المجاز المرسل
البلاغة
عرفْنَا فيما مضَى أنَّ المجازَ الّلغويّ، إمّا أن تكون علاقته المشابهة فهو الاستعارة، وإمّا أن تكون علاقته غير المشابهة فهو المجاز
عدد الزوار: 329
يقولُ المتنبّي:
لَـهُ أَيـادٍ إِلَيَّ سابِـقَةٌ أُعَـدُّ مِنها وَلا أُعَـدِّدُهـا
انظرْ إِلى الكلمةِ "أيادٍ" فِي قولِ المتنبّي، أَتَظُنُّ أنَّه أَرادَ بها
الأياديَ الحقيقيّةَ؟ لَا. إِنَّه يُريدُ بِهَا النِّعَمَ، فكَلِمَةُ أَيادٍ هنَا
مجازٌ، ولكنْ هلْ تَرَى بَينَ الأَيدي والنِّعَمِ مشابهةً؟ لَا. فَمَا العلاقَةُ
إِذ، بَعدَ أَنْ عَرَفْتَ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الدُّروسِ أَنَّ لكلِّ مجازٍ
علاقةً، وأَنَّ العربيَّ لا يُرسل كلمةً في غيرِ معنَاهَا إِلَّا بَعْدَ وجودِ صلةٍ
وعلاقةٍ بَينَ المعنيين؟ تأَمَّلْ تجدْ أَنَّ اليَدَ الحقيقيّةَ هِيَ الَّتي تَمنحُ
النِّعَمَ، فهيَ سببٌ فِيهَا، فالعلاقة - إِذاً- السببيةُ، وهَذَا كَثيرٌ شائِعٌ
فِي لُغَةِ العَرَبِ1.
1- يقولُ اللهُ - تَعَالَى -: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم
مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ﴾2.
مَا الَّذي يُنزِّلُهُ - تَعَالَى - مِنَ السَّماءِ عَلَى عِبَادِهِ حقيقةً؟ الرزقُ
أمِ الغيثُ؟ ومَا العَلَاقَةُ بَيْنَ لَفْظِ "رزقاً" المذكورِ فِي الآيةِ والغيث؟
نحنُ نَعْلمُ أنَّ السَّماءَ لَا تُمطرُ ذهباً ولَا فضَّةً، ولَا تُمطِرُ
طَعَامَاً، ونعلمُ بأنَّ اللهَ يُكرِمُ عبادَهُ بإنزالِ الغيثِ مِنَ السَّماء،
فالمقصُودُ - إذن - مِنْ لفظِ "رزقاً" هُوَ المَاءُ المنهمِرُ مِنَ السَّماءِ.
ولمَّا كانَ الرِّزقُ مسبَّباً عنِ الغيثِ، بِمعنَى أنَّ الغَيثَ سببٌ فِي
الِّرزقِ، كانتِ العلاقةُ بينهُمَا علاقةَ المسبّبِ بالسَّببِ، والمجازُ الَّذي
يُذكَرُ فيهِ المسبَّبُ ليدلَّ عَلَى السَّبَبِ هوَ مَجَازٌ مُرسَلٌ علاقتُهُ
المسَبَّبيَّةُ.
2- يقولُ - تَعَالَى -: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُّؤْمِنَةٍ﴾3.
إنَّ كلمَةَ "رقبةٍ" فِي الآيةِ يُرَادُ بِهَا الإنسَانُ، ومِنَ السَّهل أنْ
نَفهَمَ أنَّ استعمالَها فِي الآيةِ مجازيٌّ، فإنَّه لَا يمكنُ أنْ يكونَ المقصودُ
تحريرَ جزءٍ مِنَ الإنسانِ وتركَ الباقِي، وليسَ بينَهَا وبَيْنَ الإنسانِ أيُّ
مشابَهَةٍ، فلَا بدَّ مِنْ وجُودِ علاقةٍ أخرَى، فَمَا هِيَ؟ إنَّ الرَّقبةَ جزءٌ
مِنْ جَسَدِ الإنسانِ ولَهَا شأنٌ كبيرٌ فيهِ، فأُطلقَ الجزءُ وأُرِيدَ الكلُّ، ولِذَلكَ يُقَالُ: إِنَّ العلاقةَ هنَا الجزئيَّةُ.
ومثلُ الآيةِ الكريمةِ فِي الدَّلالةِ عَلَى العلاقَةِ الجزئيَّة بَيْنَ المَعنَى
الحقيقيّ والمَعنَى المجازيّ قولُ الشاعرِ4 يَتَحدَّثُ عَنْ شَخصٍ أسْدَى لهُ
الشَّاعرُ معروفاً فقابَلَ معروفَهُ بالجحودِ والعدَاءِ:
أُعَلِّمُه الرمايَةَ كُلَّ يَومٍ فَلَمّا اشتدَّ ساعِدهُ رَماني5
وَكَمْ علّمتُه نظمَ القوافي فَلما قالَ قافيةً هجاني
وكمَا نَعلمُ أنَّ القافِيَةَ تُطْلقُ عَلَى الجزءِ الأخيرِ مِنَ بيتِ الشِّعرِ، ومِنَ البَدِيهيّ أنَّ الشَّاعِرَ لمْ يُرِدْ هَذَا المَعنَى لِلَفظةِ القَافِيَةِ،
إذ إنَّ نَظْمَ الشِّعرِ ومَا يُعبَّرُ عَنهُ مِن هِجَاءٍ أو غيرِهِ، لَا يكونُ
بالقافيةِ وحدَهَا، بل بالبيتِ أو أكثرَ مِنَ الشِّعرِ، فالشَّاعِرُ أرَادَ هنَا
بلفظةِ "قافيةً" بيتاً أو أكثرَ مِنَ الشَّعرِ، معْ أنَّ لفظةَ "قافيةً" لَا
تَدُلُّ إلَّا عَلَى الجزءِ الأخِيرِ مِنْهُ، إذاً، فإنَّ العَلاَقَةَ بَيْنَ
الَّلفظِ المذكورِ "قافيةً" والمَعنَى المرادِ "الشِّعْر" هِيَ علاقةُ الجزءِ
بالكلِّ، والمجازُ الَّذي يُذكَرُ فيهِ الجزءُ ليدلَّنَا عَلَى الكلِّ هُوَ مَجَازٌ
مرسلٌ علاقَتُهُ الجزئيّةُ.
3- يقولُ - تَعَالَى -: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا
وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارً﴾6.
نَنْظُرُ فِي قولِهِ - تَعَالَى -، فَهَل مَا يُوضَعُ فِي الأذُنِ ليَسُدَّهَا هُوَ
الإصبعُ كلُّهَا؟ ل، لأنَّ الإنسانَ لَا يَستطيعُ أنْ يَضَعَ إِصبعَهُ كلَّهَا فِي
أُذنِهِ، بَلْ بعضاً منهَا وهِيَ الأَنَامِلُ، ولِهَذَا نقولُ: إنَّ الأصابعَ فِي
الآيةِ الكريمةِ أُطلقتْ وأُريدَ أطرافُهَ، والأطرافُ جزءٌ والأصابِعُ كلٌّ، والمَجَازُ الَّذي يُذكَرُ فيهِ الكلُّ ليدلَّ عَلَى الجزءِ هوَ مجازٌ مرسلٌ
عَلاقتُهُ الكليَّة. ومثلُ الآيةِ الكريمةِ آياتٌ أخرَى نَذْكُرُ مِنْهَا قولَه -
تَعَالَى -: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَ﴾7 حيثُ
أَطلقَ الكُلَّ "الأيدي" وَارَادَ الجزءَ "الأكفَّ"8.
4- قالَ اللهُ - تَعَالَى -: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ
تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرً﴾9.
اليَتَامَى هُمُ الَّذينَ مَاتَ آباؤهُم وهُم صغَارٌ، وقدِ اختصَّ هَذَا الاسمُ
بمَنْ لمْ يبلغْ منْهُم مبلغَ الرِّجالِ، فهلْ يُعقَلُ أنَّ اللهَ يأمُرُ أنْ
يُعطَى هؤلاءِ أموالَ آبائِهِم وهُمْ مَا زَالُوا بحاجةٍ إلَى كَافِلٍ يكفلُهم
وقيِّم يقومُ بأمورِهم؟، أبداً، فالآيةَ تأمُرُ بإعطاءِ الأموالِ إلى مَنْ وصَلوا
سِنَّ البلوغ والرُّشدِ منهُم بَعدَ أنْ كانُوا يَتامَى، فكلمةُ "اليتامى" هنَا
مجازٌ، لأنَّها استُعمِلتْ فِي البالغين الرَّاشِدينَ، والعَلاقَةُ "اعتبار ما
كانَ" وهِيَ إحدَى علاقاتِ المجازِ المرسلِ.
5- قالَ - تَعَالَى- عَنْ لسَانِ نوحٍ عليه السلام: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا
تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ
يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارً﴾10.
فَهَلْ قَصَدَ نوحٌ عليه السلام أنَّ أطفالَ قومِهِ يولدُونَ فجَّاراً وكفَّاراً
منذُ السَّاعةِ الأُولى مِنْ ولادتِهِم، أم أنَّ فجورَهُم سيكونُ بعدَ بلوغِهم سنَّ
الرُّشدِ؟ ومَا الاعتبارُ الَّذي أُقيمتْ بِهِ العلاقةُ بَينَ الفاجرِ الكافرِ و
المولودِ؟ يولدُ المَولودُ عَلَى الفطرةِ بريئاً لا ذنبَ لهُ ولَا إثْمَ عليهِ،
ولكنَّ مَنْ يحيطونَ بِهِ يأخذونَهُ نَحوَ الإيمانِ أو يدفعونَهُ نَحوَ الكفرِ،
ولمَّا كانَ الفجَّارُ والكفَّارُ هُم أكثرُ المحيطين بمواليدِ قومِ نوحٍ، عَرَفَ
نُوحٌ عليه السلام أنَّ هؤلاءِ الأطفالَ سيكونونَ بَعدَ بلوغِهِم سنَّ الرُّشدِ
صورةً لِمَن يحيطونَ بِهِم، فدَعَا نوحٌ عليهِم جميعَاً. وقَدْ ذَكَرَ اللهُ - عزَّ
وجلَّ - عَلَى لسَانِ نوحٍ لفظَي "فاجرًا كفَّارا" قاصِداً بِهِمَا المولودَ
باعتبارِ مَا سَيَكونُ عليهِ، وهَذَا مجازٌ مرسلٌ علاقتُهُ "اعتبارُ مَا
سَيَكُونُ".
6- قال الله تعالى: ﴿كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ *
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه﴾11.
هَذَا وعيدٌ مِنَ اللهِ - تَعَالَى -، أيْ فليدعُ أهلَ نادِيهِ ومجلسِهِ، يَعنِى
عشيرتَهُ، فلينتصِرْ بِهِم إذَا حلَّ عقابُ اللهِ بِهِ، والأَمرُ - هنَا -
للسُّخريةِ والاستخفافِ، فإِنَّنَا نَعرِفُ أنَّ مَعنَى النادِي مكانُ الاجتماعِ،
ولكنَّ المقصودَ بِهِ فِي الآيةِ الكريمةِ مَنْ فِي هَذَا المكانِ مِنْ عشيرتِهِ
ونُصرائِهِ، فِهُوَ مجازٌ أُطلقَ فيهِ المحلُّ وأريدَ الحالُّ، فالعلاقةُ
"المحلِّيَّةُ"، وهِيَ إحدَى عَلاقاتِ المَجَازِ المُرسَلِ.
7- يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي
رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾12.
بِخِلافِ العَلاقَةِ فِي الحَالَةِ السَّابِقَةِ تَأتِي هَذِهِ الآيةُ الكريمَةُ، فالرَّحمَةُ أمرٌ معنويُّ ومَعنَى مِنَ المعانِي لَا يُحَلُّ فِيهِ، وإنَّمَا
يُحَلُّ فِي مَكَانِهِ، فاستعمالُهُ - هُنَا - هُوَ استعمالٌ مجازيٌّ، قَدْ أُطلقَ
فيهِ الحالُّ وأُرِيدَ المَحَلُّ، وإذَا ذُكِرَ الحالُّ وأُرِيدَ المَحَلُّ،
فالعلاقَةُ "حالّيّة"، وهِيَ كَذَلِكَ إِحْدَى هَذِهِ العَلاَقَاتِ.
* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص 97.
2- سورة غافر، الآية: 13.
3- سورة النساء، الآية: 92.
4- مالك بن فهم الأزدي، 480 ق. هـ - 157 شاعر، أول من مُلِّكَ على العرب بأرض
الحيرة، أصله من قحطان، هاجر من اليمن بعد سيل العَرِم في جماعة من قومه، فنزل
بالعراق وابتنى بستاناً في موقع الحيرة وامتدت أيدي رجاله بحكم تلك الأنحاء فلم يكن
عليها سلطان غير سلطانه. وعاش فيها نحو عشرين سنة. قتله ابنه سليمة بن مالك غِيلة،
و قيل خطأً (وكان مالكا أراد اختبار يقظة ابنه في أثناء الحراسة ومقدار احترازه في
الظلام، في ليلة نوبته، فرماه سليمة خطأ، وهو يظنه عدوّاً، فخاف أن يقتله أخوه معن
جزاء ما فعل، فرحل إلى فارس.) ومن أولاده جَذِيمة الوَضَّاح (نحو 366 ق. هـ، 268م)
المعروف بالأبرش ثالث ملوك الدولة التنوخية في العراق، وعمرو بن مالك بن فهم، وعوف
بن مالك بن فهم، وهناءة بن مالك بن فهم.
5- استد الشيء: أي استقام.
6- سورة نوح، الآية: 7.
7- سورة المائدة، الآية: 38.
8- ولهذه العلاقة شواهد في الشعر العربي كقول احمد شوقي في قصيدة بعنوان (نكبة
دمشق) يتحدث فيها عن الكفاح ضد المستعمرين:
بلادٌ ماتَ فِتْيَتُها لتَحْيى وزالوا دونَ قومِهم ليبقوا
فمن المؤكد أن الشاعر لم يرد أن الموت قد اصاب الفتية كلَّهم، وإنما عمّم الموت
عليهم ليصور مبالغتهم في طلب الموت دفعا للاستعمار، فذكر "الفتية" كلهم قاصدا بذلك
بعضهم بقرينة معنوية هي استحالة موت الفتية جميعهم، فالعلاقة بين اللفظ المذكور
"فتيتها" وبين ما أراده الشاعر "بعضهم" هو علاقة الكل بالجزء. والمجاز الذي يذكر
فيه الكل ليدل على الجزء هو مجاز مرسل علاقته الكلية.
9- سورة النساء، الآية: 2.
10- سورة نوح، الآيتان: 26-27.
11- سورة العلق، الآيات: 15-17.
12- سورة آل عمران، الآية: 107.