يتم التحميل...

الخبر - 2 - أَضْرُب الخَبر وخُروجُه عن مُقتَضَى الظاهر

البلاغة

حيثُ كانَ الغرضُ من الكلامِ الإفصاحَ والإظهارَ، يجبُ أن يكونَ المتكلمُ مع المخاطَبِ كالطبيبِ مع المريضِ، يشخِّصُ حالتَهُ، ويعطيهِ ما يناسبُها.

عدد الزوار: 584

أولاً: أضربُ الخَبَرِ:

حيثُ كانَ الغرضُ من الكلامِ الإفصاحَ والإظهارَ، يجبُ أن يكونَ المتكلمُ مع المخاطَبِ كالطبيبِ مع المريضِ، يشخِّصُ حالتَهُ، ويعطيهِ ما يناسبُها.

فحقُّ الكلامِ أن يكونَ بِقدْرِ الحاجةِ، لا زائداً عنها، لِئلا يكونَ عبثاً، ولا ناقصاً عنها، لئلا يُخِلَّ بالغرضِ، وهو: الإفصاحُ والبيانُ.

ولهذا تختلفُ صورُ الخبرِ في أساليب اللغةِ باختلافِ أحوالِ المخاطبِ الَّذي تعتريهِ ثلاثةُ أحوالٍ:

1- أنْ يكونَ المخاطبُ خاليَ الذهنِ من مضمونِ الخبرِ، غيرَ مترددٍ فيه، ولا مُنْكِرٍ له، وفي هذه الحالِ لا يَرى المتكلمُ حاجةً إلى توكيدِ الحكمِ، لعدمِ الحاجةِ إلى التوكيدِ، كقولِهِ - تَعَالَى : ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ1 وقولِ أميرِ المؤمنينَ عليّ عليه السلام: "أفضلُ الزُّهدِ إخفاءُ الزُّهدِ"2.

ويسمَّى هذا الضربُ من الخبرِ "ابتدائياً"، ويستعملُ هذا الضربُ حين يكون المخاطبُ خاليَ الذهنِ من مدلولِ الخبرِ، فيتمكنُ فيه لمصادفتهِ إيّاهُ خَالِياً.

2- أنْ يكونَ المخاطبُ متردّداً في الخبرِ، طالباً الوصولَ معرفتهِ، والوقوفَ على حقيقته، فيستحسنُ تأكيدُ الكلامِ المُلقَى إليه تقويةً للحُكم، ليتمكَّنَ من نفسهِ، ويطرحَ الخلافَ وراء ظهرهِ، كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً3 فَقَد جَاءَ الكلامُ فِي الآيةِ الكريمةِ مؤكَّداً "بقد" واللامٌ4 أو كقولِ السَريّ الرَّفاء5:
إنَّ البِناءَ إذا ما انهدَّ جانبُه لم يأمَنِ الناسُ أنْ يَنهدَّ باقِيه

فإنَّه جَاءَ مؤكدًاً "بإنَّ". ويُسمَّى هَذَا الضَّربُ مِنَ الخبرِ (طَلَبِيّاً) ويؤتَى بالخبرِ مِنْ هَذَا الضَّربِ حِينَ يكونُ المخاطبُ شاكَّاً فِي مدلولِ الخبرِ، طالباً التثبُّتَ من صدقهِ.

3- أنْ يكونَ المخاطَبُ مُنْكِراً للخبرِ الَّذي يرادُ إلقاؤهُ إليه، معتقداً خلافَهُ، فيجبُ تأكيدُ الكلامِ له بمؤكِّدٍ أو مؤكِّدَينِ أو أكثرَ، على حسبِ حالهِ من الإنكارِ، قوةً وضعفاً، كقوله -تعالى-: ﴿إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى6، وكقولِهِ - تَعَالَى - عَنْ النبّي يعقوبَ عليه السلام: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ7 وقولِهِ: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ8 ولذلك جاءَ الكَلامُ فِي الآياتِ مؤكَّداً بمؤكِّداتٍ، هِيَ إن وضمير الفصل في الآية الأولى وإن اللام في الثانية، والقسم الذي ظهرت اللام الواقعة في جوابه)، ونون التوكيد الثقيلة في الثالثة.

ويسمَّى هذا الضربُ مِنَ الخبرِ (إنكارياً)، ويؤتَى بالخبرِ مِنْ هَذَا الضَّربِ حِينَ يكونُ المخاطَبُ مُنْكِراً، وكمَا يكونُ التأكيدُ فِي الإثباتِ، يكونُ في النَّفي أيضاً.

أدواتُ التوكيدِ كثيرةٌ، أشهرُها:


أ- إنَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ9.
ب- لامُ الابتداءِ: ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّ10.
ج- حروفُ التنبيهِ: ﴿أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ11.
د- القَسَمُ: ﴿تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ12.
هـ- نونَا التَّوكِيدِ: ﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ13.
و- الحروفُ الزائدةُ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ14.
ز- قدْ قبل الفعل الماضي: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ15
ح- ضميرُ الفصل: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ16.

ثانياً: خُروجُ الخبَر عَنْ مُقتَضَى الظَّاهِرِ

قدْ تقتضي الأحوالُ العدولَ عن مقتضَى الظاهرِ، ويورَدُ الكلامُ على خلافهِ لاعتباراتٍ يلحظُها المتكلِّمُ ومنها:

1- تنزيلُ خالي الذهنِ منزلةَ السائلِ المترددِ: إذا تقدمَ في الكلام ما يشيرُ إلى حكمِ الخبر، كقولِهِ - تَعَالَى- عَلَى لِسَانِ النبّي يوسفَ عليه السلام: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ17.

إنَّ هَذَا الحُكمَ لمَّا كانَ مسبوقاً بجملةٍ أخرَى وهِيَ قولُهُ - تَعَالَى-: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي وهِيَ تُشِيرُ إِلَى أنَّ النَّفسَ محكومٌ عليهَا بشيءٍ غيرِ محبوبٍ أصبحَ المخاطَبُ مستشرفِاُ متطلعاً إلى نوعِ هَذَا الحكمِ، فنُزِّلَ مِنْ أجلِ ذَلكَ منزلةَ الطَّالبِ المتردِّدِ وألقيَ إليهِ الخَبَرُ مؤكَّداً. وكقولِهِ - تَعَالَى - مخَاطِبَاً النبيَّ نوحاً عليه السلام: ﴿وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ18، فإنَّ اللهَ سبحانَه لمَّا نَهَى نوحاً عنْ مخاطبتِهِ فِي شأنِ مخالفِيهِ، دفَعَهُ ذَلكَ إلَى التطلَّع إلَى مَا سيصيبُهُم فنُزِّلَ لذَلكَ منزلَةَ السائلِ المتردِّدِ؟ أحُكِمَ عليهم بالإغراقِ أمْ لَا؟ فأُجِيبَ بقولِهِ: ﴿إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ.

2- تنزيلُ غيرِ المنُكِر منزلةَ المنكِر: إذا ظهرَ عليه شيءٌ من أماراتِ الإنكارِ، كقولِهِ - تَعَالَى -، ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ19، فمَا السبَبُ فِي إلقاءِ الخبرِ إليهِم مؤكَّداً؟ السببُ هوَ ظهورُ أَمَاراتِ الإنكارِ عليهِم، فإنَّ غفلتَهُم عنِ الموتِ وعدمَ استعدادِهِم لَه بالعملِ الصَّالحِ يُعَدّانِ من علاماتِ الإنكارِ، ومِنْ أجلِ ذَلكَ نُزِّلوا منزلَةَ المنكرين وأُلقيَ إِليهِمُ الخَبَرُ مؤكَّداً بمؤكِّدَين هُمَا "إنَّ" و"اللامُ". وكقولِ حَجَلِ بنِ نضْلَةَ القيسيِّ20:
جاءَ شقيقٌ عارضاً رُمْحَهُ إنّ بَني عمِّكَ فيهم رِماحْ21

فـ "شقيقٌ" رَجلٌ لا يُنكرُ رماحَ بني عمّه، ولكنَّ مجيئهُ على صورةِ المُعْجَبِ بشجاعتهِ، واضعاً رُمحَه على فخذيهِ بالعرضِ - وهو راكبٌ - أو حَاملاً له عرضاً على كتفهِ في جهةِ العدُوِّ بدون اكتراثهِ به، بمنزلةِ إنكارهِ أنَّ لبني عمّهِ رماحاً، ولنْ يجدَ منهم مُقاوماً له، كأنَّهم كلَّهم في نظرهِ عزّل، ليسَ مع أحد منهم رمحٌ. فَأُكِّدَ له الكلامُ، وخُوطبَ خطابَ المنكر.

3- تنزيلُ المنكِرِ منزلةَ الخالي، إذا كانَ لديه دلائلُ وشواهدُ لو تأمَّلها لارتدعَ وزال إنكارُه، كقولِهِ - تَعَالَى-: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ22، فمَا وجهُ ذَلكَ؟ الوجهُ أنّ بَينَ أيدي هؤلاء من البراهينِ الساطعةِ والحُجَجِ القاطعةِ مَا لَو تأمَّلوا لوجدوا فيهِ نهايةَ الإِقناعِ ولِذَلكَ لَمْ يُقِمِ اللهُ لهذَا الإِنكارِ وزنَاً ولَمْ يعتدَّ بِهِ فِي توجيهِ الخِطَابِ إليهِم.

* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة الكهف، الآية: 46.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، ج4، ص7.
3- سورة الفتح، الآية: 18.
4- الضرب الطلبي الذي يحسن توكيده ولا يجب قد يأتي مؤكَّداً بمؤكِّدٍ واحد كما في البيت الآتي، وقد يكون مؤكداً بأكثر من مؤكِّد كما في الآية. والعبرة في الفصل بينه وبين الضرب الإنكاري معرفة حال المخاطب او تحليلها في سياق الكلام، فيرجى التنبه والالتفات.
5- السرّي بن أحمد بن السرّي الكندي أبو الحسن 366 هـ / 976 م شاعر أديب من أهل الموصل، كان في صباه يرفو ويطرز في دكان له، فعرف بالرفاء ولما جاد شعره ومهر في الأدب قصد سيف الدولة بحلب، فمدحه وأقام عنده مدة، ثم انتقل بعد وفاته إلى بغداد. ومدح جماعة من الوزراء والأعيان، ونفق شعره إلى أن تصدى له الخالديان، وكانت بينه، وبينهما مهاجاة فآذياه وأبعداه عن مجالس الكبراء. فضاقت دنياه واضطر للعمل في الوراقة (النسخ والتجليد)، فجلس يورق شعره ويبيعه، ثم نسخ لغيره بالأجرة.
وركبه الدين، ومات ببغداد على تلك الحال. وكان عذب الألفاظ، مفتناً في التشبيهات ولم يكن له رواء ولا منظر.
من كتبه (ديوان شعره ط)، و(المحب والمحبوب والمشموم والمشروب - خ).
6- سورة البقرة، الآية: 120.
7- سورة يوسف، الآية: 68.
8- سورة آل عمران، الآية: 186.
9- سورة الحجرات، الآية: 14.
10- سورة يوسف، الآية: 8.
11- سورة الانعام، الآية: 62.
12- سورة النحل، الآية: 56.
13- سورة يوسف، الآية: 32.
14- سورة الزمر، الآية: 37.
15- سورة الفتح، الآية: 18.
16- سورة البقرة، الآية: 12.
17- سورة يوسف، الآية: 53.
18- سورة هود، الآية: 37.
19- سورة المؤمنون، الآية: 15.
20- شاعر جاهلي.
21- عارضا رمحه أي جاعلا رمحه و هو راكب على فخذيه بحيث يكون عرض الرمح في جهة العدو و ذلك ادلالا بشجاعته و استخفافا بمن يقابلهم حتى كأنه يعتقد أنهم لا سلاح عندهم.
22- سورة البقرة، الآية: 163.

2015-11-07