عناصر المجتمع
فكر الشهيد الصدر
وأهمّ مصداقٍ يعرضه القرآن الكريم للشكل الثالث من السُنن1 هو الدين. القرآن الكريم يرى أن الدين نفسَه سنّة موضوعيّة من سُنن التاريخ، وليس الدين فقط تشريعاً، ولهذا يعرض الدين على شكلين:
عدد الزوار: 86
1- الدين سنّةٌ تاريخيّة
من الشكل الثالث
وأهمّ مصداقٍ يعرضه
القرآن الكريم للشكل
الثالث من السُنن1
هو الدين. القرآن الكريم
يرى أن الدين نفسَه سنّة
موضوعيّة من سُنن التاريخ،
وليس الدين فقط تشريعاً،
ولهذا يعرض الدين على
شكلين:
أ- الدين شريعة
تارةً يعرضه بوصفه
تشريعاً كما يقول علم
الأصول، بوصفه إرادةً
تشريعيّةً، مثلاً يقول: ﴿شَرَعَ
لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا
وَصَّيْنَا بِهِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلَا
تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
كَبُرَ عَلَى
الْمُشْرِكِينَ مَا
تَدْعُوهُمْ إِلَيْه﴾ِ2،
هنا يبيّن الدين كتشريعٍ،
كقرارٍ، كأمرٍ من الله
سبحانه وتعالى.
ب- الدين سنّة
لكن في مجالٍ آخر
يبيّنه سنّةً من سُنن
التاريخ، وقانوناً داخلاً
في صميم تركيب الإنسان
وفطرة الإنسان؛ قال
سبحانه وتعالى:
﴿فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾3.
هنا الدين لم يعد مجرّد
تشريعٍ، مجرّد قرارٍ من
أعلى، وإنّما الدين هنا
فطرةٌ للناس، هو فطرة
الله التي فطر عليها
الناس، ولا تبديل لخلق
الله. هذا الكلام كلامٌ
موضوعيٌّ خبريٌّ لا
تشريعيٌّ إنشائيٌّ، لا
تبديل لخلق الله، يعني
كما أنّك لا يمكنك أن
تنتزع من الإنسان أيّ جزءٍ
من أجزائه التي تقوّمه،
كذلك لا يمكنك أن تنتزع
من الإنسان دينه. الدين
ليس مقولةً حضاريّةً
مكتسبةً على مرّ التاريخ،
يمكن إعطاؤها، ويمكن
الاستغناء عنها، لأنّها
في حالةٍ من هذا القبيل
لا تكون فطرة الله التي
فطر الناس عليها، ولا
تكون خلق الله الذي لا
تبديل له، بل تكون من
المكاسب التي حصل عليها
الإنسان، من خلال
تطوّراته المدنيّة
والحضاريّة على مرّ
التاريخ.
القرآن يريد أن يقول بأن
الدين ليس مقولةً من هذه
المقولات، بالإمكان أخذها
وبالإمكان إعطاؤها، الدين
خَلْقُ الله
﴿فِطْرَتَ
اللهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عَلَيْهَا﴾.
"ل" ليست ناهية، بل نافية،
يعني هذا الدين لا يمكن
أن ينفكّ عن خلق الله ما
دام الإنسان إنساناً،
فالدين يعتبر سنّة لهذا
الإنسان. هذه سنّةٌ
ولكنّها ليست سنّةً صارمةً
على مستوى قانون الغليان،
سنّة تقبل التحدّي على
الشوط القصير، كما كان
بإمكان تحدّي سنّة النكاح،
سنّة اللقاء الطبيعيّ
والتزاوج الطبيعيّ، كما
كان بالإمكان تحدّي ذلك
عن طريق الشذوذ الجنسيّ،
لكن على شوطٍ قصيرٍ، كذلك
يمكننا أيضاً تحدّي هذه
السنّة على شوطٍ قصيرٍ عن
طريق الإلحاد، وغمض العين
عن هذه الحقيقة الكبرى.
بإمكان الإنسان أن يرى
الشمس، أن يغمض عينه عن
الشمس ويلحد ولا يرى هذه
الحقيقة، ولكن هذا
التحدّي لا يكون إلّا على
شوطٍ قصيرٍ؛ لأنّ العقاب
سوف ينزل بالمتحدّي يعاقب
بسنن التاريخ نفسها. وقد
أشير إلى هذه الخاصية
أيضاً بقوله:
﴿وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُون﴾، هذه
العبارة التي خُتمت بها
الآية الكريمة:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾4
هذه الجملة الأخيرة إشارةٌ
إلى أن هذه السنّة من
الشكل الثالث، أي إنّ
للناس أن يتّخذوا مواقف
سلبيّة وإهماليّة تجاه
هذه السنّة، ولكنّه إهمال
على الشوط القصير لا على
الشوط الطويل.
2 ـ تحليل عناصر
المجتمع
سوف نسعى لكي نحلل عناصر
المجتمع على ضوء هذه
الآية الكريمة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ
لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ
جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاء
فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ *
وَإِذْ قَالَ
رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً
قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ
فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاء وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ
قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لاَ تَعْلَمُون﴾5.
على ضوء هذه الآية
التي تعطينا أروع
وأدقّ وأعمق صيغةٍ
لتحليل عناصر المجتمع،
سوف ندرس هذه العناصر
ونقارن ما بينها؛
لنعرف في النهاية أنّ
الدين سنّة التاريخ،
وليس مجرّد حكمٍ شرعيٍّ
قد يطاع وقد يعصى.
عناصر المجتمع في
القرآن
حينما نستعرض هذه
الآية الكريمة نجد أنّ
الله سبحانه وتعالى
ينبّئ الملائكة بأنّه
قرّر إنشاء مجتمعٍ
على الأرض.
هناك ثلاثة عناصرٍ
يمكن استخلاصها من
العبارة القرآنية:
أولاً:
الإنسان.
ثانياً: الأرض
أو الطبيعة على وجهٍ
عام.
ثالثاً:
العلاقة المعنويّة
التي تربط الإنسان
بالأرض وبالطبيعة،
وتربط من ناحيةٍ أخرى
الإنسان بأخيه
الإنسان، هذه العلاقة
المعنوية التي سمّاها
القرآن الكريم
بالاستخلاف.
هذه هي عناصر المجتمع،
الإنسان والطبيعة
والعلاقة المعنوية
التي تربط الإنسان
بالطبيعة من ناحيةٍ،
وتربط الإنسان بأخيه
الإنسان من ناحيةٍ
أخرى، وهي العلاقة
التي سميت قرآنيّاً
بالاستخلاف.
ونحن حينما نلاحظ
المجتمعات البشريّة؛
نجد أنّ المجتمعات
البشريّة جميعاً
تشترك بالعنصر الأوّل
والعنصر الثاني. لا
يوجد مجتمعٌ بدون
إنسانٍ يعيش مع أخيه
الإنسان، ولا يوجد
مجتمعٌ بدون أرضٍ أو
طبيعة يمارس الإنسان
عليها دوره الاجتماعيّ.
وفي هذين العنصرين
تتّفق المجتمعات
التاريخيّة والبشريّة.
وأما العنصر الثالث: وهو العلاقة، ففي كلّ
مجتمعٍ علاقةٌ
كما ذكرنا ولكن المجتمعات
تختلف في طبيعة هذه
العلاقة، وفي كيفيّة
صياغة هذه الطبيعة.
العنصر المرن في
المجتمعات
فالعنصر الثالث هو العنصر
المرن والمتحرّك من عناصر
المجتمع. وكلّ مجتمعٍ
يبني هذه العلاقة
المعنوية التي تربط
الإنسان من جانبٍ،
بالطبيعة بالجانب الآخر،
يبني العلاقة بشكلٍ قد
يتّفق وقد يختلف مع طريقة
بناء المجتمع الآخر لهذه
العلاقة.
وهذه العلاقة التي هي
العنصر الثالث، العنصر
المرن والمتحرّك في تركيب
المجتمع، لها صيغتان
أساسيتان:
إحداهما: صيغة رباعيّة
وقد أُطلق عليها اسم "الصيغة
الرباعيّة".
والأخرى: صيغة ثلاثيّة.
أ- الصيغة الرباعيّة
هي الصيغة التي ترتبط
بموجبها الطبيعة والإنسان
مع الإنسان. هذه أطراف
ثلاثةٌ. فالعلاقة إذاً
اتخذت صيغةً تربط بموجبها
بين هذه الأطراف الثلاثة
وهي: الطبيعة، والإنسان،
مع أخيه الإنسان، ولكن مع
افتراض طرفٍ رابعٍ أيضاً
في هذه العلاقة، فأسميت
هذه الصيغة بالصيغة
الرباعيّة. الصيغة
الرباعيّة تربط بين هذه
الأطراف الثلاثة، ولكنّها
تفترض طرفاً رابعاً،
بُعداً رابعاً للعلاقة
الاجتماعيّة، وهذا الطرف
الرابع ليس داخلاً في
إطار المجتمع، هو خارجٌ
عن إطار المجتمع، ولكن
الصيغة الرباعيّة للعلاقة
الاجتماعيّة تعتبر هذا
الطرف الرابع مقوّماً من
المقوّمات الأساسيّة
للعلاقة الاجتماعيّة، على
الرغم من أنّه خارج إطار
المجتمع، وهذه الصيغة
الرباعيّة للعلاقة
الاجتماعيّة ذات الأبعاد
الأربعة هي التي طرحها
القرآن الكريم تحت اسم
الاستخلاف.
إلاستخلاف
الاستخلاف هو العلاقة
الاجتماعيّة من زاوية نظر
القرآن الكريم، وعند
التحليل نجد أنّه ذو
أربعة أطراف؛ لأنّ
الاستخلاف يفترض مستخلِفاً
أيضاً. لا بدّ من مستخلَف
ومستخلَف عليه، ومستخلِف.
فهناك إضافة إلى الإنسان،
وأخيه الإنسان، والطبيعة،
يوجد طرفٌ رابعٌ في طبيعة
وتكوين علاقة الاستخلاف،
وهو المستخلِف إذ لا
استخلاف بدون مستخلِف،
فالمستخلِف هو الله
سبحانه وتعالى،
والمستخلَف هو الإنسان
وأخوه الإنسان، أي
الإنسانيّة ككلّ، الجماعة
البشريّة، والمستخلَف
عليه هو الأرض، وما عليها،
ومن عليها.
فالعلاقة الاجتماعيّة ضمن
صيغة الاستخلاف تكون ذات
أطرافٍ أربعةٍ، وهذه
الصيغة ترتبط بوجهة نظرٍ
معيّنةٍ نحو الحياة
والكون، بوجهة نظرٍ قائلةٍ
بأنّه لا سيّد ولا مالك
ولا إله للكون وللحياة
إلّا الله سبحانه وتعالى،
وأنّ دور الإنسان في
ممارسة حياته إنّما هو
دور الاستخلاف والاستئمان،
وأيّ
علاقةٍ تنشأ بين الإنسان
والطبيعة، فهي في جوهرها
ليست علاقة مالكٍ بمملوكٍ،
وإنّما هي علاقة أمينٍ
على أمانةٍ استؤمن عليها،
وأيّ علاقةٍ تنشأ بين
الإنسان وأخيه الإنسان،
مهما كان المركز
الاجتماعيّ لهذا أو لذاك،
فهي علاقة استخلافٍ
وتفاعلٍ، بقدر ما يكون
هذا الإنسان أو ذاك
مؤدّياً لواجبه بهذه
الخلافة، وليست علاقة
سيادةٍ أو ألوهيّةٍ، أو
مالكيّةٍ.
ب- الصيغة الثلاثيّة
في مقابلها
6يوجد
للعلاقة الاجتماعيّة صيغة
ثلاثيّة الأطراف، صيغة
تربط بين الإنسان
والإنسان، والطبيعة،
ولكنّها تقطع صلة هذه
الأطراف مع الطرف الرابع،
تجرّد تركيب العلاقة
الاجتماعيّة عن البُعد
الرابع، عن الله سبحانه
وتعالى، وبهذا تتحوّل
نظرة كلّ جزءٍ إلى الجزء
الآخر، داخل هذا التركيب،
وداخل هذه الصيغة.
وُجدت ألوانٌ مختلفةٌ
للملكيّة وللسيادة، سيادة
الإنسان على أخيه الإنسان،
بأشكالها المختلفة، التي
استعرضها التاريخ بعد أن
عطّل البُعد الرابع، وبعد
أن افترض أنّ البداية هي
الإنسان، حينئذٍ تنوّعت
على مسرح الصيغة
الثلاثيّة أشكال الملكيّة،
وأشكال سيادة الإنسان على
أخيه الإنسان.
المقارنة بين الصيغتين
وبالتدقيق في المقارنة
بين الصيغتين، الصيغة
الرباعيّة والصيغة
الثلاثيّة، يتّضح أنّ
إضافة الطرف الرابع
للصيغة الرباعيّة ليس
مجرّد إضافة عدديّةٍ، ليس
مجرّد طرفٍ جديدٍ يُضاف
إلى الأطراف الأخرى، بل
إنّ هذه الإضافة تُحدث
تغييراً نوعيّاً في بُنية
العلاقة الاجتماعيّة، وفي
تركيب الأطراف الثلاثة
الأخرى نفسها. من هنا ليس
هذا مجرّد عملية جمع
ثلاثةٍ زائد واحدٍ، بل
هذا الواحد الذي يُضاف
إلى الثلاثة سوف يُعطي
للثلاثة روحاً أخرى،
ومفهوماً آخر، سوف يحدث
تغييراً أساسيّاً في بنية
هذه العلاقة
ذات الأطراف الأربعة كما
رأينا، إذ يعود الإنسان
مع أخيه الإنسان مجرّد
شريك في حمل هذه الأمانة
والاستخلاف، وتعود
الطبيعة بكلّ ما فيها من
ثرواتٍ، وبكلّ ما عليها
ومَن عليها، مجرّد أمانةٍ
لا بدّ من رعاية واجبها
وأداء حقّها. هذا الطرف
الرابع هو في الحقيقة
مغيّرٌ نوعيٌّ لتركيب
العلاقة.
3 ـ الاستخلاف سنّة
تاريخيّة
إذاً أمامنا للعلاقة
الاجتماعيّة صيغتان صيغة
رباعيّة وصيغة ثلاثيّة.
والقرآن الكريم آمن
بالصيغة الرباعيّة كما
رأينا في الآية الكريمة.
الاستخلاف هو الصيغة
الرباعيّة للعلاقة
الاجتماعيّة. لكن القرآن
الكريم رغم أنّه آمن
بالصيغة الرباعيّة في
المقام، اعتبر الصيغة
الرباعيّة سنّةً من سنن
التاريخ، كما رأينا في
الآية السابقة كيف اعتبر
الدين سنّةً من سُنن
التاريخ، كذلك اعتبر
الصيغة الرباعيّة للعلاقة
الاجتماعيّة ـ التي هي
صيغة الدين في الحياة ـ
اعتبر هذه العلاقة
بصيغتها الرباعيّة سنّةً
من سنن التاريخ، كيف؟
أنحاء الصيغة
الرباعيّة
هذه الصيغة الرباعية
عرضها القرآن الكريم على
نحوين:
1 ـ عرضها تارةً بوصفها
فاعليّةً ربانيّةً، من
زاوية دور الله سبحانه
وتعالى في العطاء؛ وهذا
هو العرض الذي قرأناه
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً﴾.
هذه العلاقة الرباعيّة
معروضةٌ في هذا النصّ
الشريف باعتبارها عطاءً
من الله، جعلاً من الله،
يمثّل الدور الايجابيّ
والتكريميّ من ربّ
العالمين للإنسان.
2 ـ وعرض الصيغة
الرباعيّة نفسها من زاويةٍ
أخرى؛ عرضها بوصفها وبنحو
ارتباطها مع الإنسان، بما
هي أمرٌ يتقبّله الإنسان،
عرضها من زاويةِ تقبّل
الإنسان لهذه الخلافة،
وذلك في قوله سبحانه
وتعالى ﴿إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ
أَن يَحْمِلْنَهَا
وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ
إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا
جَهُولًا﴾7.
العرض التكوينيّ
للأمانة
الأمانة هي الوجه
التقبّليّ للخلافة.
والخلافة هي الوجه
الفاعليّ والعطائيّ
للأمانة. الأمانة
والخلافة عبارةٌ عن
الاستخلاف والاستئمان
وتحمّل الأعباء،
عبارة عن الصيغة
الرباعيّة. هذه
الصيغة الرباعيّة
تارةً نلحظها من
زاوية ربطها بالفاعل
وهو الله سبحانه
وتعالى، فيأتي قوله
﴿وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾،
وأخرى نلحظها من
زاوية القابل كما
يقول الفلاسفة، من
ناحية دور الإنسان في
تقبل هذه الخلافة
وتحمّل هذه الأمانة،
فيأتي قوله سبحانه
وتعالى ﴿إنَّا
عَرَضْنَا
الْأَمَانَةَ عَلَى
السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ
وَالْجِبَالِ...﴾
وهذه الأمانة التي
تقبّلها الإنسان،
وتحمّلها الإنسان،
عُرضت على الإنسان
فتقبّلها الإنسان
بنفس هذه الآية
الكريمة. هذه الأمانة
أو هذه الخلافة، أو
بالتعبير الذي قلناه؛
هذه العلاقة
الاجتماعيّة بصيغتها
الرباعية، هذه لم
تُعرض على الإنسان في
هذه الآية بوصفها
تكليفاً أو طلباً،
ليس المقصود من عرضها
على
الإنسان هو العرض على مستوى
التكليف والطلب، وليس
المقصود من تقبّل الأمانة
هو تقبّل هذه الخلافة على
مستوى الامتثال والطاعة،
ليس المقصود أن يكون هكذا
العرض، وأن يكون هكذا
التقبّل، بقرينة أنّ هذا
العرض كان معروضاً على
السماوات والأرض والجبال
أيضاً، فمن الواضح أنّه
لا معنى لتكليف السماوات
والجبال، من ذلك نستنتج
أنّه عرضٌ تكوينيٌّ لا
عرضٌ تشريعيٌّ. هذا العرض
معناه أنّ هذه العطيّة
الربانيّة كانت تفتّش عن
الموضع القابل لها في
الطبيعة، الموضع المنسجم
معها بطبيعته، بفطرته،
بتركيبه التاريخيّ
والكونيّ، الجبال لا
تنسجم مع هذه الخلافة،
السماوات والأرض لا تنسجم
مع هذه العلاقة
الاجتماعيّة الرباعيّة،
الكائن الوحيد، الذي بحكم
تركيبه، بحكم بنيته، بحكم
فطرة الله التي قرأناها
في الآية السابقة، كان
منسجماً مع هذه العلاقة
الاجتماعيّة ذات الأطراف
الأربعة، التي بها تصبح
أمانةً، تصبح خلافةً.
إذاً العرض هنا عرضٌ
تكوينيٌّ، والقبول هنا
قبولٌ
تكوينيٌّ، وهو معنى سنّة
التاريخ، يعني أنّ هذه
العلاقة الاجتماعيّة ذات
الأطراف الأربعة، داخلةٌ
في تكوينيّة الإنسان، وفي
تركيب مسار الإنسان
الطبيعيّ والتاريخيّ.
تحدّي الأمانة
ونلاحظ أنّه في هذه الآية
الكريمة أيضاً، جاءت
الإشارة إلى هويّة هذه
السنّة التاريخيّة،
وأنّها سنّةٌ من الشكل
الثالث، سنّةٌ تقبل
التحدّي وتقبل العصيان،
ليست من تلك السُنن التي
لا تقبل التحدّي أبداً
ولو لحظةً، لا.. هي سنّةٌ،
هي فطرةٌ ولكن هذه الفطرة
تقبل التحدّي.
كيف أشار القرآن الكريم
إلى ذلك بعد أن وضّح
أنّها سنّةٌ من سُنن
التاريخ؟ قال: ﴿وَحَمَلَهَا
الْأِنْسَانُ إِنَّهُ
كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾.
هذه العبارة الأخيرة
﴿إِنَّهُ
كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾
تأكيدٌ على طابع هذه
السنّة، وأنّ هذه السنّة
على الرغم من أنّها سنّةٌ
من سُنن التاريخ، ولكنّها
تقبل التحدّي، تقبل أن
يقف
الإنسان منها موقفاً
سلبيّاً. هذا التعبير
يوازي تعبير ﴿وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ﴾8
في الآية السابقة.
نتائج من الآيتين
إذاً الآية السابقة
استخلصنا منها: أنّ الدين
سنّةٌ من سُنن الحياة،
ومن سُنن التاريخ.
ومن هذه الآية نستخلص: أنّ
صيغة الدين للحياة، التي
هي عبارةٌ عن العلاقة
الاجتماعيّة الرباعيّة،
العلاقة الاجتماعيّة ذات
الأطراف الأربعة، التي
يسمّيها القرآن بالخلافة
والأمانة والاستخلاف، هذه
العلاقة الاجتماعيّة، هي
أيضاً بدورها سُنّةٌ من
سُنن التاريخ بحسب مفهوم
القرآن الكريم.
فالحقيقة أنّ الآية
الأولى، والآية الثانية،
متطابقتان تماماً في
مفادهما، لأنّه في الآية
السابقة قال ﴿فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾9.
التعبير بالدين القيّم
تأكيدٌ على أنّ ما هو
الفطرة، وما هو داخلٌ في
تكوين الإنسان وتركيبه،
وفي مسار تاريخه هو الدين
القيّم، يعني أن يكون هذا
الدين قيّماً على الحياة،
أن يكون مهيمناً على
الحياة. هذه القيوميّة في
الدين، هي التعبير المجمل
في تلك الآية عن العلاقة
الاجتماعيّة الرباعيّة،
التي طرحت في الآيتين، في
آية ﴿فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾،
وآية ﴿إِنَّا
عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ
عَلَى السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ...﴾.
إذاً، فالدين سنّة الحياة
والتاريخ، والدين هو
الدين القيّم، والدين
القيّم هو العلاقة
الاجتماعيّة الرباعيّة
الأطراف، التي يدخل فيها
الله بُعداً رابعاً، لكي
يحدث تغييراً في بُنية
هذه العلاقة، لا لكي تكون
مجرّد إضافةٍ عدديّةٍ.
*عناصر المجتمع، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- تقدم الشكل
الثالث بأنه شكل الإتجاه الطبيعي لا أنه قانون صارم، و الإتجاه يمكن تحديه، بينما
القانون لا يقبل التحدي أبداً.
2- الشورى:13.
3- الروم: 30.
4- الروم:30
5- البقرة:29و30.
6- (أي في المقابل) الصيغة الإجتماعية الرباعية الأطراف. التي صاغها القرآن الكريم
تحت اسم الاستخلاف.ترتبط بوجهة النظر المعينة للحياة و الكون.
7- الاحزاب: 72.
8- الروم:30.
9- الروم:30.