رفاهية العيش
مواعظ الكتاب
من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللّهم إنّا نعوذ بك من تناول الإسراف، ومن فقدان الكفاف، ونعوذ بك من شماتة الأعداء، ومن الفقر إلى الأكفّاء ومن معيشة في شدّة، وميتة على غير عدّة، ونعوذ بك من الحسرة العظمى،
عدد الزوار: 155
من دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام: "اللّهم إنّا نعوذ بك من تناول
الإسراف، ومن فقدان الكفاف، ونعوذ بك من شماتة الأعداء، ومن الفقر إلى الأكفّاء ومن
معيشة في شدّة، وميتة على غير عدّة، ونعوذ بك من الحسرة العظمى، والمصيبة الكبرى،
وأشقى الشقاء، وسوء المآب، وحرمان الثواب، وحلول العقاب، اللّهم صلّ على محمّد
وآله، وأعذني من كلّ ذلك برحمتك وجميع المؤمنين والمؤمنات، يا أرحم الراحمين".
الصحيفة السجادية، ص 58
تمهيد:
عندما نراجع سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نجد أنّه عاش حياة الفقر
يأكل خبز الشعير ويلبس اللباس المتواضع، وكذلك كان ربيبه أمير المؤمنين عليه
السلام، والقرآن يقول:﴿لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾1،
فإنّ مقتضى هذه الآية المباركة أنّ الناس مدعوّون للتأسّي بالرسول صلى الله عليه
وآله وسلم. ولكن عندما نراجع سيرة الإمام المجتبى أو الإمام الصادق أو الإمام الرضا
عليهم السلام نلاحظ أنّهم لم يعيشوا فقراء بل أكلوا الطعام اللّذيذ ولبسوا اللّباس
الجيّد وركبوا المراكب المرفّهة واستفادوا من طيّبات الدنيا. وعلى سبيل المثال نرى
أنّ أبا الحسن عليه السلام اشترى داراً واسعة وأمر مولى له أن يتحوّل إليها وقال: "إنّ
منزلك ضيّق، فقال: قد أحدث هذه الدار أبي، فقال أبو الحسن عليه السلام: إن كان أبوك
أحمق ينبغي أن تكون مثله؟"2.
هذه الأمور الّتي تبدو في ظاهرها متناقضة هي في الحقيقة غاية في الانسجام والتوافق،
وهي نقطة قوّة عند أئمّتنا عليهم السلام وفي ديننا، وبيان ذلك أنّ أئمّة الدين قد
عاش كلّ منهم في زمان ومحيط كانت له مقتضياته الخاصّة، وكان على كلّ واحد منهم أن
يواكب هذه المقتضيات، أي أنّ الدين مرن ويجعل الناس مرتاحين بالنسبة لمقتضيات
الزمان. وقد استطاع أئمّتنا أن يعيشوا حالة الانسجام التامّ مع مجتمعهم وبيئتهم مع
قدرتهم على العيش برغد ورفاهيّة عالية والتمتّع بكلّ ملذّات الدنيا، لأنّ كلّ
الدنيا وما عليها هو للنبيّ وآله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنّهم ساووا أنفسهم
بغيرهم ولم يعيشوا فوق مستوى الناس.
والسؤال الّذي يُطرح في يومنا هذا: هل نحن منسجمون مع محيطنا ؟ وهل ما ننفقه على
أنفسنا يتناسب مع واقعنا الاجتماعيّ؟ وهل نحن نتأسّى بأهل البيت عليهم السلام
ونواسي الناس في معاشهم؟
بين الدين والدنيا:
إنّ القرآن الكريم والروايات الشريفة قد تعرّضا للدنيا بأسلوبين مختلفين فتارةً
يتحدّث القرآن عن نعيم الدنيا بلسان الذمّ والتقبيح، يقول تعالى:
﴿اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي
الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور﴾3
، وفي موضع آخر يقول تعالى:
﴿وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾4.
وتارةً يتحدّث عن نعيم الدنيا بلسان المدح والثناء، يقول تعالى:
﴿قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ
سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾5
، وفي موضع آخر يقول تعالى:
﴿وَلَا
تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك﴾6.
كذلك الروايات الشريفة تحدّثت عن الموضوع، فهذا أمير المؤمنين عليه السلام يوبّخ من
ترك الدنيا وملذّاتها وطيّباتها وذلك عندما اشتكى العلاء بن زياد الحارثيّ أخاه
عاصماً قائلاً: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، قال: وما له؟ قال:
لبس العباءة وترك الملاءة. قال: عليّ به. فلمّا جاء قال: "يا عُديّ نفسه لقد
استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحلّ لك الطيّبات وهو يكره أن
تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك"7.
وفي ذمّ الدنيا سُئل عليّ بن الحسين عليهما السلام أيّ الأعمال أفضل عند الله عزّ
وجلّ؟ فقال: "ما من عمل بعد معرفة الله عزّ وجلّ ومعرفة رسوله صلى الله عليه
وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا"8.
حبّ الدنيا أم بغضها؟
ما هو المطلوب منا في هذه الحياة، حبّ الدنيا أم بغضها؟
وقد أجاب أهل البيت عليهم السلام عن هذا السؤال ومنهم أمير المؤمنين عليه السلام
حيث روى جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه كان مع أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة
فلمّا فرغ من قتال من قاتله، أشرف علينا في آخر الليل، فقال: "ما أنتم فيه؟
فقلنا: في ذمّ الدنيا، فقال: علام تذمّ الدنيا يا جابر ؟ ثمّ حمد الله وأثنى عليه،
وقال: أمّا بعد فما بال أقوام يذمّون الدنيا ؟ انتحلوا الزهد فيها ؟ الدنيا منزل
صدق لمن صدقها، ومسكن عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، فيها مسجد
أنبياء الله ومهبط وحيه، ومصلّى ملائكته، ومسكن أحبّائه، ومتجر أوليائه، اكتسبوا
فيها الرحمة وربحوا منها الجنّة. فمن ذا يذمّ الدنيا يا جابر وقد آذنت ببينها،
ونادت بانقطاعها، ونعت نفسها بالزوال، ومثلت ببلائها البلاء، وشوّقت بسرورها إلى
السرور، راحت بفجيعة وابتكرت بنعمة وعافية، ترهيباً وترغيباً، يذمّها قوم عند
الندامة، ويحمدها آخرون عند السلامة، خدمتهم جميعاً فصدقتهم، وذكّرتهم فذكروا،
ووعظتهم فاتّعظوا وخوّفتهم فخافوا، وشوّقتهم فاشتاقوا"9.
وقال عليه السلام: "الدنيا دار ممرّ إلى دار مقرّ. والناس فيها رجلان: رجل باع
فيها نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها"10.
وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ليس خيركم من ترك آخرته لدنياه ولا
دنياه لآخرته. خيركم من أخذ من هذه لهذه"11.
وما نفهمه هو أنّ ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذمّ هذه الدنيا، لا يكون عائداً في
الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد
القلب إليها ومحبتها.
وعليه يتبيّن من ذلك أنّ أمام الإنسان دنياوان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة.
فالممدوحة هي دار التربية ودار التحصيل ومحلّ التجارة لنيل المقامات واكتساب
الكمالات والإعداد لحياة أبديّة سعيدة، ممّا لا يمكن الحصول عليه دون الدخول إلى
هذه الدنيا، والمذمومة هي الدنيا التي كره الإسلام التعلّق بها والانكباب عليها
بحيث تصبح أكبر همّنا، فتعلّق القلب بالدنيا وحبّها، هو الدنيا المذمومة. وكلّما
كان التعلّق بها أشدّ كان الحجاب بين الإنسان ودار الكرامة، والحاجز بين القلب
والحقّ سبحانه، أسمك وأغلظ.
الإسراف والتقتير:
إنّ نعم الله على عباده كثيرة وعظيمة بحيث لا تعدّ ولا تحصى، يقول تعالى:
﴿وَإِن
تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾12.
وليس ذلك إلّا كرماً من الله وفضلاً منه على عباده، ولكن هل أنّ كثرة النعمة تعني
أن يكون الإنسان مسرفاً بحيث ينفق ما آتاه الله هنا وهناك دون تدبّر وتعقل، فيشتري
ما يحلو له وما تهواه نفسه؟.
كلا، إنّ الله نهانا عن الإسراف ولم يمنعنا من التمتّع بالنعم، يقول تعالى:
﴿يَا
بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ
تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾13.
والله سيسألنا عن هذه النعم والفيوضات وعن كلّ قرشٍ نضعه هنا أو هناك. وما نملكه هو
أمانة من الله عندنا استودعنا إيّاها، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه
قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه،
وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت"14.
وكذلك فإنّ التقتير والتباخل وجمع المال دون إنفاقه في سبيل الله ومرضاته والتنعّم
به بما يرضي الله ليس من أخلاق الإسلام، وقد حذّر أهل البيت عليهم السلام من خطر
البخل والشحّ، فقد ورد أنّ الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه سمع رجلاً يقول: "إنّ
الشحيح أغدر من الظالم، فقال له عليه السلام: كذبت إنّ الظالم قد يتوب ويستغفر ويردّ
الظلامة على أهلها، والشحيح إذا شحّ منع الزكاة والصدقة وصلة الرحم وقري الضيف
والنفقة في سبيل الله وأبواب البرّ ، وحرام على الجنّة أن يدخلها شحيح"15.
وقال عليه السلام: "البخل جامع لمساوي العيوب، وهو زمامٌ يقاد به إلى كلّ سوء"16.
والمطلوب أن يعيش الإنسان حالة التوازن والمساواة أي لا إفراط ولا تفريط، بحيث لا
ينفق على نفسه زيادةً عمّا يحتاج إليه وذلك ليلفت أنظار الناس ويتميّز به عن مجتمعه
وبيئته الّتي يعيش فيها ولو كان مستطيعاً. وهذا ما تعلّمناه من أهل البيت عليهم
السلام. وقد رسم الإمام عليّ عليه السلام لنا حدّ الإنفاق حيث نُقل عنه عليه السلام:
"فدع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدّم
الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يُعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبّرين؟
وتطمع وأنت متمرّغ في النعيم، تمنعه الضعيف والأرملة، أن يوجب لك ثواب المتصدّقين؟
وإنّما المرء مجزيّ بما أسلف، وقادم على ما قدّم"17.
الاقتصاد والرفق:
إنّ الاقتصاد والرفق في المعيشة من الأمور الأساس الّتي حضّ عليها النبيّ الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الأطهار عليهم السلام، وذلك لأنّ هذه الدنيا
فانية زائلة والباقيات الصالحات خير وأبقى والله عنده كلّ الخير والبركة والنعيم
المقيم. والاقتصاد والرفق في المعيشة له أبعاد معنويّة واجتماعيّة، ومن آثاره
المعنويّة عدم التعلّق بالدنيا والانسياق إليها والعمل من أجل الآخرة، ومن الآثار
الاجتماعيّة تجنّب الوقوع في الفقر والعوز، ومواساة الفقير بفقره ومراعاة الحالة
الاجتماعيّة العامّة للناس والجيران والأقارب والأهل، وبالرفق في الأمور تجرى
الحياة بين الناس على نسق مقبول، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من
أُعطي حظّه من الرفق أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، ومن حُرم حظّه من الرفق
حُرم حظّه من الدنيا والآخرة"18. وورد عن أبي عبد الله عليه السلام
أنّه قال: "أيّما أهل بيت أعطوا حظّهم من الرفق فقد وسّع الله عليهم في الرزق،
والرفق في تقدير المعيشة خير من السعة في المال، والرفق لا يعجز عنه شيء والتبذير
لا يبقى معه شيء. إنّ الله عزّ وجلّ رفيق يحبّ الرفق"19. وفي القليل
كفاية مع القناعة. والكثير لا يُغني مع المسرف. وفي هذا المضمون نُقل عن الإمام
الصادق عليه السلام: "ضمنت لمن اقتصد ألّا يفتقر"20.وإنّما يفتقر
من يتجاوز الحدود، ويبعثر قواه، فيخسر أشياءه.
العبادة والإنفاق:
يكاد أكثر ما جُمع من تعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأبواب
الاجتماعيّة والاقتصاديّة، يتّجه بفحواه شطر هذا الوجه من وجوه العبادة. والله
تعالى يصف المتّقين في محكم كتابه في أوّل صفحاته بأنّهم:
﴿الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾21.
وكلّ نعمة أنعمها الله علينا رزق. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "نعمتان
مغبون فيهما أكثر الناس الصحّة والفراغ"22. فهاتان نعمتان يُسأل
عنهما الإنسان، وحتّى نكون من المتّقين ومن باب شكر الله على نعمه وفي أوّلها
الصّحة والسلامة علينا أن نزكّي هذه النعم، وزكاتها تكون بالإنفاق وفعل المعروف.
روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "المعروف زكاة النعم"23.
فالمعروف زكاة مطلوبة لمجرّد الفراغ من التبعات والسلامة من المرض فكيف إذا زادنا
الله تعالى من المال والغنى والقدرة؟ عندها يكون البذل في موارد المعروف المختلفة
كالجهاد ومساعدة المحتاج أوجب.
حقيقة الزهد
الزهد من المفاهيم الّتي شُوِّهت وتأثّرت بشوائب غير إسلاميّة فنشأت مذاهب ومدارس
تدّعي الإسلام وجعلت أهدافها ومعتقدها الأساس "الزهد في الدنيا". والزهد
يُطلق على من يترك أمراً له رغبة طبيعيّة فيه، فلا يُطلق مثلاً على المريض الّذي لا
رغبة له بالطعام أنّه زاهد بل الزاهد من يكون عنده الميل والرغبة لأكل الطعام مثلاً
ومع هذا فإنّه يتركه ولا يتعلّق به.
هذا المفهوم جاء به الإسلام ليحثّ الإنسان على الترفّع عن الانشداد البهيميّ للأرض
وليسخّر هذه الدنيا لتكون زاداً له في الآخرة، ويُصبح الزهد وسيلة للإنسان يرتقي
بها إلى الله سبحانه.
والإسلام يدعو إلى الزهد في الدنيا بمعنى أن لا يجعل الدنيا غاية بل يجعلها وسيلة،
فلا يحسّ بالفشل والانكسار إذا فقد متاعها، ولا يشعر بالغرور إذا ما امتلك شيئاً
منها، لأنّه لا يُريد إلّا وجه الله، وهذا ما أشار إليه الإمام أمير المؤمنين عليه
السلام:"الزهد بين حكمتين في القرآن:
﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا
آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ..﴾24.
وبالمقابل فإنّ الإسلام يدعو إلى التمتّع بلذّات الدنيا وطيّباتها، حيث يقول تعالى:
﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ﴾25.
لكنّ التمتّع بها يكون ضمن الحدود الّتي حدّها الله تعالى، بحيث يرتفع بها عن
الانشداد البهيميّ إلى الأرض، وعمّا حرّم الله سبحانه. بل إنّ القرآن يذهب أكثر من
ذلك، فيرى أنّ الطيّب هو ما أحلّه الله، والخبيث هو ما حرّمه الله..
﴿...
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ...﴾26.
فليس هناك لذّة دنيويّة تحرُم الإنسان من لذّات الآخرة، بل كلّ لذّات الدنيا توصل
الإنسان إلى الآخرة، وأمّا المحرّمات فيظنّ مرتكبها أنّها لذّة وما هي كذلك،
والفائزون هم المتّقون الّذين استفادوا من لذّات الدنيا ووصلوا إلى نعيم الآخرة.
وفي هذا الصدد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ المتّقين ذهبوا
بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الآخرة في
آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سُكنت، وأكلوا بأفضل ما أُكل"27.
الروح الاجتماعيّة لدى المؤمن:
أبرز ما يميّز الإنسان المؤمن روحه الاجتماعيّة الّتي تظهر من خلال المحبّة
والمودّة والانسجام وتمنّي الخير والسلامة لسائر المؤمنين، فعن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: "مَثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى"28. فالجسم
البشريّ يعيش حالة من التضامن والانسجام بين أعضائه، أمّا الجماد أو الميت فلا يعيش
مثل هذه الحالة، والمجتمع بدوره يجب أن يعيش نفس هذه الظاهرة فإن كان هناك نوع من
التضامن والتكافل بين أفراده كان مجتمعاً حيّاً تنبض في أعماقه الروح الاجتماعيّة
بالمحبّة والتآلف والانسجام وإلّا فهو مجتمع ميت.
وقد عاش أهل البيت عليهم السلام هذه الحالة من الانسجام والمواساة والمساواة مع
بيئتهم ومحيطهم دون أيّ تفاوت أو تميّز مع قدرتهم على ذلك، فهذا إمام الموحّدين
والعابدين عليّ عليه السلام يُعبّر عن كامل المواساة والمساواة بينه وبين الناس
فيقول: "ولو شئت لاهتديت إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ،
ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو
اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع"29.
وقد جاء في حديث معروف أنّ سفيان الثوريّ مرّ في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله
الصادق عليه السلام وعليه ثياب فاخرة وجميلة فقال: "والله لآتينّه ولأوبّخنّه،
فدنا منه، فقال: يا ابن رسول الله ما لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل
هذا اللّباس ولا عليّ عليه السلام ولا أحد من آبائك. فقال له أبو عبد الله عليه
السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمان قتر مقتّر30
وكان يأخذ لقتره واقتداره، وإنّ الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها31
فأحقّ أهلها بها أبرارها، ثمّ تلا
﴿قُلْ
مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ...﴾32
ونحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه الله، غير أنّي يا ثوريّ ما ترى عليّ من ثوب
إنّما ألبسه للناس، ثمّ اجتذب يد سفيان فجرّها إليه ثمّ رفع الثوب الأعلى وأخرج
ثوباً تحت ذلك على جلده غليظاً، فقال: هذا ألبسه لنفسي وما رأيته للناس، ثمّ جذب
ثوباً على سفيان أعلاه غليظٌ خشن وداخل ذلك ثوب ليّن، فقال: لبست هذا الأعلى للناس
ولبستَ هذا لنفسك تسرّها"33.
فبيّن الإمام عليه السلام لسفيان أنّه إذا كان الرسو ل صلى الله عليه وآله وسلم
كذلك في زمانه فلا يجب أن يكون سائر الناس مثله في جميع الأزمنة، لأنّ ذلك ليس جزءاً
من قوانين الإسلام، بل يجب أن يكون عندك تدبّر وقوّة نظر بحيث تأخذ ذلك العصر بعين
الاعتبار، فإنّ قانون الإسلام هو المواساة والمساواة فلا بدّ أن يلحظ ماذا كان عليه
أكثر الناس في ذلك الزمان وكيف كانوا يعيشون. فقانون الإسلام هو العدل والمساواة
وسلوك المسلك الملائم حتّى لا تتولّد في روح الفقراء عقدة ولا يتألّم الصاحب أو
الجار الّذي يرى أعماله، فلو كانت سعة العيش متوفّرة في زمان النبي ّصلى الله عليه
وآله وسلم لم يكن ليعيش كذلك فالناس أحرار في ارتداء هذا اللباس أو ذاك القديم أو
الجديد من هذا القماش أو ذاك، وهم أحرار أيضاً في ركوب أفخم السيّارات والسكن في
أغلى البيوت ولكن عليهم أن يلتفتوا إلى عدم إيلام الآخرين ومواساتهم خاصّة إذا
كانوا يعيشون في بيئة فقيرة.
مواساة المؤمنين:
يروى أنّ المدينة المنوّرة قد أصابها قحط شديد في زمن الإمام الصادق عليه السلام
فأرسل الإمام وراء غلام له اسمه "معتب" وقد ازداد السعر بالمدينة، وقال له: "كم
عندنا من طعام؟ قال: قلت: عندنا ما يكفينا أشهراً كثيرة، قال: أخرجه وبعه، قال: قلت
له: وليس بالمدينة طعام، قال: بعه، فلمّا بعته، قال: اشتر مع الناس يوماً بيوم،
وقال: يا معتب اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة فإنّ الله يعلم أنّي واجد
أن أطعمهم الحنطة على وجهها ولكنّي أحبّ أن يراني الله قد أحسنت تقدير المعيشة"34.
وما أجمل هذه الروح الإنسانيّة الاجتماعيّة وهذه الأخلاق العظيمة التي جسّدها لنا
الأئمّة عليهم السلام الّتي تحيا بها المجتمعات الإنسانيّة، فالإمام يستطيع أن
يُبقي ما عنده من طعام ولكن مواساة للناس ومساواة لنفسه بهم أبى إلّا أن يبيع ما
عنده ويشتري من السوق طعامه كلّ يوم بيومه كسائر الناس.
ونحن كأتباع لهذه المدرسة العظيمة علينا أن نسير وفقاً لهدي معلّميها وهم أهل البيت
عليهم السلام، فهم قدوتنا وهم سبيلنا للنجاة، وقد خطّوا لنا الطريق الموصل إلى الله
بكل وضوح، وليس علينا إلّا أن نقتدي بهم ونعيش على ما عاشوا عليه ونموت على ما
ماتوا عليه.
* وموعظة للمتقين ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- سورة الأحزاب،
الآية 21.
2- الكافي، الكليني، ج6،ص525.
3- سورة الحديد، الآية: 20.
4- سورة الأنعام، الآية: 32.
5- سورة الأعراف، الآية: 32.
6- سورة القصص، الآية: 77.
7- نهج البلاغة،ج2،ص187.
8- الكافي، الكليني، ج2، ص 130.
9- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج70، ص100.
10- نهج البلاغة، ج4، ص 33.
11- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17،ص76.
12- سورة ابراهيم، الآية: 34.
13- سورة الأعراف، الآية: 31.
14- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج7، ص258.
15- الكافي، الكليني، ج4، ص 44.
16- نهج البلاغة، ج4، ص90.
17- نهج البلاغة،ج3،ص13.
18- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد،ج 6، ص 339.
19- الكافي، الكليني،ج2،ص 119.
20- الكافي، الكليني، ج4، ص 53.
21- سورة البقرة، الآية:3.
22- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج63، ص315.
23- م. ن، ص137.
24- سورة الحديد، الآية:23.
25- سورة الأعراف، الآية:32.
26- سورة الأعراف، الآية:157.
27- نهج البلاغة، ج3، ص27.
28- كنز العمال، المتقي الهندي، ج1، ص149.
29- نهج البلاغة، ج3، ص72.
30- قتر على عياله تقتيراً أي ضيّق عليهم في المعاش.
31- العزالى جمع العزلاء مثل الحمراء، وهو فم المزادة فقوله: "أرخت" أي أرسلت يُريد
شدّة وقع المطر على التشبيه بنزوله من أفواه المزادة (أي الغيم).
32- سورة الأعراف، الآية: 32.
33- الكافي، الكليني، ج6، ص443.
34- الكافي، الكليني، ج5، ص166.