يتم التحميل...

كيف نفسِّر معصية آدم؟

الأخلاق والثقافة الإسلامية

إنّ كلّ الأحداث التي عرضها القرآن الكريم في معصية آدم عليه السلام كانت في الجنّة، والجنّة ليست مقامًا للتكليف، فقبل نزوله عليه السلام إلى الأرض لم يكن هناك تشريع، ولا أوامر مولويّة واجبة الطاعة تحرم مخالفتها، والحديث عن العصمة إنّما هو في هذه الدنيا التي هي مكان التشريع والتكليف، وبالتالي الطاعة والمعصية، وعليه فكلّ ما حصل لا ينفي عصمة آدم عليه السلام.

عدد الزوار: 117

وردت في القرآن الكريم آيات عديدة حول معصية النبيّ آدم عليه السلام، في بعضها تصريح بتلك المعصية، كقوله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى1، وفي بعضها تفصيل لوسوسة الشيطان له أن يأكل وزوجته من الشجرة، كقوله تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ2، وقوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا3، وقوله تعالى: ﴿فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ4، وفي بعضها الآخر إعلانٌ لتوبة آدم عليه السلام، كقوله تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ5. فكيف نفسِّر معصية آدم عليه السلام هذه؟

نعرض ثلاثة أجوبة في مقام تفسير معصية نبيّ الله آدم عليه السلام.

الجواب الأوّل:
إنّ كلّ الأحداث التي عرضها القرآن الكريم في معصية آدم عليه السلام كانت في الجنّة، والجنّة ليست مقامًا للتكليف، فقبل نزوله عليه السلام إلى الأرض لم يكن هناك تشريع، ولا أوامر مولويّة واجبة الطاعة تحرم مخالفتها، والحديث عن العصمة إنّما هو في هذه الدنيا التي هي مكان التشريع والتكليف، وبالتالي الطاعة والمعصية، وعليه فكلّ ما حصل لا ينفي عصمة آدم عليه السلام.

الجواب الثاني: إنّ الأوامر والنواهي الإلهيّة على نوعين:

1- أوامر ونواه مولويّة، والأولى يجب امتثالها، ويترتّب على ذلك الثواب، والثانية يجب تركها، ويترتّب على فعلها العقاب.
2- أوامر ونواه إرشاديّة، والأولى لا يترتّب على فعلها ثواب، والثانية لا يترتّب على معصيتها عقاب، إنّما يكونان في مقام بيان أنّ في الفعل مصلحة للإنسان، أو ضررًا عليه، وحال هذه الأوامر والنواهي
الإلهيّة الإرشاديّة، كحال أوامر ونواهي الطبيب للمريض.

فإذا نهى الطبيب مريضه المبتلى بداء السكريّ أن يتناول الحلوى، فإنّ عدم طاعة المريض له لا يترتّب عليه عقاب منه، بل الحاصل هو ضرر يلحق به.
بناءً على ما تقدَّم، فإنّ من الأجوبة على معصية آدم عليه السلام أنّ نهي الله تعالى هو إرشاديّ لا مولويّ، والشاهد على كونه إرشاديًّا أنّ الله تعالى بيَّن في كلامه الضرر الذي يلحق بآدم عليه السلام في حال أكله من تلك الشجرة، إذ قال تعالى: ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى6.

وبهذا يكون العصيان هو مخالفة النهي الإرشاديّ، وليس مخالفة التكليف المولويّ، لأنّ معنى عصى أي خالف، وهو يصلح للنهيّ الإرشاديّ لا المولويّ، وعليه فإنّ ما حصل مع آدم عليه السلام لا يتنافى مع عصمته، فهو لم يرتكب حرامًا بكلّ ما جرى معه.

الجواب الثالث: وهو تعميق للجواب الثاني.

ولبيانه نفصِّل ما جرى مع آدم عليه السلام وخلفيته بالآتي:
إنّ الله تعالى حينما أراد أن يخلق الإنسان أخبر الملائكة منذ البداية أنّه خلق الإنسان ليكون خليفةً له في الأرض، وليس في الجنّة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً7.

وعليه، فإنَّ إدخاله عليه السلام إلى الجنّة كان باعتبارها محطّة لينزل عليه السلام بعدها إلى الأرض، وبالتالي فإنّ التخطيط الإلهيّ منذ البداية كان ليعيش آدم عليه السلام في الأرض.

لكنّ الله تعالى، بحسب تحليل الآيات، أراد لآدم عليه السلام أن ينزل إلى الأرض باختياره، وليس بالجبر والقهر.

ولأجل تنفيذ المشروع الإلهيّ المقتضي لنزول آدم عليه السلام إلى الأرض أسكن الله تعالى آدم عليه السلام في الجنّة، وكفاه فيها الأمور الأساسيّة لاستمرار الحياة، وهي:
1- الجنس والعاطفة، من خلال خلق زوجته حواء وإسكانها معه في الجنّة، قال تعالى: ﴿اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ8.
2- الطعام، قال تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ9.
3- الشراب، قال تعالى: ﴿وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ10.
4- اللباس، قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْرَى11.
5- الطقس المناسب، قال تعالى: ﴿وَلَا تَضْحَى12، باعتبار أنّ موجة الحرّ تكون وقت الضحى.

وقد بيّن الله تعالى لآدم عليه السلام أنّ الجنّة كلّها مباحة له، باستثناء شجرة واحدة، فقال له: ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ13.

ويبدو من الآيات القرآنيّة أنّ هذه الشجرة فيها خصوصيّات أرضيّة تختلف بها عن باقي شجرات الجنّة، وقد بيَّن الله تعالى لآدم عليه السلام أنّ الأكل من هذه الشجرة ستجعله إنسانًا أرضيًّا، يخسر من خلال ذلك امتيازات الجنّة، فإذا أكل منها فإنّه سينتقل من الرعاية الإلهيّة الخاصّة في الجنّة إلى مقام آخر يحتاج معه آدم عليه السلام وزوجته إلى جهد وتعب، بدءً من ستر عورتيهما، وهذا هو الذي حصل بعد ذلك فعلاً، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ14.

من هنا كان النهي الإلهيّ لآدم عليه السلام وزوجته عن الاقتراب من تلك الشجرة، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ15.
وإن أبعدنا احتمال كون الجنّة هي من حدائق هذه الأرض16، فإنّ السؤال الأساسيّ هو: كيف نوائم بين كون مشروع الله تعالى هو نزول آدم عليه السلام إلى الأرض ليكون خليفة الله فيها، وبين نهي الله لآدم عليه السلام عن الاقتراب من الشجرة التي تكون نتيجة الأكل منها أن ينزل آدم عليه السلام إلى الأرض ؟

قد يستفاد من الجمع بين إرادة الله أن ينزل آدم عليه السلام إلى الأرض، ونهيه عن فعل ما يوجب نزوله إليها، هو أنّ الله عزّ وجل، وبسبب المعاناة في بيئة الأرض، أراد أن ينزل آدم عليه السلام باختياره إليها، فكان نهيه عن الاقتراب من تلك الشجرة هو بيان لما سيحلّ من تلك المعاناة "فَتَشْقَى"17.

وهنا كان آدم عليه السلام، العالِم بالأسماء ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا18، وكذا بالمشروع الإلهيّ في الأرض، بين أمرين:
1- أن لا يأكل من تلك الشجرة، ويبقى في الجنّة، فهو سيكون ممتثلاً لنهي الله تعالى الإرشاديّ، وغير معرِّض نفسه لتلك المعاناة.
2- أن يأكل من تلك الشجرة، وبالتالي ينزل إلى الأرض، فيكون قد حرم نفسه من البقاء في الجنّة، وخالف نهي الله تعالى, بمعنى أنّه أقحم نفسه في الشقاء الذي حذَّره منه، لكنّه في الوقت نفسه يكون قد حقّق إرادة الله عزّ وجل، ومشروعه الكبير في خلافة الإنسان لله تعالى، وبالتالي فإنّ آدم عليه السلام سيشقى من تعب الدنيا، إلاّ أنّه سيتكامل أكثر من كماله في الجنّة, بسبب تلك المعاناة، وما يتحمّله من خلالها.

لذا قرّر آدم عليه السلام أن يحقِّق إرادة الله تعالى، ويأكل من تلك الشجرة.
ولعلّه يمكن تقريب هذه الفكرة، التي تجمع بين إرادة الله للشيء، ونهيه عن مقدِّماته، بالأب الذي يحبُّ ويريد لولده أن يتدرّب على القتال الذي يستدعي الكثير من التعب والمشقّة والتخشّن، لكنّه لا يريد أن يكون هو (أي الأب) الدافع له نحو ذلك التدرّب، بل يريد أن تكون إرادة ولده هي المحرِّك له، لذا فإنّه يبيِّن له تلك الصعوبات التي يواجهها هناك من تعب وإرهاق، وعطش وجوع، وقلّة نوم...الخ، بينما هو في مهد أبيه ينام ملء جفونه.

فلو أنّ أحدًا سمع الأب وهو يحدّث ولده، لظنّ أنّه ينهاه عن الذهاب إلى هناك، ويكره له ذلك، إلاّ أنّه في واقع الأمر يكون محبًّا مريدًا لذهابه، لكن على قاعدة أن يكون ذلك بإرادة الولد وحركته الذاتيّة.

لقد حسم آدم أمره، وقرّر أن يحقِّق إرادة الله تعالى, بالنزول إلى الأرض عبر الأكل من تلك الشجرة، محلِّلاً النهي الربّانيّ أنّه إرشاد إلى الواقع الذي سيستجد عند نزوله إلى الأرض، لكن تلك المعاناة في مرتبةٍ تغبطه عليها الملائكة أكثر من غبطتهم له عند سجودهم له مع أوّل خلقه.

إبليس في معادلة النزول

إنّ ما تقدّم لم ينحصر في علاقة آدم عليه السلام بربّه فقط، بل كان لإبليس، بحسب الآيات القرآنيّة، تدخّل واضح في مجريات ما حصل، فإبليس له مصلحة أيضًا في نزول آدم إلى الأرض, لأنّه وإن كان غير قادر على الدخول إلى نفس آدم عليه السلام، إلاّ أنّه يأمل أن يُحرف الكثير من ذريّته، بل أكثرهم، وهذا ما صرّح به قائلاً: ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً19، أي لأقودنّهم إلىالمعاصي، كما تقاد الدابّة بحنكها إذا شُدَّ فيها حبل تُجرّ به، كما فسّره بعضهم20.

إذًا، إنّ نزول آدم عليه السلام إلى الأرض عبر أكله من تلك الشجرة يحقِّق غايتين:
الأولى: غاية محمودة لآدم عليه السلام، وهي تحقيق إرادة الله في خلافة الإنسان في الأرض.
الثانية: غاية مذمومة للشيطان، وهي اغواء وإضلال الكثير من ذريّة آدم عليه السلام.

من هنا تدخّل الشيطان مع آدم عليه السلام ليبيِّن له فوائد الأكل من تلك الشجرة، فقال له: ﴿يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى21، وقال تعالى: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ22.

والملاحظ أنّ الشيطان حاول أن يعطي الصورة العكسيّة للأكل من الشجرة، فالخلد هو لساكن الجنّة، والسلامة من البلاء هو من أوصاف الجنّة، فإذا بإبليس يستخدم هاتين الصفتين بشكل معاكس تمامًا لواقع
الأمر، فيجعلهما حقًّا لمن أكل من شجرة الأرض التي يؤدّي الأكل منها إلى حياة تنتهي بالموت، وإلى ملك يسارع إليه البلاء.

لقد أصبح آدم عليه السلام أمام ثلاثة نداءات:
1- نداء نهي الله بعدم الاقتراب من الشجرة حتى لا يحصل الشقاء.
2- نداء إرادة الله بالأكل من الشجرة ليحقِّق مشروع خلافة الإنسان في الأرض بواسطة الشقاء التكامليّ.
3- نداء وسوسة الشيطان بالأكل من الشجرة، موحيًا بالخلود ودوام السلامة، مريدًا إغواء ذريّته.
قرَّر آدم عليه السلام الاستجابة لنداء إرادة الله تعالى، وإن واكبته مصلحة لإبليس.

إنّ هذا التقديم لقصّة آدم عليه السلام هو محاولة للاقتراب من حقيقة ما جرى مع الإنسان الأوّل الذي ميّزه الله تعالى عن الملائكة بالعلم، ﴿عَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا 23، والذي عرف إبليس منذ البداية، برفض السجود له، إنّه دفاع عن كون البشريّة لم تبتدئ بمخالفة لله عزّ وجل، بل بسيرٍ على أساس إرادته، وإن كان فيه الكثير من الشقاء، إلاّ أنّه يمثِّل قمّة التكامل الاختياريّ.

* كتاب يسألونك عن الأنبياء، سماحة الشيخ أكرم بركات.


1- سورة طه، الآية 121.
2- سورة الأعراف، الآية 20.
3- سورة البقرة، الآية 26.
4- سورة الأعراف، الآية 22.
5- سورة البقرة، الآية 37.
6- سورة طه، الآية 117.
7- سورة البقرة، الآية 30.
8- سورة البقرة، الآية 35.
9- سورة طه، الآية 118.
10- سورة طه، الآية 119.
11- سورة طه، الآية 118.
12- سورة طه، الآية 119.
13- سورة البقرة، الآية 35.
14- سورة الأعراف، الآية 122.
15- سورة البقرة، الآية 35.
16- توجد رواية تفيد هذا المعنى. (انظر: الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج3، ص 247).
17- سورة طه، الآية 117.
18- سورة البقرة، الآية 31.
19- سورة الإسراء، الآية 62.
20- الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق أحمد حبيب قصير العامليّ، ط1، طباعة ونشر مكتب الإعلام الإسلاميّ ، 1409هـ، ج6، ص 497.
21- سورة طه، الآية 120.
22- سورة الأعراف، الآيتان 20-21.
23- سورة البقرة، الآية 31.

2014-12-13