كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في الذكرى السادسة والعشرين لرحيل الإمام الخميني
2015
أرى من اللزوم في بداية حديثي أن نعبّر عن حبّنا وولائنا لساحة قدس بقية الله الأعظم (أرواحنا فداه). فقد اتّفقت کلّ الأديان الإبراهيميّة على موضوع المنجي المخلّص في آخر الزمان، وأجمعت على أنّه سيظهر ذلك الرجل الذي ينقذ العالم من مستنقع الظلم والجور.
عدد الزوار: 116كلمة الإمام الخامنئي دام ظله في الذكرى السادسة والعشرين لرحيل الإمام الخميني قدس سره _04-06-2015
بسم الله الرحمن الرحيم1
والحمد لله ربّ العالمین،
والصلاة والسلام علی سیّدنا ونبیّنا وحبیب قلوبنا أبي القاسم المصطفی محمّد وعلی
آله الأطیبین الأطهرین المنتجبین، لا سیّما بقیّة الله في الأرضین.
اللّهم کن لولیّك الحجّة ابن الحسن، صلواتك علیه وعلی آبائه، في هذه الساعة وفي کلّ
ساعة، ولیًّا وحافظًا وقائدًا وناصرًا ودلیلًا وعینًا، حتّی تسکنه أرضك طوعًا
وتمتّعه فیها طویلًا.
اللّهم أعطه في نفسه وذریّته وشیعته ورعیّته وخاصّته وعامّته وعدوّه وجمیع أهل
الدنیا ما تقرّ به عینه وتسرّ به نفسه.
ذكرى ولادة الأمل الموعود
أرى من اللزوم في بداية حديثي أن نعبّر عن حبّنا وولائنا لساحة قدس بقية
الله الأعظم (أرواحنا فداه). فقد اتّفقت کلّ الأديان الإبراهيميّة على موضوع المنجي
المخلّص في آخر الزمان، وأجمعت على أنّه سيظهر ذلك الرجل الذي ينقذ العالم من
مستنقع الظلم والجور. وقد تحدّد اسم هذا المنقذ في الإسلام، وباتت كل المذاهب
الإسلاميّة تعرف هذا الرجل الإلهي وهذا الإنسان العظيم الاستثنائي باسم المهدي.
ولربما لا توجد بين الفرق الإسلامية فرقة لا تؤمن بظهور المهدي (عليه السلام)
وبكونه من ذرية النبي، بل وحتى إنّهم يحدّدون إسمه وكنيته. وأما الخصوصيّة التي
تميز اعتقاد الشيعة فهي أنّهم يعرّفون هذه الشخصيّة بصورة معيّنة ومحدّدة،
ويعتبرونه إبن الإمام الحادي عشر من أئمّة أهل البيت - الإمام الحسن العسكري (عليه
السلام) -، وقد حدّد المؤرّخون والمتكلّمون الشيعة تاريخ ولادته بصورة واضحة جلية،
وسائر الفرق الإسلامية غالبًا ما لم تذكر هذا الموضوع أو لم تقبل به، بيد أنّ
الشيعة يثبتون حضور الإمام ووجوده وولادته بالأدلة القاطعة والمسلّمة. استبعد البعض
ولادة إنسان وبقاءه حيًا لهذه المدة الطويلة، وهذا هو الاستبعاد الوحيد الذي يطرحه
ويكرّره المخالفون بشأن قضية الإمام المهدي، غير أنّ القرآن الكريم قد أزال هذا
الاستبعاد بالنص الصريح قائلًا في شأن النبي نوح (عليه السلام): ﴿فَلَبِثَ فیهِم
أَلفَ سَنَةٍ إِلّا خَمسینَ عامً﴾2، أي أنّه عاش بين قومه 950 سنة، والظاهر أنّ
هذه الفترة لم تكن فترة عمره وإنّما هي فترة دعوته، ومن هنا فلا يبقى مجال لهذا
الاستبعاد.
أكبر ميزة وأهم خصوصيّة لهذا الاعتقاد في أوساط الشيعة، أنّه يبعث الأمل. فإنّ
مجتمع التشيّع لا يعتمد على مآثره التاريخيّة في الماضي وحسب، بل يركّز نظره على
المستقبل. فإنّ الـمُعتقِد بالقضيّة المهدويّة على أساس العقيدة الشيعيّة، لا يزول
الأمل من قلبه في أشدّ الظروف وأحلكها بل يبقى الأمل متوهّجًا مشتعلًا في وجوده،
لأنّه يعلم أنّ مرحلة الظلام والظلم والحكم بغير حق والهيمنة الباطلة ستنقضي لا
محالة؛ هذه واحدة من أهم ثمار هذه العقيدة ومعطياتها. علمًا بأنّ عقيدة الشيعة
بالقضيّة المهدويّة لا تختصر بهذا الأمر، بل تحمل في شأنه مثل هذه العقيدة القائلة:
"بِیُمنِهِ رُزِقَ الوَریوَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الأرضُ والسَّماء"3. ولقد كان هذا
الضياء المشرق وهذا النور المتألّق وهّاجًا في المجتمعات الشيعيّة منذ قرون خلت ولا
يزال وسيبقى هكذا دومًا وستبلغ مرحلة انتظار المنتظرين نهايتها السعيدة إن شاء الله.
لقد صادف يوم أمس ذكرى ولادة هذا الإنسان العظيم، وطَرحتُ على مسامعكم أيّها الإخوة
والأخوات الأعزاء هذه الكلمات المختصرة عربون حبّ وولاء بمناسبة ذكرى هذه الولادة
السعيدة.
"تحريف الإمام الخميني"!
أما الموضوع الذي أعددته بمناسبة الرابع عشر من خرداد4 للإخوة والأخوات
الأعزاء الحاضرين في هذا الاجتماع الحاشد والعظيم، وللشعب الإيراني أجمع، موضوع
يختص بإمامنا الخميني الجليل كما هي عادتنا في هذه الذكرى.
لقد تحدّثنا كثيرا في هذا الشأن، إلا أنّ المجال لا يزال واسعًا للكثير من البحث و
الكلام حول هذا الرجل العظيم. وإنّ ما أودّ أن أستعرضه اليوم أمامكم يقع تحت عنوان "تحريف
الإمام الخميني"!. لكن هل يمكن تحريف الشخصيّات؟ إذ غالبًا ما نستخدم عنوان ومصطلح
التحريف في شأن تحريف المتون والنصوص، فهل بالإمكان تحريف الشخصيّات أيضًا؟ أجل،
إنّ تحريف الشخصيّات يكمن في تجاهل الأركان الأساسيّة التي تتّسم بها شخصيّة ذلك
الإنسان العظيم، أو تفسيرها على نحو مغلوط، أو تعریفها بصورة انحرافيّة وسطحية، وكل
هذا يعود إلى تحريف الشخصيّة. فإن كان صاحب هذه الشخصية قدوة وإمامًا وقائدًا، فإنّ
فعله وقوله سيمثّلان دليلًا ومرشدًا للأجيال التي تأتي بعده، وتحريفها يسبّب خسائر
وأضرارًا فادحة. لا ينبغي النظر إلى الإمام الخميني بصفته مجرد شخصيّة تاريخيّة
محترمة، وهذا ما يسعى إليه البعض، حيث يعتبر بعضهم الإمام شخصية محترمة مرّت في
تاريخ هذا البلد وكانت شخصيّة نشيطة نافعة في يوم من الأيام، وها هو قد فارق هذه
الجماهير وارتحل عنها وانقضت أيامه! فما علينا والحال هذه إلا أن نحترم هذه الشخصية
ونستذكرها بإجلال وإكبار ليس إلا؛ حيث يريد البعض أن يرى الإمام هكذا ويُعرّفه بهذه
الطريقة ويشيع هذا الانطباع في شأنه؛ هذا خطأ!
خارطة الطريق: التعرّف إلى شخصيّة الإمام
إنّ الإمام هو تجسيد عيني للحركة العظيمة التي أطلقها الشعب الإيراني
ونقل بها تاريخه من حال إلى حال، الإمام هو مؤسّس مدرسة فكرية وسياسية واجتماعية.
لقد آمن الشعب الإيراني بهذه المدرسة وهذا الطريق وهذه الخارطة، وتحرك ضمن مسارها؛
وإن مواصلة هذا الطريق رهنٌ بالتعرف الصحيح إلى هذه الخارطة، ولا يتسنّى معرفة
خارطة الطريق هذه إلا عبر معرفة الإمام التي نقصد بها معرفة أصول الإمام بشكل صحيح.
من البديهي أنّ بحثنا حول مباني الإمام الفكريّة، لا في القرارات المرحليّة
المختصّة بزمان أو مكان معين؛ البحث حول تلك الشاكلة الأساسيّة لفكر إمامنا العظيم؛
هذا ما نريد معرفته بشكل صحيح.
شخصية الامام الحقيقية
لقد كان الإمام فقيهًا كبيرًا؛ كان فقيهًا بارزًا وكبيرًا وكذلك كان
فيلسوفًا وصاحب رأي في العرفان النظري، وكان يُعدّ رائدًا في هذه المواضيع
والمجالات الفنيّة والعلميّة، غير أنّ شخصيّة الإمام البارزة لا ترتبط بأي واحدة من
هذه الأمور؛ وإنّما تجلّت شخصيّة الإمام الحقيقيّة في تحقّق آية ﴿وَجاهِدوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهادِه﴾ بمضمونها وتجسيدها، حيث خاض الإمام الخميني العظيم، بما ملك
من قدرات وإمكانيّات علميّة بارزة، ميدان الجهاد في سبيل الله واستمر في هذا الجهاد
حتى آخر عمره، وأطلق حركة عظيمة؛ ليس في بلده وحسب، بل في كل أنحاء منطقتنا والعالم
الإسلامي، وبمعنى من المعاني في أرجاء العالم كافة. وقد أسفرت هذه الحركة عن نتائج
منقطعة النظير.
لقد تحقق على يد الإمام إنجازان كبيران لم يسبق لهما مثيل في تاريخ البلد:
الأول؛ هو الإطاحة بصرح نظام سلطوي وراثي وظالم غير عقلاني حكم هذا البلد
لآلاف السنين، هذا الهيكل المهترئ الخاطئ؛ حيث يكون زمام الحكم بيد أفراد يتعاقبون
عليه بصورة وراثية جيلًا بعد جيل، أو تتوارثه الأجيال المتعاقبة بالسيف وسلطة القوة
العسكرية، خيّمت هذه السنّة المغلوطة والفاقدة للمنطق على البلد لآلاف السنين؛ لقد
كان العمل الكبير والإنجاز الأول للإمام إسقاط هذا البناء الخطأ، وتسليم مقاليد
الأمور إلى أبناء الشعب.
الإنجاز الكبير الآخر الذي حققه الإمام العظيم هو إقامة دولة ونظام مبني على أساس
الإسلام، الأمر الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ الإسلام منذ صدر الإسلام الأول. حيث
خلّف هذا الجهاد العظيم لإمامنا الكبير مثل هذه النتائج القيّمة، ولذا حريّ بنا أن
نقول حقًّا: "جاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِه"، كما في القرآن الكريم: ﴿وَجاهِدوا
فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِه﴾5. وكما يُعبَّر عن أولياء الدين، فإنّ هذا الرجل العظيم
أيضًا مصداق لقول: "جاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِه"6.
شخصية الإمام؛ الارتباط الدائم بالله
وأودّ الإشارة على هامش الحديث إلى أنّ جهاد هذا الرجل العظيم لا يقتصر
على الجهاد السياسي والاجتماعي أو الجهاد الفكري، وإنّما رافق كلَّ حالات الجهاد
هذه جهادُ الباطن وجهادُ النفس والالتزام بالارتباط الدائم والمستمر بالله سبحانه
وتعالى، وهذا درس لنا؛ إذا ما خضنا ساحة الجهاد الفكري أو الجهاد العلمي أو الجهاد
السياسي فهذا لا يعني أنه يحقّ لنا الإعراض عن هذا القسم من الجهاد!
لقد كان إمامنا العظيم من أهل الخشوع والبكاء والدعاء والتوسل والتضرع. ولطالما
كرّر في شهر شعبان المبارك هذه الفقرة من المناجاة الشعبانية خلال كلماته قائلًا:
"إِلهي
هَب لي کَمالَ الِانقِطاعِ إِلیكَ وَأَنِر أَبصارَ قُلوبِنا بِضِیاءِ نَظَرِها
إِلَیكَ حَتَّی تَخرِقَ أَبصارُ القُلوبِ حُجُبَ النّورِ فَتَصِلَ إِلیمَعدِنِ
العَظَمَة"7؛ هكذا كان سلوك الإمام. فإنّ بكاءه في الأسحار، ومناجاته، ودعاءه،
واتصاله الدائم، كلّها كانت تشكّل الدعم المعنوي لمتابعة واستمرار جهاد هذا الرجل
العظيم. وهذا ما علينا تذكّره على هامش ما كان إمامنا الجليل يمارسه من جهاد في
سبيل الله.
منظومة الإمام؛ أصيلة، عصريّة، نشيطة
إنّ منظومة الإمام الفكرية تمتلك الخصائص الكاملة لمدرسة فكرية
وإجتماعية وسياسية. فإنها أولًا تستند وتقوم على رؤية كونية وهي عبارة عن التوحيد،
حيث كانت جمیع تحركاته وكل منطقه مبنيًّا على التوحيد الذي هو البنية التحتية
الأساسية لجميع الأفكار الإسلامية.
السمة الأخرى التي تتّسم بها هذه المنظومة الفكرية والتي تجعل منها مدرسة بكل ما
للكلمة من معنى، هي أن منظومة الإمام الفكرية كانت تواكب العصر، وتطرح القضايا التي
تعاني منها المجتمعات البشرية والمجتمع الإيراني، وتشعر بها الجماهير. إن مناهضة
الاستبداد ومواجهة الاستكبار تحتل الصدارة في مدرسة الإمام الفكرية، وهذا ما كان
يدركه الشعب الإيراني، وكذلك الشعوب المسلمة بل الشعوب غير المسلمة أيضا؛ و لهذا
السبب فقد راجت هذه الدعوة وانتشرت في الأرجاء كافة.
والميزة الأخرى لهذه المدرسة الفكرية هي أنها كانت حيوية ونشيطة وعملية؛ فلم تكن
كتقديم بعض الأفكار وطرح النظريات التنويرية ذات الكلمات الجميلة الجذابة في مقام
البحث، وفاقدة للفاعلية في ميدان العمل!. فقد كان منطق الإمام وفكره ونهجه منطقا
وفكرا ونهجا عمليًا يمكن تطبيقه في ساحة العمل، ولهذا السبب نجح وانتصر وتقدم إلى
الأمام، لقد بدّلت هذه الحركة تاريخ بلدنا رأسًا على عقب.
الإمام أيقظ الشعب وحثّه على التقدّم
لقد كنا - نحن الشعب الإيراني- شعبًا خاضعًا غارقًا في اليأس وضياع
الأهداف، كنا شعبًا تابعًا قد فرضوا عليه التخلّف عمدًا؛ حيث كانوا يفرضون علينا
فكرهم وثقافتهم أيضا، وكذلك كانوا ينهبون مواردنا الاقتصادية، ويفتحون علينا في
الوقت ذاته سيلًا عَفِنًا من العادات البشعة والأخلاق السيئة؛ كنّا هكذا شعباً،
فحوّلنا الإمام إلى شعبٍ متحفّز مندفعٍ حيويّ ومفعم بالأمل، شعب ذي أهداف سامية. ها
هو الشعب الإيراني اليوم يتمتع بالنشاط والاندفاع والأمل ويتجه نحو الأهداف العليا.
ومع أنّه لا يزال هناك بيننا وبين أهدافنا مسافة كبيرة، لكنّ المهم أنّنا في حالة
حركة، والمهم أنّ شعبنا يحمل قوة وهمّة التقدم، والمهم أنّ شبابنا يؤمنون بقدرتهم
على بلوغ هذه الأهداف وتكريس العدالة الاجتماعية بالكامل وتحقيق التقدم وجلب
الثروات إلى البلد وتحويل بلدنا إلى بلدٍ متقدم ومقتدر بما يتناسب وهويتنا
التاريخية؛ وهذا الأمل يسطع اليوم في بلدنا، وشبابنا يسيرون في هذا الاتجاه. وقد
استفقنا وقمنا من حالة الإغماء والسبات نتيجة ما قامت به نهضة إمامنا الجليل وما
أنجزه هذا الرجل العظيم.
إذا أراد الشعب الإيراني بلوغ هذه الأهداف، ومواصلة هذا الطريق، فإنّ عليه أن يعرف
نهج الإمام الكبير وأصوله ومبادئه بشكل صحيح، وأن يحول دون تحريف شخصية الإمام الذي
تعتبر تحريفًا لنهج الإمام وتحريفًا للصراط المستقيم الذي يسلكه الشعب الإيراني.
فلو أضعنا نهج الإمام أو أودعناه في غياهب النسيان أو تعمّدنا - لا قدّر الله -
إبعاده وإقصاءه، لتسبّب ذلك في أن يتلقى الشعب الإيراني صفعة كبيرة. فليعلم الجميع
أن قوى الاستكبار العالمي الخبيثة التي لا تعرف الشبع لا تزال تنظر إلى بلدنا بعين
الطمع. إنّ بلدًا كبيرًا ثريًا يقع على تقاطع أهم الطرق العالمية، هو بالنسبة إلى
جبابرة العالم المخادعين بالغ الأهمية. هؤلاء لم يكفّوا ولم يتخلّوا عن طمعهم وجشعهم،
وهم لا يتراجعون إلا إذا بلغ الشعب الإيراني مبلغا من القوة والتقدّم المخيّب لآمالهم.
وفي ضوء ذلك يتخّذ خطر "تحريف الإمام" طابعًا حسّاسًا وهامًا، فلو تم تحريف شخصيّة
الإمام والتعريف بها بصورة سيئة خاطئة، سيواجه الشعب الإيراني هذه الأخطار الكبيرة
بأسرها. ومن هذا المنطلق لا بد وأن يُنظر إلى خطر تحريف الإمام كتحذير يبلغ أسماع
وأبصار جميع المسؤولين في البلد وأهل المنهج الفكري للثورة، وتلامذة الإمام القدامى،
والمناصرين لهذا الخط والنهج، وعامة الشباب، والنخب، والجامعيين، وطلبة العلوم
الدينية. هذه هي مقدمة الحديث.
شخصيّة الإمام؛ جلالٌ وجمال
لقد بُذلت جهود في زمان حياة الإمام لتحريف شخصيته؛ فالعدوّ، من جهة،
كان يحاول منذ انتصار الثورة وفي وسائل إعلامه العالمية أن يعرّف [يقدّم] الإمام
على هيئة شخصيّة ثوريّة متصلّبة عنيفة - على غرار ما نعرفه في تاريخ الثورات
الكبيرة والمعروفة في العالم كالثورة الفرنسية أو الثورة الماركسية للاتّحاد
السوفياتي وبعض الثورات الأخرى- وكإنسان صلب متشدّد يقطّب حاجبيه باستمرار ولا ينظر
إلا إلى مواجهة الأعداء، ولا يتحلّى بأيّة عاطفة ومرونة؛ هكذا كانوا يعرّفون الإمام
وهذا كلام باطل. أجل، فلقد كان الإمام حاسمًا لا يتزلزل، وراسخًا في قراراته - كما
سأشير إلى ذلك - الّا أنه كان مظهرًا للعاطفة واللطف والمحبة والمواساة والعشق لله
ولخلق الله، لا سيما بالنسبة إلى الطبقات المظلومة والمستضعفة في المجتمع، وهذا عمل
تصدى له العدو منذ اليوم الأول من انتصار الثورة في وسائل الإعلام العالمية.
وقد عمدَ بعضهم أيضًا في الداخل عن جهل وبعضهم الآخر عن عمد إلى تحريف الإمام حتى
في فترة حياته، فكانوا ينسبون إلى الإمام كل ما يحلو لهم، رغم أنه لا يمت إلى
الإمام بصلة، وما زال نفس هذا التيار يواصل طريقه، حتى أنّ بعض الأقوال وبعض
التصريحات كانت تُصوّر الإمام بصورة إنسان ليبرالي لا يتقيّد بأي قيد وشرط في سلوكه
تجاه المسائل السياسية بل وحتى الفكرية والثقافية أيضًا، وهذه النظرة أيضًا شديدة
الخطأ وتخالف حقيقة الأمر.
ولو أردنا إدراك شخصية الإمام حقًا، فلهذه العملية طريقها، ولو سلكنا هذا الطريق –
الذي سأشير إليه – لتم معالجة الأمر، وإلا فسينهض اليوم أناسٌ يصوّرون الإمام وفق
ميولهم ورغباتهم بطريقة معينة، ولربما يظهر غدًا أناسٌ يرون المصلحة بأن يصوّروا
الإمام بطريقة أخرى وفق رغبات أخرى وأحداث أخرى، وهذا أمرٌ مرفوض. إن شعبية [محبوبية]
الإمام في قلوب الناس حقيقة خالدة لم يتمكن العدوّ من القضاء عليها، ومن هنا تعتبر
قضية تحريف شخصية الإمام المغروسة في قلوب الكثير من الناس - في داخل البلد وخارجه
- خطرًا كبيرًا.
قراءة أصول الإمام ومبادئه
الطريق الذي بإمكانه أن يحول دون هذا التحريف، هو إعادة قراءة أصول
الإمام. فإنّ للإمام مبادئه وأصوله، وقد طُرحت هذه المبادئ على مدى عشرة أعوام من
حاكميّة الإسلام وقبلها طوال خمسة عشر عامًا من النهضة في مختلف الكلمات والخطابات
التي يمكن استقاء مبادئ الإمام من خلالها. ولو وضعنا هذه الأسس والمبادئ جنبًا إلى
جنب لتكوّنت أمامنا خارطة شخصية الإمام الخميني الجليل؛ هذه هي شخصية الإمام. وهنا لا
أدعو إلى الاهتمام بكل قضية فرعية، فإنّ لحياة الإمام كما هو حال سائر الناس
منعطفات وأحداثًا، ولكلّ حادث مقتضياته، وإنّما أقصد المسائل الأساسيّة التي لا
يمكن إنكارها، والتي تعتبر من البيّنات التي جرت على لسان الإمام مرارًا وتكرارًا
في خطاباته وكلماته على مدى أعوام طويلة، سواء قبل تشكيل الحكومة الإسلامية، أو
خلال فترة إقامتها، أو في غضون فترة الحرب المفروضة التي طالت ثمانية أعوام، أو قبل
ذلك أو بعدها. كما ولا ينبغي عرض هذه المبادئ والأصول بطريقة انتقائية. علمًا بأني
سأتناول اليوم خمسة أو ستة مبادئ منها، ولكن أقول هنا بأنها قد لا تنحصر بهذه
الموارد، وبوسع الباحثين والقادرين على النهوض بهذه المهمة أن يفتّشوا في كلمات
الإمام - التي قد تم تدوينها والحمد لله ووضعها في متناول الناس - واستخراج مبادئ
أخرى. ولا يسعني اليوم استعراض كل الأصول و المبادئ التي يمكن استخراجها من كلمات
الإمام، وإنما أتعرض لخمسة أو ستة موارد منها، ولا أريد الانتقاء بالطبع، ولذا أطلب
من الآخرين البحث عن مبادئ أخرى، غير أن الأمور التي سأتعرض إليها اليوم، تعتبر من
مسلّمات منطق الإمام ومدرسته ونهجه وخطه.
أصول مدرسة الإمام
الأصل الأول في مدرسة الإمام هو إثبات الإسلام المحمدي الأصيل ورفض
الإسلام الأمريكي. فقد وضع الإمام الإسلام الأصيل في قبال الإسلام الأمريكي. فما هو
الإسلام الأمريكي؟ إنه في عصرنا وفي عصر الإمام وفي جميع العصور - في حدود ما نعلم،
وقد يكون الأمر على نفس الشاكلة في المستقبل أيضًا - لا يخرج عن اتجاهين: الأول
الإسلام العلماني، والآخر الإسلام المتحجر. ومن هنا لطالما رأينا الإمام يُدخل
الذين يحملون رؤية علمانية ويفصلون المجتمع والسلوك الاجتماعي للناس عن الدين
الإسلامي في عداد الذين ينظرون إلى الدين بنظرة متحجرة رجعية يستعصي على المجدّدين
فهمها، والنظرة المتعصبة لأسس خاطئة، ولطالما وضعهم الإمام الى جانب بعضهم بعضاً. ولو
أجلتم بأبصاركم لوجدتم أن كلا هذين التيارين موجود في العالم الإسلامي، وكلاهما
مدعوم من قبل قوى الهيمنة في العالم ومن قبل أمريكا. واليوم أيضًا نجد أمريكا
وإسرائيل تدعمان تيارات منحرفة كداعش والقاعدة وأمثالهما، وتساندان في الوقت ذاته
التيارات الإسلامية في اسمها والغريبة في عملها تجاه الإسلام والفقه الإسلامي
والشريعة الإسلامية.
إسلامٌ أصيل في وجه إسلام متحجّر
إنّ الإسلام الأصيل من منظار الإمام الخميني هو إسلام قائم على أساس
الكتاب والسنَّة، ويمكن استنباطه والتوصل إليه من خلال رؤية واضحة ومعرفة الزمان
والمكان والاستعانة بآلية ومنهجية علمية مقبولة ومتكاملة في الحوزات العلمية. وليس
الأمر بحيث يتم التغافل عن طريقة الاستنباط، ويكون بوسع أيّ أحد إمكانية الرجوع إلى
القرآن واستنباط أسس الحركة الاجتماعية منه، بل توجد لذلك آلية ومنهجية عملية
ومدروسة، وهناك من يستطيع النهوض بهذا الأمر. هذا هو الإسلام الأصيل في رؤية إمامنا
الكبير. علمًا بأنه لا يستطيع النهوض بهذه المهمة كل من هو عارف باستخدام هذه
الآلية والمنهجية، بل يحتاج أيضا إلى رؤية واضحة ومعرفة بالزمان والمكان ومعرفة
بمتطلبات العصر للمجتمعات البشرية والإسلامية، وكذلك معرفة العدو، ومعرفة أساليب
عدائه، عند ذاك يمكن تحديد الإسلام الأصيل ومعرفته والتعريف به.
إن إسلام وعّاظ السلاطين - ولطالما عبّر الإمام عنه بهذا التعبير - والإسلام
الداعشي من جانب، والإسلام الذي لا يعبأ بجرائم الصهاينة وجرائم الأميركيين من جانب
آخر؛ الإسلام الذي يَشْخَص ببصره نحو أمريكا والقوى العظمى ويكون رهن إشارتها،
كلاهما يصبّان في مجرى واحد، وينتهيان إلى مصدر واحد، ومرفوضان في رؤية الإمام. فإن
الإسلام الذي يرسمه الإمام الخميني لنا، يقف في مواجهة كل هذه الأنماط. والذي يتَّبع
الإمام ويسير على نهجه لابد أن يرسم حدودًا تفصله عن الإسلام المتحجر والإسلام
العلماني، ولابد أن يكتشف الإسلام الأصيل ويتحرك وفقه. هذه هي واحدة من مبادئ
الإمام وهي ليست من تلك الأمور التي ذكرها الإمام لمرة واحدة، وإنما هي منتشرة في
جميع آثاره وكلماته.
الأصل الثاني من مبادئ الإمام هو الاتكال على العون الإلهي، والثقة بصدق وعد الله،
والنقطة التي تقابلها هي عدم الثقة بالقوى المستكبرة والمهيمنة في العالم؛ هذه هي
أحد أركان مدرسة الإمام المتمثلة في الاتكال على قدرة الله. فقد وعد الله تعالى
المؤمنين ولعن من لا يؤمن بهذا الوعد في قوله: ﴿وَلَعنَهُمُ اللَّه﴾8، ﴿وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَیهِم﴾9، وهم أولئك ﴿اَلظّآنّینَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوءِ عَلَیهِم
دائِرَةُ السَّوءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَیهِم وَلَعَنَهُم وَأَعَدَّ لَهُم جَهَنَّمَ
وَسآءَت مَصیرً﴾10. إن من ركائز فكر الإمام الخميني العظيم، الإيمان بوعد الله
والتصديق به حيث قال سبحانه: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ یَنصُرکُم﴾11. والنقطة
المقابلة لذلك [لسوء الظن بالله] هي عدم الاعتماد على إغراءات الأعداء والمستكبرين
والقوى العالمية مطلقا، وهذا ما هو مشهود في عمل الإمام وسلوكه وخطاباته بالكامل.
ولقد أدى هذا الاتكال على قدرة الله والثقة به إلى أن يكون الإمام الخميني العظيم
صريحًا واضحا في اتخاذ المواقف الثورية، حيث كان الإمام يتحدث بصراحة، ويبيّن ما
كان يعتقد به دونما غموض وإيهام، وذلك لاتكاله على الله، لا لأنه لم يكن يعلم بأن
ذلك سيؤول إلى أن تنزعج القوى الكبرى وتثور ثائرتها، بل كان يعلم بذلك، ولكنه كان
يؤمن بقدرة الله ومدده ونصره.
رسالة ريغان؛ لا شيء!
لقد كان الإمام يتعامل مع الأحداث دون مساومة ومجاملة، حيث نجده قد أجاب على رسالة - وهناك رسالتان كانتا قد بُعثتا إليه من قبل الزعماء المستكبرين في العالم أو
التابعين لهم- وكانت ردوده في غاية الصراحة والحسم، وقد بُثّت حينها عبر الإذاعة
والتلفاز في الجمهورية الإسلامية. فقد بيّن الإمام، وضمن التزامه بالأدب، مواقفه
الصارمة والبيّنة في تلك الرسائل، وقد أجرى الإمام توكّله [على الله] هذا كالدم في شرايين
الشعب، فأضحى شعب إيران من المتّكلين على الله والمؤمنين بنصره والسائرين على هذا
النهج.
وإنّ عدم ثقة الإمام بالمستكبرين وعدم التصديق بهم أدّى إلى أن لا يكترث بوعودهم
أيضًا. فقد بعث الرئيس الأمريكي ريغان، وكان رئيسًا مقتدرًا، كتابًا إلى الإمام
وأرسل إليه رسالة وأوفد إليه مبعوثًا، فلم يعبأ به الإمام ولم يجب على رسالته ولم
يكترث به واعتبر وعده كأنْ لم يكن شيئًا مذكورًا.
عدم الثقة بالمستكبرين
وفي موقف آخر، وعدت إحدى الدول التابعة لأمريكا في مسألة نهاية الحرب
المفروضة تسليم مئات بل آلاف المليارات، غير أنّ الإمام لم يأبه بذلك ولم يثق بهم.
وهذا ما بتنا نتلمّسه نحن أيضًا في قضايانا الجارية، وندرك لماذا لا يمكن الوثوق
بوعود المستكبرين، ولا يمكن الاعتماد على تصريحاتهم في الاجتماعات الخاصة. وهذا ما
وضعه الإمام في عداد الخطوط الرئيسيّة لعمله وهو الاتكال على الله وعدم الثقة
بالمستكبرين. علمًا بأنّ ذلك لا يعني قطع العلاقات مع العالم، فقد كان زعماء
البلدان يبعثون إلى الإمام رسائل تهنئة في شتى المناسبات، والإمام بدوره أيضًا كان
يجيب عن رسائلهم، فقد كانت مثل هذه العلاقات المبنية على أساس الأدب والاحترام
قائمة في الأطر العادية، ولكن لم يكن هناك أي ثقة بالجبابرة والمستكبرين وأتباعهم
وعملائهم.
المبدأ والأصل الثالث هو الإيمان بإرادة الناس وقوتهم ورفض المركزية الحكومية، وهذا
يمثل أحد الخطوط الرئيسية لحركة الإمام. فقد كانت ثمة محاولات، في تلك الأيام،
نابعة عن رؤية خاطئة لإيكال جميع الأنشطة الاقتصادية في البلد إلى الحكومة، ولطالما
كان الإمام يحذّر من ذلك - وقد انعكست هذه التحذيرات في كلماته بشكل جليّ - فكان
يوصي بإيكال الأمور إلى الناس. حيث كان يثق بالشعب في القضايا الاقتصادية و يثق به
في المسائل العسكرية.
على الجميع أن يلتفت إلى أنّ الإمام كان داعمًا للجيش منذ البداية، وهو الذي حال
دون حلّ الجيش وتفكّكه، ولكن رغم ذلك أسّس قوّات الحرس الثوري، ومن بعدها شكّل التعبئة،
وحوّل الحركة العسكرية إلى حركة جماهيرية. فاستند إلى الناس في القضايا الاقتصادية،
وفي الشؤون العسكرية، وفي المسائل العمرانية حيث أسس جهاد البناء على ضوء ذلك، و
كذلك في الأمور الإعلامية، وفوق كل ذلك في مجال الانتخابات وأصوات الناس وإسهامهم
في إدارة البلد وهيكلية نظامه السياسي. فطوال تلك الأعوام العشرة من قيادة الإمام
الخميني التي انقضت ثمانية أعوام منها في الحرب المفروضة، وفي قصف المدن والانشغال
بقضايا الحرب، أجريت حوالي عشرة انتخابات مختلفة في البلد ولم يتغير موعد إجراء أي
واحدة منها حتى ليوم واحد! حيث كان الإمام الخميني الكبير يصرّ على إقامة
الانتخابات في وقتها المقرر، وفي كل المراحل والأوضاع والظروف. ولم يعلن الإمام
حالة الطوارئ في أي يوم؛ الأمر الذي اعتادت عليه بعض البلدان، لأنه كان يهتم
بالانتخابات، وكان من أوائل الحاضرين عند صناديق الاقتراع، كان الإمام يؤمن بالناس،
ويحترم أصواتهم وأفكارهم وآراءهم وتشخيصهم بكل ما للكلمة من معنى، حتى أنه قد لا
تتطابق أصوات الناس مع رأي الإمام أحيانًا، إلّا أنّه كان يحترم أصوات الشعب
ويُجلّها ويُقيم لها وزنًا. ولم يكتف بذلك في شأن الناس أيضًا، بل عرّفهم بأنهم
أولياء نعمة المسؤولين، ولطالما أكّد أن أبناء الشعب أولياء نعمتنا. وأحيانًا كان
يصف نفسه بأنه خادم للشعب قائلًا: أن تسمّوني خادم الشعب أحبّ إلي من أن تسمّوني
قائده، وهذه كلمة كبيرة، وهي تدل على المكانة المرموقة للشعب وأفكاره وأصواته
ومشاركته في رؤية الإمام. وقد لبّى الشعب نداء قائده خير تلبية، فنزل الناس إلى
الساحات، وتفانوا في الإيثار بالروح والقلب في الميادين التي أشار إليها الإمام.
وهذا أمرٌ متبادل، حيث كان الإمام يثق بالناس، والناس تثق به أيضًا، كان الإمام يحب
الناس، والناس يحبونه، هذه العلاقة المتبادلة هي أمر طبيعي.
الأصل الرابع في البُعد الداخلي هو دفاع الإمام ونصرته ودعمه للمحرومين والمستضعفين،
حيث كان يرفض التمييز والفروقات الاقتصادية رفضًا باتًا، ويواجه النزعة
الأرستقراطية بمرارة، وكان مناصرًا حقيقيًا للعدالة الاجتماعية بالمعنى الحقيقي
للكلمة. ولعل الدفاع عن المستضعفين من أكثر المواضيع التي تناولها الإمام في
كلماته، وهو من الخطوط البيّنة في رؤية الإمام، ومن الأصول المسلمة، حيث يدعو
الجميع إلى العمل و بذل الجهد لاستئصال الفقر، والسعي في مساعدة المحرومين لإنهاء
حالة الحرمان، ومساندة المحرومين بكل وسعهم، وكان من جانب آخر يحذّر المسؤولين من
التخلق بأخلاق أهل القصور والذي وردت الإشارة إليه في القرآن الكريم أيضًا:
﴿وَسَکَنتُم في مساکِنِ الَّذینَ ظَلَمو﴾12، وكان يؤكد مرارًا على الاعتماد والثقة
بوفاء الطبقات الضعيفة، ويكرّر القول بأن سكّان الأكواخ والفقراء والمحرومين هم
الذين ملأوا الساحات رغم حرمانهم دون اعتراض، وهم الذين يحضرون في ميادين الخطر.
بينما الطبقات المترفة هي أكثر من تبدي استياءها وتبرّمها حين تقع الحوادث وتظهر
المشاكل في كثير من الاحيان. لقد برزت قضية وفاء الطبقات المتوسطة والمحرومة من
أبناء الشعب في رؤية الإمام وكان دومًا يؤكد عليها. كما وكان يشدّد على استخدام بيت
المال بشكل صحيح، وتجنّب الإسراف. وهذه بدورها واحدة من الخطوط الأساسية المتمثلة
بالعدالة الاجتماعية ومناصرة المحرومين والابتعاد عن النزعة الأرستقراطية والنزوع
إلى البذخ والكماليات والعمل في هذا الاتجاه.
أمريكا؛ الشيطان الاكبر
الأصل الخامس يرتبط بالبُعد الخارجي، حيث كان الإمام يقف بصراحة في
الجبهة المناهضة للقوى الدولية المتغطرسة والمستكبرة دونما مراعاة ومجاملة. وحين
يقف عتاة العالم والمستكبرين والقوى المتسلطة في مواجهة المظلومين، كان الإمام إلى
جانب المظلومين، ويصرّح بذلك دون مواربة وتقية. وكان مدافعًا جادًا عن المظلومين،
ومقاوما لا يهون في عدائه للمستكبرين. إن مصطلح "الشيطان الأكبر" في وصف أمريكا
كان إبداعا مدهشًا من إبداعات الإمام، و لهذا التعبير "الشيطان الأكبر" امتدادات
معرفية وعملية كثيرة. إذ إنّ تعاملك سيكون واضحًا ومشاعرك ستكون جلية في حق ذلك
الشخص أو الطرف الذي تعتبره شيطانًا. وكان الإمام يحمل نفس هذا الشعور تجاه أمريكا
حتى آخر حياته، إلى جانب استخدامه تعبير الشيطان الأكبر، فإنه كان يؤمن به إيمانًا
راسخًا.
وفي المقابل كان هناك منذ بداية انتصار الثورة الإسلامية عدد من الأفراد لا يلتفتون
إلى دور أمريكا في تقوية دعائم النظام الطاغوتي البهلوي الذي أسقطه الشعب الإيراني.
فقد أطاح أبناء الشعب بالنظام الطاغوتي، غير أن هناك جماعة كانت توافق على وجود
الأمريكيين ومواصلة نشاط الإدارة الأمريكية أو نشاط بعض مؤسساتها وأجهزتها في داخل
البلد! حول هذا الموضوع كان الاختلاف الأصلي بين الحكومة المؤقتة وبين الإمام
الخميني الكبير، وهذا ما كنّا نشاهده عن كثب. إذ أنهم لم يتفطّنوا إلى أن أمريكا هي
المساند والمموّن للنظام الطاغوتي، وعلى الرغم من سقوط هذا النظام، فإن ذلك الجهاز
الداعم له مازال قائمًا نشيطًا، ولو أتيحت له الفرصة وفسح له المجال، لاستعاد نشاطه
ثانية ولوجّه ضرباته ولبدأ يبحث عن نقاط الضعف لينفذ ويتسلل من خلالها. هذه قضية لم
يتنبّهوا لها، لكنها كانت واضحة لدى الإمام. ومن هنا فإن مواقفه تجاه احتلال وكر
التجسس (السفارة الامريكية في طهران) كانت نابعة من هذه الرؤية وهذا المنظار. وإن
الذين لم يلتفتوا إلى هذه النقطة في العالم قد تلقوا الضربات والخسائر جراء ذلك،
ولا نرغب هنا بلوم أحد أو الشماتة به، إلا أنها ضربات تلقاها البعض لأنهم أسقطوا
الأنظمة الرجعية والمستكبرة، ولكنهم تجاهلوا الجهات الداعمة لها. وقد شاهد الإمام
الخميني هذه الجهات الداعمة منذ اليوم الأول وواجهها، ولذلك كانت له مواقفه ضد
أمريكا والأجهزة السياسية والأمنية الأمريكية والتي استمرت حتى آخر عمره الشريف.
..للمظلوم عونًا وللظالم خصما!
وفي المقابل دعم الإمام الخميني الجليل على مدى هذه الأعوام الطويلة
فلسطين ودافع عنها، كما ودافع عن أفغانستان أيضًا. ففي اليوم الذي دخل الاتحاد
السوفياتي أفغانستان، ورغم أننا كنا نعاني في مواجهة عداوة أمريكا لنا - والحكومات
في مثل هذه الظروف حينما تعادي طرفًا غالبًا ما تتصالح وتنسجم مع الطرف الآخر - بيد
أن إمامنا العظيم اتخذ موقفًا حاسمًا ضد الاتحاد السوفياتي، وهو موقف لم تتخذه حتى
بعض الحكومات ذات الميول الغربية، ولكن الإمام دعم شعب أفغانستان دون أية ملاحظة
ومجاملة، ودعم شعب لبنان، ودعم الفلسطينيين بكل موّدة وصفاء. هذا هو منطق الإمام
الخميني في خصوص مواجهة الاستكبار. وبهذا المنطق يمكن اليوم تشخيص قضايا العالم
وفهم الموقف السليم.
إننا في الوقت الراهن، وبنفس القدر الذي نعارض به السلوك الهمجي الغاشم لتنظيم داعش
في العراق وسورية، فإنّنا نعارض السلوك الظالم للشرطة الفيدرالية الأمريكية داخل
أمريكا - وكلاهما شبيهان ببعضهما بعضا-، وبنفس الدرجة التي نعارض بها الحصار الظالم ضد
أهالي غزة المظلومين، نعارض قصف الشعب اليمني المظلوم الذي لا مأوى له، وبنفس القدر
الذي نعارض به التشدد ضد الشعب البحريني، نعارض هجمات الطائرات الأمريكية من دون
طيار ضد شعبي أفغانستان وباكستان. هذا المنطق هو منطق الإمام الخميني. ففي أيّ موضع
يحلّ الظلم فيه يظهر هناك طرفان: ظالم ومظلوم، نحن نكون للمظلوم عونًا وللظالم
خصمًا، وهذا موقف كان الإمام الخميني يتخذه بكل صراحة، ويعتبر من خطوطه الرئيسية.
واليوم أيضًا وللسبب ذاته تعتبر قضية فلسطين بالنسبة لنا قضية أساسية، وليعلم
الجميع ذلك. فإن قضية فلسطين لن تخرج من لائحة قضايا نظام الجمهورية الإسلامية.
قضية فلسطين هي ساحة جهاد إسلامي واجب وضروري، وما من حدث يمكنه فصلنا عن القضية
الفلسطينية. قد يكون البعض ممن يوجد في الساحة الفلسطينية لا يعمل بواجباته،
وهؤلاء لهم حساب آخر، إلا أن شعب فلسطين والمجاهدين الفلسطينيين هم موضع تأييدنا
ودعمنا.
استقلال البلد؛ حريّة شعب بأكمله
المبدأ والأصل الآخر من المبادئ الأساسية والخطوط الرئيسية لفكر الإمام،
هو قضية استقلال البلد، ورفض الرضوخ للهيمنة، وهذا بدوره يعتبر من العناوين الهامة.
لقد ذكرت في العام الماضي للحاضرين في هذا الاجتماع نفسه أن الاستقلال يعني
الحرية على مستوى شعب بأكمله؛ هذا هو معنى الاستقلال. وأن يجري على ألسنة البعض أو
ينادون في شعاراتهم بالحريات الفردية ولكنهم يتحاملون على استقلال البلاد فهذا
تناقض. إذ كيف يمكن أن تكون الحرية الفردية للأشخاص محترمة، وحرية شعب بأكمله
والحرية على مستوى بلد كامل أمام حظر الأعداء والأجانب وعقوباتهم غير محترمة؟! هذا
ما لا يمكن فهمه وإدراكه ولا يمكن تقبّله. ثمة أشخاص وللأسف ينظّرون لضرب استقلال
البلد، ويفسّرون الاستقلال تارة بالعزلة والانزواء، ويتحدثون تارة أخرى بأن استقلال
البلاد ليس قيمة، يكتبون ويتكلمون وتنتشر هذه الأقوال في أوساط المجتمع. إن البعض
يتحرك هكذا وفي هذا الاتجاه، وهو خطأ كبير وخطير جدًا. أما الإمام فقد كان يؤمن
باستقلال البلد، ورفض الهيمنة عليه. ولقد قام العدوّ، على مدى هذه الأعوام، بالكثير
من الأعمال والأنشطة المعادية لبلدنا وشعبنا بهدف النيل من استقلال البلد، وراح
يستهدف استقلال البلد سواء من خلال فرض الحظر أو التهديد. يجب على الجميع التحلّي
بالوعي ومعرفة أهداف العدو؛ وهذا أيضًا من الخطوط الرئيسيّة.
نظرةٌ تستوعب الأمّة
من الأصول الأساسية الأخرى لفكر الإمام ونهجه وخطه -وهو الموضوع الأخير
الذي أتناوله- قضية الوحدة الوطنية والتنبّه للمؤامرات الهادفة للفتنة والتفرقة؛
سواء التفرقة الدينية أو الطائفية بين الشيعة والسنة، أو التفرقة القومية بين الفرس
والعرب والأتراك والأكراد واللور والبلوش وأمثالهم. فإنّ زرع الفتن وبث الفرقة هما من سياسات العدو الثابتة والمستمرة. ولقد اعتمد إمامنا الجليل منذ البداية على
الوحدة الوطنية وتوحيد الصفوف بين أبناء الشعب بشكل لا نظير له، وهذا بحد ذاته هو
أحد الخطوط والمبادئ. فما علينا اليوم إلا اتّباع هذا النهج وهذا الخط. أنتم
تلاحظون اليوم أنّ قضيّة إثارة الفرقة في العالم الإسلامي هي إحدى سياسات الاستكبار
الرئيسيّة. لقد بلغ الأمر بالأمريكيين حاليًّا إلى التصريح بوضوح واستخدام عبارات
التشيع والتسنن والتحدث عن الإسلام الشيعي والإسلام السني، والكلام بأنّهم يدعمون
طرفًا، ويهاجمون الطرف الآخر. في حين أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران كانت،
ومنذ اليوم الأول لانطلاق الثورة، تحمل رؤية وحدوية ونظرة مساواة في مجال الفروقات
الطائفية. فلقد تعاملنا مع إخواننا الفلسطينيين وهم سنّة بمثل ما تعاملنا مع الإخوة
في حزب الله في لبنان وهم شيعة، وكان تعاملنا واحدا في كل مكان. لقد كانت نظرة
إمامنا العظيم في داخل البلد وفي العالم الإسلامي وكذلك نظرة الجمهورية الإسلامية
هي نظرة بناء أمة، ونظرةٌ تستوعب الأمة الإسلامية. وعندما يقوم عملاء أمريكا من
الدرجة الثانية بطرح قضية "الهلال الشيعي"، فذلك مظهر وعلامة لسياسة بث الشقاق
والفتنة. وحينما يقوم الأمريكيون-على رغم إعلامهم المدعي محاربة الارهاب- بمسايرة
الجماعات التكفيرية التي تثير الفتن في العراق وسورية، بل وأحيانًا يساعدونها بصورة
سرية خفية، فيما عملاؤهم يدعمونها بشكل صريح و واضح، فهذا يدل على أن زرع الفتنة
والتفرقة بنظر أعداء الإسلام والمسلمين وأعداء الجمهورية الإسلامية له دور بارز وأساسي جدًا، وهذا ما يجب على الجميع الالتفات إليه شيعة وسنة، فلا يسقطوا في فخ العدوّ
وألاعيبه. لا يوجد فرق بين ذلك التسنن الذي تدعمه أمريكا وذلك التشيع الذي يُصدَّرُ
إلى العالم من مركز لندن، فكلاهما أشقاء الشيطان وكلاهما من عملاء أمريكا والغرب
والاستكبار.
توحيد الجهود حفاظًا على وجود الإسلام
إنّ [شعار] "وحدة القلب واللسان" حيث شددنا عليه في بداية هذا العام وكرّرناها
بعد ذلك أيضًا، قائمة على هذا الأساس. فليتعاضد جميع الأعزاء في داخل البلد من شتى
القوميات ومختلف المذاهب وليشكلوا بعضهم إلى جانب بعض "يدًا واحدة" - كما كانوا
عليه حتى الآن والحمد لله - ولا يسمحوا للعدوّ بالتسلل والنفوذ إلى قلب العالم
الإسلامي. كذلك على النطاق الواسع فليتّحد الإخوة السنة والشيعة معًا وليعلموا أن
العدوّ يهدّد أصل وجود الإسلام وكيانه، وهذا أيضًا يمثّل أحد الخطوط الأساسية.
لقد استعرضتُ سبعة عناصر من أسس ومبادئ الإمام الخميني، وهي لا تنحصر في هذه السبعة
بالتأكيد، فلينهض الآخرون بالبحث والمطالعة في هذا المجال، لكن لا يحق لأي أحد أن
ينسب للإمام ما يحلو له من الكلام. وإنما يجب أن ننسب إلى الإمام ما هو موجود في
آثاره بصورة متكرّرة ومتواصلة، كما هو شأن الأصول السبعة التي ذكرناها، فهي مواضيع
يجد المرء عند المراجعة أنها قد تكررت بأجمعها في كلمات الإمام من البداية حتى
النهاية على مدى أعوام مديدة، وبهذا تدخل في عداد الأصول والمبادئ. ليبحث الآخرون
عن أسس أخرى بهذه الطريقة المنهجية. فلقد كانت قوة جذب الإمام و قوة دفعه على أساس
هذه الأصول. نحن أيضًا نريد التحلي بقوة جذب وقوة دفع؛ على أساس هذه الأصول نوجد
فينا الجذب والدفع.
هدف العدو الحقيقي..
وليعلم الجميع أن هدف أعدائنا الذين يظهرون بشتى المظاهر والوجوه -
فأحيانًا يعبسون، وأحيانًا يبتسمون، وتارة يَعِدون، وأخرى يتوعدون - هو السيطرة
والهيمنة على البلاد. فإن العدوّ يريد العودة إلى سلطته المطلقة على هذا البلد،
العدو يعادي الإسلام ويحاربه لأن الإسلام يعارض هذه العودة بشدة ويمثل القوة
المقاومة أمام مؤامرة العدوّ هذه.هو يعادي الإسلام لعلمه بأن المعارف والأحكام
الإسلامية تشكّل سدًا منيعًا بوجهه. العدو يواجه شعبنا لأنّه قد وقف أمامه كالجبل
الراسخ. يضاعف الأعداء من مواجهتهم لكل من يتمتع من أبناء الشعب بمزيد من الصمود
والاستقامة أمامهم، ولذلك يعارضون العناصر المؤمنة والجهات والمؤسسات الثورية
والحزب اللهية أكثر، لعلمهم أن هؤلاء يشكلون حصنًا وسدًا منيعًا أمام نفوذ الأعداء.
يسعى العدو إلى التسلط والهيمنة وكل جهده منصبّ على مواجهة الحركة الإسلامية لنظام
الجمهوريّة الإسلاميّة والتي هي مصدر للتقدم والرقي والازدهار لهذا الشعب.
إيران أخطر !..من داعش
قال أحد الساسة الأمريكيين المخضرمين: إن الجماعات الإرهابية التكفيرية
لا تعتبر ذات أهمية لنا نحن الغربيين، فليكونوا موجودين ولا ضير في ذلك، إنما الذي
يشكل أمرًا هامًا بالنسبة لنا هو إيران الإسلامية، لأنها تهدف إلى بناء "حضارة
عظيمة" - لقد استخدم كلمة "إمبراطورية" وهي حماقة منه - ولذلك علينا أن نعتبر
إيران عدونا الرئيسي الذي يقف في وجهنا. هذا الكلام يبيّن لنا أهمية بناء الأمة.
كانت هذه هي النقاط [والأصول]التي وددت استعراضها عليكم اليوم أيها الإخوة الأعزاء.
ونرحب بالذين جاؤوا من أماكن بعيدة ومن مدن مختلفة ونقول لهم سلمكم الله وعافاكم
وحفظكم جميعًا.
اللهم نقسم عليك بمحمد وآل محمد أن تنزل رحمتك
وبركاتك على هذا الشعب الكبير والعزيز.
اللهم أنزل رحمتك وبركتك على روح هذا الرجل
الكبير والإمام العظيم الذي فتح أمامنا هذا الدرب النوراني.
اللهم اجعلنا من السائرين الصادقين على هذا
الطريق واجعل موتنا شهادة في هذا السبيل.
اللهم اجعل القلب الطاهر لصاحب العصر (أرواحنا
فداه) مسرورًا وراضيًا عنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1- أُلقي الخطاب في
مرقد الإمام الخميني (قدس سره)بحضور حشود ضخمة من المحبين والزائرين، وقبل ذلك ألقى
السيّد حسن الخميني كلمة.
2- سورة العنكبوت؛ جزء من الآية 14
3- زاد المعاد؛ مفاتيح الجنان ص422
4- 4حزيران – ذكرى رحيل الإمام الخميني.
5- سورة الحج؛ جزء من الآية 87
6- بحار الأنوار؛ ج33، ص18
7- المناجاة الشعبانيّة. إقبال الاعمال، ج2.
8- سورة التوبة، جزء من الآية 68
9- سورة المجادلة؛ جزء من الآية 14
10- سورة الفتح؛ جزء من الآية 6
11- سورة محمد؛ جزء من الآية 7
12- سورة إبراهيم؛ جزء من الآية 45