مجتمع الفطرة
عيد الفطر السعيد
الحمد لله الذي لا مقنوطٌ من رحمته، ولا مخلوٌّ من نعمته، ولا مُؤيَسٌ من روحه، ولا مستنكَفٌ عن عبادته، بكلمته قامت السماواتُ السبع، واستقرَّت الأرض المهاد، وثبتت الجبال الرّواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب،
عدد الزوار: 158بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا مقنوطٌ من رحمته، ولا مخلوٌّ من نعمته، ولا مُؤيَسٌ من روحه، ولا
مستنكَفٌ عن عبادته، بكلمته قامت السماواتُ السبع، واستقرَّت الأرض المهاد، وثبتت
الجبال الرّواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت على حدودها
البحار. نحمده كما حمد نفسه وكما هو أهله، ونستعينه ونستغفره ونصلي على أشرف خلقه
محمد وآله الأطهار.
من أعمال العيد زكاة الفطرة التي لا تعني زكاة الإفطار بل زكاة الخلقة، وبتعبير أدقّ،
وكما قلنا في معنى الفطر: زكاة الهيئة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها. وربط
الفطرة بالزكاة هو ربط للفطرة بالمجتمع الإنسانيّ؛ لكون الفطرة التي تجذب الإنسان
نحو الكمال المطلق، تجذبه أيضاً نحو كلّ كمال.
من هنا نرى الإنسان مفطوراً على الانجذاب نحو الصدق والشجاعة والاستقامة والعدل
والإحسان وغيرها من الكمال، لذا نلاحظ أنّ القرآن الكريم لم يطرح الدعوة إلى
الكمالات في إطار تأسيسي، بل في قالب استفهامي ليُحرّك تلك الفطرة الكامنة،
- فقال تعالى وهو يتحدّث عن كمال العلم:
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
﴾1.
- وقال تعالى وهو يتحدّث عن الإحسان:
﴿ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا
الْإِحْسَانُ
﴾2.
- وقال تعالى وهو يتحدّث عن الإيمان والعمل الصالح والتقوى:
﴿ أَمْ نَجْعَلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
﴾3.
بناءًا عليه فإنّ الإنسان ينجذب إلى من يحمل هذه الكمالات حتى لو كان على غير دينه
وملّته، كما انجذب الشاعر المسيحي بولس سلامة إلى كمالات الإمام علي عليه السلام
فقال:
و لا تقل شيعة هواة عليّ
إنَّ في كل منصفٍ شيعيّا
هو فخر التاريخ لا فخر شعب
يدعيه ويصطفيه وليّا
جلجل الحق في المسيحي حتى
عاد من فرط حبّه علويّا
أنا من يعشق البطولة والإلهام
والعدل والخلق الرضيا
إنّ انجذاب الإنسان لكمالات الناس يدفعه لتأسيس مجتمع مبنيٌ على هذه الكمالات، لأنّ
الفطرة الجاذبة نحو الكمال كما تدفعه إلى تعزيز العلاقة مع الله تعالى وتزكية نفسه،
كذلك تدفعه إلى التعارف مع الناس بجاذبيّة كمالاتهم.
وهذا ما أشار إليه الله تعالى في قوله:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
﴾5.
وعيد الفطر والفطرة كما هو حفل تخرّج للناجحين في تزكية النفس كذلك هو حفل تخرّج
للناجحين في علاقاتهم الإنسانية على أساس الكمالات.
من هنا كان من مميّزات عيد الفطر:
1- أن نراعي فيه وضع الفقراء، من خلال عيديّة زكاة الفطرة.
2- أن يجتمع الناس فيه حامدين الله تعالى على نعمه، ففي الحديث: "إنّما جعل يوم
الفطر العيد؛ ليكون للمسلمين مجتمعاً يجتمعون فيه، فيحمدون الله على ما منّ عليهم".
والهدف هو وصول المجتمع إلى كماله، فإنّ لقافلة البشريّة مسار تكامل كما للإنسان
الفرد مسار كمال.
وكما حال الشيطان مع الإنسان السالك سبيل تزكية نفسه بوضع العراقيل أمامه فهو حاله
أيضاً مع المجتمع السالك نحو الكمال بوضع العراقيل في مسار تكامله.
والمجتمع المنطلق من الفطرة الجاذبة نحو الكمال لا تزيده محاولات الشيطان في منع
كماله إلاّ إصراراً في المسير، وازديادَ قوةٍ في الرقيّ، وهذا هُو السرُّ فيما قاله
الإمام الخميني سابقاً حينما حوصرت إيران حصاراً اقتصادياً: نحن قومٌ اعتدنا أن
نصوم في كلّ سنة شهرنا، ونحن على استعداد أن نصوم كلّ السنة، ولا نخضع لغير الله.
وفيما قاله وليّ الأمر الإمام الخامنئي دام ظله منذ فترة قليلة: إنّ إيران بسبب
الحصار الذي فرض عليها من أعداء الإسلام أصبحت أقوى مئة مرة ممّا كانت عليه.
وهذا هو السرُّ أيضاً في قوة المقاومة بعد كلّ المحاولات الشيطانيّة لضربها سواء في
حرب تموز العسكرية، أو الحرب السياسية التي خاضها المتورّطون في حرب تموز على
المقاومة، أو في الحرب الاقتصادية على مجتمع المقاومة والتي ما زال الأمريكان في
دائرة هذه الحرب يمنعون استقدام الكهرباء من إيران الإسلام.
ورغم كلّ ذلك، فإنّ المقاومة اليوم هي أقوى وأقوى وأقوى ممّا كانت عليه، بل إنّها
اليوم قادرة على وضع الكيان الصهيونيّ كلّه ضمن دائرة استهداف صواريخها كما أكّد
سماحة سيّد المقاومة حفظه الله تعالى.
وما كان ذلك إلا بمدد الله تعالى، وبتوفيقه في الأخذ بأمرين أساسيّن هما:
الأول: الانضواء تحت القيادة الحكيمة التي تحمل إرث السلالة الطاهرة التي أكّد عيد
الفطرة منها على ثلاثة أركان هم: المتمثّلة الأول: رسول الله الذي جعل الله تعالى
هذا العيد له ذخراً وشرفاً وكرامةً ومزيداً،
والثاني: سبط رسول الله شهيد كربلاء
الذي أولد الإسلام بشهادته ولادة ثانية، فاستحق أن يُزار في يوم العيد سُنّة من عند
الله تعالى: فلنتجّه إلى الشرق زائلين له:
السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله
السلام عليك يا وارث نوح أمين الله
السلام عليك يا وارث إبراهيم كليم الله
السلام عليك يا وارث موسى كليم الله
السلام عليك يا وارث عيسى روح الله
السلام عليك يا وارث محمد صلى الله عليه وآله حبيب الله
السلام عليك يا وارث علي حجة الله
السلام عليك أيها الوصيّ البرّ التقي
السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره والوترُ الموتور
أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، وأمر بالمعروف ونهيت عن المنكر وجاهدت في
الله حقّ جهاده حتى استبيح حرمك وقتلت مظلوماً.
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين ورحمة
الله وبركاته.
الثالث: هو صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى
فرجه الذي كم نتوق إلى رؤية طلعته الرشيدة، وغرّته
الحميدة، وأن نكحل أنظارنا بنظرة منّا إليه، والذي نتذكره في دعاء الندبة في هذا
العيد المبارك، الذي نقول فيه: "أين بقيّة الله؟... أين المرتجى لإزالة الجور
والعدوان؟ أين قاصم الشوكة المعتدين؟ أين جامع الكلمة على التقوى؟ وهو الحجّة الذي
أرشدنا أنّ حجته هم رواة الأحاديث والذين أنعم الله تعالى علينا منهم في هذا العصر
بالقائد الحكيم سرِّ مدد الله لنا، وموجّه بوصلتنا نحو الهدف الصحيح، وشاخص الحقّ
في زمن الفتنة آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي دام ظلّه.
الثاني: الوحدة الاجتماعيّة، فإنّ وحدتنا ووقوف مجتمعنا صفاً واحداً هو سرّ تلك
القوّة وذلك المدد، وهذا ما يستدعي منّا أن نبقى متوحّدين، عابرين حواجز التفرقة
الملعونة.
داعين المسلمين جميعاً أن يتوحّدوا في زمن مؤامرات أعداء الإسلام، وأن ينبذوا
التكفير الذي ما زال يستغل في زيادة النزف في العراق الحبيب، لا سيّما في هذه
الظروف التي نعيش في ظلّها، وقد خرجت شعوب عربية دون تحديد واضح لمسارها، في حين
تحاول أمريكا أن تسيطر على اتجاهها.
تبحر في مركبٍ عربيّ دون قبطان بين أمواج عاتية متلاطمة، تحاول أمريكا أن توجّه
مساره، وأن تضع على عيون راكبيه نواظر ليروا بالعين الإسرائيليّة إضافة إلى عين
الخبث والحماقة، لتكون النتيجةُ تمييزَ شعوب عن شعوب، فلا يبالى بما يجري في
البحرين من مطالبة شعب أعزل بحقوقه، وبما يجري في القطيف والإحساء من مطالبة بأدنى
الحقوق، بل يبالى ويتطرّف لإسقاط حامٍ عن فلسطين، وحامل لقضيّتها.
لكن مع كلّ ما يحصل فإنّ لنا الأمل بما ذكره الإمام الخامنئي البصير المسدّد بأنّه
مستبشر بالمستقبل فيما يجري في المنطقة.
أمام كلّ ذلك، فإنّ الموقف لا بدّ أن يكون بالدعوة إلى الوحدة، ونبذ الخلاف الداخلي،
وتشخيص العدو، وعدم تضييع الأولويات، والتعالي عن صغريات لمم.
كما علّمنا ذلك إمام الأمّة الراحل الإمام الخميني قدس سره في تحديد العدو
والأولويّات.
وكما علّمنا ذلك قائد المقاومة الغائب الحاضر الإمام موسى الصدر حين تعالى عن كلّ
الصغريات، ودعا للوحدة الوطنية والإسلامية ضد العدو الإسرائيليّ الذي يمثّل الشرّ
المطلق.
وإنّنا إذ نتذكّره اليوم آملين الكشف السريع عن مصيره ومصير العزيزين معه، في حين
قد آلى البعض أن يسير في مسيرة من مضى من لعناء الأمّة بتوسعة دائرة المخطوفين من
أهل الإيمان والولاء.
سلام الله في هذا العيد على الإمام الراحل، والإمام الغائب، والشهداء السابقين،
والمجاهدين المنتظرين، والجرحى الصابرين، وعلى المجتمع المقاوم الذي يرنو أن يحقّق
بمسيرته دفعاً في كمال مسار قافلة البشريّة وهو يردّد "اللهم إنّا نرغب إليك في
دولةٍ كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من
الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة".
أخوتي أخواتي أهل الإيمان والولاء
فلنحافظ على مكتسباتنا في شهر رمضان فلا نحرقها بعده باتّباع ما حرّم الله، متّعظين
بقول رسول الله بعد أن حدّث أصحابه عن ثواب الطاعات العظيم "... لكن إياكم أن ترسلوا
إليها نيراناً فتحرقوها".
ولنردّد في هذا اليوم ما علّمنا إياه إمامنا السجاد عليه السلام قائلين: "اللهم ما
ألمْمنا به في شهر رمضان من لمم أو اثم أو واقعنا فيه من ذنب أو كسبنا فيه من خطيئة
عن تعمّد منا أو على نسيانٍ ظلمنا به أنفسنا أو انتهكنا به حرمة من غيرنا فصلّ على
محمد وآل محمد، واستره بسترك واعفُ عنّا بعفوك، وبارك لنا في يوم عيدنا وفطرنا
واجعله مِن خير يوم مرّ علينا أجلبَه للعفو وأمحاه للذنب، يا أكرم من رغب إليه
وأكفى من توكّل عليه، وأعطى من سئل من فضله، وأنت على كل شيء قدير".
عباد الله أوصيكم بتقوى الله، فإنّ خير الزاد التقوى.
* سماحة الشيخ أكرم بركات
1 سورة الزمر، الآية 9.
2 سورة الرحمن، الآية 60.
3 سورة ص، الآية 38.
4 سورة الحجرات، الآية 13.
5 الطريحي، مجمع البحرين، ط2، تحقيق احمد الحسيني، مكتب النشر الثقافة الإسلامية،
1408، ج3، ص274.