يتم التحميل...

المدرسة المشائية

علم الفلسفة

بعد أن تعرّضنا لنبذةٍ عن سير الفلسفة الإسلاميّة، لا بأس بالإشارة إلى أهمّ المدارس الفلسفيّة التي سادت في الأوساط العلميّة الإسلاميّة، وتأثّر بها الحكماء المسلمون. وقد درج الباحثون في تاريخ الفلسفة لا سيما الإسلاميّة على التعرّض لهذه المدارس العلميّة.

عدد الزوار: 374

تمهيد:
بعد أن تعرّضنا لنبذةٍ عن سير الفلسفة الإسلاميّة، لا بأس بالإشارة إلى أهمّ المدارس الفلسفيّة التي سادت في الأوساط العلميّة الإسلاميّة، وتأثّر بها الحكماء المسلمون. وقد درج الباحثون في تاريخ الفلسفة لا سيما الإسلاميّة على التعرّض لهذه المدارس العلميّة. وقد اتضحت الفروق بين هذه المدارس بشكل أكثر كلّما ترسّخت فلسفةٌ جديدةٌ وكثر مناصروها ومحاربوها، ممّا ساعد على البحث والتنقيح لإثبات ميزات الفلسفة البديلة وكشف عيوب الفلسفة المناوئة. ومن أبرز تلك المدارس: الفلسفة المشّائيّة، الفلسفة الإشراقيّة، وفلسفة الحكمة المتعالية.

1- الفلسفة المشّائية:
سبب التسمية:
يُنقل عادةً لتسمية هذه الفلسفة بالمشّائية سببان أساسان:

الأول: ما يذكره صاحب الملل والنحل "أمّا المشّاؤون بشكل مطلق فهم من أهل لوقين وأفلاطون لاحترامه الحكمة كان يعلّمها دائماً وهو في حال المشي، وتبعه على ذلك أرسطو، ومن هذا الباب سُمي (والظاهر أنّه أرسطو)1 وأتباعه بالمشّائين"2.

الثاني: إنّ أتباع هذه المدرسة يتّبعون المنهج العقليّ- على ما سيأتي توضيحه- وهو أنّهم يسيرون من المقدّمات ليشكّلوا الدليل حتى يصلوا إلى النتيجة، وهم يرفضون أيّ منهجٍ آخر، ولهذا المشي العقليّ وسموا بالمشّائين. "وإذا أردنا أن نستعمل كلمةً وتسميةً تحمل في طيّاتها طريقتهم الفلسفيّة فلا يوجد أفضل من كلمة الاستدلاليين "3.

المعلّم الأول:
استطاع أرسطو وهو تلميذ أفلاطون، وكبير فلاسفة اليونان، أن يؤسّس مدرسةً فلسفيّةً عظيمة، سيطرت على التفكير البشريّ بشتى اتجاهاته لفترة قرونٍ متواليةٍ، وما ذلك إلا للأسُس المنطقيّة والعقليّة التي وضعها في قالبٍ علميٍّ دقيقٍ. ويعود الفضل الكبير في تدوين هذه القواعد، وإخراجها من فطرة التفكير البشريّ السليم إلى حيّز التقنين والقواعد، لتشكل علماً مستقلاً، وقواعد عقليّةً يرجع إليها في فصل الخصومات، ويبنى على أساسها الفكر الصحيح، والاستدلال القويم، يعود ذلك كلّه إلى أرسطو، ولذلك حاز لقب المعلّم الأول. ولم يزل كثيرٌ من قواعد هذه المدرسةِ التي أسّسها يُعمل بها إلى عصرنا الحاليّ.

الفلسفة المشائيّة في الأوساط الإسلاميّة:
انتقلت هذه الفلسفة من اللغة اليونانيّة إلى الأوساط العربيّة على يد المترجمين في عهد الترجمة الإسلاميّة. وكان من أبرز الفلاسفة العرب المسلمين يعقوب بن إسحاق الكنديّ، إلا أنّ "دوره لم يتجاوز الشرح والتفسير بالنحو الذي يجعلها مطابقةً مع الأفكار الأساسيّة في الدين الإسلاميّ"4.

وظلّت الحركة الفكريّة في الأوساط الإسلاميّة تتناقل أفكار حكماء هذه المدرسة، ترجمةً وشرحاً وتفسيراً، حتى جاء دور العلَمين الكبيرين، أبي نصر الفارابي الملقّب بالمعلّم الثاني، وأبي علي بن سينا الملقّب بالشيخ الرئيس، وهو رئيس المدرسة المشائيّة في الفكر الإسلاميّ. فقد استطاع هذان العَلَمان- بعد هضم الفلسفات والأفكار السابقة والمطروحة ونقدها- تطويرَ كثيرٍ من الأصول الفلسفيّة حتى بلغت المدرسة المشّائية الرشد والكمال المطلوب.

لم يكن للفلسفة قبل هذين العلَمين كيان مستقل عن فلسفة أرسطو، وسائر الفلسفات المنقولة. لكن بالجهود الجبّارة التي بذلاها خرجت الفلسفة ككيانٍ مستقلٍّ في الأوساط الفكريّة الإسلاميّة، وروّجا لهذه الفلسفة بشكلٍ كبيرٍ جدّاً ولذلك استحقّا بكل تقديرٍ هذه الألقاب التي أُضيفت إليهما.

ميّزات المدرسة:
إنّ لكلّ مدرسةٍ طريقةَ تفكيرٍ خاصةً بها، وأسلوبَ بحثٍ يختلف عن المدارس الأخرى، لذلك بقواعدها وطريقتها وأسلوبها تشكّل مدرسةً مستقلّةً. ومن الضروري جدّاً التعرّف إلى خصائص وميّزات كلّ مدرسةٍ على حدةٍ، ليمكن تمييزها وأتباعها عن الأخرى، وعلى هذا فالمدرسة المشائيّة تمتاز بعدّة خصائص وميّزات.

الأولى: المنهج العقليّ الذي يعتمد عليه في تحقيق المسائل الفلسفيّة، حتى في المسائل المتعلّقة بالأخلاق والسياسة، فإنّ هذه المدرسة حاولت أن تستخرج مسائلها من المبادئ العقليّة عبر الطرق المنطقيّة. ومن هنا نجد أنّ المحور الأساس الذي يقوم عليه البناء الفلسفيّ لمدرسة الشيخ الرئيس هو حاكميّة المنهج العقليّ. ونجد من أهمّ الخطوط العريضة العامة التي تحكم هذا النوع من التفكير، هو الموقف السلبيّ تجاه المكاشفة والشهود. وهي تبتنى على أن الطريق الوحيد للمعرفة هو العقل، وأن طريق إثباتها للآخرين هو الاستدلال العقليّ لا غير.

الثانية: إنّ الروح العامّة التي تحكم هذه الفلسفة هي الاهتمام بالإلهيّات خصوصاً، وبأبحاث الفلسفة الأولى عموماً. ويبدو ذلك واضحاً من خلال مراجعة أبحاث هذه الفلسفة، ومؤلفاتها.

الثالثة: تحاول هذه الفلسفة أن تربط أبحاثها الفلسفيّة بقضايا الإنسان، لذلك نجدها تهتمّ بالقضايا الأخلاقيّة، وانتقلت هذه المسألة إلى الفلاسفة المسلمين، فجعلوا ذلك من صميم أفكار فلسفتهم الأساسيّة. وهذا يعني وجود بعدٍ عمليّ طُعِّمت به الفلسفة النظريّة لمعالجة مشاكل الحياة الإنسانيّة.

فلاسفة هذه المدرسة:
يمكن أن نذكر أهمّ الفلاسفة المسلمين الذين ينتمون إلى المدرسة المشائيّة، ونعدّ منهم يعقوب بن إسحاق الكندي، أبا نصر الفارابي، أبا علي بن سينا، الخواجة نصير الدين الطوسي، الميرداماد، ابن رشد الأندلسي، وابن باجة الأندلسي، ويعتبر الشيخ الرئيس هو الفيلسوف الكامل والبارز لهذه المدرسة.

والأعم الأغلب من كتب هؤلاء الفلاسفة يبتنى على المنهج العقلي والاستدلالي، ونذكر منها بعض كتب الشيخ الرئيس كالإشارات والتنبيهات، وقد شرح هذا الكتاب الشيخ الطوسي، وكتب: الشفاء، التعليقات، المباحثات، المبدأ والمعاد، النجاة، وعيون الحكمة.

الموقف من الشريعة:
وبما أنّ هذه الفلسفة قد تبناها هؤلاء الفلاسفة المسلمون، شرحاً وتكميلاً وتدعيماً وبناءً جديداً، فمن المفروض أن تأخذ هذه الفلسفة طابعها الإسلاميّ، وتكون موافقة في أصولها العامة وخطوطها الكليّة لأفكار الشريعة الإسلاميّة.

لذلك كان أتباع هذه الفلسفة بصدد المطابقة بين المقولات الفلسفيّة التي يتبنونها نظريّاً وبين معطيات الشريعة التي يعتقدون بها عمليّاً، وما ذلك إلا لأنّهم كانوا عباقرةً مسلمين قبل أن يكونوا فلاسفةً مشّائين. ومن هنا لا يمكن أن نعتبر هذه الفلسفة أنها فلسفة عقليّة محضةً ولا تعتني أبداً بالمطابقة بين محتواها وبين الشريعة محتواها للشريعة السمحاء.

تقويم هذه المدرسة:
بعد اكتمال هذه المدرسة ونضوجها في الأوساط الإسلاميّة، يبقى السؤال عن مدى قدرتها على المطابقة بين العقل والشريعة. فهل استطاعت هذه الفلسفة أن تثبت المعطيات الأساس للدين الإسلاميّ من خلال القواعد العقليّة والمنطقيّة التي تتبناها على مستوى النظريّة؟ وبتعبيرٍ آخر: هل استطاعت هذه الفلسفة أن تبني صرحاً فلسفيّاً مدعّما بالعقل والبرهان يوافق أصولَ الشريعة وموازينها؟

"يمكن القول: إنّ المدرسة المشائيّة لم يحالفها التوفيق كثيراً في هذا المجال، بالأخص في البحوث المرتبطة بعلم النفس الفلسفيّ، وعلم المعاد، وكذلك ما يرتبط بالنشآت الوجوديّة التي سبقت عالمنا المشهود، وغيرها من المسائل الأساسيّة الكثيرة التي أخفقت في تحقيقها فلسفيّاً وعقليّاً"5.

ولعلّ أبرز أسباب هذا الإخفاق هو اعتمادهم على القواعد العقليّة التي أسّسوها، ومعاملتهم لها معاملة النصوص المنزلة التي لا يمكن المساس بها، وأنّها قضايا عقليّةٌ ضروريّةٌ لا تقبل الخطأ ولا النقد ولا التمحيص. ولذلك أخذوا بالتفكير بالمعطيات الشرعيّة والدينيّة، محاولين تطبيقها على هذه القواعد الفلسفيّة المعصومة بنظرهم، فوقعوا في إشكاليّة "وورطة تأويل النصوص الدينيّة بما ينسجم مع النتائج العقليّة"6.

فكأنّ التفكير الباطنيّ لهؤلاء الفلاسفة كان يعتمد على أنّ معطيات العقل لا تقبل البحث والنقد، بخلاف المعطيات الشرعيّة، حيث تقبل الأخيرة التفسير والتأويل والتطبيق، فابتعدوا بذلك عن ظواهر الشريعة، فواجهوا تيّاراً فكريّاً من المتكلّمين المسلمين يتّهمهم بعدم رعاية حرمة ظواهر الشريعة، واهتمامهم الشديد بحرمة مقولاتهم العقليّة والمنطقيّة.

* علم الفلسفة, سلسلة مداخل العلوم , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- لا يمكن التشكيك في تسمية أرسطو وأتباعه بالمشائين، واستمرار هذه التسمية في العصور الإسلاميّة، إلا أنّ الذي يقبل الشك، بل النفي والإنكار، هو أن يكون أفلاطون إشراقياً. (راجع مدخل إلى الفلسفة: مرتضى مطهري/ ص113).
2- الشهرستاني/ الملل والنحل/ دار المعرفة ـ لبنان/ ج2 ص 102.
3- مطهري ـ مرتضى/ مدخل إلى الفلسفة/ دار نور المصطفى ط. 2007 /ص 111.
4- الحيدري ـ كمال/ دروس في الحكمة المتعالية/ دار الصادقين/ ط. الأولى 1999/ ج1 ص 36.
5- الحيدري ـ كمال/ دروس في الحكمة المتعالية / دار الصادقين/ ط. الأولى 1999/ ج1 ص 39.
6- الحيدري ـ كمال/ دروس في الحكمة المتعالية / دار الصادقين/ ط. الأولى 1999/ ج1 ص 39.

2015-11-01