويُتَمَنّى بِهَا لغرضٍ بلاغيٍّ، وهِي:
1- هلْ، كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَ﴾22
2- لو، كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ﴾23
3- لعلَّ، كقولِ قيس بنِ الملوّحِ24:
أَسِربَ القَطا هَل مَنْ يُعيرُ جَناحَهُ لَعَلّي إِلى مَن قَد هَوِيتُ أَطيرُ
* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الأحزاب، الآية: 1.
2- الشريف الرضي قدس سره، نهج البلاغة، ج1، ص 93.
3- الشيخ عباس القمّي، مفاتيج الجنان، دعاء السحر.
4- علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم أبو القاسم. 355 - 436 هـ / 966 -
1044 م من أحفاد امير المؤمنين عليّ عليه السلام نقيب الطالبيين، وأحد الأئمة في
علم الكلام والأدب والشعر، له تصانيف كثيرة منها (الغرر والدرر) يعرف بأمالي
المرتضى، و(الشهاب بالشيب والشباب)، و(تنزيه الأنبياء) و(الانتصار) فقه، و(تفسير
العقيدة المذهبة) شرح قصيدة للسيد الحميري، و(ديوان شعر) وغير ذلك الكثير.
5- الراعي النُمَيري، عُبَيد بن حُصين بن معاوية بن جندل، النُّمَيْرِيّ، أبو جندل.
90 هـ / 708 م.
كان من جلّة قومه، ولُقّبَ بالراعي لكثرة وصفه الإبل وكان بنو نمير أهل بيتٍ وسؤدد.
وقيل: كان راعَي إبلٍ من أهل بادية البصرة.
عاصر جريراً والفرزدق وكان يفضّل الفرزدق فهجاه جرير هجاءً مُرّاً وهو من أصحاب
الملحمات. وسماه بعض الرواة حصين بن معاوية.
6- الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة، ج3، ص 41.
7- عبد قيس بن خُفاف أبو جبيل البرجمي من بن عمرو بن حنظلة، شاعر تميمي جاهلي فحل،
من شعراء المُفَضَّلِيّات، من البراجم، وهم بطون من أولاد حنظلة بن مالك من تميم.
8- كارب يومه أي مقارب يومه الذي يموت فيه.
9- الشيخ عباس القمّي، مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
10- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص117.
11- إسماعيل بن القاسم بن سُوَيد العَيْنِيّ، العنزي، أبو إسحاق. 130 - 211 هـ/ 747
- 826 م شاعر مُكْثِر، سريع الخاطر، في شعره إبداع، يُعدُّ من مقدمي المولَّدين، من
طبقة بشار وأبي نواس وأمثالهما. كان يجيد القول في الزهد والمديح وأكثر أنواع الشعر
في عصره. ولد ونشأ قرب الكوفة، وسكن بغداد وتوفي فيها.
12- لم نعرف قائله.
13- من قصيدته المسماة " الشافية".
14- الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمد بن علي بن الحسين بن
صالح الحارثي الهمداني العاملي الجبعي نزيل أصفهان ولد في بعلبك يوم الخميس لثلاث
عشرة بقين من المحرم سنة 953 وتوفي في أصفهان 12 شوال سنة1030 ودفن في مشهد بجوار
الامام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام.
15- سورة الزمر، الآية: 56.
16- مختصر المعاني، ص 129.
17- سبقت ترجمته.
18- سورة القصص، الآية: 79.
19- سورة الطلاق، الآية: 1.
20- سورة المائدة، الآية: 52.
21- سورة الفرقان، الآية: 27.
22- سورة الأعراف، الآية: 53.
23- سورة الشعراء، الآية: 102.
24- قيس بن المُلَوَّح بن مزاحِمٍ العامري. مَجنون لَيلى 68 هـ / 687 م شاعر غَزِل،
من المتيمين، من أهل نجد. لم يكن مجنوناً وإنما لقب بذلك لهيامه في حب ليلى بنت سعد
التي نشأ معها إلى أن كبرت وحجبها أبوها، فهام على وجهه ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش،
فيرى حيناً في الشام وحيناً في نجد وحيناً في الحجاز، إلى أن وجد مُلْقى بين أحجار
وهو مَيْتٌ فحمل إلى أهله.
25- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص 171.