التـَّشـْبيهُ الضمنيُّ
البلاغة
إنَّ كلَّ مَا مرَّ مَعَنَا مِن أنواعِ التَّشبيهِ كانَ تشبِيهاً صريحاً، أيْ أنَّ مُنشِئَ العِبارةِ التَّشبِيهيَّةِ قَد عَمَدَ إِلى التَّشبِيهِ فِي عباراتِهِ بصراحةٍ ووضوحٍ، وجاءَ بمشبَّهٍ ومشبَّهٍ بهِ ظاهرَيْنِ يُمْكِنُ الإِشَارةُ إليهِمَا. ولكنه قدْ يَنْحو الكاتبُ أو الشاعر منْحًى منَ البلاغةِ
عدد الزوار: 81
التَّشْبيهُ الضمنيُّ1:
إنَّ كلَّ مَا مرَّ مَعَنَا مِن أنواعِ التَّشبيهِ كانَ تشبِيهاً صريحاً، أيْ أنَّ
مُنشِئَ العِبارةِ التَّشبِيهيَّةِ قَد عَمَدَ إِلى التَّشبِيهِ فِي عباراتِهِ
بصراحةٍ ووضوحٍ، وجاءَ بمشبَّهٍ ومشبَّهٍ بهِ ظاهرَيْنِ يُمْكِنُ الإِشَارةُ
إليهِمَا. ولكنه قدْ يَنْحو الكاتبُ أو الشاعر منْحًى منَ البلاغةِ يُوحِي فِيهِ
بالتَّشبيهِ مِنْ غيرِ أنْ يُصرِّحَ بهِ في صورةٍ من صورهِ المعروفةِ2،
يفعلُ ذلك نُزوعاً إلى الابتكارِ، وإِقامةً للدليلِ علَى الحكمِ الَّذي أَسندهُ إلى
المشبَّه، ورغبةً في إخفاءِ التشبيهِ، لأَنَّ التشبيه كلمَّا دقَّ وخَفيَ كانَ أبلغَ
وأفعلَ فِي النَّفسِ، ولمعرِفَةِ مَا فِي هذَا النَّوعِ مِنْ التَّشبيهاتِ مِنْ
جَمَالٍ وروعةٍ لَا بدَّ مِنْ ذِكرِ بعضِ الأمثلةِ الَّتي جرتْ عَلَى ألسنةِ
الشُّعراءِ والأدباءِ.
يقولُ أبو الطيِّب المتنبِّي3
مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ ما لِجُرحٍ بِمَـيِّـتٍ إيلامُ4
يعني أنَّ الذي اعتادَ الهوانَ يسهلُ عليه تحمُّلهُ ولا يتأَلمُ لهُ، وليسَ هذَا
الادعاءُ باطل، لأَنَّ المَيْتَ إذا جُرحَ لا يتأَلمُ، هلْ تجدُ فِي هَذَا البيتِ
مِنَ الشِّعرِ تشبِيهَاً؟ إذا وجدتَهُ فَمَا هُوَ؟ وهَلْ يُمكنُكَ أنْ تشيرَ إليهِ
بالإصبعِ؟ الجوابُ هو ل، لأنَّه لمْ يوضعْ فِي صُورةٍ مِنْ صورِ التَّشبِيهِ
المعروفةِ، ولمْ يأتِ المتنبِّي بتشبيهٍ صريحٍ، فهُوَ لمْ يقلْ: إنَّ الشخصَ الَّذي
اعتادَ الهَوَانَ والذُّلَ وصَارَ لَا يَشعُرُ بقسوةِ الإهانةِ، كالمَيْتِ الَّذي
لَا يتألمُ حتَّى وإنْ أصابتْهُ الجراحُ، ولكنّنا نَرَى أنَّه يشبِّه ضمناً مَنْ
هانَتْ عليهِ نفسُه، فهُوَ لَا يتأثَّرُ، كالمَيْتِ فاقدِ الشعورِ والإحساسِ، وأتَى
بجملةٍ ضمَّنَها هَذَا المَعْنَى فِي صورةِ البرهَانِ.
وإلَى المِعْنِى نفسه وبالكيفيّةِ ذاتِها مِنَ التَّشبيهِ يشيرُ المتنبِّي فِي بيتٍ
آخَرَ إلَى حالِ الواقِعِ فِي أسرِ الذّلِ مع سعةِ رزقِهِ ويُسرِ حالِهِ وحُسنِ
مظهرِهِ، كالميِّتِ لَا يفرحُ بِمَا يُلفُّ به مِنَ الأكفانِ الحِسَانِ:
لا يُعْجِبَنَّ مَضيماً حُسْنُ بِزّتِهِ وهَلْ تَرُوقُ دَفيناً جُودَةُ الكفَنِ5
وقالَ البُحتريُّ6 فِي وصفِ أَخلاقِ ممدوحِهِ:
وَقَدْ زَادَهَا إفْرَاطَ حُسْنٍ جِوَارُهَا خَلاَئقَ أصْفَارٍ7
مِنَ المَجْدِ، خُيَّبِ
وَحُسنُ دَرَارِيِّ الكَوَاكِبِ8 أنْ تُرَى طَوَالِعَ في دَاجٍ
مِنَ اللَّيلِ، غَيهَبِ9
شبَّهَ البُحتُريّ أخلاقَ ممدوحِهِ التي تزدادُ حسناً وتألُّقاً لوجودِهَا فِي جوارِ
أخلاقٍ وضيعةٍ لأقوامٍ لَا فضلَ فيهِم ولَا مجدَ لهُم، بحالِ الكواكبِ العظامِ
تزدادُ تلألؤاً في اللَّيلِ البَهيمِ، وقَد رأيْنَا أنَّه لمْ يصرِّح بالتَّشبيهِ،
ولمْ يأتِ بطرفَيهِ عَلَى صورةٍ من صورِهِ المعروفةِ، فَلَا مشبَّهَ ولَا مشَبَّهَ
بِهِ ظاهرانِ صريحانِ، وإنَّما لمّحَ إليهم، وضَمّنَهُما فِي الكلامِ، ورأينَا كذلكَ
كيف أنَّه ضَمَّنَ التَّشبِيهَ برهاناً عَلَى أنَّ الحكمَ الَّذي أسندهُ إلَى
المشبَّهِ - وهُوَ ظُهُورُ الأخلاقِ الحَسَنَةِ وازديادُ جمالِها لوجودِهَا إلَى
جانِبِ قومٍ لَا أخلاقَ فِيهم- ممكن، والدَّليلُ عَلَى ذَلكَ أنَّ الكواكبَ
المضيئَةَ يحسن منظرها ويزيدُ اشعاعها وتألقها إذا كانَ الَّليلُ شديدَ الظُّلمةِ.
إذ، فَفِي الأمثلةِ نجدُ أركانَ التَّشبيهِ ونلمحُهَ، ولكنَّنَا لَا نجدُها في صورةٍ
مِنْ صورِهِ الَّتي عرفنَاهَ، وهَذَا يُسمَّى "التشبيه الضمني".
بلاغةُ التشبيهِ الضمنيِّ:
1- أنه دعوى مع البيِّنةِ والبرهانِ.
2- أنه إبرازٌ لما يبدو غريباً ومستحيلاً.
3- أنه جمعٌ بين أمرينِ متباعدينِ،وجنسينِ غيرِ متقاربينِ.
4- أنهُ دلالةٌ على التشبيهِ بالإشارةِ، لا بالوضوحِ والصراحةِ.
* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- علي الجارم ومصطفى أمين،
البلاغة الواضحة، ص 41.
2- صور التشبيه المعروفة هي ما يأتي:
ما ذكرت فيه الأداة نحو الماء كاللُجَيْنِ. أوحذفت والمشبه به خبر نحو: الماء لجـين
وكان الماء لجيناً. أو حال نحو سال الماء لجيناً. أومصدر مبيّن للنوع مضاف نحو: صفا
الماء صفاء اللجين. أو مضاف إلى المشبه نحو: سال لجين الماء. أو مفعول به ثان لفعل
من أفعال اليقين والرجحان نحو: علمت الماء لجيناً، أوصفة على التأويل بالمشتق نحو:
سال ماء لجين، أو أضيف المشبه إلى المشبه به بحيث يكون الثاني بياناً للأول نحو:
ماء اللجين، أي: ماء هو اللجين. أو بُيِّنَ المشبهُ بالمشبه به نحو: جرى ماء من
لجين.
3- أبو الطيب المتنبي ( 303 - 354 ه = 915 - 965 م ) أحمد بن الحسين بن الحسن بن
عبد الصمد الجُعْفِيّ الكوفيّ الكنديّ، أبو الطيب المتنبي: الشاعر الحكيم، وأحد
مفاخر الأدب العربي. له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وفي
علماء الأدب من يعدّه أشعر الاسلاميين. ولد بالكوفة في محلة تسمى (كِنْدَة) وإليها
نِسْبَتُه. ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعِلْمَ العربية وأيّامَ
الناس.
4- ديوان المتنبي.
5- ديوان المتنبي.
6- البحتري ( 206 - 284 ه - 821 - 898 م ) الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي، أبو
عبادة البحتريّ: شاعر كبير، يقال لشعره "سلاسل الذهب". وهو أحد الثلاثة الذين كانوا
أشعر أبناء عصرهم: المتنبي، وأبو تمام، والبحتري. قيل لأبي العلاء المعري: أي
الثلاثة أشعر؟ فقال: المتنبيّ وأبو تمّام حكيمان، وإنما الشاعر البحتريّ. ولد بمنبج
( بين حلب والفرات ) ورحل إلى العراق، فاتصل بجماعة من الخلفاء أولهم المتوكل
العباسي، ثم عاد إلى الشام، وتوفي بمنبج. له ديوان شعر وكتاب "الحماسة" على مثال
حماسة أبي تمّام.
7- الصفر مثلثة الصاد: الخالي.
8- الدراري: النجوم العظام.
9- الغيهب: المظلم.