الدُّعاء في حركة الأنبياء عليهم السلام
في الدعاء والزيارة
يفرد لنا القرآن الكريم شواهدَ كثيرةً من حياة الأنبياء العظام عليه السلام، تنبئنا عن أهميّة الدُّعاء في حياتهم الرّسالية والشّخصية، ومن هذه النّماذج:
عدد الزوار: 186
يفرد لنا القرآن الكريم شواهدَ كثيرةً من حياة الأنبياء العظام عليه السلام، تنبئنا
عن أهميّة الدُّعاء في حياتهم الرّسالية والشّخصية، ومن هذه النّماذج:
1- آدم عليه السلام وحواء عليها السلام:
إنّ قصّة آدم وحواء عليها السلام التي انتهت بخروجهما من جنتهما، قد بيّنها القرآن
الكريم وأوضح لنا حجم الأسى الذي ركب قلبيهما لارتكابهما مخالفة الأمر الإلهي
"الإرشادي"1، إذ قالا:
﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ
لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾2. وهذه الآية من آيات
الأدعية التي دعا بها الأنبياء عليهم السلام.
نلاحظ في هذا الدُّعاء أموراً:
- وقف النّبي آدم عليه السلام وزوجه موقفَ الالتجاء إلى الله تعالى، ولم ييئسا من
زوال النعمة، بل بادرا إلى التعلّق به تعلّق العبد بالمالك، والفقير بالغني المطلق.
- الدُّعاء يبدأ بنداء الله تعالى بصفة الرَّبوبية3، لأنَّ صفة الرُّبوبية تشتمل
على كلّ ما يدفع به الشرُّ ويُـجْلب به الخير.
- ويذكر الدُّعاء أنَّ السَّبب الذي دفعهما إلى الدُّعاء والالتجاء إلى الله تعالى،
هو أنَّهما استشعرا الخسران الوشيك الذي أطلّ برأسه عليهما. وهذه الحالة من الشّعور
بالخسارة ناجمةٌ عن الشّعور بالنَّقص والفقر الشّديد الذي لا يمكن أن يجبرَه أحدٌ
سوى الله تعالى.
- والواضح أنَّ النَّبي آدم عليه السلام وحواء يُظهران أدَباً كبيراً مع الله في
توبتهما وطلبهما العفو والغفران منه تعالى، فلم يقولا "ربّنا اغفر لنا"، بل قالا:
﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَ﴾، وكأنَّهُ طلبٌ غيرُ مباشرٍ للمغفرة، فيه الكثيرُ من
الحياءِ والخجل.
- لم يبقَ بعد الإقرار بالذَّنب، والفقرِ والنَّقص، والإذعان بالربوبيَّة لله
والعبوديَّة، إلا طلب المغفرة من الذَّنب الحاصل، وكذلك الرَّحمة الجابرة لما فاتَ
والتي تفتح لهما بوَّابة القرب الإلهي مجدَّداً4.
والذي يدّقق في هذا الدُّعاء المختصر، يجد أنَّه يتضمَّن كلّ العناصر التي سبق أنْ
قدَّمناها في الرُّؤية القرآنية، والتي حقَّقت الإجابة الإلهية لدعائهما، إذ قال
تعالى:
﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾5.
2- دعاء النبي إبراهيم عليه السلام:
يقول تعالى حكاية عن النبي إبراهيم عليه السلام:
﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا
رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي
يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي
يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *
وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ
النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي
يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾6.
يعدُّ هذا الدُّعاء من الأدعية الجميلة التي نقلت عن الأنبياء عليهم السلام،
وبالخصوص عن أبيهم إبراهيم عليه السلام، والذي جاء القرآن بدعائه لنا من أجل أن
نتعلَّم من أدب إبراهيم عليه السلام في مخاطبة الله ودعائه.
- أوّل ما نلاحظه في هذا الدُّعاء هو الأسلوب الذي بدأ به إبراهيم عليه السلام في
الدُّعاء، إذ بدأ بثناء جامع أدرج فيه عناية ربّه به، من بدء خلقه إلى أن يعود إلى
ربّه، وأقام فيه نفسه مقام الفقر والحاجة كلّها، ولم يذكر لربّه إلا الغنى والجود
المحض.
- ومن جملة ذلك الأدب أنَّه راعى في بيانه نسبةَ المرض إلى نفسه في قوله:
﴿وَإِذَا
مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ فنسب المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربّه، بدعوى أنَّه لا
يصدر منه إلا الجميل.
- صُدِّر الدُّعاء بالإذعان بالربوبية، وهو مفتاح نجاح كلّ دعاء كما رأينا، ثمَّ
يطلب إبراهيم عليه السلام من الله تعالى أنْ يعطيه (الحكم)، والذي هو عبارة عن
"الحكمة" المقترنة بالاستعداد للتنفيذ والعمل. ولا شكّ أنّ إبراهيم عليه السلام كان
يتمتَّع بمقام "الحكم"، لكنّه كان يطلب المزيد، لأنَّه ليس للحكمة حدٌّ معيّن. وقد
يفهم من الآية أنّ إبراهيم عليه السلام يعلم أنّ "الحكم" نعمةٌ قد يسلبها الله في
أيّ وقت، ولذلك هو يؤكّد على دوامها من الله تعالى.
- ثمّ لنلاحظ ما اختاره لنفسه من الطّلبات، "إذ اختار ما هو أعظم وأفخم، فسأل الحكم
وهو الشَّريعة واللحوق بالصَّالحين، وسأل لسان صدق في الآخرين، وهو أن يبعث الله
بعده من يقوم بدعوته، ويروّج شريعته، وهو في الحقيقة سؤالٌ أنْ يخصّه بشريعةٍ
باقيةٍ إلى يوم القيامة، ثم سأل وراثة الجنّة ومغفرة أبيه وعدم الخزي يوم
القيامة"7.
- ثمّ لنلاحظ كلمة (تخزني)، وهي مأخوذة من مادّة (خزي) والذي "معناه الذلّ
والانكسار الروحي الذي يظهر على وجه الإنسان من الحياء المفرط"8، أو من جهة الآخرين
حين يحرجونه ويخجلونه. وهذا التعبير من إبراهيم عليه السلام، بالإضافة إلى أنَّه
درسٌ للآخرين، هو دليلٌ على منتهى الإحساس بالمسؤولية والاعتماد على لطف الله
العظيم9.
1- راجع: الشيرازي، الشيخ ناصر مكارم: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج1، ص168،
بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر، 1981م، ط1. و: الطباطبائي، الميزان في تفسير
القرآن، ج1، ص265.
2- سورة الأعراف، الآية 23.
3- راجع: الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل،ج15، ص201.
4- راجع: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج6، ص265.
5- سورة البقرة، الآية 37.
6- سورة الشعراء، الآيات 77-87.
7- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج6، ص269.
8- راجع: الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص147.
9- راجع: الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج11، ص397.