التشبيهُ المقلوبُ
البلاغة
الأصلُ في التشبيهِ أنْ يكونَ وجهُ الشبهِ في المشبهِ بهِ أتمَّ وأظهر، كما هوَ الحالُ في الأمثلةِ التي مرَّتْ علينا سابق، فكانَ المشبهُ بهِ هوَ الاصلَ، والمشبهُ هوَ الفرعَ،
عدد الزوار: 104
التشبيهُ
المقلوبُ1:
الأصلُ في التشبيهِ أنْ يكونَ وجهُ الشبهِ في المشبهِ بهِ أتمَّ وأظهر، كما هوَ
الحالُ في الأمثلةِ التي مرَّتْ علينا سابق، فكانَ المشبهُ بهِ هوَ الاصلَ، والمشبهُ هوَ الفرعَ، ولكنْ قَدْ يُجْعَلُ مَا كانَ الأصلُ فيهِ أنْ يكونَ مشبهاً
بهِ مشبهاً، ومَا كَانَ الأصلُ2 أنْ يكونَ مشبَهَاً مشبَهَاً بِهِ قَصْداً إلى
إيهَامِ أنَّ مَا صَارَ مشبَهَاً بِهِ أتمُّ في وجهِ الشبَهِ مِنَ الذي صَارَ
مشبَهَاً، حَتَّى صَارَ هوَ الأصلَ، والآخرُ الفرعَ. ومِنْ أمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي
القرآنِ الكَرِيمِ قولُهُ - تَعَالَى - حِكَايةً عَنِ الكُفَّارِ: ﴿قَالُواْ
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا...﴾3،
في مقامِ دعوى أنَّ الرِّبا مثلُ البيعِ، وإنَّمَا عَكَسُوا ذَلِكَ لإيهامِ أنَّ
الرِّبا عندهمْ أحلُّ من البيعِ، لأنَّ الغرضَ هو الربحُ، وهو أثبتُ وجوداً في
الرّبا منه في البيعِ، فيكونُ أحقَّ بالحلِّ على حدِّ زعمِهم.
وقَد جَرَتْ ألسنةُ الشُّعراءِ والأُدَبَاءِ والمُتكلِّميِنَ بكثيرٍ مِنَ
التَّشبيهاتِ الَّتي جَرَتْ عَلَى غيرِ العَادَةِ فِي التَّشبيهِ، ومنهم الشَّاعرُ
محمَّدُ بنُ وهيبٍ الحِمْيَرِيّ4، حيثُ يقولُ:
وبَدا الصباحُ كأن غُرَّتهُ وَجهُ الخليفة حينَ يُمْتَدحُ
اعتدْنَا فِيمَا مَضَى أنْ نَقرأَ أو نُحلِّل تَشبِيهاً يكونُ فِيهِ وجهُ الشَّبهِ
فِي المشبَّه بِهِ أجلَى وأظهرَ مِنهُ فِي المشبَّهِ، فيُشَبَّهُ الوجْهُ المشرقُ
بغرَّةِ الصَّباحِ، والوضاءُ بالشَّمسِ، والمنيرُ بالبدرِ، لأنَّ وجهَ الشَّبَهِ
فِي هَذِهِ أَقوَى، أمَّا فِي هَذَا البيتِ الَّذي يقولُ فِيهِ الحِمْيَريّ: "إِنَّ
تباشيرَ الصَّباحِ تُشبِهُ فِي التلألؤِ وجهَ الخليفةِ عندَ سَمَاعِهِ المديحَ،
فإنَّنا نَرَى هنَا أنَّ هذا التَّشبيهَ خَرَجَ عَمَّا كانَ مستقرًّا فِي نفوسِنَا
مِنْ أنَّ الشيءَ يُشَبَّه دائماً بِمَا هُو أَقوَى منه في وجهِ الشَّبهِ، إذِ
المألوفُ أَنْ يقال إِنَّ الخليفةَ يُشبهُ الصَّباحَ، ولكنَّهُ عَكَسَ وقَلَبَ
للمبالغَةِ والإغراقِ، بادعاءِ أَنَّ وجهَ الشبه أَقوَى في المشبَّهِ، وهذا التشبيهُ
مظهرٌ من مظاهرِ الافتنانِ والإبداعِ"5.
وللبُحْتُريّ أيضاً يدٌ فِي إبداعِ هَذَا النَّوعِ مِنَ التَّشبيهاتِ، فيقولُ فِي
تشبيهِ بركةٍ:
كأنّهَا حِينَ لَجّتْ في تَدَفّقِهَا يَدُ الخَليفَةِ لَمّا سَالَ وَادِيهَا
فقد شبَّهَ الشُّعَراءُ اليَدَ بالجَدولِ أو النَّهرِ والينبُوعِ فِي كثرةِ
التَّدفُّقِ، فاليدُ الَّتي تتدفَّقُ بالإحسانِ والعطاءِ والخيرِ، كالجدولِ يتدفَّقُ
بالماءِ الَّذي هُوَ حياةُ النُّفوسِ، إلَّا أنَّ للبُحتُريّ رأياً فِي أنَّ يَقلِبَ
التَّشبيهَ، حيثُ شَبَّهَ البركةَ وتدفقَهَا بيدِ الخليفةِ، مدَّعِيَاً أنَّ تدفُّقَ
العطاءِ فِي يدِ الممدوحِ أقوَى مِن تدفُّقِ الماءِ فِي البركةِ، وهَذَا أيضاً مظهرٌ
مِن مظاهرِ الإبداعِ، ومَا جَاءَ عَلَى هَذِهِ الشَّاكلةِ مِنَ التَّشبيهِ هُوَ مَا
يُسمَّى بـ"التَّشبيهِ المقلوبِ".
* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- علي الجارم ومصطفى أمين،
البلاغة الواضحة، ص 53.
2- أطلق عليه ابن الاثير في كنز البلاغة اسم: "غلبة الفروع على الأصول".
3- سورة البقرة، الآية: 275.
4- محمد بن وهيب الحميري، أبو جعفر 225 هـ - 840 م، شاعر مطبوع مكثر، من شعراء
الدولة العبّاسيّة، أصله من البصرة، عاش في بغداد وكان يتكسب بالمديح، ويتشيّع، وله
مراث في أهل البيت، وعهد إليه بتأديب الفتح بن خاقان، واختصّ بالحسن بن سهل، ومدح
المأمون والمعتصم، وكان تيّاهاً شديد الزهو بنفسه، عاصرِ دعبلاً الخزاعيّ وأبا
تمّام.
5- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص 53.