نشأة علم الكلام 2
علم الكلام
بعد الحديث عن العوامل الداخليّة التي أدّت إلى نشوء علم الكلام نتحدث عن العامل الثاني الذي ساعد على نشوء هذا العلم والمتمثل بالعوامل الخارجيّّة.
عدد الزوار: 367
مقدّمة
بعد الحديث عن العوامل الداخليّة التي أدّت إلى نشوء علم الكلام نتحدث عن العامل
الثاني الذي ساعد على نشوء هذا العلم والمتمثل بالعوامل الخارجيّّة.
عوامل نشأة الكلام:
ب: العوامل الخارجيّة
الاحتكاك الثقافيّ واللقاء الحضاريّ كان للاحتكاك الثقافيّ واللقاء الحضاريّ دورٌ
خاصٌّ في مجال نشوء علم الكلام. فقد دفع عجلة هذا العلم إلى الأمام، وصار سبباً
لنموه ونضوجه بين المسلمين بأقصر مدّةٍ. ولولا هذا الصراع الفكريّ لما نمت تلك
البذور الطيّبة الكامنة في الكتاب والسنّة، وما استوت على سوقها. والعاملان
الداخليّ والخارجيّّ وإن صارا سبباً لنشوء هذا العلم وتكامله إلّا أنّ دور الأوّل،
يخالف دور الثاني. فالأوّل يعدّ مصدر علم الكلام ومنبعه ومنشأه،وأمّا الثاني، فهو
الذي أيقظ المفكرين من المسلمين حتّى ينمّوا ما تعلموه في مدرسة الدين من الأُصول
والعقائد.
بيان العامل الخارجيّ
بُعِثَ النبيّ صلى الله عليه وآله بدينٍ عالميٍّ، ونبوّة خاتمةٍ، وكتابٍ خاتمٍ
للكتب، ومهيمن عليها، وبثّ شريعته الغرّاء في ربوع الجزيرة العربيّة في بضع سنين،
إلى أن مضى إلى جوار ربّه، وراية الإسلام خفّاقةٌ عاليةٌ، يدين أهلها بالتوحيد،
ويكافحون الثنوية، ويؤمنون بالحياة الأُخرويّة ويعملون بسنن الإسلام وطقوسه.
وقد أحسّ المسلمون بواجبهم بعد رحيله صلى الله عليه وآله ، وهو نشر الإسلام وبسطه
في العالم كلِّهِ ودعوة جميع البشر على مختلف قومياتهم إلى الانضواء تحت راية
الإسلام، بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم كسر الأصنام والأوثان بالجهاد المتواصل، وبذل
النفس والنفيس في سبيله، حتّى تُصْبِح الأجواء صافيةً، والظروف حرّةً، وترتفع
العوائق والموانع بغية دخول الناس في دين الله زرافاتٍ ووحداناً عن طوعٍ ورغبةٍ،
بلا خوفٍ ولا رهبةٍ من طواغيت العصر. فقام المسلمون بواجبهم بفتح البلاد، ونشر
الثقافة الإسلاميّة بين الأُمم المتحضّرة والتي كانت تتمتّع ـ وراء الآداب والفنون
والعلوم والصناعات ـ بمناهج فلسفيّة، وآراء كلاميّة لا يذعن بها الإسلام.
وقد كان في ذلك الاحتكاك الثقافيّ واللقاء الحضاريّ تأثيرٌ بالغٌ، عاد على الإسلام
والمسلمين بالخير الكثير، إلّا أنّ هذا الاحتكاك لم يخلُ عن مضاعفات، وهي انتقال
تلك الآراء والأفكار إلى المسلمين، وهم غير متدرّعين تجاه تلك الشبهات والمشاكل.
انتقال الأُسر
وأعان على ذلك أمرٌ ثانٍ؛ وهو انتقال عدّة من الأُسَر إلى العواصم الإسلاميّة،
فانتقلوا إليها بآرائهم وأفكارهم وعقائدهم المضادّة للإسلام وأُسسه، وكان بين
المسلمين من لم يتورّع في أخذ هاتيك العقائد الفاسدة، نظراء: عبد الكريم ابن أبي
العوجاء، وحماد بن عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن اياس، وعبد الله بن المقفّع إلى
غير ذلك بين غير متدرّع أو غير متورّع، فأوجد ذلك قلقاً ووحشةً بين المسلمين.
الترجمات
أضف إلى ذلك أمراً ثالثاً كان له التأثير الحاسم في بسط الإلحاد والزندقة وهو نقل
الكتب الرومانيّة واليونانيّة والفارسيّة إلى اللغة العربيّة دون نظارةٍ ورقابةٍ،
وجعلها في متناول أيدي الناس، وقد ذكر ابن النديم تاريخ ترجمة تلك الكتب فقال:
"كان خالد بن يزيد بن معاوية محِبّاً للعلوم، فأمر بإحضار جماعةٍ من فلاسفة
اليونان، ممّن كان ينزل مدينة مصر، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان
اليونانيّ والقبطيّ إلى العربيّ، وهذا أوّل نقل كان في الإسلام من لغةٍ إلى لغة، ثم
نقل الديوان وكان باللغة الفارسيّة إلى العربيّة في أيّام الحجّاج، وكان أمر
الترجمة يتقدم ببطء، إلى أن ظهر المأمون في ساحة الخلافة، فراسل ملك الروم يسأله
الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة، المدّخرة في بلاد الروم،
فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فبعث المأمون جماعة، منهم: الحجّاج بن مطر، وابن بطريق،
ومحمّد بن أحمد و الحسين بنو شاكر المنجّم، فجاؤوا بطرائف الكتب، وغرائب المصنّفات
في الفلسفة والهندسة وغيرهما"1. ثم ذكر ابن النديم أسماء النقلة من
اللغات المختلفة إلى اللغة العربيّة، وجاء بأسماء كميّة هائلةٍ فأخذوا يصبون ما
وجدوه من غثٍّ وسمينٍ في كتب الوثنيّين والمسيحيّين على رؤوس المسلمين، وهم غير
متدرّعين وغير واقفين على جذور هذه الشُبَه، مع أنّها كانت تزعزع أركان الإسلام.
موقف المسلمين من الشبه
أثار انتقال هذه الشُبَه والعقائد والآراء إلى أوساط المسلمين ضجّةً كبيرة بينهم،
فافترقوا إلى فرقتين:
فرقةٍ اقتصرت في الذب عن حياض الإسلام بتضليلهم وتكفيرهم وتوصيفهم بالزندقة، وتحذير
المسلمين من الإلتقاء بهم، وقراءة كتبهم، والاستماع إلى كلامهم، إلى غير ذلك ممّا
كان يعدّ مكافحةً سلبيةً لها الأثر القليل في مقابل ذلك السيل الجارف.
وفرقةٍ قد أحسّوا بخطورة الموقف، وأنّ المكافحة السلبيّة لها أثرها المؤقّت، وأنّ
ذلك الداء لو لم يعالج بالدواء الناجع سوف يعمّ المجتمع كلّه أو أكثره، فقاموا
بمكافحة إيجابيّة عبر الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال الذي يستحسنه
الإسلام، فأزالوا شبهاتهم، ونقدوا أفكارهم في ضوء العقل والبرهان. وقد نجحوا في ذلك
نجاحاً باهراً. وهؤلاء المناضلون هم الشيعة خرّيجو مدرسة أهل البيت عليهم السلام
أوّلاً، والمعتزلة أتباع واصل بن عطاء ثانياً، الذين أخذوا أُصول مذهبهم عن عليّ
عليه السلام بواسطتين:
1 ـ أبي هاشم بن محمّد بن الحنفيّة.
2 ـ محمّد بن الحنفيّة بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام .
ففي تلك الأجواء المشحونة بالبحث والجدل استفحل أمر الكلام، أي العلم الباحث عن
المبدأ وأسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله لغاية الذبّ عن الإسلام.فكان علم الكلام
وليدَ الحاجة، ورهن الصراع الفكريّ مع التيّارات الإلحاديّة المتحدّية للإسلام
والمسلمين. ففي هذه الظروف العصيبة قام أهل البيت عليهم السلام بتربية جموعٍ غفيرةٍ
من أصحاب المواهب، للذبّ عن الإسلام وأُصوله والذود عن حريم الولاية، في ضوء العقل
والبرهان، فصاروا يناظرون كلّ فرقةٍ ونِحلةٍ بأمتن البراهين وأسلمِها. وكان أئمّة
أهل البيت عليهم السلام متكفّلين بتدريبهم وتعليمهم كيفيّة مناظرتهم. وقد حفظ
التاريخ أسماء لفيفٍ من الرافلين في حلل الفضائل والمعارف. وسوف نتعرّض لأسمائهم إن
شاء الله تعالى.
خلاصة القول
والخلاصة أنّ القرآن والسنّة، وأحاديث العترة الطاهرة، هي المنطلق الحقيقي لنشوء
علم الكلام، وأنّ المسلمين بطوائفهم المختلفة كانوا يصدرون عنهما، كما كان للّقاء
الحضاري والاحتكاك الثقافي دور في تكامل علم الكلام وكثرة مسائله. فالكتاب والسنّة
كانا مرجعين للاهتداء إلى موقف الإسلام. واللّقاء الحضاري كان سبباً لطرح المسائل
في الأوساط، وانتقال الأذهان. وبالتالي أصبح الأمران سبباً لنشوء هذا العلم ونضوجه
بين المسلمين على نزعاتهم المختلفة.
بدايات المسائل الكلاميّة في القرن الأوّل والثاني:
يصرّ كتّاب الملل والنحل على أنّ الاختلاف في الإمامة كان أوّل اختلافٍ دينيٍّ
وأعظم خلافٍ بين الأُمّة.
يقول أبو الحسن الأشعريّ: "أوّل ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد وفاة
نبيّهم صلى الله عليه وآله اختلافهم في الإمامة"2.ويقول الشهرستانيّ:
"إنّ الاختلاف في الإمامة أعظم خلاف بين الأُمّة، إذ ما سلّ سيفٌ في الإسلام على
قاعدةٍ دينيّةٍ مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان"3.
والصحيح أنّ الاختلاف في الإمامة بعد أيام الخلفاء، وإن أصبح اختلافاً كلاميّاً،
فذهب أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام إلى أنّها بنصٍّ من الرسول الأكرم صلى
الله عليه وآله ، بينما اختار أتباع مدرسة الخلفاء القول بأنّها بالشورى، ولم يكن
يوم ارتحل الرسول صلى الله عليه وآله اختلافاً في قاعدةٍ دينيّةٍ، وجدالاً في
مسألةٍ كلاميّةٍ، بل كان جدالاً سياسياً محضاً، ولا يبتنى على قاعدةٍ دينيّةٍ، لأنّ
عليّاً وأهل بيت النبيّ عليهم السلام ولفيفاً من شيعة الإمام عليه السلام كانوا
بعيدين عن السقيفة وما جرى فيها، مشغولين بتجهيز النبيّ صلى الله عليه وآله . وأمّا
الأنصار فكانوا يرون أنفسهم أولى بإدارة الأُمور لأنّهم آووا النبي صلى الله عليه
وآله ونصروه. وكان المهاجرون يرون أنفسهم أولى بها لأنّهم أصل النبيّ صلى الله عليه
وآله وعشيرته، من دون أن يبحث أحدٌ من الفئتين عن القاعدة الدينيّة التي ينبغي أن
تبنى عليها الإمامة، وأنّها هل هي التنصيص، أو الشورى أو غيرهما، وما هو الملاك
فيها؟ بل كانت هذه الأُمور مغفولاً عنها يوم ذاك، وكان الهدف هو تسنّم منصّة
الخلافة وتداول كرتها بين أبنائهم وعشيرتهم. حتّى لو لم تكن حكومة الرسول صلى الله
عليه وآله حكومة دينيّة وكان الرسول صلى الله عليه وآله قائداً بشريّاً مات عنها،
لقام المهاجرون والأنصار بنفس ذلك الجدال، ولسعى كلٌّ إلى جرّ النار إلى قرصه. ولو
كان النزاع على أساس دينيّ، لما كان للاختلاف مجالٌ، وكفتهم هتافات الرسول صلى الله
عليه وآله في بدء الدعوة، ويوم ترك المدينة لغزوة تبوك، ويوم الغدير وغيرها من
المواقف بالإضافة إلى الأحاديث التي دلّت على إمامة الأئمّة عليهم السلام من بعده.
* علم الكلام, سلسلة مداخل العلوم , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1-ابن النديم ت:438ه/
فهرست ابن النديم/ تحقيق تجدد-رضا/ طهران,ص303.
2-مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين:1/34,نشرة محيي الدين عبد الحميد. نقلا عن
السبحاني في مقدمته على نهاية المرام في علم الكلام/ تحقيق: فاضل عرفان/ منشورات
مؤسسة الامام الصادق عليه السلام,قم-ايران, ط.الاولى1419ه-ج1 ص15.
3-الشهرستاني/ الملل والنحل/ دار المعرفة-لبنان/ج1 ص24.