شهادة الأنبياء عليهم السلام
فكر الشهيد الصدر
وضع الله سبحانه إلى جانب خطّ الخلافة - خلافة الإنسان على الأرض - خطّ الشهادة، الّذي يُمثِّل التدخّل الربّانيّ من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف، وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرشيدة، فالله تعالى يعلم ما توسوس به نفس الإنسان
عدد الزوار: 89مفهوم خطّ الشهادة في القرآن:
وضع الله سبحانه إلى جانب
خطّ الخلافة - خلافة
الإنسان على الأرض - خطّ
الشهادة، الّذي يُمثِّل
التدخّل الربّانيّ من أجل
صيانة الإنسان الخليفة من
الانحراف، وتوجيهه نحو
أهداف الخلافة الرشيدة،
فالله تعالى يعلم ما
توسوس به نفس الإنسان،
وما تزخر به من إمكانات
ومشاعر، وما يتأثّر به من
مغريات وشهوات، وما يُصاب
به من ألوان الضعف
والانحلال، وإذا تُرك
الإنسان ليُمارس دوره في
الخلافة بدون توجيه وهدى
كان خلقه عبثاً، ومجرّد
تكريس للنزوات، والشهوات،
وألوان الاستغلال.
وما لم يحصل تدخّل ربّانيّ
- من خلال خطّ الشهادة -
لهداية الإنسان الخليفة
في مسيره، فإنّه سوف يخسر
كلّ الأهداف الكبيرة
الّتي رُسمت له في بداية
الطريق. قال تعالى:
﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيدًا مَّا دُمْتُ
فِيهِمْ فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ
أَنتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾1.
أصناف الشهداء:
صنّف القرآن الكريم الشهداء إلى ثلاثة أصناف، فقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾2.
والأصناف الثلاثة على ضوء
هذه الآية الكريمة، هم:
أ - النبيّون والرسل.
ب - الربّانيّون، أي
الأئمّة الّذين يُعتبرون
امتداداً ربّانيّاً للنبيّ
في هذا الخطّ.
ج - الأحبار، أي علماء
الشريعة والفقهاء الّذين
يُعتبرون امتداداً رشيداً
للنبيّ والإمام في خطّ
الشهادة.
الدور المشترك بين أصناف
الشهداء:
يتمثّل الدور المشترك بين
الأصناف الثلاثة من
الشهداء فيما يلي:
أوّلاً: استيعاب الرسالة
السماويّة والحفاظ عليها،
قال تعالى: ﴿بِمَا
اسْتُحْفِظُواْ مِن
كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ
عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾3.
ثانياً: الإشراف على
ممارسة الإنسان لدوره في
الخلافة، ومسؤوليّة إعطاء
التوجيه بالقدر الّذي
يتّصل بالرسالة وأحكامها
ومفاهيمها.
ثالثاً: التدخّل لمقاومة
الانحراف، واتّخاذ كلّ
التدابير الممكنة من أجل
سلامة المسيرة.
الفوارق بين الأصناف الثلاثة في أداء دور الشهادة:
بالرغم من وجود المحتوى
المشترك لدور الشهداء
بأصنافهم الثلاثة
(الأنبياء - الأئمّة -
العلماء)، إلّا أنّه توجد
فروق جوهريّة فيما بينهم
في طريقة أداء هذا الدور،
وهي كالتّالي:
الفرق الأوّل: أنّ النبيّ
هو حامل الرسالة من
السماء باختيار الله
تعالى له، بينما الإمام
هو المستودَع للرسالة
الربّانيّة، أمّا العالِم
فهو الإنسان الّذي اكتسب
ـ من خلال جهدٍ بشريٍّ
ومعاناة طويلة الأمد ـ
استيعاباً حيّاً،
وشاملاً، ومتحرّكاً
للإسلام ومصادره، وورعاً
معمّقاً يُروّض نفسه عليه
حتّى يُصبح قوّة تتحكّم
في كلّ وجوده وسلوكه،
ووعياً إسلاميّاً رشيداً
للواقع وما يزخر به من
ظروف وملابسات ليكون
شهيداً عليه.
الفرق الثاني: يُعتبر
العالِم أو المرجع مقاماً
يُمكن اكتسابه بالعمل
الجادّ المخلص لله
سبحانه، خلافاً للنبوّة
والإمامة فإنّهما رابطتان
ربّانيّتان بين الله
تعالى والإنسان النبيّ أو
الإنسان الإمام، ولا
يُمكن اكتساب هذه الرابطة
بالسعي والجهد والترويض.
الفرق الثالث: يُعتبر
النبيّ والإمام معيّنين
من الله تعالى تعييناً
شخصيّاً، وأمّا المرجع
العالِم فهو معيّن
تعييناً نوعيّ، أي إنّ
الإسلام حدّد الشروط
العامّة للمرجع العالِم،
وترك أمر التعيين
والتأكّد من انطباق
الشروط إلى الأمّة نفسها.
الفرق الرابع: أنّ الفرد
يرتبط بالنبيّ ارتباطاً
دينيّاً، والرجوع إليه في
أخذ أحكام الله تعالى عن
طريقه يجعل منه مسلِّماً
بالنبيّ، وكذلك الحال
بالنسبة لارتباط الفرد
بالإمام. بينما ارتباط
الفرد بالمرجع الفقيه ـ
على النحو المذكور منه ـ
يُعتبر ارتباط مقلِّد
بمرجعه.
الفرق الخامس: أنّ النبيّ
أو الإمام يجب أنْ يكون
معصوماً، بينما المرجعيّة
الدينيّة عهد ربّانيّ إلى
الخطّ لا إلى الشخص
المرجع العالِم، أي إنّ
المرجع محدَّد تحديداً
نوعيّاً لا شخصيّاً. وليس
الشخص هو طرف التعاقد مع
الله، بل المركز أي
المرجعيّة الدينيّة
(كمواصفات عامّة)، ومن
هذه المواصفات (العدالة)
بدرجة عالية تقرب من
العصمة. فقد جاء في
الحديث عن الإمام
العسكريّ عليه السلام
قوله: "فأمّا من كان من
الفقهاء صائناً لنفسه،
حافظاً لدينه، مخالفاً
لهواه، مطيعاً لأمر مولاه
فللعوامّ أنْ يُقلّدوه"4.
ولكنّ هذه العدالة ليس من
الضروريّ أنْ تبلغ درجة
العصمة، ولا أنْ يكون
المرجع الدينيّ مصوناً من
الخطأ بحال من الأحوال.
ومن هنا كان هو بدوره
بحاجة إلى شهيد ومقياس
موضوعيّ. قال تعالى:
﴿لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيدًا عَلَيْكُمْ
وَتَكُونُوا شُهَدَاء
عَلَى النَّاسِ﴾5.
إذاً المراد (بالعدالة)
هو الوسطيّة والاعتدال في
السلوك، وهذا ما عبّر عنه
القرآن الكريم في قوله
تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِّتَكُونُواْ
شُهَدَاء عَلَى
النَّاسِ﴾6 ، هذا
بالإضافة إلى ضرورة توفّر
شروط أخرى في الشهيد
العالِم والمرجع، وذلك من
قبيل:
1- العلم والاستيعاب
الجيّد للقرآن
والسُّنَّة.
2- امتلاك الوعي والإدراك
لظروف وأحوال الواقع
القائم.
3- توفّر الكفاءة
والجدارة النفسيّة الّتي
ترتبط بالحكمة والتعقّل،
والصبر والشجاعة.
4- القدرة على تجاوز
المحن والمصائب بقلب صابر
وفي مرضاة الله تعالى7.
الاندماج بين خطّي
الخلافة والشهادة:
لقد تعرّضنا حتّى الآن
إلى المعالِم العامّة
للخطّين الربّانيّين، خطّ
الخلافة (خلافة الإنسان
على الأرض)، وخطّ الشهادة
(شهادة النبيّ أو الإمام
أو المرجع).
وهذان الخطّان يندمجان في
بعض مراحلهما ويتجسّدان
في محور واحد يُمثّل
الخلافة والشهادة معاً،
وهذا ما سنتناوله من خلال
عرض موجز لمراحل مسار
الخلافة الربّانيّة على
الأرض منذ خلق نبيّ الله
آدمعليه السلام، مروراً
بمرحلة الأنبياء والأئمّة
عليهم السلام، وصولاً إلى
مرحلة العلماء والمراجع.
أوّلاً: المرحلة
التمهيديّة لدور الخلافة:
لقد قُدّر لآدمعليه
السلام أنْ يكون الممثِّل
الأوّل للإنسانيّة الّتي
استخلفها الله تعالى على
الأرض، ولكنْ حينما بدأ
آدم حياته في الدنيا لم
يمرّ بمرحلة الطفولة،
واحتضانه ضمن عائلة ترعاه
حتّى يرشد ويُصبح خليفة
الله على الأرض، كما هو
حال كلِّ إنسان آخر، بل
كان آدم بحاجة إلى دار
حضانة استثنائيّة يجد
فيها التنمية والتوعية
الّتي تؤهّله لممارسة دور
الخلافة على الأرض، سواء
من ناحية فهم الحياة
ومشاكلها الماديّة، أو من
ناحية مسؤوليّاتها
الخلقيّة والروحيّة.
وقد عبّر القرآن الكريم
عن دار الحضانة
الاستثنائيّة الّتي
وُفّرت للإنسان الأوّل
بـ(الجنّة)، إذ حقّق الله
تعالى في هذه الجنينة
لآدم وحواء كلّ وسائل
الاستقرار وكفل لهما كلّ
الحاجات: ﴿إِنَّ لَكَ
أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا
وَلَا تَعْرَى *
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ
فِيهَا وَلَا تَضْحَى﴾8.
وكان لا بُدَّ من مرور
فترة تنمو فيها تجربة
هذَين الإنسانين (آدم
وحواء)، وتصل إلى الدرجة
الّتي تُتيح لهما أنْ
يبدءا خلافتهما في الأرض،
وكذلك كان لا بُدّ في هذه
الفترة من تربية الإحساس
الخُلقيّ، وزرع الشعور
بالمسؤوليّة وتعميقه في
نفس الإنسان، وذلك عن
طريق امتحانه بما يُوجّه
إليه من تكاليف وأوامر.
وكان أوّل تكليف وُجّه
إليه أنْ يُمسك عن شجرة
معيّنة في تلك الجنينة،
ترويضاً للإنسان الخليفة
على التحكّم في نزواته،
وكي لا ينساق مع الحرص
المحموم على المزيد من
زينة الحياة الدنيا
ومتعها وطيّباته، لأنّ
هذا الحرص أساس كلّ ما
شهده مسرح الحياة ـ بعد
ذلك ـ من ألوان استغلال
الإنسان للإنسان.
وقد استطاعت (المعصية)9
الّتي ارتكبها آدم عليه
السلام بتناوله من الشجرة
المحرّمة، أنْ تُحدث هزّة
روحيّة كبيرة في نفسه،
وتُفجّر في أعماقه
الإحساس بالمسؤوليّة من
خلال مشاعر الندم، وطفق
في هذه اللحظة يخصف من
ورق الجنّة ليضعه على
جسده وليواري سَوأته
ويستغفر الله تعالى
لذنبه.
وبهذا تكامل وعيه عليه
السلام في الوقت الّذي
كانت قد نضجت لديه خبرات
الحياة المتنوّعة، وتعلّم
الأسماء كلّها فحان الوقت
لخروجه من الجنّة إلى
الأرض الّتي استُخلف
عليها ليُمارس مسيرته نحو
الله من خلال دوره في
الخلافة.
ثانياً: مرحلة الفطرة من
الخلافة:
لقد بدأت الجماعة
البشريّة خلافتها على
الأرض بوصفها أمّة واحدة،
قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ
النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً
وَاحِدَةً
فَاخْتَلَفُو﴾10.
وقد أُنشئ المجتمع
الموحّد والتوحيديّ على
ركائز، والأساس الأوّليّ
لتلك الوحدة ولهذه
الركائز (الفطرة)، لأنّ
الركائز الّتي يقوم عليها
مجتمع التوحيد وتُمثّل
أساس الخلافة على الأرض
كلّها ذات جذور في فطرة
الإنسان. قال تعالى:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا
فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ
الدِّينُ
الْقَيِّمُ...﴾11.
فكان من أبرز معالم
الفطرة الإنسانيّة،
الإيمان بالله الواحد
ورفض كلّ ألوان الشرك
والطاغوت، بالتّالي فإنّ
أيّ شرك وجبروت، وأيّ
تناقض وتفرّق، هو انحراف
عن الفطرة.
وطبعاً، تُشكّل تلك
الفطرة الإنسانيّة الأساس
لإقامة مجتمع التوحيد
وممارسة دور الخلافة،
وهذا ليس بمعزل عن خطّ
الشهادة الّذي كان قائماً
إلى جانبه وممثَّلاً في
الأنبياء عليهم السلام،
حيث كانوا يُمارسون - في
تلك المرحلة - مهمّة
الشهيد الرّبّانيّ، مهمّة
الهادي والموجّه والرقيب،
قال تعالى: ﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً
وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ
وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ
مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ
بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُواْ
فِيهِ...﴾12.
نُلاحظ في الآية الكريمة
أنّ مرحلة بعثة
الأنبياءعليهم السلام
ليحكموا بين النّاس جاءت
عقب المرحلة الّتي كان
النّاس فيها أمّة واحدة،
تلك المرحلة الّتي كانت
الخلافة والحكم فيها
للجماعة البشريّة نفسها،
وكان خطّ الشهادة للإشراف
والتوجيه والتدخّل إذا
تطلّب الأمر.
وبعبارة أخرى: بعد أنْ
مرّت على البشريّة فترة
من الزمن وهي تُمارس
خلافتها من خلال مجتمع
واحد، تحقّقت نبوءة
الملائكة، وبدأ يبرز
التناقض والتنافس
والسيطرة والتملّك، فضلاً
عن ظهور الفساد وسفك
الدماء، وذلك لأنّ
التجربة الاجتماعيّة
نفسها وممارسة العمل
على الأرض، نمّت خبرات
الأفراد، ووسّعت
إمكاناتهم فبرزت ألوان
التفاوت بين مواهبهم
وقابليّاتهم، ونجم عن هذا
التفاوت اختلاف مواقعهم
على الساحة الاجتماعيّة،
وأتاح ذلك فرص الاستغلال
لمن حظي بالموقع الأقوى.
فانقسم المجتمع ـ بسبب
ذلك ـ إلى أقوياء وضعفاء
ومتوسّطين، ثُمّ إلى
مُستغلِّين ومستضعَفين،
لتفقد بذلك الجماعة
وحدتها الفطريّة، ويصدق
قول الله تعالى في آية
تحمّل الإنسانيّة للأمانة
الّتي أشفقت منها
السماوات والأرض إذ قال:
﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولً﴾13.
ثالثاً: مرحلة ثورة
الأنبياء عليهم السلام
لإعادة مجتمع التوحيد:
بعد أنْ غرق المجتمع
التوحيديّ في ألوان
الاستغلال، وسيطرت عليه
علاقات اجتماعيّة تُجسِّد
هذه الألوان، ومشاعر
نفسيّة تُبرِّر الانحراف
عن الفطرة، وأساطير
فكريّة وثنيّة تُمزِّق
المجتمع شيَعاً وأحزاباً،
كان لا بُدَّ في ظلّ هذه
الظروف من ثورة تُعيد
المسيرة إلى طريقها
الصالح، وتبني المجتمع
الموحّد من جديد على أساس
أعمق وأوعى من أساس
الفطرة (أو مرحلة الفطرة
من الخلافة)، وتهيّئ
الجماعة البشريّة
لاستئناف دورها الربّانيّ
في خلافة الله على الأرض.
لذا كانت انطلاقة ثورة
الأنبياء عليهم السلام
مرتكزة على أساس قويّ،
تمثّل في استئصال المشاعر
الّتي خلّفتها ظروف
الاستغلال، واعتماد مشاعر
أُخرى أساساً للثورة،
بمعنى أنّه بعد استئصال
الحرص والطمع من نفوس
النّاس، وتطهيرها،
وإعدادها روحيّاً
ونفسيّاً، يأتي دور زرع
مشاعر الإحساس بالقيم
الموضوعيّة للعدل والحقّ،
والقسط، والإيمان
بعبوديّة الإنسان لله
تعالى. هذا بالإضافة إلى
إلغاء كلّ العلاقات
الاجتماعيّة الّتي نشأت
على أساس الاستغلال، لا
لتنشىء علاقات مماثلة
لفئة أخرى من المجتمع، بل
لتُعيد إلى الجماعة
البشريّة الشروط
الضروريّة لممارسة
الخلافة العامّة على
الأرض وتحقيق أهدافها
الرشيدة. قال
تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ وَلَا
فَسَادً﴾14.
ومن هنا دعا الأنبياء -
كما ذكرنا فيما سبق - إلى
جهادَين:
أحدهما: الجهاد الأكبر
(أو جهاد النفس) من أجل
أنْ يكون المستضعفون
أئمّة فينتصروا على
شهواتهم ويبنوا أنفسهم
بناءً ثوريّاً صالحاً.
والآخر: الجهاد الأصغر من
أجل إزالة المستغلِّين
والظالمين عن مواقعهم.
إذاً، النبوّة ظاهرة
ربّانيّة تُمثِّل رسالة
ثوريّة وعملاً تغييريّاً،
وإعداداً ربّانيّاً
للجماعة البشريّة، لكي
تستأنف دورها الصالح.
وتفرض ضرورة هذه الثورة
أنْ يتسلّم شخص النبيّ
الرسول الخلافة العامّة
لكي يُحقّق للثورة
أهدافها في القضاء على
الجاهليّة والاستغلال،
قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالأَغْلاَلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِم﴾15 هذا
من جهة، ومن جهة أخرى،
يبني القاعدة الثوريّة
الصالحة من خلال إشراك
الأمّة في أعباء الحكم -
على مبدأ الشورى16 -
ومسؤوليّات الخلافة
الربّانيّة، لكي يمنّ
الله عليهم ويجعلهم أئمّة
ويجعلهم الوارثين، قال
تعالى: ﴿فَالَّذِينَ
آمَنُواْ بِهِ
وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُواْ النُّورَ
الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ
أُوْلَـئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ﴾17وبذلك
يندمج خطّ الشهادة وخطّ
الخلافة في شخص واحد وهو
النبيّ، لذا اشترط
الإسلام في النبيّ
العصمة، لأنّه سوف يكون
هو الشهيد وهو المشهود
عليه في وقت واحد.
رابعاً: مرحلة الإمامة في
إكمال بناء مجتمع
التوحيد:
إنّ صنع مجتمع التوحيد
ليس بالأمر الهيّن، لأنّه
ثورة على الجاهليّة بكلِّ
جذورها، وتطهير للمحتوى
النفسيّ والفكريّ للمجتمع
من جذور الاستغلال،
ومشاعره، وواقعه. ومن هنا
كان شوط الثورة أطول من
العمر الاعتيادي للرسول
القائد، لذا كان لا بُدّ
للرسول أنْ يترك الثورة
في وسط الطريق ليلتحق
بالرفيق الأعلى وهي في
خضمّ أمواج المعركة بين
الحقّ والباطل.
ومن الواضح أنّ الحفاظ
على الثورة - وهي بعدُ لم
تُحقِّق بصورة نهائيّة
مجتمع التوحيد - يفرض أنْ
يمتدّ دور النبيّ في قائد
ربّانيّ يُمارس خلافة
الله على الأرض، وتربية
الجماعة وإعدادها، ويكون
شهيداً في الوقت نفسه،
وهذا القائد الربّانيّ هو
الإمام الّذي يجب أنْ
يكون معصوماً، لأنّه
يستقطب الخطّين معاً
ويُمارس وفقاً لظروف
الثورة خطّ الخلافة إلى
جانب خطّ الشهادة معاً.
إذاً الإمام كالنبيّ شهيد
وخليفة لله في الأرض من
أجل أنْ يواصل الحفاظ على
الثورة وتحقيق أهدافها،
غير أنّ جزءاً من دور
الرسول يكون قد اكتمل،
وهو إعطاء الرسالة
والتبشير بها، والبدء
بالثورة الاجتماعيّة، قال
تعالى: ﴿الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلاَمَ دِينً﴾18.
وعلى هذا الأساس وبأمر من
الله تعالى عُيِّن أوصياء
اثنا عشر من أئمّة أهل
البيتعليهم السلام،
ليكونوا المؤتمنين على
الرسالة والثورة الّتي
جاء بها الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، لا أنْ
يأتوا بدين جديد أو رسالة
خلاف رسالة الإسلام.
ويُلاحظ في تأريخ العمل
الربّانيّ على الأرض أنّ
الوصاية كانت تُعطى
غالباً لأشخاص يرتبطون
بالرسول القائد ارتباطاً
نسبيّاً أو لذرّيّته
وأبنائه، وهذه الظاهرة لم
تتّفق فقط في أوصياء
النبيِّ محمّد صلى الله
عليه وآله وسلم، بل
اتّفقت في أوصياء عدد
كبير من الرسل، قال الله
سبحانه: ﴿وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا
وَإِبْرَاهِيمَ
وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ
وَالْكِتَابَ...﴾19.
هذا الاختيار النسبيّ أو
القرابيّ لا يُشكِّل
أساساً للتوارث، بل
يُشكِّل عادة الإطار
السليم لتربية الوصيّ،
وإعداده للقيام بدوره
الربّانيّ، وأمّا إذا لم
يُحقِّق هذا الإطار
وظيفته التربويّة، فلا
أثر له في حساب السماء،
قال الله تعالى: ﴿وَإِذِ
ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ
إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ
وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ
لاَ يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِين﴾20.
خامساً: مرحلة الفقهاء في
حماية مجتمع التوحيد:
بالرغم من إبعاد الأئمّة
عليهم السلام عن مركزهم
الطبيعيّ في الزعامة
الإسلاميّة، حيث تُمارس
دور الخلافة والشهادة
معاً، إلا أنّهم ظلّوا
التجسيد الحيّ والثوريّ
للإسلام، والقوّة الرافضة
لكلّ ألوان الانحراف
والاستغلال، وقد كلّف ذلك
الأئمّة الأحد عشر عليهم
السلام حياتهم الواحد بعد
الآخر. هذا الواقع المرير
دفع بالإمام الثاني عشر
عجل الله تعالى فرجه
الشريف - بأمرٍ من الله
تعالى - إلى التواري عن
الأنظار، انتظاراً للّحظة
المناسبة الّتي تتهيّأ
فيها الظروف الموضوعيّة
للظهور وإنشاء مجتمع
التوحيد في العالم كلّه.
وما إنْ بدأ عصر الغيبة
الكبرى حتّى بدأت مرحلة
جديدة من خطّ الشهادة،
تمثّلت في العلماء
والفقهاء كامتداد للنبوّة
والإمامة على هذا الخطّ،
وتميّز في هذه المرحلة
خطّ الشهادة عن خطّ
الخلافة بعد أنْ كانا
مندمجين في شخص النبيّ أو
الإمام، وذلك لأنّ هذا
الاندماج لا يصحّ
إسلاميّاً إلا في حالة
وجود فرد معصوم قادر على
أنْ يُمارس الخطّين معاً،
وحين تخلو الساحة من فرد
معصوم فلا يُمكن حصر
الخطّين في فرد واحد.
نعم، في حال كانت الأمّة
محكومة للطاغوت ومقصيّة
عن حقّها في الخلافة
العامّة، فهذا الخطّ
يُمارسه المرجع الفقيه
ويندمج الخطّان حينئذ -
الخلافة والشهادة - في
شخص المرجع الفقيه،
وبالتّالي لا يتوقّف
الاندماج على العصمة،
لأنّ خطّ الخلافة في هذه
الحالة لا يتمثّل عمليّاً
إلا في نطاق ضيّق وضمن
حدود التصرّفات الممكنة
للمرجع الفقيه وقيادته
للأمّة حتّى تجتاز ـ أي
الأمّة ـ حالة الإقصاء
والظلم، وتُحرِّر نفسها،
حينها ينتقل خطّ الخلافة
إليها، فتُمارس القيادة
السياسيّة والاجتماعيّة
من خلال تطبيق أحكام
الله تعالى، وعلى أساس
الركائز المتقدِّمة
للاستخلاف الربّانيّ21.
هكذا وزّع الإسلام في عصر
الغيبة مسؤوليّات الخطّين
بين المرجع الّذي يُمارس
دور الاجتهاد الشرعيّ،
وبين الأمّة الّتي تُمارس
دور الشورى، فلم يشأ
الإسلام أنْ تُمارس
الأمّة خلافتها بدون شهيد
يضمن عدم انحرافها،
ويُشرِف على سلامة
المسيرة، ويُحدِّد لها
معالم الطريق من الناحية
الإسلاميّة، ولم يشأ -
أيضاً - من الناحية
الأخرى أنْ يحصر الخطّين
معاً في فردٍ ما لم يكن
هذا الفرد مطلقاً أي
معصوماً.
بالنتيجة: إنّ دور المرجع
- شهيداً على الأمّة - هو
دور ربّانيّ لا يُمكن
التخلّي عنه، ودوره في
إطار الخلافة العامّة
للإنسان على الأرض، دور
بشريّ اجتماعيّ يستمدّ
قيمته وعمقه من مدى وجود
الشخص في الأمّة وثقتها
بقيادته الاجتماعيّة
والسياسيّة.
الخلاصة:
أوّلاً: إنّ الهدف الأساس
لخلافة الإنسان على
الأرض، هو الحكم بما أنزل
الله سبحانه وتحقيق
العدل، والمساواة،
والاحترام المتبادل بين
النّاس. وذلك في مقابل
استئصال بؤر الفساد
والظلم والاستغلال
ومحاربتها.
ثانياً: يُعتبر خطّ
الشهادة الركن الثاني في
بناء المجتمع التوحيديّ.
والشهيد بأصنافه الثلاثة
(النبيّ - الإمام -
الفقيه) هو بمثابة مرجع
فكريّ وتشريعيّ من
الناحية الإيديولوجيّة،
ويُشرف على سير الجماعة
وانسجامها مع الرسالة
الربّانيّة، بحيث يتدخّل
لتعديل المسيرة أو
إعادتها إلى الطريق
الصحيح حينما تنحرف.
ثالثاً: تقوم النظريّة
القرآنيّة على أساس أنّ
البشريّة كانت أمّة واحدة
تُمارس دور الخلافة، وذلك
إلى جانب شهادة الأنبياء
والرسل عليهم السلام،
وإشرافهم على مسار خلافة
الأمّة، إلا أنّ انقسام
المجتمع إلى شيع وأحزاب
تطلّب الأمر الإلهيّ أن
يدمج بين خطّي الخلافة
والشهادة في شخص النبيّ
ومن ثمّ الوصيّ من بعده،
واستمرّ هذا الأمر مع
الفقيه المرجع ضمن نظام
صلاحيّاته التشريعيّة،
حتّى تخرج الأمّة من تحت
ظلم الطغاة واستبدادهم،
حينها يعود حقّ الخلافة
للأمّة.
*شهادة الأنبياء، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- سورة البقرة، الآية:
143.
2- سورة المائدة، الآية:
44.
3- سورة المائدة، الآية:
44.
4- وسائل الشيعة، ج 218،
باب (11) من أبواب
القضاء، ص 94.
5- سورة الحج، الآية: 78.
6- سورة البقرة، الآية:
143.
7- قال تعالى: ﴿إِن
يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ
قَرْحٌ مِّثْلُهُ
وَتِلْكَ الأيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ
شُهَدَاء﴾ (سورة آل
عمران، الآية: 140).
8-سورة طه، الآية: 118.
9- عصى آدم عليه السلام
أمراً مولويّاً إرشاديّاً
وليس أمراً مولويّاً
تكليفيّاً، فالأوّل حين
مخالفته لا يترتّب عليه
عقوبة، بينما الثاني
يترتّب على مخالفته
عقوبة.
10-سورة يونس، الآية: 19.
11-سورة الروم، الآية:
30.
12-سورة البقرة، الآية:
213.
13-سورة الأحزاب، الآية:
72.
14-سورة القصص، الآية:
83.
15-سورة الأعراف، الآية:
157.
16-قال تعالى: }وشاورهم
في الأمر فإذا عزمت فتوكل
على الله{ )سورة آل
عمران، الآية: 159).
17-سورة الأعراف، الآية:
157.
18-سورة المائدة، الآية:
3.
19-سورة الحديد، الآية:
26.
20-سورة البقرة، الآية:
124.
21-ذكرنا هذه الركائز في
كتاب "خلافة الإنسان" من
هذه السلسلة.