يتم التحميل...

نظرية الدولة في الإسلام

فكر الشهيد الصدر

تُعتبر الدولة ـ في الفكر السياسيّ الإسلاميّ المعاصر ـ ظاهرة اجتماعيّة أصيلة في حياة الإنسان، وقد نشأت على يد الأنبياء عليهم السلام ورسالات السماء، ومن ثمّ اتّخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنسانيّ وتوجيهه،

عدد الزوار: 87

نشأة الدولة في الفكر الإسلاميّ:
تُعتبر الدولة ـ في الفكر السياسيّ الإسلاميّ المعاصر ـ ظاهرة اجتماعيّة أصيلة في حياة الإنسان، وقد نشأت على يد الأنبياء عليهم السلام ورسالات السماء، ومن ثمّ اتّخذت صيغتها السويّة ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنسانيّ وتوجيهه، من خلال ما حقّقه الأنبياء عليهم السلام في هذا المجال من تنظيم اجتماعيّ قائم على أساس الجهد والعدل الّذي يستهدف الحفاظ على وحدة البشريّة وتطوير نموّها في مسارها الصحيح.

قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم1.

نُلاحظ من خلال هذا النصّ القرآنيّ، أنّ الناس كانّوا أمّةً واحدةً في مرحلةٍ تسودها الفطرة وتوحِّد بينها تصوّرات بدائيّة للحياة، وهموم محدّدة، وحاجات بسيطة. ثمّ نمت ـ من خلال الممارسة الاجتماعيّة للحياة ـ المواهبُ والقابليّات، وبرزت الامكانات المتفاوتة، واتّسعت آفاق النظر، وتنوّعت التطلّعات، وتعقّدت الحاجات، حينها نشأ الاختلاف وبدأ التناقض بين القويّ والضعيف، وأصبحت الحياة الاجتماعيّة بحاجة إلى موازين تُحدِّد الحقّ وتُجسِّد العدل، وتضمن استمرار وحدة الناس في إطار سليم، وتصبّ كلّ تلك القابليّات والإمكانات ـ الّتي نمّتها التجربة الاجتماعية ـ في محور إيجابيّ، يعود على الجميع بالخير والرخاء والاستقرار، بدلاً عن أن يكون مصدراً للتناقض وأساساً للصراع والاستغلال.

وفي هذه المرحلة ـ بالتحديد ـ ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء عليهم السلام الّذين قاموا بدورهم في بناء الدولة السليمة، طبقاً للأسس والقواعد الّتي سنّها الله تعالى.

بناء الدولة الصالحة:
ظلّ الأنبياء يواصلون بشكل أو بآخر دورهم العظيم في بناء الدولة الصالحة، وقد تولّى عدد كبير منهم الإشراف المباشر على الدولة، كداوود وسليمان L وغيرهما. وقضى بعض الأنبياء كلّ حياته وهو يسعى في هذا السبيل، كالنبيّ موسى عليه السلام، واستطاع خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم أنْ يتوِّج جهود سلفه الطاهرة بإقامة أنظف وأطهر دولة في التأريخ، شكّلت بحقّ منعطفاً عظيماً في تأريخ الإنسان، وجسّدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيداً كاملاً ورائعاً.

وعلى الرغم من أنّ هذه الدولة بعد وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد تولّاها في كثير من الأحيان قادة لا يعيشون أهدافها الحقيقيّة ورسالتها العظيمة، فإنّ الإمامة الّتي كانت امتداداً روحيّاً وعقائديّاً للنبوّة، ووريثاً لرسالات السماء، مارست باستمرار دورها في محاولة تصحيح مسار هذه الدولة وإعادتها إلى طريقها النبويّ الصحيح.

وقد قدّم الأئمّة عليهم السلام في هذا السبيل زخماً هائلاً من التضحيات، توجّها استشهاد أبي الأحرار وسيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام مع الصفوة من أهل بيته وأصحابه في كربلاء.

دور الفقهاء في بناء الدولة الصالحة:
كما كانت الإمامة امتداداً للنبوّة، كانت المرجعيّة الدينيّة بعد عصر الغيبة امتداداً بدورها للإمامة، وتحمّلت المرجعيّة أعباء هذه الرسالة العظيمة، وقامت على مرّ التأريخ بأشكال مختلفة من العمل في هذا السبيل أو التمهيد له بطريقة وبأُخرى.

لذا عاش العالم المسلم الشيعيّ دائماً مع كلِّ الصالحين وكلِّ المستضعَفين من أبناء هذه الأمة الخيّرة، عيشة الرفض لكلِّ ألوان الباطل والإصرار على التعلُّق بدولة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، بدولة الحقّ والعدل الّتي ناضل وجاهد من أجلها كلُّ أبرار البشريّة وأخيارها الصالحين.

أوّل دولة إسلاميّة في العصر الحديث:
وفي العصر الحديث استطاع الشعب الإيرانيّ المسلم أن يُشكِّل القاعدة الكبرى للرفض البطوليّ، والثبات على طريق دولة الأنبياء والأئمّة والصدّيقين عليهم السلام، باعتباره الجزء الأكثر التحاماً مع المرجعية الدينية وأسسها الدينية والمذهبية. وقد بلغت هذه القاعدة الرشيدة بفضل القيادة الحكيمة للمرجعية الصالحة الّتي جسّدها الإمام الخمينيّ قدس سره  قمّة وعيها الرساليّ والسياسيّ الرشيد، من خلال صراعها المرير مع طواغيت الكفر، ومقاومتها الشجاعة لفرعون إيران الحديث، حتّى استطاعت أن تُلحق به وبكلِّ ما يُمثِّله من قوى الاستعمار الكافر أكبر هزيمة يُمنى بها المُستعمِر الكافر في عالمنا الإسلاميّ العظيم.

ومن هنا كان طرح المرجعية الرشيدة (الوليّ الفقيه) للجمهوريّة الإسلاميّة شعاراً وهدفاً وحقيقة تعبيراً حيّاً عن ضمير الأمّة، وتتويجاً لنضالها الطويل، وضماناً لاستمرار هذا الشعب في طريق النصر الّذي شقّه له الإسلام، ليُشكِّل بذلك قاعدة للإشعاع على العالم الإسلاميّ وعلى العالم كلّه، في لحظات عصيبة من تأريخ هذه الإنسانية، الّتي تتلفّت فيها كلّ شعوب العالم الإسلاميّ إلى المنقذ من هيمنة الإنسان الأوروبيّ والغربيّ وحضارته المُستغِلّة، وتشعر فيها كلّ شعوب العالم بالحاجة إلى رسالة تضع حدّاً لاستغلال الإنسان للإنسان.

خروج الإسلام من قمقم الاستعمار:
إنّ الإسلام الّذي حجزه الاستعمار عسكريّاً وسياسيّاً في قمقم، ليصبغ العالم الإسلاميّ بما يشاء من ألوان، قد انطلق من قمقمه في إيران فكان زلزالاً على الظالمين، ومثلاً أعلى في بناء الشعب المجاهد والمضحّي، وسيفاً مصلتاً على الطغاة ومصالح الاستعمار، وقاعدة لبناء الأمّة من جديد.

ولم يُبرهن الإمام الخمينيّ قدس سره بإطلاقه للإسلام من القمقم على قدرته الفائقة، وبطولة الشعب الإيرانيّ فحسب، وإنّما فضح أيضاً ضخامة الجناية الّتي يُمارسها كلُّ من يُساهم في حجز الإسلام في القمقم، وتجميد طاقاته الهائلة والبنّاءة، وإبعادها عن مجال البناء الحضاريّ لهذه الأمّة.

فهذا النور الجديد الّذي قُدِّر للشعب الإيرانيّ أن يحمله إلى العالم، سوف يُعرّي تلك الأنظمة الّتي حملت اسم الإسلام زوراً، بنفس الدرجة الّتي يُدين بها الأنظمة الّتي رفضت الإسلام بالمطلق.

مرتكزات الرؤية الإسلاميّة في بناء الدولة المعاصرة:
تستند مرتكزات الدولة الإسلاميّة في عصر غيبة المعصوم عليه السلام إلى المنظومة التشريعيّة الشموليّة لكلِّ مناحي الحياة، والّتي قد وضع معالمها وقواعدها الله تعالى في القرآن الكريم، ثمّ قام رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام من بعده بتفصيلها وتبيانها للناس، لكي يسيروا على هديها نحو بناء الدولة الإسلاميّة.

وتُقسّم هذه المرتكزات إلى ثلاث ركائز أساس في الفقه الإسلاميّ، على النحو التالي:

1 - الله تعالى مصدر السلطات جميعاً.
يقوم التشريع الإسلاميّ على ركيزة أساس وأوّليّة، ألا وهي الإيمان المطلق بأنّ الله تعالى هو مصدر السلطات جميعاً، و هو المصدر الّذي يستمدّ منه الدستور شرعيّته، وتُشرّع على ضوئه القوانين2 في بناء الدولة.

وهذه الحقيقة الكبرى تُعتبر أعظم ثورة قام بها الأنبياء عليهم السلام، ومارسوها في معركتهم، من أجل تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، أي إنّ الإنسان حرٌّ ولا سيادة لإنسان آخر أو لطبقة أو لأيّ مجموعة بشريّة عليه، وإنّما السيادة لله وحده، وبهذا يوضع حدّ نهائيّ لكلِّ ألوان التحكُّم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان.

طبعاً إنّ هذه السيادة لله تعالى والّتي دعا إليها الأنبياء والأولياء عليهم السلام على مرّ التأريخ، تختلف اختلافاً أساساً عن نظريّة الحقّ الإلهيّ، الّتي استغلّها الطغاة والملوك قروناً من الزمن للتحكُّم والسيطرة على الآخرين، فإنّ هؤلاء وضعوا السيادة اسميّاً لله لكي يحتكروها واقعيّاً، ويُنصّبوا أنفسهم خلفاء الله على الأرض.

أمّا الأنبياء والأولياء عليهم السلام وكلُّ من سار على خطاهم في طريق تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، فقد آمنوا بهذه السيادة الإلهيّة، وحرّروا بها أنفسهم الإنسانية وغيرهم من سلطة الإنسان المزوّرة على مرّ التأريخ. إنّهم أعطوا لهذه الحقيقة مدلولها الموضوعيّ المُتمثِّل في الشريعة النازلة بالوحي من السماء، فلم يعد بالإمكان أنْ تُستغلّ لتكريس سلطة فرد أو عائلة أو طبقة بوصفها سلطة إلهيّة، بل إنّما السيادة والسلطة لله وحده.

والنتيجة: ما دام الله تعالى مصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعيّ المحدّد عن الله تعالى، فمن الطبيعيّ أنْ تحدّد الطريقة الّتي تُمارَس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلاميّة.

2 - المرجعيّة الرشيدة (الوليّ الفقيه):
تُعتبر المرجعيّة الدينيّة حقيقة اجتماعيّة موضوعيّة في الأمّة، وتقوم على أساس الموازين الشرعيّة العامّة، بمعنى أنّ المرجعية الرشيدة هي المُعبِّر الشرعيّ عن الإسلام، والمرجع هو النائب العامّ عن الإمام عليه السلام من الناحية الشرعيّة، وله الولاية والقيمومة على تطبيق الشريعة، وحقّ الإشراف الكامل من هذه الزاوية، وهذا ما نصَّ عليه إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف حينما قال: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله"3.

لذا لا بُدَّ أن تتّصف هذه المرجعيّة الرشيدة بمجموعة صفات محدَّدة، منها:
1 ـ الاجتهاد الفقهيّ المطلق.
2 ـ العدالة والكفاءة.
3 ـ الإيمان بالدولة الإسلاميّة وضرورة حمايتها.
4 ـ أن تُرشّحه أكثرية أعضاء مجلس المرجعيّة (مجلس الخبراء).

ومن هذا المنطلق تتولّى المرجعيّة الرشيدة وظائف عدّة، منها:
1 ـ المرجع هو المُمثِّل الأعلى للدولة والقائد الأعلى للجيش.
2 ـ المرجع هو الّذي يُرشِّح أو يُمضي ترشيح الفرد الفائز بمنصب رئاسة السلطة التنفيذيّة.
3 ـ على المرجعيّة البتّ في دستوريّة القوانين الّتي يُعيّنها مجلس أهل الحلّ والعقد (مجلس الشورى الإسلاميّ) وذلك لملء منطقة الفراغ التشريعيّ.

3 - دور الأمّة (الشعب):
أُسندت السلطة التشريعيّة والسلطة التنفيذيّة ممارستها إلى الأمّة، فالأمّة هي صاحبة الحقّ في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة الّتي يُعيِّنها الدستور الإسلاميّ.

وهذا الحقّ حقّ استخلاف ورعاية مستمدّ من مصدر السلطات الحقيقيّ وهو الله تعالى، وبهذا ترتفع الأمّة وهي تُمارس السلطة إلى قِمّة شعورها بالمسؤوليّة، لأنّها تُدرك أنّها تتصرّف بوصفها خليفة الله في الأرض.

ولذا ليست الأمّة هي صاحبة السلطان، وإنّما هي المسؤولة أمام الله سبحانه عن حمل الأمانة وأدائها، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ4.

طرق ممارسة حقّ الرعاية:
ويُمكن للأمّة (الشعب) أن تُحقِّق هذه الرعاية وتُمارِس حقّ الاستخلاف بالطرق التالية:
1 - يعود إلى الأمّة انتخاب رئيس السلطة التنفيذيّة بعد أن يتمَّ ترشيحه من قبل المرجعيّة ـ كما أشرنا سابقاً ـ ويتولّى الرئيس المُنتَخَب بعد ذلك بنفسه تكوين أعضاء الحكومة.
2 - ينبثق عن الأمّة بالانتخاب المباشر مجلس أهل الحلّ والعقد (مجلس الشورى الإسلاميّ)، ويقوم هذا المجلس بوظائف عدّة، منها:
أ - إقرار أعضاء الحكومة الّتي شكّلها رئيس السلطة التنفيذيّة.
ب - ملء منطقة الفراغ بتشريع قوانين مناسبة.
ج - الإشراف على سير تطبيق الدستور والقوانين.
د - مراقبة أداء السلطة التنفيذيّة ومساءلتها.

أهداف الدولة الإسلاميّة:
انطلاقاً من رسالة الإسلام العزيز الّذي تحمل مشعله ـ اليوم ـ الجمهوريّةُ الإسلاميّة في إيران، يترتّب عليها مسؤوليّات عظمى في تحقيق أهداف الإسلام المنشودة، وذلك على مستوى الداخل الإيرانيّ أو خارجه:

أوّلاً ـ في الداخل الإيرانيّ:
1 ـ تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة.
2 ـ تحقيق المساواة بين جميع أفراد الأمّة أمام القانون في حقّ الرعاية وحمل الأمانة، فضلاً عن السماح بممارسة هذا الحقّ من خلال التعبير عن آرائهم وأفكارهم، وممارسة العمل السياسيّ بمختلف أنواعه.

3 ـ حقّ ممارسة الشعائر الدينيّة والمذهبيّة لجميع مكوِّنات المجتمع، وتتعهّد الدولة بتوفير ذلك إلى المسلمين من مواطنيها الّذين يؤمنون بالانتماء السياسيّ إليها.
4 ـ تجسيد روح الإسلام بإقامة مبادئ العدالة الاجتماعيّة، والقضاء على الفوارق بين الطبقات في المعيشة، وتوفير الحدِّ الأدنى من الحياة الكريمة لكلِّ مواطن، وذلك عبر التوزيع العادل للثروة.
5 ـ تثقيف المواطنين على الإسلام تثقيفاً واعياً، وبناء الشخصيّة الإسلاميّة العقائديّة في كلِّ المجالات، لتتكوّن القاعدة الفكريّة الراسخة الّتي تُمكِّن الأمّة من مواصلة حمايتها للثورة.

ثانياً ـ في الخارج الإيرانيّ:
1 ـ حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرسالة العظيمة إلى العالم كلِّه.
2 ـ الوقوف إلى جانب الحقّ والعدل في القضايا الدوليّة، وتقديم المثل الأعلى للإسلام من خلال ذلك.
3 ـ مساعدة كلِّ المستضعفين والمعذّبين في الأرض، ومقاومة الاستعمار والطغيان.

سرُّ قوّة الجمهوريّة الإسلاميّة:
إنّ دولة القرآن العظيمة لا تستنفد أهدافه، لأنّ كلمات الله تعالى لا تنفد، والسير نحوه لا ينقطع، والتحرّك في اتجاه المطلق لا يتوقّف. وهذا هو سرّ الطاقة في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وقدرتها على التطوّر والإبداع المستمرّ في مسيرة الإنسان نحو الله: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا5.

بين الفكر الإسلاميّ والفكر الوضعيّ:
عند المقارنة بين الفكر السياسيّ الإسلاميّ والفكر السياسيّ الوضعيّ (العلمانيّ) ضمن المجال الفقهيّ القانونيّ الدستوريّ، يتبيّن لنا أنّ هناك تباينات واختلافات متعدِّدة فيما بينهما، سواء على مستوى الرؤية الإيديولوجيّة أم الأهداف والغايات. وهذا ما يُمكن ملاحظته من نواحٍ مختلفة:

أوّلاً ـ من ناحية تكوّن الدولة ونشوئها تأريخيّاً:
حيث يرفض الفكر الإسلاميّ جميع النظريات المفسِّرة لأصل النشأة التأريخيّة للدولة كما يتبنّاها الفكر السياسيّ الوضعيّ، سواء كانت النظريات العقدية كـ(نظريّة العقد الاجتماعي)6 ، أم النظريات غير العقدية كـ(نظريّة القوّة والتغلُّب، ونظريّة التفويض الإلهيّ الإجباريّ، ونظريّة تطوّر الدولة عن العائلة)7. في المقابل يؤمن الفكر الإسلاميّ بأنّ الدولة هي ظاهرة نبويّة بدأت في مرحلة معيّنة من حياة البشريّة، كما تمَّ تفصيله فيما سبق.

ثانياً: من ناحية وظيفة الدولة تجاه الفرد والمجتمع:
حيث يرفض الفكر الإسلاميّ كلّاً من المذهبين الاقتصاديّين الوضعيّين في تحديد وظيفة الدولة، وهما:
أ ـ المذهب الرأسماليّ القائم على مبدأ (أصالة الفرد)، أي الدولة في خدمة الفرد دون المجتمع.
ب ـ المذهب الاشتراكيّ القائم على مبدأ (أصالة المجتمع)، أي الدولة في خدمة المجتمع دون الفرد، بينما في المقابل جاء الإسلام ليُحدِّد وظيفة الدولة في تطبيق شريعة السماء الّتي وازنت بين الفرد والمجتمع، وحمت المجتمع لا بوصفه وجوداً هيغلياً8 مقابلاً للفرد، بل بقدر ما يُعبِّر عن أفراد وما يضمُّ من جماهير تطلب الحماية والرعاية.

فالشريعة الإسلاميّة الّتي وضعت ـ مثلاً ـ مبدأ الملكيّة العامّة إلى جانب مبدأ الملكيّة الخاصّة، لا تُريد أن تُعبِّر بذلك عن نتاج صراع طبقيّ أو تقديم مصالح هذا الجزء من المجتمع على ذلك الجزء، وإنّما تُعبِّر عن موازين العدل والحقّ. ولهذا سبقت بذلك تأريخيّاً كلّ المبرّرات الماديّة أو الطبقيّة لظهور هذا اللون من التشريع.

ثالثاً ـ من ناحية شكل الحكومة ومؤسّساتها:
يعتبر الفكر الإسلاميّ الحكومة ومؤسّساتها قانونيّة في حال تقيّدت بالقانون على أروع وجه، لأنّ الشريعة تُسيطر على الحاكم والمحكومين على السواء.
لذا فإنّ الرؤية الإسلاميّة ترفض الأنظمة السياسيّة القائمة على الملكيّة أو الفرديّة (الاستبداديّة) بكلِّ أشكالها، أو الأنظمة الأرستقراطيّة.

نعم، تطرح الرؤية الإسلاميّة شكلاً للحكم يحتوي على كلِّ النقاط الإيجابيّة في النظام الديمقراطيّ، مع فوارق تزيد الشكل موضوعيّة وضماناً لعدم الانحراف.
فمثلاً: عندما تُعتبر الأمّة (الشعب) هي مصدر السيادة في النظام الديمقراطيّ، فهي في المقابل محطّ الخلافة ومحطّ المسؤوليّة أمام الله تعالى في النظام الإسلاميّ.

وأيضاً في حين يُعتبر الدستور كلُّه من صنع الإنسان في النظام الديمقراطيّ، بحيث في لحظة مثاليّة تحكم الأكثريّة الأقليّة، فإنّه في المقابل هناك أجزاء ثابتة في الدستور الإسلاميّ تُمثِّل شريعة الله تعالى وعدالته، بل وتضمن موضوعيّة الدستور وعدم تحيّزه.

ولهذا نُلاحظ أنّه من ناحية تحديد العلاقات بين السلطات الثلاث (التشريعيّة، والتنفيذيّة، والقضائيّة) تقترب الدولة الإسلاميّة من النظام الرئاسيّ، ولكن مع فوارق كبيرة عن الأنظمة الرئاسيّة في الدول الرأسماليّة الديمقراطيّة الّتي تقوم على أساس الفصل بين السلطة التنفيذيّة والسلطة التشريعيّة.

الخلاصة:
أولاً: يعتبر الإسلام أنّ الدولة ظاهرة نبويّة بدأت في لحظة تأريخية محدّدة من حياة البشريّة، ولذا يرفض كلَّ التفسيرات والافتراضات الوضعيّة حول نشأة الدولة وتطوّرها.

ثانياً: لقد ساهم الأنبياء والأولياء عليهم السلام بشكل مباشر وغير مباشر على مرِّ التأريخ في بناء الدولة الصالحة دولة القرآن، ودولة الحقّ والعدل.

ثالثاً: لم يتخلّ العلماء والفقهاء في عصر الغيبة عن فكرة إقامة الدولة الإسلاميّة، سواء كان في الجانب التنظيريّ أم العمليّ، وقد تجلّى ذلك بإقامة الجمهورية الإسلاميّة في إيران على يد الوليّ الفقيه الإمام الخمينيّ قدس سره .

رابعاً: لقد أخرج الإمام الخمينيّ قدس سره الإسلام من قمقم الاستعمار والاستكبار العالميّ، إلى حيث الفضاء الواسع والرحب، إلى حيث القيم العليا والفضائل الكريمة، إلى حيث إنسانيّة الإنسان العابد لله وحده لا العابد للإنسان الآخر.

خامساً: تُبنى الرؤية الإسلاميّة على ثلاثة مرتكزات أساس في بناء الدولة المعاصرة، وهي:

أ ـ الله تعالى مصدر السلطات جميعاً.

ب ـ المرجعيّة الرشيدة (الوليّ الفقيه).

ج ـ دور الأمّة ومسؤوليّاتها في تحمّل الأمانة الإلهيّة والاستخلاف على وجه الأرض.

سادساً: إنّ من أسمى أهداف الدولة الصالحة في الإسلام، هو تحقيق العدالة الاجتماعيّة عبر التوزيع العادل للثروات، وإزالة الفوارق الاجتماعيّة، وتحقيق العيش الكريم لكلِّ مواطن.

سابعاً: إنّ من أهداف الدولة الصالحة على المستوى العالميّ، هو نشر القيم الإسلاميّة والفضائل الربانيّة على وجه المعمورة، والدفاع عن الحقّ والعدل، والتصدّي لقوى الشرّ والاستكبار.

ثامناً: تختلف الرؤية السياسيّة الإسلاميّة لبناء الدولة وتطوّرها عن الرؤية السياسيّة الوضعيّة (العلمانيّة)، وذلك من نواحٍ عدّة سواء من ناحية تكوّن الدولة ونشوئها تاريخيّاً، أم من ناحية وظيفتها ودورها تجاه المجتمع والفرد، أم من ناحية شكل الحكومة ومؤسّساتها وأجهزتها المتنوِّعة.

*نظرية الدولة في الإسلام، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1-سورة البقرة، الآية: 213.
2- ملاحظة هامّة: تقسم قوانين الشريعة الإسلاميّة إلى قسمين:
أ ـ قوانين ثابتة، أي لا تتغيّر مع تغيّر الزمان أو المكان، وليس لأحد حقّ التصرُّف فيها (مثال: قوانين الإرث والنكاح وغيرها...).
ب ـ قوانين متغيّرة، أي تتغيّر مع تغيّر الزمان والمكان وتواكب المتغيّرات والمستجدّات، بحيث يستطيع الفقيه سنّ مثل هذه القوانين انطلاقاً من الالتزام بالأصول والثوابت الإسلاميّة العامّة وما تتطلبه ضرورات المجتمع الإسلامي. (مثال: تقديم الأهمّ على المهمّ في مسألة هدم منزل شخص ما بغية توسيع طريق لعموم الناس وتحقيقاً لمصلحتهم). وهذه القوانين يُطلق عليها (الأحكام الولائيّة) ضمن منطقة الفراغ كما يُسميّها الشهيد الصدر قدس سره.
3- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية المصحَّحة، ج35، ص180.
4-سورة الأحزاب، الآية: 72 .
5-سورة الكهف، الآية: 109.
6- نظريّة العقد الاجتماعيّ: هي نظريّة تقوم على اعتبار الدولة ظاهرة إراديّة قامت نتيجة اتفاق حرّ واختياريّ بين مجموعة من الناس فضّلوا الانتقال من حالة طبيعيّة إلى حالة المجتمع المدنيّ والسياسيّ، بما نتج عن ذلك قيام سلطة سياسيّة حاكمة في مقابل مواطنين محكومين، قد تنازلوا عن كلّ أو بعض حقوقهم الطبيعيّة لصالح السلطة الحاكمة.
وقد ارتبطت هذه النظريّة في تأريخ الفكر السياسيّ بأسماء ثلاثة مفكرين أوروبيّين، وهم: توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو.
7-يُعنى بالنظريّات غير العقديّة تلك النظريّات التي لا ترى أصل نشوء الدولة هو نتاج عقد اجتماعيّ وتوافق حرّ بين الناس والحاكم، بل ترى هذه النظريات أنّ عوامل وأسباب أُخر غير العقد الاجتماعيّ أنشأت الدولة، فمنهم من قال القوّة والغلبة عبر الحروب، ومنهم من قال إنّ الدول نشأت من جرّاء توسُّع العائلة إلى قبيلة، ثمّ تطوّرت القبيلة إلى عشيرة، وهذه الأخيرة بدورها تحوّلت إلى المجتمع السياسيّ الأوسع الّذي أسّس المدن ثمّ الدول وصولاً إلى الامبراطوريات.
8- نسبة إلى الفيلسوف الديالكتيكي هيغل.

2015-02-05