يتم التحميل...

المثل العليا

فكر الشهيد الصدر

المثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخليّ للجماعة البشريّة، وهو يتحدّد من قبل كلّ جماعةٍ بشريّةٍ على أساس وجهة نظرها العامّة نحو الحياة والكون، ومن خلال الطاقة الروحيّة التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى تحقّق إرادتها للسير نحو هذا المثل.

عدد الزوار: 81

اختيار الأمم لمثلها الأعلى

المثل الأعلى هو نقطة البدء في بناء المحتوى الداخليّ للجماعة البشريّة، وهو يتحدّد من قبل كلّ جماعةٍ بشريّةٍ على أساس وجهة نظرها العامّة نحو الحياة والكون، ومن خلال الطاقة الروحيّة التي تتناسب مع ذلك المثل الأعلى تحقّق إرادتها للسير نحو هذا المثل.

وكلّ جماعةٍ اختارت مثلها الأعلى، فقد اختارت في الحقيقة سبيلها ومنعطفات هذا السبيل.

إنّ الحركة التاريخيّة تتميّز عن أيّ حركةٍ أخرى في الكون بأنّها حركةٌ غائيّةٌ، حركةٌ هادفةٌ، كذلك تتميّز وتتمايز الحركات التاريخيّة أنفسها، بعضها عن بعض بمثلها العليا، وهذا المثل الأعلى هو الذي يحدّد الغايات والأهداف، وهذه الأهداف والغايات هي التي تحدّد النشاطات والتحرّكات ضمن مسار ذلك المثل الأعلى.

المثل الأعلى في القرآن الكريم

يُطلق القرآن الكريم على المثل الأعلى في جملةٍ من الحالات اسم الإله، باعتبار أنّ المثل الأعلى هو القائد الآمر المطاع الموجّه، وهذا صفات يراها القرآن للإله، لأنّه هو الذي يصنع مسار التاريخ، حتى ورد في قوله سبحانه وتعالى ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ1، حيث عبّر عن الهوى بأنّه إله، حينما يتصاعد هذا الهوى تصاعداً مصطنعاً، فيصبح هو المثل الأعلى، وهو الغاية القصوى لهذا الفرد أو لذاك. فالمُثل العُليا هي آلهةٌ في الحقيقة، لأنّها هي المعبودة حقّاً.


أقسام المُثل العليا

المُثل العليا التي تتبنّاها الجماعات البشريّة على ثلاثة أقسام:

القسم الأول، من واقع الجماعة

المثل الأعلى الذي يستمدّ تصوّره من واقع ما تعيشه الجماعة البشريّة من ظروفٍ وملابسات، أي أنّ الوجود الذهنيّ، الذي صاغ المستقبل، لم يستطع أن يرتفع على هذا الواقع.

وحينما يكون المثل الأعلى كذلك يصبح حالةً تكراريّةً، و محاولةً لتجميد هذا الواقع، وحمله إلى المستقبل، بدلاً عن التطلّع إلى المستقبل، و يكون تحويلاً لهذا الواقع من حالةٍ نسبيّةٍ، ومن أمرٍ محدودٍ، إلى حقيقةٍ مطلقةٍ، لا يتصوّر الإنسان شيئاً وراءها، عندها سوف تكون حركة التاريخ حركةً تكراريّةً.


أسباب تبني هذا النوع من المثل العليا


تبني هذا النوع من المثل العليا له أحد سببين:

1 ـ الإلفة والعادة والخمول والضياع

هذا سببٌ نفسيٌّ، إذا انتشرت هذه الحالة النفسيّة، في مجتمعٍ، حينئذٍ يتجمّد ذلك المجتمع، لأنّه سوف يصنع إلهه من واقعه.
وهذا في الحقيقة هو ما عرضه القرآن الكريم في كثيرٍ من الآيات، التي تحدّثت عن المجتمعات التي واجهت الأنبياء، لأنّهم جاؤوا بمُثلٍ عُليا حقيقيّةٍ، ترتفع عن الواقع، وتنتزعه من حدوده النسبيّة إلى وضعٍ آخر فكان هذا المجتمع يردّ على دعوة الأنبياء، ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ2" 3

 2 ـ التسلّط الفرعونيّ

الفراعنة على مرّ التاريخ حينما يحتلّون مراكزهم، يجدون في أيّ تطلّع إلى المستقبل، وفي أيّ تجاوزٍ للواقع الذي سيطروا عليه، زعزعةً لوجودهم. فمن مصلحة فرعون على مرّ التاريخ أن يُغمض عيون الناس على هذا الواقع، ويحوّله إلى مثل أعلى لا يمكن تجاوزه. وهذا السبب اجتماعيٌّ لا نفسيٌ، وخارجيٌّ لا داخليٌّ.

وهذا أيضاً ما عرضه القرآن الكريم ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي4، والقرآن الكريم يسمّي هذا النوع من القوى بالطاغوت. قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ5.

الطابع الديني للمثل العليا

كلّ مَثلٍ أعلى من هذه المُثل العليا المنخفضة، لا ينفكّ عن الثوب الدينيّ، سواء أبرز بشكلٍ صريحٍ، أو لم يبرز، لأنّ المثل الأعلى دائماً يحتلٍّ مركز الإله بحسب التعبير القرآنيّ والإسلاميّ، ودائماً تستبطن علاقةُ الأمّة بمثلها الأعلى نوعاً من العبادة لهذا المثل الأعلى، وليس الدين بشكله العام إلّا علاقة عابدٍ بمعبود.

إلّا أنّ هذه الأديان التي تفرزها هذه المُثل العليا المنخفضة أديانٌ محدودةٌ، تبعاً لمحدوديّة نفس هذه المُثل.


محدوديّة الأديان تبعاً لمحدوديّة المُثل


إنّ الأديان التي يفرزها الإنسان من خلال صنع هذه المُثل، ومن خلال عملقة هذه المُثل وتطويرها من تصوّراتٍ إلى مطلقات، هذه الأديان تكون أدياناً محدودةً ضئيلةً، أديان التجزئة في مقابل دين التوحيد القادر على استيعاب البشريّة بأبعادها، والآلهة التي يفرزها الإنسان بين حينٍ وحين، هي التي يعبّر عنها القرآن الكريم بقوله ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ6، هذا المثل الأعلى الذي هو نتاج بشريّ، لا يمكن أن يكون هو الدين القيّم، لأنّ المسيرة البشريّة لا يمكن أن تخلق إلهها بيدها.


مجتمع المثل المنخفض شبح أمّة

وإذا تقدّمنا خطوةً في تحليل ومراقبة ومشاهدة أوضاع هذه الأمّة، التي تتمسّك بمثلٍ من هذا القبيل، نجد أنّ هذه الأمّة بالتدريج سوف تفقد ولاءها لهذا المَثل أيضاً، لأنّ هذا المَثل بعد أن يفقد فاعليّته وقدرته على العطاء، تفقد هذه البشريّة أو هذه الجماعة بالتدريج ولاءها لهذا المَثل، ومعنى (ذلك) أنّ القاعدة الجماهيريّة الواسعة في هذه الأمّة سوف تتمزّق وحدته، لأنّ وحدة هذه القاعدة إنّما هي بالمثل الواحد، فإذا ضاع المَثل ضاعت هذه القاعدة. وتكون كما وصف القرآن الكريم ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ7، وفي حالةٍ من هذا القبيل لا تبقى أمّةٌ، وإنّما يبقى شبحُ أمّةٍ فقط، وفي ظلّ هذا الشبح سوف ينصرف كلّ فردٍ في هذه الأمّة إلى همومه الصغيرة، لأنّه لا يوجد هناك مَثل أعلى تلتفّ حوله الطاقات.


إجراءات الأمّة الشبح

وقد علّمنا التاريخ أنّه في حالةٍ من هذا القبيل توجد ثلاث إجراءات يمكن أن تنطبق على حالة هذه الأمّة الشبح.

1ـ تداعي الأمّة

تداعي الأمّة أمام غزوٍ عسكريٍّ من الخارج، وهذا ما وقع بالفعل بعد أن فقد المسلمون مَثَلهم الأعلى، وفقدوا ولاءهم لهذا المَثل الأعلى، ووقعوا فريسة غزوِ التتار.

2 ـ الذوبان
الانصهار في مَثَل أعلى أجنبيّ، هذه الأمّة بعد أن فقدت مُثُلها العليا النابعة منها، فإنّها حينئذٍ تفتّش عن مَثَل أعلى من الخارج، لكي تعطيه ولاءها.

3 ـ إعادة المثل الأعلى

أن ينشأ في أعماق هذه الأمّة بذور إعادة المَثل الأعلى من جديد، بمستوى العصر الذي تعيشه تلك الأمّة.

في الإجراء الثاني والثالث، وقفت الأمّة الإسلامية أمامهما على مفترقِ طريقين، حينما دخلت عصر الاستعمار، كان هناك طريقٌ يدعوها إلى الانصهار في مَثَل أعلى من الخارج، هذا الطريق الذي طبّقة جملةٌ من الحكّام في بلاد المسلمين : رضاخان في إيران، وأتاتورك في تركيا، فقد حاول هؤلاء أن يجسّدوا المَثل الأعلى للإنسان الأوروبيّ المنتصر، ويطبّقوا هذا المَثَل الأعلى، ويكسبوا ولاء المسلمين أنفسهم لهذا المَثَل الأعلى، بعد أن ضاع المَثَل الأعلى في داخل المسلمين. بينما أطلق روّاد الفكر الإسلاميّ وروّاد النهضة الإسلاميّة ـ في بدايات عصر الاستعمار، وفي أواخر الفترة التي سبقت عصر الاستعمار ـ جهودهم في سبيل الإجراء الثالث، أي إعادة الحياة إلى الإسلام من جديد، وتقديمه بلغة العصر، وبمستوى حاجات المسلمين.


القسم الثاني، من طموح الأمّة

يعبّر عن كلّ مَثَل أعلى للأمّة يكون مشتقّاً من طموح الأمّة، ومن تطلّعها إلى المستقبل. ولكنّ هذا المَثَل منتزعٌ عن خطوةٍ واحدةٍ من المستقبل، وعن جزءٍ من هذا الطريق الطويل المستقبليّ.


تقييم القسم الثاني
وفي هذا المَثَل الأعلى جانبٌ موضوعيٌّ صحيحٌ، وهو أنّ الإنسان عبر مسيرته الطويلة، لا يمكنه أن يستوعب برؤيته الطريق الطويل كلّه، و لا يمكنه أن يستوعب المطلق لأنّ الذهن البشريّ محدودٌ، ولكن الخطير في هذه المسألة أنّ هذه القبضة التي يقبضها الإنسان من المطلق، يحوّلها إلى مثلٍ أعلى، و إلى مطلقٍ، حينئذٍ هذا المثل الأعلى سوف يهيّئ له إمكانيّات النموّ بقدر ما يمثّل للمستقبل لكن سرعان ما سوف يصل إلى حدود هذا المثل القصوى، وحينئذٍ سوف يتحوّل هذا المثل نفسه إلى عائقٍ عن التطوّر، لأنّه أصبح ديناً، والتعميم فيه تارةً يكون تعميماً أفقيّاً خاطئاً، وأخرى تعميماً زمنيّاً عموديّاً خاطئاً.


التعميم الأفقيّ الخاطئ

أن ينتزع الإنسان من تصوّره المستقبليّ مثلاً، ويعتبر أنّ هذا المثل يضمّ كلّ قيَمِ الإنسان التي يجاهد من أجلها، بينما هذا المثل لا يمثّل إلّا جزءاً من هذه القيم. ومن أمثلته الإنسان الأوروبيّ الحديث في بدايات عصر النهضة الذي جعل الحريّة هدفاً، وهذا صحيحٌ، ولكنّه صيّر من هذا الهدف مثلاً أعلى، بينما هذا الهدف ليس إلّا إطاراً في الحقيقة، وهذا الإطار بحاجةٍ إلى محتوى، وإلى مضمونٍ، وإذا جرّد هذا الإطار عن محتواه سوف يؤدّي إلى الويل والدمار، إلى الويل الذي تواجهه الحضارة الغربيّة اليوم، التي صنعت للبشريّة كلّ وسائل الدمار.


التعميم الزمنيّ الخاطئ


على مرّ التاريخ توجد خطواتٌ ناجحةٌ تاريخيّاً، ولكنّها لا يجوز أن تحوّل من حدودها كخطوةٍ إلى مطلق، و إلى مثلٍ أعلى، لأنّ الخطوة تبقى كأسلوب، ولكن المطلق يبقى هو الله سبحانه وتعالى، وحال هذا الإنسان، الذي يحوّل هذه الرؤية المحدودة من عمر الزمن إلى مطلقٍ، حال الإنسان الذي يتطلّع إلى الأفق فلا تساعده عينه إلّا على النظر إلى مسافةٍ محدودةٍ، فيخيّل له بأنّ الدنيا تنتهي عند الأفق الذي يراه. انظروا إلى التمثيل الرائع في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَاب8. يعبر القرآن عن كلّ هذه المثل المصطنعة من دون الله سبحانه وتعالى بأنّها كبيت العنكبوت، يقول سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ9


المقارنة بين القسمين السابقين من المثل

كثيراً ما تكون تلك المُثل من النوع الأوّل امتداداً للمُثل من النوع الثاني، بأن يبدأ هذا المثل الأعلى مشتقّاً من طموح، لكن حينما يتحقّق هذا الطموح المحدود يتحوّل هذا المثل إلى واقعٍ محدودٍ بحسب الخارج، حينئذٍ يصبح مثلاً تكراريّاً.

المراحل الأربعة التي تمرّ بها الأمّة

في هذه الفترة الزمنيّة تمرّ الأمّة بمراحل في الحقيقة، يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل:

المرحلة الأوّلى، الإبداع والتجديد

فهذا المثل يكون له في المرحلة الأوّلى فاعليّةٌ وعطاءٌ وتجديدٌ، بقدر ما يكون له من ارتباط بالمستقبل، ولكن هذه مكاسبٌ عاجلةٌ، وليست مكاسبَ على الخطّ الطويل، لأنّ عمر هذا المثل قصيرٌ و سوف يتحوّل في لحظةٍ من اللحظات إلى قوّة إبادةٍ لكلّ ما أعطاه من مكاسب. انظروا إلى قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً10.

المرحلة الثانية، التجمد والانقياد

حينما يتجمّد هذا المثل الأعلى و يستنفذ طاقته وقدرته على العطاء، يتحوّل إلى تمثالٍ، والقادة الذين كانوا يعطون ويوجّهون على أساسه يتحوّلون إلى سادة وكبراء، وجمهور الأمّة يتحوّل إلى مطيعين ومنقادين، لا إلى مشاركين في الإبداع والتطوير، وهذه المرحلة هي المرحلة التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا11.

المرحلة الثالثة، امتداد تاريخي


هذه السلطة تتحوّل إلى طبقةٍ، بعد ذلك تتوراث مقاعدها عائليّاً أو طبقيّاً، وحينئذٍ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة، والخالية من الأغراض الكبيرة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ12.

المرحلة الرابعة، تسلّط وتدمير

ثمّ حينما تتفتت الأمّة و تفقد ولاءها لذلك المثل التكراريّ يسيطر عليها مجرموها وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُون13.يسيطر هتلر والنازيّة مثلاً في جزءٍ من أوروبا، لكي يحطّم كلّ ما في أوروبا من خيرٍ، ويقضي على كلّ تبعات ذلك المثل الأعلى، الذي رفعه الإنسان الأوروبيّ الحديث، والذي تحوّل بالتدريج إلى مَثلٍ تكراريّ.
 


القسم الثالث، المثل الأعلى الحقيقي

وهو الله سبحانه وتعالى. وفي هذا المثل، التناقض الذي واجهناه في القسمين السابقين من المثل العليا، سوف يُحلّ بأروع صورةٍ، وحاصل ذاك التناقض أنّ الوجود الذهنيّ للإنسان محدودٌ، والمَثل يجب أن يكون غير محدودٍ، فكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود؟ هذا التنسيق سوف نجده في المَثل الأعلى الحقيقيّ، لأنّه ليس من نتاج الإنسان بل هو مَثلٌ لأنّه مطلقٌ، لكن الإنسان حينما يريد أن يمسك بحزمةٍ من هذا النور، طبعاً هو لا يمسك إلّا بقدرٍ محدودٍ من هذا النور، إلّا أنّه يميّز بين ما يمسك به وبين مثله الأعلى.

ومن هنا حرص الإسلام على التمييز دائماً بين الوجود الذهنيّ وما بين الله سبحانه وتعالى، الذي هو المثل الأعلى، فرّق حتى بين الاسم والمسمّى، وأكّد على أنّه لا يجوز عبادة الاسم، وإنّما العبادة تكون للمسمّى، لأنّه هو المطلق، أمّا الاسم فهو مقيّدٌ ومحدودٌ.

الخلاصة

المثل الأعلى يتّحدد من قبل كلّ جماعةٍ بشريّةٍ على أساس وجهة نظرها العامّة نحو الحياة والكون. وكلّ جماعةٍ اختارت مثلها الأعلى، فقد اختارت سبيلها.
وهذه المُثل العليا التي تتبنّاها الجماعات البشريّة على ثلاثة أقسام :

القسم الأول: المثل الأعلى الذي يستمدّ تصوّره من الواقع نفسه، بحدوده وقيوده وشؤونه. وحينما يكون كذلك يصبح حالةً تكراريّةً، ويكون المستقبل تكراراً للواقع وللماضي. ويرجع تبنّي هذا القسم إلى سببين:

1- سببٌ نفسي ،
وهو الألفة والعادة والضياع.

2- سببٌ خارجي ، وهو تسلّط الفراعنة والطواغيت على مرّ التاريخ.

كلّ مَثلٍ أعلى من المُثل العليا المنخفضة، لا ينفكّ عن الثوب الدينيّ، لأنّ المثل الأعلى دائماً يحتلّ مركز الإله بحسب التعبير القرآنيّ.

وعند تحليل ومراقبة أوضاع الأمة التي تتمسّك بمثلٍ منخفض، نجد أنّها بالتدريج سوف تفقد ولاءها لهذا المَثل، بعد أن يفقد فاعليّته وقدرته على العطاء، وعندها فإن القاعدة الجماهيريّة الواسعة في هذه الأمّة سوف تتمزّق14 وتتحوّل إلى شبحُ أمّةٍ فقط، عندها سوف ينصرف كلّ فردٍ إلى همومه الصغيرة، لأنّه لا يوجد هناك مَثل أعلى تلتفّ حوله الطاقات.

وقد علّمنا التاريخ أنّه في حالةٍ من هذا القبيل توجد ثلاث إجراءات يمكن أن تنطبق على حالة هذه الأمّة الشبح :
1ـ تداعي الأمّة أمام غزوٍ عسكريٍّ من الخارج.
2 ـ الذوبان والانصهار في مَثَل أعلى أجنبيّ.
3 ـ إعادة المثل الأعلى من جديد، بمستوى العصر الذي تعيشه تلك الأمّة.

القسم الثاني: هو المثل الذي يكون مشتقّاً من طموح الأمّة ومن تطلّعها إلى المستقبل. ولكنّه منتزع عن خطوةٍ واحدةٍ من المستقبل لذلك كان طموحاً محدوداً ومقيّداً لم يستطيع أن يتجاوز المسافات الطويلة.

وفي هذا المَثَل الأعلى جانبٌ موضوعيٌّ صحيحٌ وهو أن الذهن البشريّ محدودٌ، و المحدود لا يمكن أن يستوعب المطلق، ولكن الخطير في هذه المسألة أنّ هذه الومضة من النور التي يقبضها من هذا المطلق، يحوّلها إلى مطلقٍ وإلى مثلٍ أعلى، وحينئذٍ هذا المثل سوف يخدمه في المرحلة الحاضرة، لكن سرعان ما سوف يصل إلى حدود هذا المثل القصوى، وحينئذٍ سوف يتحوّل هذا المثل إلى عائقٍ عن التطوّر.

وهذا المثل الذي يحوّل من محدود إلى مطلقٍ، التعميم فيه تارةً يكون تعميماً أفقيّاً خاطئ، عبر اعتبار هذا المثل أنه يضمّ كلّ قيَمِ الإنسان التي يجاهد من أجله، بينما هذا المثل، على الرغم من صحّته، غير أنّه لا يمثّل إلّا جزءاً من هذه القيم. وأخرى تعميماً زمنيّاً وعموديّاً عبر تحويل خطوة ناجحةٍ تاريخيّاً، من حدودها كخطوةٍ، إلى مطلق وإلى مثلٍ أعلى، فيجب أن تكون ممارسةُ تلك الخطوة ضمن المثل الأعلى، لا أن تُحوّل نفسها إلى مثلٍ أعلى.

إذا قارنا بين هذين النوعين من المُثل العليا نلاحظ أنّ المُثل من النوع الأوّل امتداداً للمُثل من النوع الثاني، بأن يبدأ هذا المثل الأعلى مشتقّاً من طموح، لكن حينما يتحقّق هذا الطموح المحدود يتحوّل هذا المثل إلى واقعٍ محدودٍ بحسب الخارج، حينئذٍ يصبح مثلاً تكراريّاً.

في هذه الفترة الزمنيّة تمرّ الأمّة بمراحل، يمكن تلخيصها في أربعة مراحل:

1- الإبداع والتجديد:
هي مرحلة فاعليّة هذا المثل، وسوف تؤدّي إلى مكاسب، ولكنّها في النظر القرآني العميق مكاسب عاجلة تعقبها جهنّم في الدنيا والآخرة.

2- التجمد والانقياد: حينما يستنفذ هذا المثل الأعلى طاقته وقدرته على العطاء، يتحوّل إلى تمثالٍ، والقادة الذين كانوا يوجّهون على أساسه يتحولّون إلى سادة وكبراء، وجمهور الأمّة يتحوّل إلى منقادين، لا إلى مشاركين في الإبداع والتطوير15.

3- امتداد تاريخي: هذه السلطة تتحوّل إلى طبقةٍ،

بعد ذلك تتوراث مقاعدها عائليّاً، وتصبح طبقة مترفة، خالية من الأغراض الكبيرة16.

4. تسلط وتدمير:
ثمّ حينما تتفتّت الأمّة، وتفقد ولاءها لذلك المثل التكراريّ، يسيطر عليها مجرموها17.

القسم الثالث: هو المثل الأعلى الحقيقيّ، وهو الله سبحانه وتعالى.

في هذا المثل التناقض الذي واجهناه في القسمين السابقين من المثل العليا حول كيفية التنسيق بين المحدود وغير المحدود؟ سوف يُحلّ بأروع صورةٍ، لأنّ هذا المثل الأعلى ليس من نتاج الإنسان، بل هو مثل أعلى لأنّه مطلقٌ، لكن الإنسان حينما يريد أن يستلهم من هذا النور وهو لا يمسك إلّا بقدرٍ محدودٍ من هذا النور، إلّا أنّه يميّز بين ما يمسك به وبين مثله الأعلى.

*المثل العليا، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1-  الفرقان: الآية43.
2- البقرة: من الآية170.
3- ومن الآيات المشابهة لهذا المضمون : (قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) المائدة: 104، (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) يونس:78، (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) هود: من الآية62، (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) إبراهيم:10، (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون) الزخرف:22.
4- القصص: من الآية38.
5- الزمر: 17 و 18.
6- النجم: من الآية23.
7- الحشر: من الآية14.
8- النور:39.
9- العنكبوت:41.
10- الإسراء: الآيات 18 إلى 20.
11- الأحزاب:67.
12- الزخرف:23.
13- الأنعام:123.
14- وتكون كما وصف القرآن الكريم (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)الحشر: من الآية14.
15- وهذه المرحلة عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) الأحزاب:67.  
16- وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) الزخرف:23.
17- وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) الأنعام:123.

2014-12-15