يتم التحميل...

حول الكون

نهج البلاغة

تكلم الناس كثيرا عن طبيعة الكون وأصله، وعن هيئته وشكله في أول وجوده وتكوينه: هل وجد من التراب والماء والنار والهواء، أو من النار وحدها، أو من الماء فقط، أو من أشياء كثيره وهل كان وجوده دفعة أو بالتدريج، إلى غير ذلك..

عدد الزوار: 360

ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء

تكلم الناس كثيرا عن طبيعة الكون وأصله، وعن هيئته وشكله في أول وجوده وتكوينه: هل وجد من التراب والماء والنار والهواء، أو من النار وحدها، أو من الماء فقط، أو من أشياء كثيره وهل كان وجوده دفعة أو بالتدريج، إلى غير ذلك.. وقال الناس عن الكون ما شاء لهم الوهم والخيال.. وهذا ما دعا الإمام عليه السلام - كما نظن - أن يشير في خطبته هذه إلى أصل الكون، وقد يكون الغرض أن تعرف الأجيال القادمة ان الغيب الذي نطق به علي عن النبي صلى الله عليه واله عن اللَّه سبحانه هو حق وصدق.

ومهما يكن فقبل أن نفسر المراد من قوله عليه السلام نمهد بما يلي، لا بقصد التسهيل والتيسير على فهم ما قصد، وأراد عليه السلام بل غرضنا الأول أن يتثبت الشاكَّون، ولا يتسرعوا إلى الحكم بأن قول الإمام لا يتفق مع رأي علماء الطبيعة الجدد، ولا يعتمد على شيء، وان يعلم الجميع ان من قال هذا فقوله هو الجدير بهذا الوصف.. والدليل:

1 - ان علماء الطبيعة لم يتوصلوا إلى الاتفاق على تفسير علمي لمبدإ الكون، ولا كيف وجد وكم مضى له من العمر.. فمنهم من قال: بدأ الكون بانفجار من كتلة المادة البدئية، ولكنه لم يبين نوع هذه الكتلة البدائية. وقال آخر: بدأ الكون من السديم، أي الضباب الرقيق. وقال ثالث: بدأ من غاز الهيدروجين.. ولكن من أين جاء هذا الغاز، أو تلك المادة البدائية، أو ذاك السديم هل وجد صدفة، أو وجد لنفسه بنفسه، أو هو من قوة عليا.. أبدا لا جواب، أو جواب بلا دليل.. وفوق ذلك ان الكلام في بدء الكون حيث لا شيء إلا العدم، لا في وجود شيء نحاول معرفته والعلم به، واذن فتنبؤ هؤلاء أو تخرصهم بعيد عن موضوع الكلام والسؤال كل البعد، وكان عليهم أن يبحثوا أولا وقبل كل شيء: هل العالم حديث أو قديم وقد أثبت كثير من العلماء الجدد انه حادث، وقال رابع من علماء الطبيعة: "كل ما لدينا من معلومات لا تصحح نظرية واحدة عن الكون". وهذا العالم هو الدكتور (ماري )الأستاذ في جامعة سيدني، ويهتم اهتماما بالغا بالكون وأصله.

وأيضا اختلفوا في الكون: هل وجد بخطوطه الكبرى على الحال التي هو عليها الآن، أو تغير عما كان عليه. واختلفوا أيضا في عمر الكون، فمن قائل: هو ستون ألف مليون سنة، وقائل: بل عشرة آلاف مليون، وقال ثالث: لا دليل على العمر اطلاقا. وقال الدكتور فؤاد صروف نائب رئيس الجامعة الأمريكية بيروت: "والنقاش العلمي - أي في أصل الكون وعمره - قائم على قدم وساق".

وبعد هذا، هل يسوغ لقائل أن يقول: ان كلام الإمام عليه السلام عن خلق الكون - لا يتفق مع رأي علماء الطبيعة.. أجل، له أن يسأل ويقول: ولكن ما هو الدليل على أن الماء أصل الكون كما جاء في خطاب الإمام.

ونحن أيضا نسأل بدورنا: هل من دليل قاطع من الحس أو العقل على خلاف ما قاله الإمام عليه السلام . وهل من المستحيل أن يتقدم العلم، ويكشف بعد أجيال وقرون ان ما قاله علي عليه السلام في خلق الكون هو الحق الذي لا ريب فيه، تماما كما اكتشف ان النقطة الواحدة من الماء الذي نشربه فيها عجائب وغرائب من المخلوقات والكائنات الحية التي أشار إليها الإمام بقوله - قبل ألف عام أو أكثر -: " لا تبلّ في الماء فإن للماء أهلا". ومثله قول أستاذه الصادق الأمين صلى الله عليه واله : "ان الهواء فيه خلق كثير" وقبل الميلاد بخمسة قرون قال الفيلسوف اليوناني " انكساجوراس": انّ القمر مجرد جسم يشبه الأرض. وفي القرن الثالث قبل الميلاد أيضا قال " ارستراكوس" اليوناني: ان الأرض تدور حول محورها وحول الشمس. وفي القرن الأول الميلادي قال " بلوتارك": في القمر أودية وتلال.. وسخر الناس آنذاك من هذه الأقوال، وعدّوها سخفا وهراء.. وبعد ألفي سنة صعد الانسان إلى القمر، ووطأه بقدميه، ورآه تماما كالأرض.. هذا، وانكساجو راس وغيره من الذين صدقوا في نبؤاتهم - لم يأخذوا العلم من خالق الأرض والسماء كالأنبياء وتلاميذهم الأولياء.. وما يدرينا ان الأيام سوف تثبت قول الإمام في تفسير الكون، كما أثبتت ان القمر مثل الأرض. وما أكثر الشواهد في هذا الباب.

2 - هل من دليل قاطع على أن هذا الكون الذي نعيش فيه الآن هو بالذات الكون الأول بجميع خطوطه وتفاصيله. ان كلام الإمام عليه السلام واضح وصريح في مبدأ الكون الأول الذي سبق الأكوان كلها، وما سبقه إلا العدم والخواء، وقد مضى الأول إلى غير رجعة، وجاء بعده أكوان وأكوان.. هكذا نطقت الروايات عن أهل البيت عليه السلام. منها قول الإمام الباقر حفيد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: واللَّه لقد خلق اللَّه ألف عالم، وألف آدم قبل هذا العالم، وما فيه من الآدميين.. وقال أيضا: سيفنى هذا العالم، ويخلق اللَّه عالما آخر يعيش فيه عوالم آخرون.

وعلى هذا اليقين عندنا، والاحتمال - على الأقل عند غيرنا - لو اتفق أهل الأرض جميعا على أن تفسير الإمام عليه السلام لخلق الكون لا ينطبق على هذا الذي نعيش فيه، لو وجد هذا الاتفاق يبقى قول الإمام على حصانته وقداسته، لأنه عن العالم الأول، وليس عن عالمنا هذا اللاحق بما فات، والسابق لما هو آت: وتسأل: ان قول الإمام عليه السلام صريح في العالم، ما في ذلك ريب، ولكن من أين أخذ العلم به، وقد ذهب هذا العالم بما فيه، وجاء بعده عوالم وعوالم.. وهل هذا إلا قول بالغيب وقد أجاب الإمام عليه السلام عن ذلك بقوله: "ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلَّم من ذي علم". يريد عليه السلام ان مصدر علمه هو رسول اللَّه صلى الله عليه واله عن جبريل عن اللَّه سبحانه الذي لا خالق إلا هو.. ومن أجل هذا تكلم الإمام عليه السلام بثقة ويقين، لا بحدس وتخمين.. كيف وهو القائل: " لا تقل ما لا تعلم" بل لا تقل كل ما تعلم، فان اللَّه فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة. وكل الناس يعلمون ان عليا تنسجم أقواله مع أفعاله، وأفعاله مع دينه وضميره.

سؤال ثان: ان هذا الجواب لا يستمع اليه الا من آمن بالغيب، وبصورة أخص بنبوة محمد صلى الله عليه واله أما من جحد وأعرض فإنه يهزأ ويسخر.

الجواب: نحن نؤمن بالغيب، وبعصمة الأنبياء والأئمة الأطهار، نؤمن بذلك للدلالة القاطعة، بل والضرورة الواضحة، وقد أعلنا هذه الأدلة على الملأ فيما سبق من الأجيال وفي هذا الجيل ليطلع عليها من أحب.. وليس من شرط العمل بالدليل أن يثبت عند كل الناس وإلا ما اختلف اثنان، بل يكفي لصحة العمل به أن يثبت عند من يركن اليه. ومن أجل هذا لا نفرض نحن أدلتنا على جاحد أو مشكك، وكل ما نطلب من هذا وذاك أن يعاملنا بالمثل، ولا يفرض علينا رأيه، وان يراجع التفكير قبل الجزم، ويتروى قبل الحكم بأن هذه النظرية أو تلك - مثلا - هي ضدّ الحق والواقع مع العلم بأنها قيد البحث والدرس عند العلماء، وانهم في حيرة من أمرها.. وهذا هو شأنهم في الكثير من النظريات والأفكار، ومنها نظرية الخلق. بل إن صاحب أعظم عقلية علمية في هذا العصر وهو اينشتاين قال: "ان العقل البشري مهما بلغ من العظمة فهو عاجز عن الإحاطة بالكون". ونحن نؤمن بهذا، وبأنه لا أحد يحيط بالكون وأصله إلا خالق الكون، أو من ارتضى من عباده: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول - 27 الجن". وإذا كان اينشتاين نفسه عاجزا عن معرفة الكون الذي عاش فيه باعترافه، فكيف يسوغ الحكم على قول الإمام عليه السلام في الكون الأول بأنه يصادم الواقع، ويخالف العلم الحديث.. هذا هو غرضنا الأول والأخير من هذه الفقرة أو من هذا التمهيد.. والسلام على من قال: رب ملوم لا ذنب له1.


1   في ظلال نهج البلاغة / العلامة محمد جواد مغنية / 31_33.

2015-09-06