الإجتهاد ومدرسة الرأي
علم الأصول
إنّ الإنسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثاله لأحكامها، ملزمٌ بتحديد موقفه العمليّ منها. وعندما لم تكن أحكام الشريعة في الغالب واضحةً بنحوٍ تغني فيه عن إقامة الدليل، فلا يعقل أن يحجر على الناس جميعاً تحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة تحديداً استدلاليّاً،
عدد الزوار: 292
تمهيد:
إنّ الإنسان بحكم تبعيته للشريعة ووجوب امتثاله لأحكامها، ملزمٌ بتحديد موقفه
العمليّ منها. وعندما لم تكن أحكام الشريعة في الغالب واضحةً بنحوٍ تغني فيه عن
إقامة الدليل، فلا يعقل أن يحجر على الناس جميعاً تحديد الموقف العمليّ تجاه
الشريعة تحديداً استدلاليّاً، فعملية استنباط الحكم الشرعيّ لتحديد الموقف العمليّ
للمكلّف ليست عمليّةً جائزةً فحسب، بل هي ضروريّةٌ وينبغي ممارستها، وذلك بحكم
تبعيّة الإنسان للشريعة.
ولكن اكتسبت هذه العمليّة صيغةً أخرى لا تخلو عن غموضٍ، فاستخدمت كلمة (الاجتهاد)
للتعبير عن عمليّة الاستنباط، وطرح السؤال بهذه الصيغة: "هل يجوز الاجتهاد في
الشريعة أو لا؟" فدخلت كلمة الاجتهاد في السؤال- وهي كلمةٌ مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ
في تاريخها- وأدّى ذلك إلى أن يتحمّل هذا السؤال المعاني والمصطلحات السابقة لهذه
الكلمة. ونتيجة الفهم الخاطئ لبعض مصطلحاتها، والغفلة عن تطوّر الاصطلاح، رفض
جماعةٌ من علمائنا المحدثين عمليّة الاجتهاد، وشجبوا علم الأصول كلّه، لأنّه إنما
يراد لأجل الاجتهاد، فإذا ألغي الاجتهاد لم يعد هناك أيّ حاجةٍ إلى علم الأصول.
مدرسة الرأي
قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسةٌ فقهيّةٌ واسعة النطاق، تحمل اسم مدرسة الرأي
والاجتهاد، وتطالب باتخاذ العقل- بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظنّ والتقدير
الشخصيّ للموقف - أداةً رئيسةً للإثبات إلى صفّ البيان الشرعيّ، ومصدراً للفقيه في
الاستنباط، وأطلقت عليه اسم الاجتهاد. وكان على رأس هذه المدرسة أو من روّادها
الأوّلين أبو حنيفة (المتوفي سنة 150هـ). والمأثور عن رجالات هذه المدرسة أنّهم
كانوا حيث لا يجدون بياناً شرعيّاً يدلّ على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم
الخاصّة، وما يدركون من مناسباتٍ وما يتفتق عنه تفكيرهم الخاصّ، من مرجّحات لهذا
التشريع على ذاك، ويفتون بما يتّفق مع ظنّهم وترجيحهم، ويسمون ذلك استحساناً أو
اجتهاداً.
وجاء في كلام لأبي حنيفة وهو يحدّد نهجه العام في الاستنباط: "إذا لم أجد في
كتاب الله ولا في سنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أخذت بقول أصحابه، فإذا
اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة آخذُ بقول من شئت، وأدع من شئت، ولا أخرج من قولهم
إلى قول غيرهم من التابعين1. فإذا انتهى الأمر أو جاء الأمر إلى
إبراهيم والشعبيّ وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن جبير- وعدّد رجالاً- فقومٌ
اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا"2.
والفكرة الأساس التي دعت إلى قيام هذه المدرسة، متبنية ً العقل بنطاقه الواسع
وسيلةً رئيسةً للإثبات، ومصدراً لاستنباط الحكم، هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك
المدرسة القائلة: "إنّ البيان الشرعيّ المتمثّل في الكتاب والسنّة قاصرٌ، ولا
يشتمل إلا على أحكام قضايا محدودة، ولا يتّسع لتعيين الحكم الشرعيّ في كثيرٍ من
القضايا والمسائل لكثرتها وتجدّدها"3.
وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامّة اتجاههم المذهبيّ السنيّ، إذ
كانوا يعتقدون أنّ البيان الشرعيّ يتمثّل فقط في الكتاب والسنّة النبويّة المأثورة
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وحيث لم يكن هذا يفي إلا بجزءٍ من حاجات
الاستنباط، اتجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق توسعة دور العقل
والمناداة بمبدأ الاجتهاد.
أ- المعنى الأوّل للاجتهاد:
وهذا هو المعنى الأوّل للاجتهاد، حيث فسّر بأنّ للفقيه الحقّ في إعمال ذوقه ورأيه،
في كلّ ما يراه قريباً من العدل والحقّ ويحكم به. ولذا صار الاجتهاد عندهم من مصادر
التشريع، فعدّوها أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع و الاجتهاد (القياس) الذي يُرجَعُ
إليه مع عدم وجود الحكم في المصادر السابقة.
ولذلك نجد أتباع مدرسة الخلفاء يرْوُون رواياتٍ عن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم تجيز الاجتهاد، كرواية معاذ بن جبل عندما أرسله النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم إلى اليمن قال له: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاءٌ؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال:
فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فإن
لم تجد في سنّة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم على صدره وقال:الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يرضى به
رسول الله)4، وما ورد من أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أمر بعض
أصحابه أن يجتهدوا إذا لم يجدوا الحكم في الكتاب أو السنّة، بل يقولون إن بعض أحكام
النبيّ نفسها اجتهاديّة لم تستند إلى وحيٍ، ثم جاء في كتبهم الأصوليّة التساؤل عمّا
إذا كان في اجتهادات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يجوز فيه الخطأ أم لا ؟5
فالفقيه عندما لا يجد نصّاً شرعيّاً من القرآن أو السنّة يعتمد عليه، يرجع إلى
تفكيره الخاصّ، فيبني على ما يرجح في فكره الشخصيّ من تشريعٍ، وقد يعبّر عنه بالرأي
أيضاً.
فالاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلّة الفقيه، ومصدراً ثالثاً من مصادره.
وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرةٌ في الفقه السنيّ، على رأسها مدرسة أبي
حنيفة.
موقف مدرسة أهل البيت عليهم السلام:
وقد واجه هذا الاتجاه وهذا المعنى للاجتهاد معارضةً شديدةً من أئمة أهل البيت عليهم
السلام. والروايات الواردة عنهم عليهم السلام والتي تذمّ الاجتهاد، تريد هذا
المعنى، وهو التفكير الشخصيّ الذي يكون مصدراً من مصادر الحكم، وكذلك الحال بالنسبة
للفقهاء المنتسبين لمدرستهم عليهم السلام، فقد شنّوا حملةً كبيرةً وصنّفوا كتباً في
الردّ على الاجتهاد بهذا المعنى كالشيخ الطوسيّ مثلاً،6وخاضوا معركةً
خطرةً ضدّ هذا الاتجاه العقليّ المتطرّف. ولم تكن معركةً ضدّ اتجاهٍ أصوليٍّ فحسب،
بل هي في حقيقتها معركةٌ للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها وشمولها
لمختلف مجالات الحياة، ولهذا استفاضت الأحاديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في
عصر تلك المعركة تؤكّد اشتمال الشريعة على كلّ ما تحتاج إليه الإنسانيّة من أحكام
وتنظيم في شتّى مناحي حياتها، وتؤكّد أيضاً وجود البيان الشرعيّ الكافي لكلّ تلك
الأحكام، متمثّلاً في الكتاب والسنّة النبويّة وأقوالهم عليهم السلام.
1- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنّ الله تعالى أنزل في القرآن
تبيان كلّ شيءٍ، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد
أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه"7.
2- عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: "ما من شيءٍ إلا وفيه كتابٌ أو سنّةٌ"8.
3- وفي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يصف فيه الجامعة التي تضمّ أحكام
الشريعة، فيقول: "فيها كلّ حلالٍ وحرامٍ وكلّ شيءٍ يحتاج الناس إليه حتى الأرش
في الخدش"9.
وبعد هذه الحملة الكبيرة من الأئمة عليهم السلام والفقهاء من مدرستهم، على اتجاه
مدرسة الرأي، وتفسير الاجتهاد بهذا المعنى، اكتسبت الكلمة طابعاً من الكراهيّة
والاشمئزاز في الذهنيّة الفقهية الإماميّة. وعلى هذا الضوء يمكننا أن نفسّر موقف
جماعة من المحدّثين، عارضوا الاجتهاد وبالتالي شجبوا علم الأصول. فإنّ هؤلاء
استفزّتهم كلمة الاجتهاد لما تحمل من تراث المصطلح السنّيّ الذي شجبه أهل البيت
عليهم السلام، فحرّموا الاجتهاد مطلقاً حتى ذاك الذي حمل المجتهدون من فقهائنا
رايته، واستدلّوا على ذلك بموقف الأئمة عليهم السلام ومدرستهم الفقهيّة ضدّ
الاجتهاد، وهم لا يعلمون أنّ ذلك الموقف كان ضدّ المعنى السنّيّ للاجتهاد، والفقهاء
من الأصحاب قالوا بمعنى آخر للكلمة.
* علم الاصول، سلسلة مداخل العلوم ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- يعقوب ـ أحمد
حسين: مساحة للحوار/ منشورات الغدير للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ط. الأولى
1997م. ص 162.
2- يحيى بن معين(ت: 233 هـ): تاريخ ابن معين الدوريّ/ تحقيق: عبد الله أحمد حسن/
دار القلم للمطبوعات والنشر، بيروت ـ لبنان/ ج 2 ص 51. وابن عبد البرّ(ت: 463 هـ):
الإنتقاء فيفضائل الثلاثة الأئمّة الفقهاء/ دار الكتب العلميّة، بيروت ـ لبنان. ص
143.
3- راجع الغزّالي (ت: 505 هـ): المنخول في علم الأصول/ تحقيق د. محمد حسن هيتو/
منشورات دار الفكر، دمشق ـ سوريا/ ط. الثالثة 1419 هـ ص 596.
4- راجع مسند أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ)/ دار صادر، بيروت ـ لبنان/ ج 5 ص 242. وعبد
الله بن بهرام الدارميّ (ت: 255 هـ): سنن الدارميّ/ مطبعة الاعتدال، دمشق ـ سوريا/
ط. 1349 هـ. ج 1 ص 60. وابن الأشعث السجستاني (ت: 275 هـ): سنن أبي داوود/ تحقيق
سعيد محمّد اللحام/ دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ط. الأولى 1990 م. ج
2 ص 162.
5- لا يكاد يخلو كتاب أصولي من كتب العامة عن هكذا تساؤلات.
6- (الطوسي محمد بن الحسن شيخ الطائفة الشيعية ومجددها في القرن الخامس، توفي
عام460 هـ، قدم خدمات جليلة للتشيع، وواجه التيارات الأخرى، ومن أبرز كتبه التهذيب
والإستبصار، وله كتاب عدة الأصول فنّد فيه الاِجتهاد بمعناه القديم، وأفرد أبواباً
خاصة لذلك كباب القياس وباب الاِجتهاد وله كتب استدلالية ضخمة ككتابي الخلاف
والمبسوط وكتب في الرجال والعقائد وغيرها.
7- الكليني: (ت: 329 هـ): الكافي/ تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب
الإسلاميّة، طهران ـ إيران، ط. الثالثة 1363 هـ ش. باب: الردّ على الكتاب والسنّة،
الحديث الأوّل. ج 1 ص 59.
8- الكليني: (ت: 329 هـ): الكافي/ تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب
الإسلاميّة، طهران ـ إيران، ط. الثالثة 1363 هـ ش. باب: الردّ على الكتاب والسنّة،
الحديث الرابع. ج 1 ص 60.
9- الكليني: (ت: 329 هـ): الكافي/ تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب
الإسلاميّة، طهران ـ إيران، ط. الثالثة 1363 هـ ش. باب: فيه ذكر الصحيفة والجفر
والجامعة ومصحف فاطمة (عليها السلام)، الحديث الأوّل. ج 1 ص 238.