أغراضُ التشبيهِ
البلاغة
الأغراضُ جمْعُ غرَضٍ والمرادُ به الأمرُ الباعثُ للمتكلِّمِ في استعمالِ التشبيهِ، حيثُ إنَّ لكلِّ تشبيهٍ مرَّ مَعَنَا هَدَفاً يُريدُ المتكلمُ الوصولَ إليهِ وغَرَضَاً يُريدُ بيانَهُ، وقَدْ قُسِّمَتْ أَغراضُ التَّشبِيهِ إِلَى قِسمَينِ:
عدد الزوار: 94
أغراضُ التشبيهِ1:
الأغراضُ جمْعُ غرَضٍ والمرادُ به الأمرُ الباعثُ للمتكلِّمِ في استعمالِ التشبيهِ،
حيثُ إنَّ لكلِّ تشبيهٍ مرَّ مَعَنَا هَدَفاً يُريدُ المتكلمُ الوصولَ إليهِ
وغَرَضَاً يُريدُ بيانَهُ، وقَدْ قُسِّمَتْ أَغراضُ التَّشبِيهِ إِلَى قِسمَينِ:
أحدُهما أنْ يكونَ غَرَضاً عائداً إلى المُشبَّهِ، والثاني يكونُ عائداً إلى
المُشبَّهِ بهِ2، وسنذكرُ - هنَا - أهمَّ الأغراضِ الَّتِي تَعُودُ إِلَى
المشبَّهِ3:
أوَّلاً: بيانُ إمكانِ المشبَّهِ، وذلكَ حينَ يسنَدُ إليهِ أمرٌ مستغرب ٌ لا تزولُ
غرابتُه إلَّا بذكرِ شبيهٍ لهُ، معروفٍ واضحِ مسلَّمٍ بِهِ، ليثبتَ في ذهنِ السامعِ
ويُقَرِّرَ، كقولِ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ
آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾4 حيثُ اعترضَ قومٌ
عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي شأنِ ولادةِ عيسى عليه السلام، وقالوا:
كيفَ يمكنُ أنْ يَكونَ ولدٌ ولَا يكونُ له والدٌ؟! فجاءتِ الآيةُ الكريمةُ لتقولَ
من خلالِ هَذَا التَّشبِيهِ: إنَّ هَذَا الأمرَ ممكنٌ، حيثُ لَا ينكرُ أحدٌ أنَّ
آدمَ عليه السلام مخلوقٌ مِن غيرِ أبٍ، ومَنْ كانَ قادراً عَلَى أنْ يَخلُقَ آدمَ
مِن غيرِ أبٍ وأمٍّ، قادرٌ عَلَى خَلْقِ المَسِيحِ مِن غيرِ أبٍ، فشبَّهَ شَأنَ
عيسى وحالَتَهُ العجيبةَ بشأنِ آدمَ الَّذي يَعتَقِدُ الجميعُ أنَّه خُلِقَ مِن
غَيرِ أبٍ ولا أمّ، فكانَ الغرضُ مِنَ التَّشبِيهِ بيانَ إمكانيةِ المشبَّهِ
بتشبيهه بما هو مماثل من جهة، وأبعد منه في التحقق - مع التسليم بحصوله - من جهة
أخرى.
ثانياً: بيانُ حالِ المشبَّهِ: حيثُ يكونُ المشبَّه مبهماً غيرَ معروفِ الصفةِ
الّتي يُرادُ إثباتُها لهُ قبلَ التشبيهِ، ويكونُ المشبَّهُ بِهِ معلوماً عندَ
السَّامعِ بتلكَ الصِّفةِ الَّتي يُقصَدُ اشتراكُ الطرفين فِيها، فيفيدُه التشبيهُ
الوصفَ، ويوضِّحُه المشبَّهُ بِه،ِ كمَا فِي قولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله
وسلم: "مثلُ المؤمنين في توادِّهِم وتراحُمِهِم وتعاطُفِهِم مثلُ الجَسَدِ، إِذَا
اشتَكَى مِنهُ عضوٌ تداعَى لهُ سائرُ الجسدِ بالسَّهر والحُمَّى"5، حيث أرادَ أنْ
يُبَيِّنَ حالَ المؤمنِينَ في مودّة بعضهم لبعض وتراحمهم، وهُوَ أمْرٌ مُبْهَمٌ لَا
يعرفُهُ المُخاطَبُونَ آنَذاكَ، فجاءَ بمشبَّه بِهِ معلومٍ لديهِم وهُوَ الجسدُ
الَّذي يَتَألَّمُ جميعُهُ بِتَأَلُّمِ بعضِهِ، وهَذَا هُوَ الغَرَضُ مِنَ
التَّشبِيهِ.
ثالثاً: بيانُ مقدارِ حالِ المشبَّهِ في القوةِ والضعفِ، والزيادةِ والنقصانِ،
وذَلِكَ إذَا كانَ المشبَّهُ معلوماً معروفَ الصفةِ الّتي يرادُ إثباتُها لهُ
معرفةً إجماليةً قبلَ التَّشبيهِ، بحيثُ يرادُ مِنْ ذَلِكَ التَّشبيهِ بيانُ مقدار
نصيبِ المشبَّهِ من هذه الصفةِ، وذلك بأنْ يعمدَ المتكلِّمُ إلى بيان ما يعنيهِ من
هذا المقدارِ، كقولِهِ - تَعَالَى -: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ
فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾6، فشبَّهَ قلوبَهم بالحجارةِ فِي
الصَّلابَةِ والقَسوةِ، فَلو لمْ يرِدِ اللهُ تعالى أنْ يبيِّنَ مقدارَ قساوةِ
قلوبِهِم لقالَ: "قلوبُهم قاسيةٌ"، ولكنَّه أرادَ تَبْيينَ مقدارِ هَذِهِ القَسوةِ
وبيان شدتِّهَ، فَجَاءَ بِهَذا التَّشبيهِ لأجلِ ذَلِكَ، ومثلُ ذَلِكَ قولُ
المتنبِي7 فِي وصْفِ أسدٍ:
ما قُوبِلَتْ عَيْناهُ إلاّ ظُنّتَا تَحْتَ الدُّجَى نارَ الفَريقِ حُلُولا8
فإنَّه "يصفُ عَيْنَي الأَسدِ في الظلام بشدةِ الاحمرار والتوقّدِ، حتى إِنَّ من
يراهما من بُعْدٍ يظنَّهما ناراً لقومٍ حُلول مقيمين، فلو لم يعْمدِ المتنبي إِلى
التشبيه لقال: إِنَّ عَيْنَي الأَسدِ محمرّتانِ، ولكنه اضْطُرَّ إِلى التشبيه
لِيُبَيِّنَ مقدارَ هذا الاحمرار وعِظَمه، وهذا منْ أغراض التشبيه أيضاً"9.
رابعاً: تقريرُ حالهِ وتقويةُ شأنِها، و تمكينُه في ذهن السامعِ، بإبرازِها فيما هي
فيه أظهرُ، كما إذا كان ما أسنِدَ إلى المشبَّهِ يحتاجُ إلى التثبيتِ والإيضاحِ،
ويأْتي هذا الغرضُ حينما يكون المشبَّهُ أمرًا معنويًّ، لأَنَّ النفسَ لا تجزم
بالمعنوياتِ جزمَها بالحسيَّات، فهي في حاجةٍ إلى الإقناعِ، فتأتي بمشبَّهٍ به
حسيٍّ قريبِ التصوُّرِ، يزيدُ معنى المشبِّهِ إيضاحاً لما في المشبَّهِ به من قوةِ
الظهورِ والتمامِ،كقولِهِ - تَعَالَى-: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء
الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾10.
تتحدث الآية "في شأن مَنْ يعْبدونَ الأوثانَ، وأنَّهم إذَا دَعَوْا آلهتَهم لا
يستجيبونَ لهُم، ولَا يرجِعُ إِليهِم هَذَا الدعاءُ بفائدةٍ، وقدْ أرادَ الله - جل
شأْنه - أنْ يُقرِّر هذه الحالَ ويُثَبتَها في الأَذهانِ، فشبَّهَ هؤلاءِ
الوثنيّينِ بمن يبسُط كفَّيْهِ إلى الماء ليشربَ فلا يصلُ الماءُ إلى فمِهِ
بالبداهةِ، لأنَّه يَخْرُجُ من خلالِ أصابِعِهِ مَا دامتْ كفَّاهُ مبسوطتينِ
ولأنهما مبسوطتان فلا تجمعان ماء، وينزلق الماء عنهما. فالغرضُ منْ هذا التشبيه
تقريرُ حالِ المشبَّهِ"11.
خامساً: مدحهُ وتحسينُ حالهِ، ترغيباً فيه، أو تعظيماً له، بتصويرهِ بصورةٍ تهيِّجُ
في النفسِ قوى الاستحسانِ، بأنْ يعمدَ المتكلِّمُ إلى ذكر مشبَّهِ بهِ مُعجبٍ، قد
استقرَّ في النفسِ حُسنُه و حبُّه، فيصوِّرُ المشبَّهَ بصُورتِه، كقولِهِ -
تَعَالَى - فِي وَصْفِ الحُورِ العِينِ: ﴿وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ
الْمَكْنُونِ﴾12.
وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ فِي المَدِيحِ والرِّثَاء والفَخْرِ
وَوَصْفِ مَا تَمِيلُ إِليهِ النُّفُوسُ، وأمثلتُهُ فِي الشِّعرِ العربيِّ كثيرةٌ، منهَا مَا قالَه أحمدُ شوقي13 في مدحِ رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم:
تَجَلّى مَولِدُ الهادي وَعَمَّت بَشائِرُهُ البَوادي وَالقِصَابا
وَأَسدَتْ لِلبَرِيَّةِ بِنتُ وَهْبٍ يَداً بَيضاءَ طَوَّقَتِ الرِقابا
لَقَد وَضَعَتهُ وَهّاجاً مُنيراً كَما تَلِدُ السَماواتُ الشِّهَابا
فَقامَ عَلى سَماءِ البَيتِ نوراً يُضيءُ جِبالَ مَكَّةَ وَالنِّقَابا14
سادساً: تشويهُ المشبَّهِ وتقبيحُه، تنفيراً منه أو تحقيراً له، بأنْ نصوِّرَه
بصورةٍ تَمَجُّها النفسُ، ويشمئزُّ منها الطبعُ، كقولِ اللهِ - تَبَارَكَ
وتَعَالَى-: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا
لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ
يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾15 ضَرَبَ اللهُ مثلَ اللَّاهِثِ وراءَ
الدُّني، العادل عن آياتِ اللهِ وهُوَ عارفٌ بِهَ، بأخسِّ مثلٍ فِي أخسِّ
أحوالِهِ، فشبَّهَهُ بالكلبِ، لأنَّ كلَّ شئٍ يلهثُ فإنما يلهثُ فِي حالِ الإعياءِ
والتعبِ إلَّا الكلب، فإنَّه يلهثُ في حالِ الرَّاحةِ وحال التَّعبِ، وحالِ
الصّحّةِ وحالِ المرضِ. وحالِ الرّيّ وحالِ العطشِ، وفي جميعِ الأحوالِ، فقالَ
تَعاَلى: إنْ وعظتَهُ، فهُوَ ضالّ، وإنْ لمْ تعظْهُ، فهُو ضالّ، كالكلبِ، إنْ
طردتَه وزجرتَه، فإنِّه يلهثُ، وإنْ تركتَه، يلهثُ.والغرضُ مِنْ هَذَا التَّشبيهِ
التقبيحُ، وأكثرُ ما يكونُ في الهجاءِ ووصفِ ما تنفِرُ منه النفسُ. وهذا الغرضُ
أيضاً لهُ أمثلةٌ كثيرةٌ مشهورةٌ في كلامِ العربِ.
* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- وقد تسمى فوائد التشبيه، السيد أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة، ص 238.
2- وهو ما يكون في التشبيه المقلوب.
3- أغراض التشبيه في الغالب تعود الى المشبه.
4- سورة آل عمران، الآية: 59.
5- الريشهري، ميزان الحكمة، ج4، ص2837.
6- سورة البقرة، الآية: 74.
7- شرح ديوان المتنبي، ج 1، ص 116.
8- الدجى: جمع دجية وهي الظلمة، والفريق: الجماعة، وحلولا: أي مقيمين وهو حال من
الفريق.
9- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص 48.
10- سورة الرعد، الآية: 14.
11- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص 49.
12- سورة الواقعة، الآيتان: 22-23.
13- أحمد بن علي بن أحمد شوقي. 1285 - 1351 هـ / 1868 - 1932 م أشهر شعراء العصر
الأخير، يلقب بأمير الشعراء، مولده ووفاته بالقاهرة،عالج أكثر فنون الشعر: مديحاً،
وغزلاً، ورثاءً، ووصفاً، ثم ارتفع محلقاً فتناول الأحداث الاجتماعية والسياسية في
مصر والشرق والعالم الإسلامي وهو أول من جود القصص الشعري التمثيلي بالعربية وقد
حاوله قبله أفراد، فنبذهم وتفرد. وأراد أن يجمع بين عنصري البيان: الشعر والنثر،
فكتب نثراً مسموعاً على نمط المقامات فلم يلق نجاحاً فعاد إلى الشعر.
14- الشاهد في البيتين الاخيرين.
15- سورة الأعراف، الآيتان: 175-176.