يتم التحميل...

آية الوضوء (1)

دراسات في التفسير

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا

عدد الزوار: 353

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ1.

اسم الكتاب:  زبدة البيان في أحكام القرآن
تأليف:  المقدّس الأردبيلي، أحمد بن محمّد (... - 993 هـ)
القرن:  العاشرالهجري
المنهج:  النقلي (الروائي)
الاتجاه : النقلي (الروائي)
المصدر :  ص 15 - 22

تخصيص المؤمن بالخطاب لأنّ الكافر لم يقم إلى الصلاة، ولأنّه المنتفع به كما في أكثر التكاليف ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا صلّيتم فإنّ المراد بالقيام قيامها، والتقدير إذا أردتم الصلاة مثل ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ2 فأقيم مسبّب الإرادة مقامها للإشعار بأنّ الفعل ينبغي أن لا يترك ولا يتهاون فيه، ويفعل سابقاً على القصد الّذي لا يمكن إلّا بعده، فظاهر الأمر الوجوب، فيجب الوضوء للصّلاة بأن يغسل الوجه. والغسل محمول على العرفيّ، وفسّر بإجراء الماء على العضو ولو كان بالآلة وأقلّه أن يجري ويتعدّى من شعر إلى آخر، وظاهرها يدلّ على وجوبه كلّما قام إليها لأنّ ظاهر "إذا" العموم عرفاً وإن لم يكن لغة، ولأنّ الظاهر أنّ القيام إليها علّة، ولكن قيّد بالإجماع والأخبار بالمُحْدِثين (من الحَدَث).

وقيل: كان ذلك في أوّل الأمر ثمّ نسخ، وقيل الأمر فيه للندب وردّ النسخ بما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "المائدة آخر القرآن نزولاً فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها"3 ولي في النسخ تأمّل إلّا أن يقال المراد نسخ وجوب الوضوء على المتوضّئين المفهوم من عموم فاغسلوا، فعمومه منسوخ، وليس ذلك بتخصيص حيث كان العموم مراداً معمولاً به، وكذا في الندب إلّا أن يقال الندب بالنسبة إلى المتوضّئين فيكون المراد به الرجحان المطلق، فكان الندب بالنسبة إلى المتوضّئين والوجوب بالنسبة إلى غيرهم هذا صحيح ولكن ليس هذا قولاً بأنّ الأمر للندب فقط كما قاله في الكشّاف...

الآية تدلّ على وجوب أمور في الوضوء:

الأوّل: غسل الوجه وهو العضو المعلوم عرفاً، وقد حدّ في بعض الأخبار المعتبرة بأنّه الّذي يدور عليه الإبهام والوسطى عرضاً، وطولاً من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، وهو أوّل فعل في الوضوء، فظاهر الآية لا يدلّ على اعتبار النيّة، ولا على تعيين الابتداء، لكن اعتبار النيّة معلوم إذ لا يمكن الفعل الاختياريّ بدونها وفعلهم عليهم السّلام كان من الأعلى إلى الأسفل في أعضاء الغسل فهو أحوط، ولا على وجوب الترتيب بين أجزاء العضو، بل لا يمكن ذلك حقيقة، نعم ملاحظة العرفيّ حسن ولا على وجوب التخليل مطلقاً ويدلّ على عدمه الروايات الصحيحة4 ولا على وجوب المسّ والدّلك باليد لصدق الغسل مع الكلّ، فكلّما دلّ عليه دليل من خبر أو إجماع يقال به، والباقي يبقى على حاله.

الثاني: غسل اليدين والترتيب مستفاد من الإجماع والخبر ويمكن فهمه من الآية أيضاً بتكلّف بأن يقال يفهم تقديم الوجه لوجود الفاء التعقيبيّة ولا قائل بعدم الترتيب حينئذ فإنّ الحنفيّة لا توجب الترتيب أصلاً، بل تجوّز تقديم غسل الرجلين على غسل الوجه.

وأيضاً عطف الباقي على الوجه الّذي هو مدخول الفاء يفيد التعقيب في كلّ واحد فتأمّل فيه فإنّها تدلّ على فعل المجموع بعد القيام إلى الصلاة فكأنّه قال:
إذا قمتم إلى الصلاة فتوضّؤا ولا تدلّ على الموالاة أيضاً وفهمها بأنّه يفهم تعقيب الكلّ بلا فصل، وذلك غير ممكن فيراعى ما أمكن بعيد، فإنّ المراد مجرّد التعقيب لا بلا مهلة، وعلى تقدير كونها مرادة فلا يفهم إلّا كون غسل الوجه بلا مهلة.

نعم: يفهم وجوب الموالاة وبطلان الوضوء بتركها، مع جفاف جميع الأعضاء السابقة من الروايات الصّحيحة5 بل الإجماع ويمكن فهم أنّ محلّ الوجوب في غسل اليدين إلى المرافق، وإنّ سلّم أنّ ظاهرها كون الابتداء من الأصابع، ولكن انعقد إجماع الأمّة على عدم وجوب ذلك فيكون إلى هنا لانتهاء غاية المغسول ومحمولة على معناها اللّغويّ لا الغسل بمعنى كونه منتهاه بعد الابتداء من الأصابع، وأنّه يكفي مسمّى الغسل فيه أيضاً كالوجه على أيّ وجه كان ولا يبعد وجوب غسل المرفق وإن كان غاية وخارجاً من باب المقدّمة لأنّه مفصل وحدّ مشترك، كما ثبت في الأصول فقول القاضي البيضاويّ: وجب غسلها احتياطاً غير مناسب.

الثالث: مسح الرأس مطلقاً، بما يصدق مقبلاً ومدبراً قليلاً أو كثيراً على أيّ وجه كان إلّا أنّ إجماع الأصحاب، على ما نقل، وفعلهم عليهم السّلام خصّصه بمقدّم الرأس ببقيّة البلل، لا بالماء الجديد اختياراً، وجوّزه بعض نادر، ودليله ليس بناهض عليه، فإنّه روايتان صحيحتان دالّتان على عدم جواز المسح بفضلة الوضوء والنّدى بل بالماء الجديد، وحملتا، على التقيّة لذلك مع ما فيه، وعلى غير الاختيار والاحتياط لا يترك وقد منع بأكثر من ثلاث أصابع استحباباً، ووجوباً كأنّه بالإجماع، وذهب البعض إلى وجوب ثلاث أصابع، ولا دليل عليه، وعموم الآية والأخبار بل خصوصها ينفيه.

الرابع: مسح الرّجلين بالمسمّى كالرأس وفي الرواية الصّحيحة أنّه بكلّ الكفّ ويفهم من الأخرى كلّ الظهر، وإلى أصل الساق ومفصل القدم6 وهو المراد بالكعب، ويدلّ عليه اللّغة، وهو مذهب العلّامة وكأنّه موافق لمذهب العامّة فافهم، ودليل مسحهما إجماع الإمامية وأخبارهم، وظاهر الآية، فإنّ قراءة الجرّ صريحة في ذلك لأنّه عطف على رؤوسكم لا يحتمل غيره، وهو ظاهر وجرّ الجوار ضعيف خصوصاً مع الاشتباه، وحرف العطف، ولهذا ما قاله في الكشّاف

وقال: المراد بالمسح حينئذ الغسل القليل. وقد عرفت ما فيه وقراءة النصب أيضاً كذلك، لأنّه عطف على محلّ رؤوسكم وأمثاله في القرآن العزيز وغيره كثيرة جدّا وعطفه على الوجه معلوم قبحه خصوصاً في مثل القرآن العزيز، وليس وجود التحديد في المغسول دليلاً عليه كما قاله البيضاويّ بل هو دليل على ما ذهب إليه أصحابنا لحصول التعادل بأن يكون العضو الأوّل من المغسول والممسوح غير محدود والثاني منهما محدوداً وللقاضي هنا مباحث ولنا كذلك، يطلب من الحاشية، وظاهر الآية عدم الترتيب بينهما، ولا دليل عليه أيضاً من الإجماع والأخبار، بل أكثر الأصحاب على عدمه والأصل مؤيّد، ولا شكّ في الصّدق مع فعله غير مرتّب فتأمّل...

وظاهر إذا قمتم كون الوضوء واجباً لغيره، وهي الصّلاة مثلاً و ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا أي: فاغتسلوا كون الغسل واجباً لنفسه لأنّ الظاهر أنّه معطوف على قوله ﴿إِذَا قُمْتُمْ فتقديره يا أيّها الّذين آمنوا إن كنتم جنباً فاطّهّروا ويدلّ عليه الأخبار أيضاً...

﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى كأنّه عطف على محذوف هو كنتم صحاحاً حاضرين قادرين، أي إذا قمتم إلى الصّلوة وكنتم صحاحاً حاضرين قادرين على استعمال الماء فإن كنتم محدثين لغير الجنابة توضّؤوا، وإن كنتم جنباً فاغتسلوا وإن كنتم مرضى مرضاً يضرّكم استعمال الماء، أو مسافرين فلم تقدروا على استعمال الماء لعدمه أو للتضرّر به. ﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ لعلّه هنا كناية عن الحدث الخارج من أحد السبيلين فأو، بمعنى الواو "أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ" لعلّه كناية عن الجماع الموجب لغسل الجنابة وهو الدخول حتّى تغيب الحشفة قبلاً أو دبراً ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا أي اقصدوا أرضاً طاهرة مباحة فامسحوا بأيديكم بعض وجوهكم وبعض أيديكم مبتدئاً من الصّعيد أو ببعض الصّعيد، بأن تضعوا

أيديكم على بعضه، ثمّ تمسحوا الوجه واليد أو من بعض التيمّم كما ورد في الرواية أي ما يتيمّم به وهو الصّعيد فلا دلالة على تقدير كونها تبعيضيّة على وجوب لصوق شي‏ء من الصّعيد، فيجب كونه تراباً يلصق كما توهّم.

فالآية تدلّ على وجوب الغسل، وأنّ الجنابة موجبة له، وأنّ الغائط بل البول والريح أيضاً أحداث موجبة للوضوء وأنّ المرض والسفر مع عدم القدرة على الماء موجب للتيمّم بدلهما، ومشعرة بأنّه يبيح به ما يبيح بهما وعلى اشتراط طاهرية ما يتيمّم به، بل إباحته أيضاً بل طهارة الماء وإباحته أيضاً في الوضوء والغسل وأنّ كيفية التيمّم أنّ المسح يكفي ببعض الوجه مطلقاً وكذا ببعض اليد ولا يحتاج إلى الاستيعاب والتخليل وأنّ أوّل أفعال التيمّم مسح الوجه.

والوضوء والغسل والتيمّم مبيّنات في كتاب الفروع مع أحكامها وجميع واجباتها وموجباتها والفروعات الكثيرة ليس هذا محلّها إذا لمقصود هنا ما يمكن فهمه من الآيات الكريمة، ثمّ لا يخفى أنّ نظم هذه الآية مثل الّتي سيجي‏ء لا يخلو عن إشكال على حسب فهمنا مثل ترك الحدث في أوّلها وذكر الجنابة فقط بعده والإجمال الّذي لم يفهم أنّ الغسل بعد القيام إلى الصلاة أم لا، وترك كنتم حاضرين صحاحاً قادرين على استعمال الماء، ثمّ عطف إن كنتم عليه، وترك تقييد المرضى وتأخير فلم تجدوا عن قوله أو جاء وذكر جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم مع عدم الحاجة إليهما إذ يمكن الفهم عمّا سبق، والعطف بأو، والمناسب بالواو، وغير ذلك مثل الاختصار في بيان الحدث الأصغر على الغائط والتعبير عنه بجاء أحد منكم من الغائط والأكبر على لامستم والتعبير عن الجنابة به وكأنّه لذلك قال في كشف الكشّاف ونعم ما قال: والآية من معضلات القرآن ثمّ طوّل الكلام في توجيه "أو" في قوله: ﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم، ولعلّ السرّ في ذلك الترغيب على الاجتهاد، وتحصيل العلوم لتظفير السعادات الدائمة.

ثمّ في الآية احتمالات وأبحاث أخر ستجي‏ء في الثانية إنشاء الله تعالى وقد استدلّ بقوله "فَلَمْ تَجِدُوا ماءً" على طلب الماء غلوة سهم في الحزنة، وغلوتين في السهلة ولا دلالة عليه فيها، ولا في الخبر7 والأصل ينفيه نعم ينبغي الطلب حتّى يتحقّق عدم الماء عنده عرفاً مثل رحله وحواليه مع الاحتمال فتأمّل.

﴿مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ قيل: أي ما يريد الله الأمر بالوضوء للصلاة أو بالتيمّم تضييقاً عليكم ويحتمل أن يكون المراد ما يريد الله جعل الحرج عليكم بالتكاليف الشاقّة مثل تحصيل الماء على كلّ وجه ممكن مع عدم كون الماء حاضراً وإن كان ممكناً في نفس الأمر، ولا (يكلّف‏) بالطلب الشاقّ كالحفر وغيره بل بنى على الظاهر فقبل التيمّم ولا كلّف في التيمّم أيضاً بأن يوصل الأرض إلى جميع البدن أو أعضاء الوضوء بل التيمّم أيضاً وأن يطلب ما يمكن إيصاله بل يكفي مجرّد وجه الأرض، وهو مقتضى الشريعة السمحة.

﴿وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ أي من الذنوب فإنّ العبادة مثل الوضوء كفّارة للذنوب أو لينظفكم عن الأحداث ويزيل المنع عن الدخول فيما شرط فيه الطهارة عليكم فيطهّركم بالماء عند وجوده وعند الإعواز بالتراب، فالآية تدلّ على أنّ التيمّم رافع في الجملة وطهارة فيباح به ما يباح بالماء، ويؤيّده ما في الأخبار ويكفيك الصعيد عشر سنين والتراب أحد الطهورين وربّ الماء وربّ التراب واحد8 فيبعد منع إباحة التيمّم ما يبيحه الماء، وأنّه يجب لما يجب له.

ثمّ إنّه يزول التيمّم بزوال المانع لأنّه لا يرفع الحدث بالكلّية نعم يحتمل رفعه إلى أن يتحقّق الماء أو توجد القدرة على استعماله إذ لا استبعاد في حكم الشارع بزوال الحدث إلى مدّة فإنّه مجرّد حكم الشارع فلعلّ البحث يرجع إلى اللّفظيّ فتأمّل.

واللّام للعلّة فمفعول يريد محذوف وهو الأمر في الموضعين وقيل زائدة وليجعل وليطهّركم مفعول، والتقدير لأن يجعل عليكم ولأن يطهّركم وليس فيه قصور وضعف: لأنّ "أن" لا تقدّر بعد اللّام المزيدة كما قاله البيضاويّ. لأنّ الشيخ المحقّق الرضىّ قدّس سرّه قال في شرح الكافية: وكذا اللّام زائدة في لا أبا لك عند سيبويه، وكذا اللّام المقدّر بعدها أن بعد فعل الأمر والإرادة كقوله تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ على أنّه قال البيضاويّ أيضاً في تفسير قوله تعالى ﴿يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أنّ يبيّن مفعول يريد، واللّام مزيدة لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة، وهل هذا إلّا تناقض.

﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَه أي ليتمّ بشرعه ما هو مطهّر لأبدانكم ومكفّر لذنوبكم في الدِّين، أو ليتمّ برخصه إنعامه ﴿عَلَيْكُم بعزائمه ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته ثمّ أمر الله تعالى بعد ذلك بذكر النعمة والميثاق والعهد الّذي عاهدتم به بقوله ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ الآية وأمر المؤمنين بكونهم قوّامين للّه شهداء بالعدل فأوجب عليهم ذلك، ونهاهم عن أن يحملهم البغض على العدول والخروج عن الشرع بقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى قال البيضاويّ في ﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى إذا كان هذا مع الكفّار فما ظنّك بالعدل مع المؤمنين؟ ثمّ أمر بالتقوى ووعدهم بالامتثال وأوعدهم على تركه بقوله ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

ثمّ اعلم أنّ في حكاية ابني آدم على نبيّنا وآله عليهم السلام إشارة إلى أنّ التقوى شرط لقبول العمل "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ" صفة مصدر محذوف أي أتل واقرأ تلاوة متلبّسة بالحقّ أو حال من ضمير ﴿أَتْلُ أو من نبإ ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا ظرف بناء، أو حال منه، والقربان اسم لما يتقرّب به إلى الله من ذبيحة وغيرها كما أنّ الحلوان اسم لما يحلى أي يعطى وهو في الأصل مصدر ولهذا لم يثنّ مع أنّ المراد منه اثنان، وقيل

تقديره إذ قرّب كلّ واحد منهما قرباناً فلا يحتاج إلى التثنية ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ قابيل ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ وعده بالقتل بعد عدم قبول قربانه وقبول قربان أخيه، لفرط الحسد على ذلك ولبقاء ما يريده له "قالَ" أخوه هابيل ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي إنّما أصابك ما أصابك من عدم القبول عند الله من قبل نفسك، لا من قبلي، فلم تقتلني؟ فاقتل نفسك لا نفسي.

وفيه إشارة إلى أنّ الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره فيكون الذنب له لا للمحسود، فلا بدّ أن يجتهد في تحصيل ما صار به المحسود محسوداً ومحظوظاً لا في إزالة حظّ المحسود فإنّ ذلك يضرّه ولا ينفع الحاسد، بل يضرّه وهو ظاهر. وفيه دلالة على أنّ القبول يشترط فيه التقوى كما قلناه.

قال البيضاويّ: وفيه إشارة إلى أنّ الطاعة لا تقبل إلّا من مؤمن متّق وفيه إشكال ولهذا ما شرطه الفقهاء فإنّ الفسق لا يمنع من صحّة عبادة إذا فعلت على وجهها، ويمكن أن يقال المراد اشتراط التقوى في تلك العبادة أي لا يقبل الله العبادة إلّا من المتّقين فيها بأن يأتي بها بحيث لا يكون عصياناً مثل أن يقصد بها الرئاء أو غيره من المبطلات أو المراد تقوى عن ذنب ينافي تلك العبادة فيكون إشارة إلى أنّ الأمر بالشي‏ء يستلزم النهي عن ضدّه وهو موجب للفساد، وبالجملة يشترط في قبولها عدم كونها معصية ولا مستلزماً لها، الله يعلم ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.

قال في الكشّاف: كان هابيل أقوى من قابيل، ولكنّه تحرّج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأنّ الدفع لم يبح بعد أو تحرّياً لما هو الأفضل، قال عليه الصلاة والسلام: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، ويمكن أن يقال التسليم غير ظاهر، وكذا كونه مباحاً فانّ وجوب حفظ النفس عقليّ ولا يمكن إباحة التسليم الّذي هو ينافيه بل هو قتل النفس والآية لا تدلّ على التسليم، فإنّه

قال ﴿مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ فإنّه يدلّ على عدم بسط اليد بقصد قتله لا للدفع أيضاً وهو ظاهر ويمكن فهم وجوب الدّفن من آخر الآية9 فافهم.

خلاصة الدرس
- أوردنا نموذجاً للمنهج النقلي الروائي ذات الاتجاه الفقهي من كتاب: زبدة البيان في أحكام القرآن، للمقدّس الأردبيلي، وذلك في تفسير الآية التالية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

الآية تدلّ على وجوب أمور في الوضوء:

غسل الوجه...، غسل اليدين... مسح الرأس مطلقاً، مسح الرّجلين...

ثمّ إنّ الآية تدلّ على وجوب الغسل، وأنّ الجنابة موجبة له، وأنّ الغائط بل البول والريح أيضاً أحداث موجبة للوضوء وأنّ المرض والسفر مع عدم القدرة على الماء موجب للتيمّم بدلهما... وأنّ أوّل أفعال التيمّم مسح الوجه.

والوضوء والغسل والتيمّم مبيّنات في كتاب الفروع مع أحكامها وجميع واجباتها وموجباتها والفروعات الكثيرة ليس هذا محلّها إذا لمقصود هنا ما يمكن فهمه من الآيات الكريمة.

* دراسات في مناهج التفسير، سلسلة المعارف الإسلامية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- سورة المائدة، الآية: 6.
2- سورة النحل، الآية: 98.
3- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 2، ص 7.
4- أنظر: وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب الوضوء، الباب 46.
5- الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 35.
6- أنظر: وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب الوضوء، الباب 15.
7- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، أبواب التيمم، الباب الأوّل، الحديث 2.
8- الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 63.
9- يعني قوله تعالى ﴿ فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ﴾( والآيات في سورة المائدة: 27- 31).

2015-08-05