يتم التحميل...

تـَشـْبيهُ التـّمثيلِ

البلاغة

إِذَا تَأَمَّلْنَا وَجْهَ الشَّبَهِ فِي كُلِّ تشبيهٍ مِنْ التشبيهاتِ الَّتي مرَّتْ معنَا سَابق، رَأيْنَا أنَّهُ صِفَةٌ أَو صِفَاتٌ اشتَرَكَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَيْسَ غير، ويُسَمَّى وجْهُ الشَّبَهِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ مُفْرَدًا، أمَّا مَا نَحْنُ الآنَ بِصَدَدِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَشْبِيهِ فيَحْتَاجُ مِنَّا إِلى إمْعَانٍ أكبرَ لِنَتَلَمَّسَ طَرَفَيْهِ،

عدد الزوار: 88

إِذَا تَأَمَّلْنَا وَجْهَ الشَّبَهِ فِي كُلِّ تشبيهٍ مِنْ التشبيهاتِ الَّتي مرَّتْ معنَا سَابق، رَأيْنَا أنَّهُ صِفَةٌ أَو صِفَاتٌ اشتَرَكَتْ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَيْسَ غير، ويُسَمَّى وجْهُ الشَّبَهِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ مُفْرَدًا، أمَّا مَا نَحْنُ الآنَ بِصَدَدِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَشْبِيهِ فيَحْتَاجُ مِنَّا إِلى إمْعَانٍ أكبرَ لِنَتَلَمَّسَ طَرَفَيْهِ، ونَتَذَوَّقَ مَعْنَاهُ، ولِنَسْتَوْضِحَ هَذَا النَّوعَ مِنَ التَشْبيهِ نَتَأمَّلُ مَعَاً بتمهُّلٍ قولَ اللهِ - تَعَالَى -: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ1.

نتأملُ فِي الآيةِ الكريمةِ، فنَجِدُ أنَّ هناكَ تشبِيهَ، ولكنْ أينَ وجهُ الشَّبَهِ؟ وهلْ أرادَ اللهُ أنْ يُشبِّهَ الحياةَ الدنيا بماءٍ؟ كلَّ، أنَّه لمْ يردْ ذلكَ، بل المرادُ هو التشبيهُ بهيئةٍ مخصوصةٍ، أيْ تشبيهُ حالِ الدنيا فِي نَضَارَتِهَا وبَهْجَتِهَا وَمَا يَتَعَقبها مِنَ الهلاكِ والفناءِ بحالِ النباتِ الحاصِلِ مِنَ المَاءِ، يكونُ أخضرَ ناضراً شديدَ الخضرةِ ثم ييبسُ فتطيِّرُهُ الرِّياحُ كأنْ لمْ يكنْ، فوجهُ الشَّبهِ هنَا صورةٌ لَا مفردٌ، وهذِهِ الصورةُ مأخوذةُ او منتزعةُ مِنْ أشياءَ عدَّةٍ، والصورةُ المشتركةُ بَيْنَ الطَّرفينِ هِيَ وجودُ شيءٍ مبهِجٍ يبعثُ الأَمَلَ فِي النُّفوسِ فِي أوَّلِ أمرِهِ ثمَّ لَا يلبثُ أنْ يظهرَ فِي حالٍ تدعُو إِلَى اليأسِ والقنوطِ.

ولتتضحَ الفكرةُ أكثرَ نتأملُ مثالاً آخرَ من شعرِ أبِي فِراسٍ الحَمْدانيّ2:

وَالماءُ يَفصِلُ بَينَ زَهـ ـرِ الرَوضِ في الشَطَّينِ3 فَصلا
كَبِساطِ وَشيٍ جَرَّدَت أَيدي القُيونِ4 عَلَيهِ نَصلا5

يشبِّهُ أَبو فِراس حال ماء الجدول، وهو يجري بين روضتين على شاطئيه حلَّاهما الزَّهْر ببدائع ألوانه مُنْبثًّا بين الخُضرة الناضرة، بحال سيفٍ لماعٍ لا يزال في بريقِ جدَّته، وقد جرّدَه القُيُونُ على بساطٍ من حريرٍ مُطَرَّزٍ. فأَينَ وجهُ الشبهِ؟ أنظنُّ أَنَّ الشاعر يريد أنْ يَعْقِدَ تشبيهين: الأَولُ تشبيهُ الجدول بالسيفِ، والثاني تشبيهُ الروضة بالبِساط الْمُوَشّى؟ لا، إِنّه لم يرد ذلك، إِنما يريد أَنْ يشبّه صورةً رآها بصورة تخيّلها، يريدُ أنْ يشبِّه حال الجدول، وهو بين الرياض بحالِ السيف فوق البساط الموشَّى، فوجهُ الشبه هنا صورةٌ لا مفردٌ، وهذه الصورةُ مأخوذةٌ أَو مُنْتَزَعَةٌ من أَشياءَ عدَّةٍ، والصورة المشتركةُ بين الطرفين هي وجود بياضٍ مستطيلٍ حوله اخضرار فيه أَلوان مختلفةٌ.

فهذان التشبيهان اللذان مرّا بنا واللذان رأينا أنَّ وجهَ الشَّبهِ فيهما صورةٌ مكوَّنةٌ من أشياءَ عِدَّةٍ يسمَّى كلُّ تشبيهٍ فيهما تمثيلاً6.

تشبيهُ التمثيلِ نوعانِ:

الأولُ: ما كانَ ظاهرَ الأداةِ، نحو قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارً7، فالمشبَّهُ: همُ الذين حُمّلوا التوراةَ ولم يعقلوا ما بها: والمشبَّهُ به (الحمارُ) الذي يحملُ الكتبَ النافعةَ، دونَ استفادتهِ منها، والأداةُ الكافُ، ووجهُ الشبَّهِ الهيئةُ الحاصلةُ منَ التعبِ في حملِ النافعِ دونَ فائدةٍ.

الثاني: ما كانَ خفيَّ الأداةِ: كقولكَ للذي يتردّدُ في الشيء بينَ أن يفعلَهُ، وألاّ يفعلَهُ (أراكَ تقدِّمُ رِجلاً وتُؤخِّرُ أخرَى)، إذِ الأصلُ أراكَ في ترددكَ مثلَ مَنْ يقدِّم ُرجلاً مرةً، ثم يؤخّرُها مرة ًأخرى، فالأداةُ محذوفةٌ، ووجهُ الشبهِ هيئةُ الإقدامِ والإحجامِ المصحوبينِ بالشَكِّ.

مواقعُ تشبيهِ التمثيلِ:
لتشبيهِ التمثيلِ موقعانِ:
الاول: أنْ يكونَ في مفتتحِ الكلامِ، فيكونَ قياساً موضِّحاً، وبرهانا مصاحِباً، وهو كثيرٌ جدًّاً في القرآن، نحو قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ8.

الثاني: ما يجيءُ بعد تمامِ المعاني، لإيضاحِها وتقريرِها، فيُشبهُ البرهانَ الذي تثبتُ بهِ الدَّعوى، نحو قول الشاعر لبيد9:
وما المالُ والأَهْلوُنَ إلاّ وَدائِعٌ ولا بدَّ يوماً أَنْ تُرَدَّ الوَدائِعُ

ونحو قول الشاعر10:
لا يَنزِلُ المَجدُ إِلّا في مَنازِلنا وَمَنزل المَجد آل المُصطَفى وَعلِيْ
وَلَيسَ لِلمَجدِ مَأوى غَير ساحَتهِم كَالنومِ لَيسَ لَه مَأوى سِوى المُقَلِ

* كتاب البلاغة الميسّرة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة يونس، الآية: 24.
2- أبو فراس الحمداني (320 - 357 ه‍) الحارث بن أبي العلا سعيد بن حمدان بن حمدون الحمداني ابن عم ناصر الدولة وسيف الدولة ابني حمدان قال الثعالبي في وصفه: كان فرد دهره وشمس عصره أدبا وفضلا وكرما ومجدا وبلاغة وبراعة وفراسة وشجاعة. وشعره مشهور بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة.. الخ.
3- الشط: جانب النهر.
4- القيون جمع بين وهون العبد وكانت العبيد تشتهر بصناعة السلاح.
5- الوشي: نوع من الثياب المنقوشة،وجرد السيف: سله، والقيون: جمع قين وهو صانع الأسلحة، والنصل: حديدة ا لسيف أو السهم أو الرمح أو السكين.
6- علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، ص 33.
7- سورة الجمعة، الآية: 5.
8- سورة البقرة، الآية: 261.
9- أبو عقيل، لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كِلَاب العامريّ، وكان يقال لأبيه: ربيعُ المقترينَ لسخائه، كان من شعراء الجاهليّة وفرسانهم، وأدرك الإسلام، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد بني كِلَاب، فأسلموا، ورجعوا إلى بلادهم، ثم قدم لبيد الكوفة، ومات بها، وهو ابن مائة وسبع وخمسين سنة وهو أحد أصحاب المُعَلّقات.
10- المفتي عبد اللطيف بن علي فتح الله، اديب من أهل بيروت تولى القضاء والافتاء
11- الشيخ كاظم ابن الحاج محمد ابن الحاج مراد التميمي البغدادي، شاعر معروف وأديب فاضل، صاحب القصيدة الأزرية التي يزيد عدد ابياتها على خمسمائة بيت في مدح أمير المؤمنين عليه السلام ولد في بغداد سنة 1143 ه‍ / 1730 م وتوفي سنة 1212 ه‍/1797 م.
12- ديوان الأزري الكبير، ص 36.

2015-11-07