الاستعارةُ التصريحيةُ والْمَكنيَّةُ
البلاغة
الاستعارةُ التصريحيةُ والْمَكنيَّةُ هي استعمالُ اللفظُ في غيرِ مَا وُضِعَ لَهُ لعلاقةِ المشابهةِ بَينَ المَعنَى الحقيقي والمعنى المستعملِ فيهِ، مع قرينةٍ صارفةٍ عن إرادةِ المعنَى الأصل
عدد الزوار: 96
الاستعارةُ التصريحيةُ والْمَكنيَّةُ هي استعمالُ اللفظُ في غيرِ مَا وُضِعَ لَهُ
لعلاقةِ المشابهةِ بَينَ المَعنَى الحقيقي والمعنى المستعملِ فيهِ، مع قرينةٍ صارفةٍ
عن إرادةِ المعنَى الأصليِّ.
ومعنى تصريحية أي مصرح فيها بلفظ المشبه به الذي استعمل في المشبه وأريد به المشبه،
ومعنى مكنية أي مخفي فيها لفظ المشبه به استغناء بذكر شيء من لوازمه، فلم يذكر فيها
من أركان التشبيه سوى المشبه.
وقد سبقَ أنَّ التشبيهَ أولُ طريقةٍ دلتْ عليها الطبيعةُ، لإيضاحِ أمرٍ يجهلُه
المخاطبُ، بذكر شيءٍ آخر، معروفٍ عندَه، ليقيسَه عليه، وقد نتجَ من هذه الطريقة،
طريقة أخرى في تراكيبِ الكلامِ، تَرى فِيهَا ذكرَ المشبَّهِ به أو المشبَّهِ فقط1
وترى الاستعارة تشبيهاً حذف أحد طرفيه.
وتُسمَّى هذه بـ "الاستعارةِ"، وقد جاءتْ هذه التراكيبُ المشتملةُ عَلَى الاستعارةِ
أبلغَ مِن تراكيبِ التشبيهِ، وأشدَّ وقعاً في نفسِ المخاطَبِ، لأنَّه كلَّمَا كانَتْ
داعيةً إِلَى التحليقِ في سماءِ الخَيَالِ، كانَ وقعُها في النفسِ أشدَّ، ومنزلتُها
في البلاغةِ أعلَى.
وما يبتكرُهُ أُمراءُ الكلامِ من أنواع ِصور الاستعارةِ البديعةِ، الّتي تأخذُ
بمجامعِ الأفئدةِ، وتملكُ على القارئ والسامعِ لبَّهما وعواطفهُما هو سرُّ بلاغةِ
الاستعارةِ.
فمنَ الصورِ المجملةِ الّتي عليها طابعُ الابتكار وروعةُ الجمالِ قولُ أمير
المؤمنين عليه السلام:
"أَيُّهَا النَّاسُ: لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِهِ،
فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى مَائِدَةٍ شِبَعُهَا قَصِيرٌ، وَ جُوعُهَا
طَوِيلٌ. أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَ السُّخْطُ، وَ
إِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ
لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا، فَقَالَ - سُبْحَانَهُ -: "فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا
نادِمِينَ.."2.
نَأخُذُ مِنْ كلامِ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام استعمالَه لفظَةَ المائِدةِ
استعمالاً مجازي، فإنَّ المرادَ مِنَ المَائِدَةِ "الدنيا"، والعلاقَةُ بينهُمَا
هِيَ المشابَهَةُ والقَرٍينَةُ لفظيةٌ3. وإذَا تَأَمَّلنَا هَذَا
المَجَازَ، رَأيْنَا أنَّه تضمَّن تشبيهاً حُذِف منْهُ لفظُ المشبَّهِ "الدنيا"،
واستُعِيرَ له لَفْظُ المشبَّهِ بهِ "المائدة" ليقومَ مقامَه بادِّعاءِ أنَّ
المشبَّهَ بِهِ هُوَ عَينُ المشبَّهِ، وهَذَا أبعدُ مدىً فِي البَلاغَةِ، وأدخَلُ
في المُبالَغَةِ، ويُسمَّى هَذَا المجازُ "استعارةً"، ولمَّا كانَ المشبَّهُ بِهِ
مصرّحاً بِهِ فِي هَذَا المَجَازِ سمّيَ استعارةً تصريحيةً.
ومن كلام لأمير المؤمنين عليه السلام "..فَاتَّعِظُوا - عِبَادَ اللهِ - بِالْعِبَرِ
النَّوَافِعِ، وَاعْتَبِرُوا بِالْآيِ السَّوَاطِعِ، وَازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ
الْبَوَالِغِ، وَانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَالْمَوَاعِظِ، فَكَأَنْ قَدْ
عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ.."4.
حيثُ إنَّ المَنِيّةَ لَا مَخَالِبَ لَهَ، فيَعنِي أنَّ هَذَا الَّلفظَ استُعمِلَ
فِي غيرِ معنَاه الحقيقيّ لعلاقةٍ هِي المشابهةُ كذلكَ، وبقرينةٍ لفظيَّةٍ، اذاً
فَهُوَ مَجَازٌ، وقَدْ شُبِّهتْ فيهِ المنيةُ بالمفترِسِ بجامعٍ القَتلِ، فإنَّ
الَّذي يُفهَمُ منهُ أَنْ يشبِّه المنيةَ بالوحشِ المفترِسِ، فأَصلُ الكلامِ قَد
علقتْكُم المنيَّةُ كالوحشِ ينهشُكُم بمخالِبِهِ، ثمَّ حُذِفَ المشبّهُ بِهِ فصَارَ
"قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ"، على تخيُّلِ أنَّ المنيةَ قَد تمثَّلتْ
فِي صورةِ وحشٍ قاتِلٍ ذي مخالبٍ، ورُمزَ للمشبَّهِ بهِ المحذوفِ بشيءٍ مِنْ
لَوازِمِهِ وهُوَ "مخالبُها"، ولمَّا كانَ المشبَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الاستعارةِ
محْتجَباً سُمِّيت "استعارة ًمكنيةً"، ومثلُ ذَلكَ يُقَالُ فِي هَذَا البيتِ مِنَ
الشِّعرِ:
وَإِذا المَنِيَّةُ أَنشَبَت أَظفارَها أَلفَيتَ كُلَّ تَميمَةٍ لا تَنفَعُ5
فقد شبَّهَ المنيةَ، بالسَّبُعِ، بجامعِ الاغتيالِ في كلٍّ، واستعارَ السَّبُعَ
للمنيةِ وحذفَه، ورمزَ إليه بشيءٍ من لوازمهِ، وهو الأظفارُ على طريق الاستعارةِ
المكنيةِ.
* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- فالاستعارةُ ليست إلا تشبيهاً
مختصراً، لكنها أبلغُ منهُ كقولك: رأيتُ أسداً في المدرسةِ، فأصلُ هذه الاستعارةِ "رأيتُ
رجلا ًشجاعاً كالأسدِ في المدرسةِ" فحذفتَ المشبهَّ " لفظُ رجلٍ" وحذفتَ الأداةَ ــ
الكاف - وحذفتَ وجهَ الشبهِ "الشجاعةَ" وألحقتهُ بقرينةٍ "المدرسةِ" لتدلَّ على أنكَ
تريدُ بالأسدِ شجاعاً.
2- نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام ج2، ص181.
3- مر معنى ذلك في درس المجاز.
4- نهج البلاغة،خطب الامام علي عليه السلام ج1، ص 148.
5- أبو ذُؤَيب الهذلي 27 هـ / 648 م خُوَيلد بن خالد بن محرِّث أبو ذُؤيب من بني
هُذَيل بن مُدْرِكَةَ المُضَرِيّ. شاعر فحل، مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وسكن
المدينة واشترك في الغزو والفتوح، وعاش إلى أيام عثمان فخرج في جند عبد الله بن سعد
بن أبي السرح إلى إفريقية سنة (26 هـ) غازياً.
فشهد فتح إفريقية وعاد مع عبد الله بن الزبير وجماعة يحملون بشرى الفتح إلى عثمان،
فلما كانوا بمصر مات أبو ذؤيب فيها.
وقيل مات بإفريقية.
أشهر شعره عينية رثى بها خمسة أبناء له أصيبوا بالطاعون في عام واحد مطلعها:
"أَمِنَ المَنُونِ ورَيْبِهِ تتوجّعُ".
قال البغدادي: هو أشعر هذيل من غير مدافعة. وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ليلة وفاته، فأدركه وهو مسجّى وشهد دفنه.
له (ديوان أبي ذؤيب).