يتم التحميل...

علم الأصول موضوعه، أهميته، علاقته بالعفّة

علم الأصول

يذكر- عادةً- أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً ترتكز عليه جميع بحوث هذا العلم، وتدور حوله مسائله، وتستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالاتٍ وقوانين. فالفيزياء مثلاً موضوعها الطبيعة.

عدد الزوار: 214

يذكر- عادةً- أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً ترتكز عليه جميع بحوث هذا العلم، وتدور حوله مسائله، وتستهدف الكشف عما يرتبط بذلك الموضوع من خصائص وحالاتٍ وقوانين. فالفيزياء مثلاً موضوعها الطبيعة. وبحوث الفيزياء ترتبط كلّها بالطبيعة، وتحاول الكشف عن حالاتها وقوانينها العامة. وموضوع النحو الكلمة، لأنه يبحث عن حالات بنائها وإعرابها من رفعٍ أو نصبٍ أو جزمٍ أو جرٍّ. وعلم الطبّ موضوعه جسم الإنسان، لأنّ كلّ مسائله وأبحاثه تدور حول جسم الإنسان من حيث الصحّة والمرض. وهكذا بالنسبة لسائر العلوم. وبما أنّ لكلّ علمٍ موضوعاً فما هو موضوع علم الأصول الذي تدور حوله بحوثه ومسائله؟

وبملاحظة تعريف علم الأصول المتقدّم نستطيع أن نعرف أنّ علم الأصول يدرس في الحقيقة العناصر المشتركة في علم الفقه لإثبات دليليّتها، فيبحث عن حجيّة الظهور المتقدّمة ليرى هل هي عنصرٌ مشتركٌ أم لا، وهل يصحّ الاعتماد عليها كدليل في الاستدلال الفقهيّ، وإلى أيّ مدى يمكن الاعتماد عليها؟ وهكذا بالنسبة لسائر الأدلّة والعناصر المشتركة. وبهذا صحّ القول بأنّ موضوع علم الأصول هو "الأدلّة المشتركة في عمليّة الاستنباط"1.

2- أهميّة علم الأصول وفائدته
ولا يوجد أيّ حاجة للتأكيد على أهميّة علم الأصول، وخطورة دوره في عالم الاستنباط، لأنّه ما دام يقدّم العناصر المشتركة في عمليّة الاستنباط، ويضع النظام العامّ في الاستدلال الفقهيّ، فهو عصب الحياة في هذه العمليّة. وبدون علم الأصول يواجه الشخص في الفقه ركاماً متناثراً من النصوص والأدلّة دون أن يستطيع استخدامها والاستفادة منها في الاستنباط، كإنسان يواجه أدوات النجارة ويعطى منشاراً وفأساً وما إليهما من أدوات، دون أن يملك أفكاراً عامّةً عن عمليّة النجارة وطريقة استخدام تلك الأدوات.

فعلم الأصول يبحث عن نوعٍ خاصٍ من عمليّة التفكير، أي عن عمليّة التفكير الفقهيّ في استنباط الأحكام الشرعيّة، ويدرس العناصر المشتركة التي يجب أن تدخل فيها لكي يكون الاستنباط سليماً. فهو يعلّمنا كيف نستنبط الحكم بحرمة الارتماس على الصائم، وكيف نستنبط اعتصام ماء الكرّ، وكيف نستنبط الحكم باستحباب صلاة العيد أو وجوبها، وذلك بوضع المناهج العامّة، وتحديد العناصر المشتركة لعملية الاستنباط. وعلى هذا الأساس يصحّ أن يطلق على علم الأصول اسم (منطق علم الفقه) لأنّه بالنسبة إليه بمثابة المنطق بالنسبة إلى الفكر البشري بصورة عامّة، فكما أنّ المنطق يصحّح التفكير البشريّ بشكلٍ عامّ، كذلك الأصول يصحّح التفكير لكن لا مطلق التفكير، وإنّما التفكير الفقهيّ خاصّةً. وهذه ميزةٌ كبيرةٌ لعلم الأصول أعطته وسام السبق في الأهميّة بين العلوم الإسلاميّة، لما له من ارتباطٍ مباشرٍ بالفقه واستنباط الحكم الشرعيّ. وبقدر ما اتسع الالتفات تدريجاً من خلال البحث الفقهيّ إلى العناصر المشتركة، اتسع علم الأصول وازداد أهميّةً.

3- الأصول والفقه النظريّة والتطبيق
ولا يُتصوّر أن من يدرس في علم الأصول العناصر المشتركة ويحدّدها، ويتناول بحوث علم الفقه العناصر الخاصّة، ليكمل بذلك عمليّة الاستنباط، يبقى عليه أن يستخرج الروايات والنصوص من مواضعها، وبإضافتها إلى العناصر المشتركة يستنبط منها الحكم الشرعيّ، وهذا جهدٌ علميٌّ بسيطٌ جداً.

فإنّ هذا التصور خاطئٌ جدّاً، لأنّ المجتهد إذا حدّد العناصر المشتركة في علم الأصول، لا يكتفي بتجميعٍ أعمى للعناصر الخاصّة من كتب الأحاديث والروايات مثلاً، بل يبقى عليه أن يمارس في علم الفقه تطبيق تلك العناصر المشتركة ونظريّاتها العامّة على العناصر الخاصّة. والتطبيق مهمّةٌ فكريّة تحتاج إلى درسٍ وتمحيصٍ. ولا يغني الجهد العلميّ المبذول أصوليّاً عن بذل جهدٍ جديدٍ في التطبيق، فلنفرض مثلاً أنّ المجتهد آمن في علم الأصول بحجيّة الظهور العرفيّ، فهل يكفيه أن يضع إصبعه على مكاتبة عليّ بن مهزيار التي حدّدت مجالات الخمس ليضيفها إلى العنصر المشترك، ويستنبط من ذلك عدم وجوب الخمس في ميراث الأب؟! أوليس المجتهد بحاجةٍ إلى تدقيق مدلول النصّ في الرواية لمعرفة نوع مدلوله في العرف العام، ودراسة كلّ ما يرتبط بتحديد ظهوره العرفيّ من قرائن وإمارات داخل إطار النصّ أو خارجه، لكي يتمكّن بأمانةٍ من تطبيق العنصر المشترك القائل بحجيّة الظهور العرفيّ؟

فالبحث الفقهيّ عن العناصر الخاصّة في عملية الاستنباط ليس مجرّد عمليّة تجميعٍ أعمى، بل هو مجال التطبيق للنظريّات الأصوليّة. وتطبيق النظريّات العامّة له دائماً موهبته الخاصّة ودقّته. ومجرّد الدقّة في النظريّات العامّة لا يغني عن الدقّة في تطبيقها. ألا ترون أن من يدرس بعمقٍ النظريّات العامّة في الطبّ يحتاج في مجال تطبيقها على حالةٍ مرَضيّةٍ إلى دقّةٍ وانتباهٍ كاملين، وتفكيرٍ في تطبيق تلك النظريّات على المريض الذي بين يديه؟ كذلك الحال في تطبيق الفقيه للعناصر العامّة والخاصّة في عمليّة الاستنباط.

* علم  الاصول، سلسلة مداخل العلوم ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- الصدر ـ محمد باقر(ت:1400هـ): دروس في علم الأصول/ دار الكتاب اللبناني، بيروت ـ لبنان، ط. الثانية 1986م./ ج 1 ص 39.

2015-11-01