موانع معرفة الله (الظلم - الكفر - التكبّر)
الأخلاق والثقافة الإسلامية
كان الكلام عن فطرة معرفة الله، وأنّ العقل لا طريق له لحلّ لغز الوجود إلّا بالاعتقاد بالله، وأنّ كل عالم الوجود هو آيات وعلائم واضحة وقاطعة على وجود خالق الكون، وأنّ الإنسان بالأصل قد وُجد مفطوراً على البحث عن الله، وعلى معرفته وتوحيده، وأنّ لمعرفة الله جذوراً في قلبه وروحه وفطرته.
عدد الزوار: 108موانع معرفة الله (الظلم - والكفر - والتكبّر)
كان الكلام عن فطرة معرفة الله، وأنّ العقل لا طريق له لحلّ لغز الوجود إلّا
بالاعتقاد بالله، وأنّ كل عالم الوجود هو آيات وعلائم واضحة وقاطعة على وجود خالق
الكون، وأنّ الإنسان بالأصل قد وُجد مفطوراً على البحث عن الله، وعلى معرفته
وتوحيده، وأنّ لمعرفة الله جذوراً في قلبه وروحه وفطرته.
فلسفة الإنكار
وهنا سؤال يطرح نفسه وهو لماذا نواجه في التاريخ أشخاصاً منكرين لله، وشاهدنا في
القرنين الأخيرين أحزاباً وجموعاً كثيرة يقومون بأنشطتهم على أساس إنكار الخالق بل
على المناهضة الشديدة للدين. وبتعبير آخر ما هي الدوافع نحو الإنكار؟ أليس لدى
هؤلاء فطرة معرفة الله؟ ألا يسمع هؤلاء نداء الوجدان ونداء العقل الواضح القاطع؟
والجواب أنّ للمعرفة العقلية والقلبية شروطاً ينبغي مراعاتها وموانع ينبغي تجنّبها،
فيجب أن توجد شرائطها وتزال موانعها حتى تتحقق المعرفة. والمنكرون لله هم مبتلون
عموماً بهذه الموانع. وكما أنّ المريض أثناء مرضه لا يحس بالجوع، وعدم إحساسه
بالجوع ليس دليلاً على أنه ليس جائعاً، أو أنه فاقد لهذا الإحساس الطبيعي والفطري
بالجوع، ولكن المرض في الحقيقة مانع لفعلية هذا الإحساس.
كذلك هو حال المنكرين لله أيضاً، فهم يمتلكون حس معرفة الله ولكن بما أنهم مصابون
بمرض نفسي ناشئ من موانع المعرفة، فلن يصبح هذا الإحساس فعلياً في وجودهم.
وكما أنّ الحب والبغض يمنعان الإنسان عن معرفة حقيقة المحبوب والمبغوض، ويحولان
أحياناً دون سماع نداء العقل الواضح والقاطع فيما يرتبط باتخاذ الموقف الصحيح
والعقلائي بالنسبة للمحبوب والمبغوض، كذلك فإنّ الجهل والعصبية والحقد والعادات
والتقاليد وغيرها من الأمور... يمكن أن تحرم الإنسان وتفقده القدرة على الإنصات
لنداء العقل الذي يدعوه دائماً للبحث عن الحق والحقيقة، وبالتالي يفوّت على نفسه
فرصة حقيقية لمعرفة الله والحق كما هو. بناءً على ذلك فإنّ مرض القلب وحجاب العقل
مانعان أساسيان للإحساس بالحقائق المعنوية والوصول إليها والتحقق بها.
الظلم والكفر والتكبّر أساس كلّ احتجاب
من الحجب والموانع الأساسية التي تقف كالسد المنيع أمام هداية الإنسان وتحول
بالتالي دون وصوله إلى الهدف الأصيل والمعرفة الحقيقية بخالق الكون، ومع ما يترتّب
على هذه المعرفة من الآثار واللوازم، الظلم والكفر والتكبر.
إنّ الظلم الذي يعني وضع الشيء في غير مكانه الخاص به، والكفر الذي يعني إخفاء
الحقيقة بدافع جلب النفع والتحقير والتعصب، والتكبر الذي يعني الاستعلاء والترفّع
على الآخرين، هي حجب تعمي بصيرة العقل والقلب، وأمراض إذا ابتلي بها الإنسان حرمته
قطعاً من معرفة الحقيقة والتحقق بها.
ويلاحظ أنّ القرآن الكريم قد أشار إلى هذه الحقيقة وبيانها بتعبير دقيق في غاية
الروعة والجمال، وذلك في قوله سبحانه:
﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا
الْكَافِرُونَ﴾1.
﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾2.
﴿وَمَا يَجْحَدُ
بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور﴾3.
﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾4.
إذن فالظلم والكفر والتكبر بصريح هذه الآيات هي حجب تمنع الإنسان من التصديق
بالحقيقة والاعتراف بها. وحتى لو اعترف الإنسان بحقيقة ما فإنّ الظلم والكفر
يمنعانه من العمل بما اعتقد به عقلاً ويدفعانه على مستوى القلب إلى إنكار ما هو
معترفٌ به على حد تعبير القرآن الكريم بقوله تعالى:
﴿وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّ﴾5.
جذور هذه الحجب
ومما ذكرناه اتضح أنّ القرآن الكريم يعلن بشكل صريح أنّ الظلم، والكفر، والكبر
والتعالي هي حجب تمنع الإنسان عن إدراك الآيات والعلامات والدلائل الإلهية الواضحة
والقطعية أو أن يعترف بها إذا أدركها.
وهنا يطرح سؤال وهو: ما هي جذور هذه الموانع؟
والجواب: إنّ جميع موانع معرفة الله ترجع إلى أصل واحد وهو الهوى وحبّ النفس. وقد
صرّح القرآن الكريم بهذا المعنى:
﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى
أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾6.
﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ
إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ﴾7.
﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ
أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾8.
﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ
الْحِسَابِ﴾9.
ولقد صرّح الإمام الصادق عليه السلام بهذا المعنى أيضاً في قوله: "ولعمري ما أُتِيَ
الجُهَّالُ من قِبَلِ رَبِّهِمْ وإنّهم لَيَرَوْنَ الدّلالات الواضحات والعلامات
البيِّنَات في خَلْقِهِمْ وما يُعَايِنُونَ في ملكوت السّماوات والأرض والصُّنْعَ
العجيب المُتْقَنَ الدَّالَّ على الصَّانِعِ ولكنّهم قوم فتَحُوا على أنفسهم أبواب
المعاصي وسهّلُوا لها سبيل الشّهوات فغلبت الأهواء على قلوبهم واستحوَذ الشّيطان
بِظُلمِهِم عليهم وَكَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِي"10.
في هذه الرواية تصريح واضح أنّ إنكار الله والتكذيب بالآيات الإلهية هو من الآثار
المباشرة للهوى والمعصية وليس معلولاً لأمور هي من نتائج جبر المحيط. ولو علم الله
أن شخصاً يتبع الحقيقة إذا عرفها وأن علة خطإه هو الجهل فإنه قطعاً سيجعل له طريقاً
للخروج من جبر المحيط وإن كان يعيش في أفسد الأجواء، وهو لون من اللطف الإلهي
بالعباد. وفي المقابل يسمي الله سبحانه وتعالى الأشخاص الذين حرموا من معرفة
الحقيقة بسبب ابتلائهم بحجاب موانع المعرفة، بشرّ الدواب يقول سبحانه:
﴿وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ
وَّهُم مُّعْرِضُونَ﴾11.
وعلى هذا الأساس إننا نجد في التاريخ أشخاصاً عاشوا في أجواء فاسدة ولم يكن لهم
طريق لمعرفة الحقيقة بالشكل الطبيعي فوجدوا طريق سعادتهم في ظل العنايات الغيبية
الإلهية، حتى أنّ أحد أعظم الأنبياء الإلهيين وهو نبي الله موسى، كان قد تربى في
أفسد أجواء عصره يعني في حضن فرعون، وقد ترعرع خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه
وآله وسلم وشبّ في أحطّ مجتمعات عصره أي الجزيرة العربية.
الموانع الدائمة والمؤقتة
إنّ موانع المعرفة قد تكون أحياناً مؤقتة وقابلة للعلاج، وأخرى قد تكون دائمة وغير
قابلة للعلاج. فالهوى والمعصية وآثارهما من الظلم، والكفر والإسراف وغيرها... إذا
ظهرت بصورة عادة وملكة نفسانية راسخة ومتجذرة في النفس، ففي هذه الحالة تكون
المانعية دائمة، والإنسان غير قادر على معرفة الله ولا إدراك الحقيقة.
أما إذا لم يتحوّل الهوى وآثاره إلى صفة ثابتة للروح فإنّ مانعيته من معرفة الله
تكون مؤقتة وقابلة للعلاج. وبتعبير آخر كما أنّ الأمراض الجسمية ما لم تصبح مزمنةً،
ولم تفسد المزاج بشكل كامل، فهي قابلة للعلاج، كذلك الأمراض النفسية ما لم تصبح
مزمنة ولم تفسد مزاج القلب والروح الإنسانية بشكل كامل، فهي قابلة للعلاج أيضاً.
أما إذا سرى المرض إلى كل القلب والروح، وانعدم الاستعداد لإدراك الحقائق بشكل
كامل، ففي هذه الحالة لن يكون قابلاً للعلاج، وسوف يحرم الإنسان بشكل تام من معرفة
الله.
يعبّر القرآن الكريم عن آثار هذه الأمراض بتعابير مختلفة مثل: القساوة، الختم،
الطبع، والرين وغيرها... فالقلب عندما يبتلى بمرض الهوى يصبح قاسياً على نحو
تدريجي، حتى تعم القساوة القلب كله، فيصير كالحجر بل وأقسى أيضاً، وهنا لن يؤثر
كلام الحق فيه، كالمسمار الذي لا يؤثر ولا ينفذ في الحجر.
يقول الله سبحانه مبيّناً هذه الحقيقة في القرآن الكريم:
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم
مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا
يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء﴾12، فبعد نقل الحجج والدلائل الكثيرة
والواضحة والقاطعة لبني إسرائيل، إلا أنها لم تؤثِّر في جذبهم نحو الحق سبحانه
وتعالى.
وهذا يعني أنّ الحجاب قد يكون أحياناً سميكاً وصلباً إلى درجة أنه لا يمكن شقه أو
اختراقه ليتمكن القلب من مشاهدة الحقيقة.
فعندما يسيطر الهوى على القلب، وبتعبير القرآن الجميل، عندما يصير الهوى إله
الإنسان، فالله تعالى يقفل باب المعرفة القلبية، ويطبع على القلب ويختم عليه بقوة:
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ
وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن
يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ﴾13.
﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ
الْمُعْتَدِين﴾14.
﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ﴾15.
أما بالنسبة للموانع المؤقتة فيوجد نوعان من الدواء لمعالجتها وإزالة الصدأ الذي لم
يفسد جوهر مرآة القلب بعد، أحدهما اختياري من خلال الذكر والتفكر ومجاهدة النفس،
والثاني غير اختياري من خلال المحن والبلاءات التي تصيب الإنسان في الحياة الدنيا.
* كتاب دروس في التربية الأخلاقية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة العنكبوت، الآية: 47.
2- سورة الأنعام، الآية: 33.
3- سورة لقمان، الآية: 32.
4- سورة غافر، الآية: 35.
5- سورة النمل، الآية: 14.
6- سورة البقرة، الآية: 87.
7- سورة البقرة، الآية: 145.
8- سورة الروم، الآية: 29.
9- سورة ص، الآية: 26.
10- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج3، ص152.
11- سورة الأنفال، الآية: 23.
12- سورة البقرة، الآية: 74.
13- سورة الجاثية، الآية: 23.
14- سورة يونس، الآية: 74.
15- سورة الأعراف، الآية: 101.