الأبعاد العقائدية والتربوية للدعاء والزيارة
في الدعاء والزيارة
قد يظهر من كلام بعض المحقّقين أنَّ "الدُّعاء بمعنى النداء، وأنَّ النِّداء هو الأصل"1، ثمّ يجري على معانٍ عدَّة ومنها الدُّعاء، والذي يستخدم بدوره في معانٍ أُخر: "كالاستغاثة، الاستحضار، الابتهال، الرَّغبة، وأمثالها"2.
عدد الزوار: 105
أوّلاً: معنى الدُّعاء
1- الدُّعاء في اللغة:
قد يظهر من كلام بعض المحقّقين أنَّ "الدُّعاء بمعنى النداء، وأنَّ النِّداء هو
الأصل"1، ثمّ يجري على معانٍ عدَّة ومنها الدُّعاء، والذي يستخدم بدوره في معانٍ
أُخر: "كالاستغاثة، الاستحضار، الابتهال، الرَّغبة، وأمثالها"2.
وبالتَّالي، يكون التعريف الأنسب للفظ الدُّعاء هو "أن تَميل الشيءَ إليك بصوتٍ
وكلام يكون منك"3، مع الالتفات إلى أنَّ الدُّعاء الذي يطلبُ به الدَّاعي إمالةَ
المدعوّ إليه، قد يكون بغير الصّوت، كأن يكون بإشارةٍ ما، كحركة العين أو اليدين
وغير ذلك. وتستطيع أن تلاحظ أنَّ هذا التَّعريف مطلقٌ، لا يحدِّدُ أطرافَ العلاقة
في الدُّعاء، ولا يساعد على توضيح المعنى المراد من الدُّعاء.
2- الدُّعاء في الاصطلاح:
ونقصد بالاصطلاح هنا، هو معنى "الدُّعاء" كلفظ أريد به معنىً محدّداً في القرآن
الكريم، وقد يوافق هذا المعنى المعنى اللغوي أو يفرق عنه، ومعرفة المراد من المصطلح
تعيننا على تحديد الأبعاد المختلفة التي أرادها الإسلام من وراء وضع هذا المصطلح.
فما هو المقصود من لفظ "الدُّعاء" إذاً؟
يعرِّف العلّامة الطّباطبائي الدُّعاء في سياق شرحه لآية: ﴿لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ
كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا
دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ﴾4، فيقول: "الدُّعاء والدعوة توجيه نظر
المدعوّ إلى الدَّاعي، ويتأتَّى غالباً بلفظٍ أو إشارة. والاستجابة والإجابة إقبال
المدعوّ على الدَّاعي عن دعائه"5، والجهة التي ينبغي أن يتوجّه إليها الدُّعاء هو
الله سبحانه وتعالى، كما في سياق الآية (له)، وتقديم ما حقُّه التَّأخير (له) هنا
يفيد اختصاص الدُّعاء به تعالى دون غيره من الجهات.
ثانياً: الدُّعاء في الرّؤية القرآنية
نقف هنا على مسألةٍ مهمَّة، وهي أنَّ تحديد مفهوم الدُّعاء وحقيقته وأبعاده ينبغي
أن يؤخذَ من خلال القرآن الكريم، كونه المصْدر الأول للتَّشريع الإسلامي، ولأنّه
أيضاً يطفح بالشَّواهد العديدة التي ورد فيها ذِكرُ الدُّعاء وحقيقته والشُّروط
التي توجب تحقُّق الاستجابة له. والذي يدفعنا إلى التوجُّه للقرآن الكريم للبحث عن
نظرة الإسلام للدّعاء، كون الدُّعاء مسألةً من أهمّ المسائل التي تظهر فيها العلاقة
القويَّة بين العبد والله تعالى، وبالتّالي, ولخصوصيّة أمر العلاقة بين الله
وعباده، فإنَّه ينبغي أن يكون الحديث عن الدُّعاء جارياً تحت نظر القرآن الكريم.
ولو اعتمدنا على التَّعريف المتقدِّم للدُّعاء، لوجدنا عدة أركانٍ يتقوّم بها
الدُّعاء هي:
1- "المدعوّ: وهو الله تعالى.
2- والداعي: وهو العبد.
3- والدُّعاء: وهو طلب العبد من الله تعالى.
4- والمدعوّ له: وهو الحاجة الّتي يرفعها العبد بالدُّعاء إلى الله تعالى"6.
ولكي نحدّد الرّابط الذي يجمع هذه الأركان الأربعة للدّعاء، لا بدّ لنا من أن نقوم
بالبحث عن جوهر الدُّعاء وروحه.
ولو عُدنا إلى القرآن الكريم، وجدنا أنَّ جوهر الدُّعاء هو "قيام الدَّاعي بنصب
نفسه في مقام العبودية والمملكوية، والاتّصال بمولاه بالتَّبعية والذلّ، ليعطفه
بمولويته وربوبيته إلى نفسه"7.
إذاً، نحن أمام عددٍ من المقدِّمات التي تشكل عناصر الرؤية القرآنية للدُّعاء:
المقدّمة الأولى: الإنسان مملوكٌ لله تعالى
لا شيء في هذا الوجود خارجٌ عن ملك الله تعالى، ولا يملك أحدٌ شيئاً إلا بإذنه،
مهما كان هذا الشَّيء حقيراً أو خطيراً، يقول تعالى:﴿لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ﴾8. والإنسان هو أحد الموجودات التي يقع عليها هذا
"الملك"، فالإنسان بنفسه مملوك لله تعالى، وكلّ يملكه فإنَّما يملكه على نحو
الادِّعاء لا الجدّ، فالله تعالى "يملك عباده ملكاً طلقاً محيطاً بهم لا يستقلّون
دونه في أنفسهم، ولا ما يتبع أنفسهم من الصِّفات والأفعال"9. وهذا يعني أنَّ
الإنسان يعيش مملوكيةً كاملةً لله تعالى.
المقدّمة الثانية: المملوكية تعني الفقر
إنّ هذا الموجود الذي يعيش المملوكية المطلقة لله تعالى، ولا يستطيع أن يتصرَّفَ أو
يقومَ بأيٍّ من الأفعال على نحو الاستقلال، يفتقر دائماً إلى من يوجده في البدء،
ويديم عليه النِّعم بعد إيجاده، ويصرف عنه أنواع النقص والحاجة، بل الإنسان ما دام
إنساناً فإنَّه يحمل في جبلّته الفقر الذَّاتي إلى الله تعالى، وهو معنى العبودية
الحقيقية لله تعالى10، و"معنى العبودية أنّ العبد لا يملك مع سيده شيئاً"11.
ويقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ
وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾12.
ومن هنا كان الإنسان، وأمام كلّ موقف يستشعر فيه الضعف والنقص والحاجة والفقر، يبحث
-بدافع من جبلَّته- عن مصدرٍ غني مترفِّع دائماً عن النّقص، وهو الله تعالى.
المقدّمة الثالثة: الدُّعاء أقرب الطّرق لنفي الفقر
فإذا قلنا بأنّ الإنسان مملوكٌ لله، وأنَّه عبدٌ له يعيش النقص، وأنّه إذا أراد أن
يجبر نقصه عليه أن يتوجّه إلى مصدر الغنى الذي لا ينفد، فأيُّ الوسائل يستخدم؟
يقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾13. ومفهوم القرب مفهوم قرآنيّ يشمل كلّ أنواع النِّسب، فلو
كانت نسبة الشيء إلى الإنسان حقيقيةً كنسبة النَّفس والبدن والسَّمع والبصر إليه،
أو نسبةً اعتبارية كالزَّوجة والولد والدَّار والمال، فإنَّ الله تعالى وحده يملك
الإذن في استقرار النِّسبة بينه وبين ما يملك، وبالتالي يكون الله تعالى هو الحائل
بين الإنسان ونفسه، والحائل بينه وبين ما يملك، وهو ﴿أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ﴾14، وقد قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ
الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾15.
إذاً، ملك الله تعالى لعباده ملكٌ حقيقي، وكونهم عبادَه موجبٌ لكونه تعالى قريباً
منهم، وهذا "الملك الموجب لجواز كلّ تصرف، شاء كيفما شاء، من غير دافع ولا مانع,
يقضي أنَّ لله سبحانه أنْ يُجيب أيّ دعاءٍ دعا به أحدٌ من خلقه، ويرفع بالإعطاء
والتصرُّفِ حاجتَه التي سأله فيها"16.
المقدمة الرابعة: إجابة الدُّعاء مشروطةٌ
قد يحصل وهمٌ ما عند بعض الناس نتيجة الكلام السّابق، فيتوهّم أنّ إجابة الله تعالى
للدعاء ينبغي أن تتحقَّق دائماً، فالإنسان دائماً هو مملوك لله، وهو مفتقر إليه
حتماً، والله قريب منه دائماً، فمتى ما دعاه أجابه؟
يؤكّد القرآن الكريم على "شرط صدق الدُّعاء"، فقوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾17،
يشتمل على إجابة الدُّعاء، ولكنّه أيضاً يوضح علَّة الإجابة بقوله: "إِذَا دَعَانِ".
فالاستجابة للدعاء، إذاً، مبنيَّةٌ على مقدِّمات: أن يكون الدَّاعي عبداً لله
تعالى، وكونه عبداً يعني أنَّه قريبٌ من الله تعالى، والقرب منه هو الموجب للإجابة.
فكلُّ قريبٍ عابدٌ لله داعٍ له، دعوتُه مستجابة. وكلُّ عبدٍ لا يكون قريباً لله
فإنَّ دعوتَه غيرُ مستجابة.
يقول العلامة الطباطبائي قدس سره: "وعد الإجابة المطلقة، إنَّما هو إذا كان
الدَّاعي داعياً بحسب الحقيقة مريداً بحسب العلم الفطري والغريزي، مواطئاً لسانُه
قلبَه، فإنَّ حقيقةَ الدُّعاء والسُّؤال هو الذي يحمله القلب ويدعو به لسان الفطرة،
دون ما يأتي به اللسان الذي يدور كيفما أُديرَ صدقاً أو كذباً، جدّاً أو هزلاً،
حقيقةً أو مجازاً"18.
المقدّمة الخامسة: الدُّعاء عبادَةٌ
يؤكّد القرآن الكريم على أنّ الدُّعاء في حقيقته هو أجلى صور العبادة، وأنقى أسلوب
يعتمل به كيان الإنسان في إبراز العبودية لله تعالى. وهذا الأمر - أي الدُّعاء -
يعدُّ ميزاناً حقيقياً لقياس عبودية الإنسان لله تعالى، فالإنسان الذي يأتي
بالدُّعاء على وجهه وشروطه وتتحقّق له الاستجابة هو إنسانٌ بلغ في العبودية مداها
الأوسع.
يقول تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ
إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ﴾19، نلاحظ أنّ الآية الكريمة قد دعت إلى الدُّعاء بالمعنى الذي تقدَّمَ
شرحُه، ثمَّ جعلت الذين يرفضون هذا الدُّعاء خارجين عن معنى العبودية لله تعالى،
فالدُّعاء هنا هو العبادة، والعبادة هي الدُّعاء20. وهذه الآية تؤكّد التّرابط
الشّديد الذي بيّناه حول العلاقة بين العبوديّة والمملوكيّة والفقر والقرب، وأثر
ذلك في تحقيق التَّواصُل الأسمى بين الله وعباده.
ولا يخفى أنَّ غايةَ الإنسان في وجوده هي تحقيق العبادة لله تعالى، وذلك مؤدَّى
قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾21،
فالدُّعاء بمعناه المتقدّم, هو المحرِّك الأساس في حركة العبوديَّة اتّجاه الله جلّ
وعلا.
وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "الدُّعاء هو العبادة التي قال الله عزّ
وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ﴾22".
1- المصطفوي، حسن: التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج3، ص217، طهران، مؤسسة الطباعة
والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الاسلامي، 1417 هـ، ط1.
- وكذلك قاله الراغب في المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، الحسين بن
محمد: المفردات في غريب القرآن، ص169، قم، دفتر نشر الكتاب، 1404 هـ، ط2.
2- م.ن، ص218. ويقول أبو هلال العسكري:" الفرق بين الدُّعاء والنداء: الأول قد
يكون بعلامة من غير صوت ولا كلام، ولكن بإشارة تنبئ عن معنى: تعال، ولا يكون النداء
إلا برفع الصوت، وامتداده": العسكري، أبو هلال: الفروق اللغوية، ص535، مؤسسة النشر
الإسلامي (تحقيق)، قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة،
1412هـ، ط1.
- وهذا ما قاله الطبرسي في مجمع البيان: الشيخ الطبرسي، الفضل بن الحسن: مجمع
البيان في تفسير القرآن، ج2، ص424، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1995 م، ط1.
3- ابن فارس، أحمد بن فارس: معجم مقاييس اللغة، ج2، ص279. عبد السلام هارون
(تحقيق)، مكتبة الإعلام الاسلامي، 1404 هـ، ط1.
- لاحظ التعريف الذي اعتمده السيد الطباطبائي قدس سره: "ولكن الرأي الأصح هو أنَّ
الدُّعاء أعمّ من النّداء، فإنّ النّداء يختص بباب اللفظ والصَّوت، والدُّعاء يكون
باللفظ والإشارة وغيرهما، والنِّداء إنَّما يكون بالجهر، ولا يقيِّد الدُّعاء".
- الطباطبائي، محمد حسين: الميزان في تفسير القرآن، ج10، ص38، قم: مؤسسة النشر
الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ط2.
4- سورة الرعد، الآية 14.
5- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص317.
6- الآصفي، محمد مهدي: الدُّعاء عند أهل البيت، ص5، النجف الأشرف، مطبعة مجمع أهل
البيت عليهم السلام النجف الأشرف، 2009م، ط1.
7- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج10، ص38.
8- سورة المائدة، الآية 120.
9- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج10، ص32.
10- م.ن، يقول العلامة الطباطبائي قدس سره:"إنَّ العبودية (..) هي المملوكية".
11- مغنية، الشيخ محمد جواد: في ظلال نهج البلاغة، ج4، ص324، قم، ستار، 1427هـ، ط1.
12- سورة فاطر، الآية 15.
13- سورة البقرة، الآية 186.
14- سورة ق، الآية 16.
15- سورة الأنفال، الآية 24.
16- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص32.
17- سورة البقرة، الآية 186.
18- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص33.
19- سورة غافر، الآية 60.
20- وهو ما ذهب إليه صاحب الميزان قدس سره، راجع: الطباطبائي، الميزان في تفسير
القرآن، ج2، ص34.
21- سورة الذاريات، الآية 56.
22- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص467.