يتم التحميل...

الرسول والرسالة

فكر الشهيد الصدر

بداية لا بُدّ من التطرّق إلى تمهيد موجز، نُبيّن فيه أهميّة الظاهرة العامّة للنبوّة وضرورتها في حياة الإنسان، ومن ثُمّ نستعرض الدليل الاستقرائيّ الّذي يُثبت نبوّة الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

عدد الزوار: 99

 المبحث الأوّل- الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:
بداية لا بُدّ من التطرّق إلى تمهيد موجز، نُبيّن فيه أهميّة الظاهرة العامّة للنبوّة وضرورتها في حياة الإنسان، ومن ثُمّ نستعرض الدليل الاستقرائيّ الّذي يُثبت نبوّة الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

أوّلاً: تمهيد عن الظاهرة العامّة للنبوّة:
كلّ شي‏ء في هذا الكون الواسع يحمل معه قانونه الربّانيّ الصارم، الّذي يوجّهه ويرتفع به مدى ما يُتاح له من ارتفاع وتطوّر. فالبذرة يتحكّم فيها قانونها الّذي يُحوّلها ضمن شروط معيّنة إلى شجرة، والنطفة يتحكّم فيها قانونها الّذي يُطوِّرها إلى إنسان.. وهكذا، كلّ الكائنات والظواهر تسير وفق خطّة وتتطوّر وفق إمكاناتها الخاصّة... وهذا ما أثبته الاستقراء العلميّ.

وقد تكون أهمّ ظاهرة في الكون، هي ظاهرة الاختيار لدى الإنسان، الّذي يعمل من أجل هدف يتوخّى تحقيقه بذلك العمل، فمثلاً: يطهو الطعام من أجل أنْ يأكل طعاماً لذيذاً. بينما الكائنات الطبيعيّة البحتة، تعمل من أجل أهداف مرسومة، من قِبَل واضع الخطّة، لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخّى تحقيقها، فعلى سبيل المثال: الرئة، والمعدة، والأعصاب في ممارسة وظائفها الفسيولوجيّة تعمل عملاً هادفاً، ولكنّ الهدف هنا لا تعيشه هي من خلال نشاطها الطبيعيّ والفسيولوجيّ الخاصّ، وإنّما هو هدف الصانع الخبير.

إذاً الإنسان هو كائن حرّ مختار في تحقيق أهدافه وفقاً لما تتطلّبه حاجاته ومصلحته، لذا يسعى إلى تحقيقها أو إيجادها. ولكن كثيراً ما تتعارض مصالح الفرد ومصالح الجماعة، وهذه الأخيرة هي شرط ضروريّ لاستقرار الحياة ونجاحها على المدى الطويل.

وعلى هذا الأساس واجه الإنسان تناقضاً بين ما تفرضه سنَّة الحيّاة واستقرارها من اهتمام بمصالح الجماعة، وما تدعو إليه نوازعه الفرديّة والشخصيّة الآنيّة.
فكان لا بدّ من صيغة تحلّ هذا التناقض وتخلق الظروف الموضوعيّة الّتي تدعو إلى تحرّك الإنسان وفق مصالح الجماعة.

والنبوّة بوصفها ظاهرة ربّانيّة في حياة الإنسان هي القانون الذي وضع صيغة الحل هذه بتحويل مصالح الجماعة وكل المصالح الكبرى التي تتجاوز الخطّ القصير لحياة الإنسان إلى مصالح للفرد على خطه الطويل، وذلك عن طريق إشعاره بالامتداد بعد الموت والانتقال إلى ساحة العدل والجزاء التي يحشر الناس فيها ليروا أعمالهم ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه1 وبذلك تعود مصالح الجماعة مصالح للفرد نفسه على هذا الخط الطويل.

وصيغة الحلّ هذه تتألّف من نظريّة وممارسة تربوية معيّنة للإنسان على أساسها، والنظريّة هي المعاد يوم القيامة والممارسة التربويّة على هذه النظريّة عمليّة قياديّة ربّانيّة ولا يُمكن إلّا أن تكون ربانيّة لأنّها عمليّة تعتمد على اليوم الآخر أي على الغيب فلا توجد إلّا بوحي السماء وهي النبوّة.

ومن هنا كانت النبوّة والمعاد واجهتين لصيغة واحدة، هي الحلّ الوحيد لذلك التناقض الشامل في حياة الإنسان، وتُشكّل الشرط الأساس لتنمية ظاهرة الاختيار وتطويرها في خدمة المصالح الحقيقيّة للإنسان.

ثانياً: إثبات نبوّة الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:
كما ثبت وجود الصانع الحكيم بالدليل العلميّ الاستقرائيّ ومناهجه التطبيقيّة، كذلك ثبتت نبوّة الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك ضمن الخطوات الأربع التّالية:
الأولى: إنّ هذا الشخص، الّذي أعلن رسالته على العالَم باسم السماء، ينتسب إلى شبه الجزيرة العربيّة، الّتي كانت من أشدّ أجزاء الأرض تخلّفاً في ذلك الحين من الناحية الحضاريّة، والفكريّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة. بل كانت- أكثر من ذلك- منغمسة في الشرك والوثنيّة، ومفكّكة اجتماعيّاً، وتُسيطر عليها عقليّة العشيرة، وتُعاني ألواناً من الغزو والصراع القبَليّ.

وحتّى القراءة والكتابة بوصفهما أبسط أشكال الثقافة، كانا حالة نادرة نسبيّاً في تلك البيئة، إذ كان المجتمع أمّيّاً على العموم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِين2.

وكان شخص النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُمثّل الحالة الاعتياديّة من هذه الناحية، فلم يكن قبل البعثة يقرأ ويكتب، ولم يتلقَّ أيّ تعليم منظّم، أو غير منظّم، لذا لم يكن مطّلعاً حتّى على النصوص الدينيّة اليهوديّة أو النصرانيّة: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ3.

بل نُلاحظ أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عاش أربعين سنة قبل البعثة بين قومه، فلم يُساهم طوال تلك الفترة الطويلة في أيّ نشاط ثقافيّ كان شائعاً في قومه، من شعر وخطابة، ولم تبرز في حياته أيّ بذور عمليّة جادّة تنحو باتّجاه التغيير الكبرى، الّتي طلع بها على العالَم فجأة بعد أربعين عاماً من عمره الشريف.

﴿قُل لَّوْ شَاء اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ4.
نعم ما كان يُميّز النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن أبناء قومه التزاماته الخُلقيّة، وأمانته، ونزاهته وصدقه، وعفّته.

الثانية: إنّ الرسالة الّتي طلع بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على العالَم، متمثّلة في القرآن الكريم، والشريعة الإسلاميّة، تميّزت بخصائص كثيرة، منها ما يلي:

أ- أنّها جاءت بنمط فريد من الثقافة الإلهيّة عن الله سبحانه وتعالى، وصفاته، وعلمه، وقدرته، ونوع العلاقات بينه وبين الإنسان، ودور الأنبياء في هداية البشريّة، وغير ذلك.

وهذه الثقافة الإلهيّة لم تكن أكبر من الوضع الفكريّ والدينيّ لمجتمع وثنيّ منغمس في عبادة الأصنام فحسب، بل كانت أكبر من كلّ الثقافات الدينيّة الّتي عرفها العالَم يومئذٍ، حتّى إنّها جاءت لتُصحّح ما في تلك الثقافات الدينيّة من أخطاء وانحراف، وتُعيدها إلى حكم الفطرة والعقل السليم.

وقد جاء كلّ ذلك على يد إنسان أمّيّ، في مجتمع وثنيّ شبه معزول، لا يعرف من ثقافة عصره وكتبه الدينيّة شيئاً يُذكر، فضلاً عن أن يكون بمستوى القيمومة والتصحيح والتطوير.

ب- أنّها جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة، والإنسان، والعمل، والعلاقات الاجتماعيّة. وجسّدت تلك القيم والمفاهيم، في تشريعات وأحكام، لتُقدّم بذلك- حتّى من وجهة نظر من لا يؤمن بربّانيّتها- أنفس وأروع ما عرفه تأريخ الإنسان، من قيم حضاريّة وتشريعات اجتماعيّة.

فابن مجتمع القبيلة ظهر على مسرح العالَم والتاريخ فجأة لينادي بوحدة البشريّة ككلّ، وابن البيئة التي كرّست ألواناً من التمييز والتفضيل على أساس العرق والنسب والوضع الاجتماعي ظهر ليحطِّم كلّ تلك الألوان ويعلن أنّ الناس سواسية كأسنان المشط و﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ5 وليحوِّل هذا الإعلان إلى حقيقة يعيشها الناس أنفسهم، ويرفع المرأة الموءودة إلى مركزها الكريم كإنسان تكافئ الرجل في الإنسانيّة والكرامة.

وابن الصحراء الّتي لم تكن إلّا في همومها الصغيرة وسدّ جوعتها والتفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشائري ظهر ليقودها إلى حمل أكبر الهموم ويوحِّدها في معركة تحرير العالم وإنقاذ المظلومين في شرق الدنيا وغربها من استبداد كسرى وقيصر.

وابن ذلك الفراغ الشامل سياسيّاً واقتصاديّاً بكلّ ما يضجّ به من تناقضات الربا والاحتكار والاستغلال ظهر فجأة ليملأ ذلك الفراغ ويجعل من ذلك المجتمع الفارغ مجتمعاً ممتلئاً له نظامه في الحكم وشريعته في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ويقضي على الربا والاحتكار والاستغلال، ويعيد توزيع الثروة على أساس أن لا تكون دولة بين الأغنياء، ويعلن مبادئ التكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي التي لم تناد بها التجربة البشريّة إلّا بعد ذلك بمئات السنين.

كلّ هذه التحوّلات الكبيرة، تمّت في مدّة قصيرة جدّاً نسبيّاً في حساب التحوّلات الاجتماعيّة الكبرى.

الثالثة:
في هذه الخطوة نؤكّد على دور الاستقراء العلميّ وأهميّته في دراسة تأريخ المجتمعات، حيث يتبيّن لنا من خلاله أنّ رسالة الإسلام بتلك الخصائص- الّتي ذكرناها في الخطوة الثانية- هي أكبر بدرجة هائلة من الظروف والعوامل الّتي مرّ استعراضها في الخطوة الأولى.

فإنّ تأريخ المجتمعات- طبقاً للاستقراء العلميّ- وإن كان قد شهد في حالات كثيرة إنساناً يبرز على صعيد مجتمعه، فيقوده ويسير به خطوة إلى الأمام، غير أنّنا هنا لا نواجه حالة من تلك الحالات، لوجود فوارق كبيرة، منها:

أ- من ناحية أولى نحن نواجه هنا طفرة هائلة، وتطوّراً شاملاً، وانقلاباً كاملاً في المفاهيم والقيم الّتي تتّصل بمختلف مجالات الحياة إلى الأفضل والأحسن، بدلاً عن مجرّد خطوة إلى الأمام.

ب- ومن ناحية أخرى، إنّ دراسة مقارنة لتأريخ عمليّات التطوّر الشاملة في مختلف المجتمعات، يوضح أنّ كلّ مجتمع يبدأ فيه هذا التطوّر فكريّاً، وعلى شكل بذور متفرّقة في أرضيّة ذلك المجتمع، ثمّ تتلاقى هذه البذور، فتكوّن تيّاراً فكريّاً، وتتحدّد بالتدريج معالم هذا التيار، وتنضج في داخله القيادة الّتي تتزعّمه، حتّى يبرز على المسرح الاجتماعيّ والسياسيّ كواجهة تناقض الواجهة الرسميّة الّتي يحملها المجتمع، ومن خلال الصراع يتّسع هذا التيّار حتّى يُسيطر على الموقف.

وخلافاً لذلك نجد أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تأريخ الرسالة الجديدة لم يكن حلقة من سلسلة، ولم يكن يُمثّل جزءاً من تيّار، ولم تكن للأفكار والقيم والمفاهيم الّتي جاء بها بذور أو رصيد في أرضيّة المجتمع الّذي نشأ فيه.

الرابعة:
وعلى ضوء ذلك كلّه ننتهي إلى هذه الخطوة، الّتي نواجه فيها التفسير الوحيد، والمعقول، والمقبول للموقف، وهو افتراض عامل إضافيّ، وراء الظروف والعوامل المحسوسة، وهو عامل روحيّ، يُمثّل تدخّل السماء في توجيه الأرض: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ6.

طبعاً، لا يعني تفسير الرسالة على أساس الوحي، والإمداد من السماء، بدلاً عن العوامل والظروف المحسوسة، إلغاء هذه العوامل والظروف عن التأثير نهائيّاً، بل إنّها مؤثّرة
وفقاً للسنن الكونيّة والاجتماعيّة العامّة، ولكنّ تأثيرها إنّما هو في سير الأحداث وتفسيرها، ومدى ما ينجم عنها من مؤثّرات لصالح نجاح الرسالة، أو لإعاقتها عن النجاح. فمثلاً: الظلم والتعسّف الّذي كان يعيشه المجتمع العربيّ- آنذاك- قد دفعه إلى تأييد الرسالة المحمّديّة الجديدة، الّتي رفعت راية العدالة.

المبحث الثاني- الرسالة الإسلاميّة:
أمّا الرسالة الإسلاميّة، وهي دين الله تعالى الّذي بُعث به محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، فقد استهدفت قبل كلّ شي‏ء ربط الإنسان- من ناحية- بالإله الواحد الحقّ، الّذي تُشير إليه الفطرة، لكي يقضي على كلّ ألوان التألّه المصطنع.

ولمّا كانت النبوّة هي الوسيط الوحيد المباشر بين الخلق والخالق فشهادة هذه النبوّة بوحدة الإله والخالق وارتباطها بالإله الواحد الحق تعتبر أساساً كافياً لإثبات التوحيد. ومن ناحية أخرى ربط الإنسان بالمعاد، لكي تكتمل بذلك الصيغة الوحيدة القادرة على علاج التناقض بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، والتي تُحقِّق العدل الإلهي في نفس الوقت.

خصائص الرسالة الإسلاميّة:
للرسالة الإسلاميّة خصائصها، الّتي تُميّزها عن سائر رسالات السماء الّتي جعلت منها حدثاً فريداً في التأريخ، نذكر منها ما يلي بإيجاز:

1- إنّ هذه الرسالة ظلّت سليمة ضمن النصّ القرآنيّ، دون أن تتعرّض لأيّ تحريف، لأنّه شرط ضروريّ لقدرة هذه الرسالة على مواصلة أهدافها، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ7 بينما مُنيت الكتب السماويّة السابقة بالتحريف، وأُفرغت من كثير من محتواها.

واحتفاظ الرسالة بمحتواها العقائدي والتشريعي هو الّذي يُمكِّنها من مواصلة دورها التربوي، وكلّ رسالة تفرغ من محتواها بالتحريف والضياع لا تصلح أداة ربط بين الإنسان وربّه، لأنّ هذا الربط لا يتحقّق بمجرّد الانتماء الإسمي بل بالتفاعل مع محتوى الرسالة وتجسيدها فكراً وسلوكاً، ومن أجل ذلك كانت سلامة الرسالة الإسلاميّة بسلامة النصّ القرآني الشرط الضروري لقدرة هذه الرسالة على موصالة أهدافها.

2- إنّ بقاء القرآن نصّاً وروحاً، يعني أنّ نبوّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لم تفقد أهمّ وسيلة من وسائل إثباتها، وخلافاً لتلك النبوّات الّتي يرتبط إثباتها بوقائع محدّدة زمانيّاً ومكانيّاً "إبراء الأكمه والأبرص مثلاً"، فهي وقائع لا يشهدها عادة إلّا المعاصرون لها، وبمرور الزمن تفقد شهودها الأوائل، ويعجز الإنسان غالباً عن الحصول على أيّ تأكيد حاسم لها، لذا نحن اليوم نعتمد في إيماننا بالأنبياء السابقين عليهم السلام وبمعاجزهم، على إخبار القرآن الكريم بذلك.

3- إنّ مرور الزمن ـ كما عرفنا- لا يُنقص من قيمة الدليل الأساس على الرسالة الإسلاميّة، بل إنه أيضاً يمنح هذا الدليل- أي القرآن الكريم- أبعاداً جديدة، من خلال تطوّر المعرفة البشريّة، واتّجاه الإنسان إلى دراسة الكون بأساليب العِلم والتجربة، وليس ذلك فقط لأنّ القرآن الكريم سبق إلى الاتّجاه نفسه، وربط الأدلّة على الصانع الحكيم بدراسة الكون والتعمّق في ظواهره، ونبّه الإنسان إلى ما في هذه الدراسة من أسرار ومكاسب، بل لأنّ الإنسان الحديث يجد اليوم في ذلك الكتاب المبين الّذي بشّر به رجل أمّيّ في بيئة جاهليّة قبل مئات السنين، إشارات واضحة إلى ما كشف عنه العِلم الحديث، حتى لقد قال المستشرق الانجليزي (اجنيري) استاذ اللغة العربيّة في جامعة أكسفورد عندما اكتشف العلم دور الرياح في التلقيح أنّ أصحاب الإبل قد عرفوا أنّ الريح تلقّح الأشحار والثمار قبل أن يتوصّل العلم في أوروبا إلى ذلك بعدّة قرون8.

4- إنّ هذه الرسالة جاءت شاملة لكلّ جوانب الحياة، وعلى هذا الأساس استطاعت أن توازن بين تلك الجوانب المختلفة، وتوحّد أسسها وتجمع في إطار صيغة كاملة بين الجامع والجامعة، والمعمل والحقل. ولم يعد الإنسان يعيش حالة الانشطار بين حياته الروحيّة وحياته الدنيويّة.

5- إنّ هذه الرسالة هي الرسالة السماويّة الوحيدة التي طبّقت على يد الرسول الّذي جاء بها وسجّلت في مجال التطبيق نجاحاً باهراً واستطاعت أن تحوّل الشعارات الّتي أعلنتها إلى حقائق في الحياة اليوميّة للناس.

6- إنّ هذه الرسالة بنزولها إلى مرحلة التطبيق دخلت التاريخ وساهمت في صنعه، إذ كانت هي حجر الزاوية في عمليّة بناء أمّة حملت تلك الرسالة واستنارت بهداها، ولمّا كانت هذه الرسالة ربّانيّة وتُمثّل عطاء سماويّاً للأرض فوق منطق العوامل والمؤثِّرات المحسوسة، نتج عن ذلك ارتباط تاريخ هذه الأمّة بعامل غيبي وأساس غير منظور لا يخضع للحسابات المادّيّة للتاريخ.

ومن هنا كان من الخطا أن نفهم تاريخنا ضمن إطار العوامل والمؤثّرات الحسيّة فقط أو أن نعتبره حصيلة ظروف مادّيّة أو تطوّر في قوى الإنتاج، فإنّ هذا الفهم المادّي للتاريخ لا ينطبق على أمّة بُني وجودها على أساس رسالة السماء، وما لم نُدخل هذه الرسالة في الحساب كحقيقة ربّانيّة لا يُمكن أن نفهم تاريخها.

7- إنّ هذه الرسالة لم يقتصر أثرها على بناء هذه الأمّة، بل امتدّ من خلالها ليكون قوّة مؤثّرة وفاعلة في العالَم كلّه، على مسار التأريخ، ولا يزال المنصفون من الباحثين الأوروبيّين يعترفون بأنّ الدفعة الحضاريّة للإسلام هي الّتي حرّكت شعوب أوروبا الغارقة في سباتها، ونبّهتها إلى الطريق.

8- إنّ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الّذي جاء بهذه الرسالة تميّز عن جميع الأنبياء الذين سبقوه بتقديم رسالته بوصفها آخر أطروحة ربّانيّة، وبهذا أعلن أنّ نبوّته هي النبوّة الخاتمة.

وفكرة النبوّة الخاتمة لها مدلولان، أحدهما: سلبيّ وهو المدلول الّذي ينفي ظهور نبوّة أخرى على المسرح، والآخر: إيجابي وهو المدلول الّذي يؤكّد استمرار النبوّة الخاتمة وامتدادها مع العصور.

وحينما نلاحظ المدلول السلبي للنبوّة الخاتمة نجد أنّ هذا المدلول قد انطبق على الواقع تماماً خلال الأربعة عشر قرناً الّتي تلت ظهور الإسلام، وسيظلّ منطبقاً على الواقع مهما امتدّ الزمن، غير أنّ عدم ظهور نبوّة أخرى على مسرح التاريخ ليس لأنّ النبوّة تخلّت عن دورها كأساس من أسس الحضارة الإنسانيّة، بل لأنّ النبوّة الخاتمة جاءت بالرسالة الوريثة لكلّ ما يُعبّر عنه تاريخ النبوّات من رسالات والمشتملة على كلّ ما في تلك النبوّات والرسالات من قيم ثابتة دون ما لابسها من قيم مرحليّة وبهذا كانت هي الرسالة المهيمنة القادرة على الاستمرار مع الزمن وكلّ ما يحمل من عوامل التطوّر والتجديد. ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ9.

9- قد اقتضت الحكمة الربّانيّة، الّتي ختمت النبوّة بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم، أن تعدّ له أوصياء يقومون بأعباء الإمامة والخلافة بعد اختتام النبوّة. وهم اثنا عشر إماماً، قد جاء النصّ على عددهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث صحيحة اتفق المسلمون على روايتها، أولهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وبعده الحسن ثم الحسين وتسعة من آله على الترتيب التالي عليّ بن الحسين السجّاد ثمّ محمّد بن عليّ الباقر ثمّ جعفر بن محمّد الصادق ثمّ موسى بن جعفر الكاظم ثمّ عليّ بن موسى الرضا ثمّ محمّد بن عليّ الجواد ثمّ عليّ بن محمّد الهادي ثمّ الحسن بن عليّ العسكريّ ثمّ محمّد بن الحسن المهدي (عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه).

10- ومع غيبة الإمام الثاني عشر الحجّة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، أرجع الإسلام النّاس إلى الفقهاء، وفتح باب الاجتهاد، ليبذلوا الجهد في استنباط الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسُّنة. وقد ترجم ذلك من خلال تدوين الرسائل العمليّة والعلميّة- الّتي بين أيدينا اليوم- الّتي يؤلّفها ويكتبها مراجعنا العظام، رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين حتّى ظهور الإمام الحجّة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين

*الرسول والرسالة، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- سورة الزلزلة، الآيتان: 7-8.
2-سورة الجمعة، الآية: 2.
3-سورة العنكبوت، الآية: 48.
4-سورة يونس، الآية: 15.
5-سورة الحجرات، الآية: 13.
6-سورة الشورى، الآية: 52.
7-سورة الحجر، الآية: 9.
8-يشير بذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ سورة الحجر، الآية 22.
9-سورة المائدة، الآية: 48.

2014-12-17