حريّة الفكر
فكر الشهيد مطهري
الفكر هو عبارة عن قوّة في داخل الإنسان ناجمةٍ عن امتلاكه للعقل، فالتفكير هو العمليّة العقليّة الّتي يكتشف الإنسان بواسطتها الحقائق. وهذه القوّة قد منحها الله للإنسان الّذي يولد جاهلاً:
عدد الزوار: 99
تمهيد
الفكر هو عبارة عن قوّة في داخل الإنسان ناجمةٍ عن امتلاكه للعقل، فالتفكير هو
العمليّة العقليّة الّتي يكتشف الإنسان بواسطتها الحقائق. وهذه القوّة قد منحها
الله للإنسان الّذي يولد جاهلاً:
﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ
بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾1،
وهو من خلال الفكر والدراسة يتعلّم، حيث يفكّر في كلّ مسألة يحتاج إليها بطريقة
علميّة ليفهمها فهماً صحيحاً.
حريّة الفكر وحقوق الإنسان
هناك جملة قضايا لا تبلغ النضج الاجتماعيّ المطلوب إلّا بترك الإنسان حرّا فيها،
ومنها النضج الفكريّ، لكيلا يعترض تقدّمه أيّ مانع أو حاجز يحول دون تنمية
قابليّاته الّتي ينشدها لتحقيق سعادته، وبما أنّ الفكر هو من أهمّ ما ينبغي تنميته
لدى الإنسان، والتنمية بحاجة إلى الحريّة كما تقدّم، فالإنسان بحاجة إلى الحريّة في
الفكر، لذا تعتبر حريّة الفكر من حريّات الإنسان الاجتماعيّة، وتدخل في صميم شؤونه
الحياتيّة.
ومن هنا احتلّت حريّة الرأي اليوم أهميّة عالميّة، وقد ورد ذلك في مقدّمة الإعلان
العالميّ لحقوق الإنسان، بل اعتُبرت فيها من "أسمى الأهداف الإنسانيّة". فإنّ أمنية
البشر هي في حريّة إبداء الرأي، بالإضافة إلى الشعور بالاستقرار الأمنيّ والرفاه
الاقتصاديّ، فتشكّل هذه الأمور معاً هدفاً بشريّاً.
وعليه فإنّ الفكرَ والتفكيرَ عمل ضروريّ وواجب، بل هو من مستلزمات الحياة البشريّة
حيث لا تستقيم بدونه.
وكذلك الكلام في مسألة الدِّين، فإنّ الإنسان لا يمكن أن ينضج في القضايا الدينيّة
ما لم يُعطَ الحريّة الفكريّة، أمّا منع الناس من التفكير خشية الوقوع في الخطأ
فيعدّ خطأ فاحش, حيث يؤدّي إلى عدم النضج في قضاياهم الدينيّة والتقدّم فيها.
حريّة الفكر في الرؤية الإسلاميّة
بعد أن تبيّنت أهميّة حريّة الفكر من الناحية الاجتماعيّة وفي القانون العالميّ
الوضعيّ، لا بدّ من دراسة القضيّة بالمنظار الإسلاميّ لتحديد الموقف الصحيح من
حريّة الفكر والعقيدة، فالسؤال:هل يؤيّد الإسلام هذه الحريّة أم لا؟
إنّ الإسلام لم يكتفِ بمنح حريّة التفكير بل جعله من الواجبات والعبادات، ويشهد
لذلك عدّة أمور:
أوّلاً: ما ورد من الآيات القرآنيّة الّتي تحثّ على التفكّر، بحيث لا نجد في
أيّ كتاب دينيّ أو غير دينيّ هذا القدر من دعوة الناس إلى التفكير في شتّى
المجالات، كما في قوله تعالى:
﴿إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾2،
وقوله:
﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَا
لِلْمُوقِنِينَ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾3،
ومثل هذه الآيات كثير جدّاً في القرآن الكريم.
ثانياً: اعتبرت الأحاديث الواردة في السنّة الشريفة التفكير عبادة: "تفكّر
ساعة خير من عبادة سنة"4.، وفي آخر "... خير من عبادة ستّين سنة"5
، وفي ثالث "... خير من عبادة سبعين سنة"6...7.
ثالثاً: نلاحظ أنّ الإسلام لا يقبل الإيمان بأصول العقائد تقليداً، بل يطالب
الناس بالتحقيق في أصول الدِّين، فهو يرى للناس حريّة فكريّة تكون الأساس لقبول
الإيمان بوحدانيّة الله والنبوّة والمعاد، فالإسلام يعتبر أنّ التوحيد والنبوّة
والمعاد وسائر الأصول الاعتقاديّة مسائل يجب التفكّر فيها والوصول إلى حقائقها من
خلال الجهد العلميّ.
كيف نتعامل مع الوسوسات والشبهات؟
إذا كان التفكير يؤدّي إلى حصول وسوسات وشبهات في الذهن، فهل يحقّ للشخص الّذي
يخطر في ذهنه شبهة أن ينقلها إلى الآخرين؟
لا يعتبر الإنسان مذنباً ولا يعذّب ما دامت الوساوس والشكوك في القلب، وقد تطرّقت
روايات كثيرة إلى مسألةِ ما لو طرأ على الذهن بسبب هذا التفكير شبهات وشكوك ووسوسة،
منها ما روي عن النبيّ حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "رفع عن أمّتي تسعة أشياء:
الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه،
والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلوة ما لم ينطقوا بشفة"8.
وفي رواية أخرى ذكر: "أو الوسوسة في التفكّر في الخلق"9.
وعلى الإنسان إن كان في حالة تحقيق وبحث، أن يرجع إذا شكّ إلى نبيّه وإلى تعاليم
الإسلام، حيث يعتبر هذا الأمر ضروريّاً للوصول إلى الحقائق، وعليه لا بدّ أن نسلّم
بأنه يحقّ لأيّ شخص حصلت لديه شبهة أن ينقلها إلى الآخرين بهدف حلّها، وهذا حقّ
طبيعيّ له، ويجب حلّ شبهته.
ونحن إذا راجعنا التاريخ نجد أنّ الناس كانوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم والأئمّة الأطهارعليهم السلام عن أمور كثيرة يتعلّق قسم كبير منها بمجال
الاعتقادات10.
من هنا يتبيّن أنّ الشكّ الّذي هو أمر سيّء في نفس الوقت هو معبر جيّد وضروريّ.
نعم، لو بقي الإنسان في حالة الشكّ وبقي في مكانه فهذا هو الهلاك وشكّ الكسالى،
وكذلك الأمر لمن أصبح عنده التشكيك هدفاً يحاول بواسطته التشويه والتشنيع على
تعاليم ومفاهيم الإسلام، كما نرى ذلك في كلّ عصر من العصور، حيث تظهر طائفة من
الشكّاكين الّذين ينشرون الشبهات بين عامّة الناس11.
نماذج مشرقة من الحريّات
يلاحظ المتتبّع للتاريخ الإسلامي أنّ الإسلام لم يُكره الناس على الإيمان ولم يحارب
الشعوب، نعم حارب الحكومات المستبِّدة الّتي قيّدت الناس بسلاسل فكريّة خياليّة،
ولهذا آمن الكثير من الشعوب بالإسلام عن رغبة وشوق, فحريّة العقيدة من الصفحات
الساطعة في التاريخ الإسلاميّ، وقد ذكر سببان أساسيّان لانتشار الحضارة الإسلاميّة
وهما:
1- الحثّ المستمر للإسلام على التفكير والتعلّم والتعليم.
2- احترام الإسلام لعقائد الشعوب، والتسامح والتساهل في هذا المجال الّذي أدّى إلى
الذوبان التدريجيّ للأديان الأخرى في الإسلام12.
فالإسلام الّذي يثق بمنطقه يطلب من المسلم التفكير بكلّ ما يرغب، ولكن ضمن قواعد،
وعلى ضوء المنطق وفي حدود القدرات الفكريّة للناس13.
والنتيجة: يتبيّن مما تقدّم أنّه بنظر الإسلام ليس التفكير في أصول الدِّين جائز
فحسب، بل هو أمر واجب، فحريّة التفكير هي من مفاخر الإسلام الّتي أعطاها لجميع
المسلمين والشعوب الأخرى ومنذ بزوغ فجر الإسلام.
بين الإسلام وبقيّة الأديان
يظهر الفرق بين الإسلام وسائر الأديان، من خلال ما تقدّم من تأكيد الإسلام على وجوب
التفكير لتحصيل الاعتقادات، ففي المسيحيّة مثلاً الأمر بالعكس, حيث اعتبرت أنّ أصول
الدِّين فوق مستوى العقل والفكر، فقالوا إنّ هذه الأصول تدخل في دائرة الإيمان وليس
في دائرة العقل، ولا يحقّ للناس التفكير في دائرة الإيمان، فإنّها دائرة التسليم
فقط.
فالفرق بين الإسلام وغيره: إعلان غيره أنّ أصوله الدينيّة هي منطقة محظورة على
العقل والفكر، فيما الإسلام يعلن أنّه لا بدّ من اقتحام العقل والفكر لهذه المنطقة
ومن ثمّ يحصل الاعتقاد، وهذا معنى حريّة التفكير14.
2- حريّة العقيدة
بين الإسلام والإيمان
حينما جاء بعض الأعراب وزعموا أنّهم آمنوا قال الله تعالى في القرآن الكريم:
﴿قَالَتِ
الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا
يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم﴾15.فيترتّب
على تشهّد الشهادتين بقصد الإسلام عدّة أحكام حقوقيّة، كأن يُعتبر المرء داخلاً في
زمرة المسلمين مساوٍ لهم في الحقوق الاجتماعيّة، فيمكن أن يتزوّج المسلمة إن كان
رجلاً، وتتزوّج بالمسلم إن كانت امرأة .وأمّا المؤمن فإنّ أفعاله تقترن بالإيمان،
والاعتقاد، والالتزام القلبيّ16.
خصائص الإيمان
حيث اشتُرط في الإيمان الاعتقاد والالتزام القلبيّ فقد تميّز بعدّة خصائص:
أوّلاً: لا تؤثّر فيه القوّة ولا يتحقّق بالإكراه: يعتبر الإسلام أنّ
الدِّين والإيمان هما بغاية الوضوح بحيث لا يُحتاج فيهما إلى الإكراه، قال تعالى: ﴿لا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾17،
فقد اتضحت الحقيقة واتضح طريق الهداية من طريق الضلال، وإذا لم يسلك شخص طريق
الهداية فليس ذلك إلّا بسبب المرض، بل أكثر من ذلك حيث يعتقد الإسلام بأنّ الإيمان
لا يمكن أصلاً أن يحصل بواسطة الإكراه، فكما أنّ الطفل لا يمكن أن يحلّ مسألة ما
إذا ما قُيّد وضرب ضرباً مبرحاً، بل لا بدّ لحلّها من تركه يفكّر بحريّة، كذلك
الإيمان.
ثانياً: يجب أن يتحقّق الإيمان عبر التفكير ودعوة المنطق الّتي تخضع لها
القلوب، وتنبت فيها المحبّة، قال تعالى:
﴿ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾18.
ثالثاً: أن يتم بالتذكير والإرشاد، قال تعالى:
﴿فَذَكِّرْ
إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر﴾19.
وفي النتيجة إنّ الإيمان لا يمكن فرضه كما المحبّة والصداقة، فمحبّة شخص
مثلاً لا يمكن جعلها في قلب من يكرهه، ولا يمكن سلب محبّة آخر من قلب محبّه, هكذا
الإيمان إذ الإسلام يريد منّا الالتزام القلبيّ لا مطلق الانقياد.
العقيدة الحقّة الّتي يقبلها الإسلام
يقبل الإسلام الاعتقاد إذا كان مبنيّاً على أساس التفكير، وأمّا العقائد القائمة
على الوراثة والتقليد فهي قائمة على الجهالة ولذا لا يمكن للإسلام أن يقبلها، فعدم
التفكير، والخضوع لعوامل مضادّة للفكر لا يمكن للإسلام أن يقبله باسم حريّة العقيدة
أبداً.
فهناك اختلاف كبير بين حريّة التفكير وبين حريّة العقيدة، من هنا فإنّ الإسلام يعطي
الإنسانَ حريّة تفكيرٍ مطلقة، وكذلك يعطيه حريّة الاعتقاد إذا كان مبنيّاً على أساس
التفكير, لأنّ حريّة العقيدة الّتي لا تكون قائمة على أساس الفكر هي بمعنى حريّة
الرقّ والقيد والأسر، وهذا ما جاء الإسلام لإنقاذ الإنسان منه.
منشأ الاعتقاد لدى الإنسان
تُبنى الاعتقادات على أساس التفكّر ودعوة المنطق كما تقدّم، وبذلك تكون اعتقادات
سليمة ومقبولة، إلّا أنّ هذه الاعتقادات تحصل أحياناً من دون أن يكون للعقل والفكر
أيّ دور في حصولها، ولذلك عدّة مناشئ:
فقد يعتقد الإنسان بأمر نتيجة التعلّق والميل القلبيّ أو لانجذاب مشاعره نحو أمر
ما، كما أنّه قد يعتقد تقليداً للأبوين وتأثّراً بالمحيط، وقد تلعب الرغبات الخاصّة
والمصالح الفرديّة دوراً في حصولها... وأكثر عقائد الناس قائمة على هذا الأساس.
وهنا يُطرح سؤال وهو أنّه: هل يجب أن يكون الإنسان في بناء عقائده متحرّراً من
تعلّقاته القلبيّة؟
آثار التعلّقات القلبيّة
تحولُ التعلّقات القلبيّة دون النشاط الفكريّ وحريّة التفكير، وتؤدّي إلى التعصّب
والجمود والسكون، وكمثال على ذلك عبادة الأوثان أو البقر أو أعضاء الجهاز
التناسليّ، فإنّ هذه النماذج لا تنمّ عن اعتقاد ناجم عن احترام حريّة اعتقاد
الإنسان قد يُقال، وبناءً على قاعدة أنّ فكر الإنسان حرّ وعقله كذلك, أنّ عقيدته لا
بدّ أن تكون حرّة، ولذا فالوثنيّ مثلاً حرّ في عقيدته. وهذه مغالطة موجودة في
العالم حاليّاً، وهي بدعواها منح الحريّة للفكر فإنّها في الواقع تقيّد الفكر.
هناك مسلكان في ميزان احترام اعتقاد الإنسان
الأوّل: أن نعتبر الإنسان حرّاً ومختاراً، فنحترم كلّ ما يعتقد به ولو كنّا
نرفض ما اختاره، أو كنّا نعلم بأنّه كَذِبٌ وخرافة، بل حتّى لو ترتّب عليه مستلزمات
باطلة وفاسدة.
الثاني: أن يكون احترامنا له بتوجيهه نحو الرقيّ والتكامل والسعادة.
فأيّ السبيلين أجدر بأن يُسلك؟
في الواقع إنّ ترك الإنسان يختار العقائد الفاسدة، كأن يختار الوثنيّ عبادة الوثن،
هو تقييد لفكر الناس، واحترام هذا القيد هو عدم احترام لقابليّته الإنسانيّة
ولاعتباره الإنسانيّ في مجال التفكير، في المقابل فإنّ المسلك الثاني هو الّذي ينهض
بالإنسان ويوصله إلى رقيّه المنشود.
والنتيجة أنّه لا بدّ من فكّ هذا القيد ليكون فكرُه حرّاً، وعليه فمن الخطأ
على الصعيد الإنسانيّ احترام المرتكز العقائديّ لشعب يريد تقييد الإنسان.
شواهد من سيرة الأنبياء عليهم السلام
ممّا يشهد على ما ذكرنا ما نجده في سير الأنبياء عليهم السلام، فالنبيّ إبراهيم
عليه السلا مثلاً قام بتحطيم أوثان قومه الّتي كانوا يعتقدون بها ويعبدونها وترك
الوثن الكبير، فشكّل هذا الأمر صدمة لهم جعلتهم يرجعون إلى أنفسهم وفطرتهم
ويتأمّلون في عقيدتهم، حيث إنّ هذه الأصنام غير قادرة على الدفاع عن أنفسها،
وكبيرهم عاجز عن هذا التحطيم،
﴿فَرَجَعُوا إِلَى
أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾,
ولذا فإنّ ما مقام به إبراهيم عليه السلام هو عمل إنسانيّ لأنّه حرّر فكرهم من قيد
العقيدة الفاسدة.
وكذا النبيّ موسى عليه السلام فقد كان عمله إنسانيّاً في حرقه لعجل السامريّ:
﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ
ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفا﴾20.
وإذا انتقلنا إلى البعثة المباركة للنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، فنجد
أنّه قد قام بمحاربة العقيدة الوثنيّة سنين طويلة كي يحرّر فكرهم، وتقدّم بذلك بهم
نحو الرقيّ والتكامل، وفكّ قيودهم العقائديّة ووضع
﴿...
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم﴾21.
سبب ظهور حريّة العقيدة في أوروبا
نعرض فيما يلي لأهمّ الأسباب الّتي أدّت إلى نشأة ظاهرة احترام حريّة الدِّين
والعقيدة في أوروبا، وإن كان هذا الدِّين وهذه العقيدة فاسدة:
1- ردّة فعل لممارسات الكنيسة التعسفيّة في القرون الوسطى.
ونلخّص الممارسات بما يلي:
أ- مراقبة أفكار الناس للكشف عن عقائدهم المخالفة لفكرة الكنيسة، سواء في المجال
العلميّ أو الفلسفيّ، واعتبار ذلك جرماً عظيماً، ثمّ القيام بمحاكمة من يطرحها
ومعاقبته.
ب- إحراق مجموعة من النساء وهنّ على قيد الحياة لاتهامهنّ بجرم بسيط جدّاً.
ج- سلب العلماء الحقّ في إبداء وجهة نظرهم في مطلق المسائل، حتّى تلك الّتي لا
تتّصل بأصول الدِّين إن كانت الكنيسة قد أبدت بشأنها وجهة نظر علميّة.
إنّنا بقراءة تاريخ أوروبا في القرون الوسطى سيتّضح لنا بشاعة الجرائم الّتي كانت
تُرتكب، والّتي لا تصل إليها جرائم بني أميّة والعبّاسيّين، الأمر الّذي أدّى إلى
ظهور ردود فعل تدعو إلى حريّة الناس في العقيدة حتّى لو أرادوا عبادة البقر.
2- نتيجة لبعض الآراء الفلسفيّة
يرى بعض الفلاسفة الأوروبيّين أنّ الدِّين مهما كان نوعه، وثنيّاً أو إلهيّاً، فهو
يتعلّق بضمير كلّ شخص، فإنّ كلّ شخص بضميره ومكنوناته بحاجة إلى الاستئناس بالدِّين
والتعزّي به، كما أنّ الإنسان بحاجة إلى الاستئناس بالفنّ والشِّعر، فإنّ هكذا
قضايا ذات الصلة بالضمير الشخصيّ الفرديّ ليس فيها حُسْن وقُبح، ولا حقّ وباطل، ولا
صدق وكذب، وإنّما ترتبط بحبّ الإنسان، فكلّ ما يحبّه الإنسان حسن.
وعلى سبيل المثال مسألة تفضيل الألوان فإنّ الأذواق فيه مختلفة، ولذا لا يمكن
السؤال عن أفضل الألوان بنظر كافّة الناس، بل يسأل عن اللون الّذي يفضلّه كلّ فرد،
وهكذا الحال بالنسبة للأطعمة وغيرها، وهذه تسمّى مسائل ذوقيّة ومسائل خاصّة،
حُسنُها وقُبحها يرتبط برغبة الإنسان.
وعلى العموم فإنّهم يعتقدون بأنّ الدِّين لا حقيقة ولا أساس له، لكنّ الإنسان لا
يقدر على العيش بدون دين يستأنس به، وعليه فمن حقّ كلّ شخص أن يختار الدِّين الّذي
يهواه ويميل إليه.
الردّ على هذه النظرة الفلسفيّة
أوّلاً: إنّ أصحاب هذه النظريّة يعتبرون أن لا أساس ولا حقيقة للدِّين،
وبالتالي سمحوا باختيار الدِّين حسب ميل كلّ شخص وهواه، والحال أنّ الله قد بعث
أنبياء بيّنوا للناس طريقاً حقيقيّاً نيّراً تكمن فيه سعادة البشر.
ثانياً: إنّ هؤلاء الفلاسفة الّذين يتبنّون هذه النظريّة أنفسهم لا يلتزمون
دائماً بهذه الحريّة.
ولتوضيح ذلك: نسأل ما رأيكم في حريّة الرأي ضمن قضيتي الصحّة والثقافة؟ هل
يحقّ للناس اختيار الإصابة بالمرض؟! ولماذا تلزمون الناس بالتعلّم وتبنون المدارس
للّذين لا يريدون العلم؟! ألا يعتبر ذلك سلباً لحقّ الحريّة الّذي تلتزمون به
للإنسان؟!
إنّ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان قد نصّ على إلزاميّة التعليم في المرحلة
الابتدائيّة، وبناء المدارس ومعالجة المرضى يُعتبر عندهم خدمةً لهؤلاء الغافلين
وطريقاً لسعادتهم، ويجب تقديم هذه الخدمات ولو بالقوّة.
ونحن من نفس الباب نعمِّم ونوسِّع ذلك للدِّين لكونه أمراً حقيقيّاً موجباً لسعادة
البشر وباعثاً للعقل والفكر على التقدّم والنشاط.
ج- الرشد عند الإنسان22
إنّ الرشد عند الإنسان هو من القضايا لا تحتمل الإكراه بالطبع، ويجب أن يكون
الإنسان فيها حرّاً، حيث لا يمكن أن يحصل عليه الإنسان إلّا إذا كان حرّاً في عمله
واختياره، وهنا نأخذ نموذجين:
الأوّل: وهو فرديّ شخصيّ، كتنمية شخصيّة الطفل، فإنّه إذا ما قام الأهل
بتولّي كلّ شؤون الطفل انطلاقا من محبّتهم له، فقاموا بالتدخّل في كلّ صغيرة وكبيرة
في حياة الطفل، من دون أن يفسحوا له المجال في تنمية شخصيّته والاعتماد على نفسه،
فإنّه بالتالي من الصعب جدّاً أن يصبح شخصاً ذا شخصيّة قويّة, فكما أنّ توجيه
الأولاد واجب في حدود معيّنة، كذلك إعطاؤهم الحريّة واجب في حدود معيّنة أخرى،
وباقتران التوجيه مع الحريّة، ثمّ بمساعدة القابليّة نحصل على تربية كاملة.
الثاني: وهو للمجتمع بشكل عام، فإنّ أفراد المجتمع كما يحتاجون إلى التوجيه
من القيّمين على المجتمع، كذلك لا يمكن سلبهم الحريّة بذريعة أنّهم ليسوا أهلاً له,
لأنّهم بممارستها يصبحون أهلا لها، مثلاً: في العمليّة الانتخابيّة لا يمكن لوجهاء
المجتمع أن يفرضوا على الناس انتخاب الشخص الفلاني لأنّه الأصلح، بل لا بدّ لكي يصل
الناس إلى النضج الاجتماعيّ من تركهم أحراراً للمقارنة بين سلبيّات وإيجابيّات كلّ
مرشح، حتّى ولو التفتوا إلى خطأهم بعد الاقتراع لذلك الشخص، وقد تتكرّر الحال هذه
إلى أن يكتمل نضجهم ورشدهم ولو أخطأوا مائة مرّة.
د- الأخلاق الاجتماعيّة
هناك قضايا يمكن فيها إكراه الناس، ولكنّ الإكراه لا يعدّ كمالاً لهم، فمثلاً: على
الناس أن يتحلّوا في الجوانب الأخلاقيّة بالصدق والأمانة، فلا يخون بعضهم بعضاً،
وكذا عليهم أن يتحلّوا بالعدالة من ناحية المقرّرات الاجتماعيّة، فإذا ما ارتكبوا
خيانة وسرقوا تقطع أيديهم لإلزامهم بهذه المقرّرات، ولكن توجد في هذا النوع من
القضايا جنبة أخرى، وهي أن تكون الأمانة والصدق ملكة روحيّة نفسانيّة لدى الإنسان،
بمعنى أن تكون لديه تقوى تصدر عنها الفضائل الأخلاقيّة، لا أنّه ينزجر عن الكذب
والخيانة خوفاً من القانون أو العقوبة، وعليه يعدّ الصدق والأمانة فضيلة وكمالاً
للإنسان، إذا ما أخذت طابع التربية.
الخلاصة
1- إنّ حريّة الإنسان الفكريّة ضروريّة لتنمية قابليّته ولتحقيق سعادته، وقد احتلّت
أهميّة عالميّة باعتبارها من أسمى الأهداف الإنسانيّة.
2- منحَ الإسلامُ الإنسانَ حريّة التفكير، بل جعله من الواجبات والعبادات باعتباره
من مستلزمات الحياة البشريّة.
3- يحقّ لكلّ شخص طرأت على ذهنه شبهة، نتيجةً لتفكيره وتأمّله، أن يطرحها على
الآخرين بهدف حلّها.
4- يمتاز الإسلام عن غيره من الأديان بأنّه يجعل أصول الدِّين داخلة في دائرة العقل
والفكر، فيما تعتبر الأديان الأخرى أنّ أصول الدِّين منطقة محظورة على العقل
والفكر.
5- يُعتبر الإنسان مسلماً بمجرّد تشهّده الشهادتين، ويترتّب على ذلك عدّة حقوق
اجتماعيّة، أمّا أن يكون الإنسان مؤمناً فلا بدّ أن يقترن فعله بالاعتقاد والالتزام
القلبيّ.
6- يتميّز الإيمان بأنّه يتمّ بالتذكير والإرشاد ودعوة المنطق ولا يتحقّق بالاكراه.
7-هناك مسلكان في بناء الإنسان لاعتقاداته:
أ- أن يبنيها على أساس التفكّر.
ب- أن يبنيها وفقاً لأهوائه وميله القلبيّ.
8- إنّ اعتماد الميل القلبيّ في بناء العقائد يؤدّي إلى الجمود والتعصّب وإلى تقييد
الفكر، من قبيل ذلك عبادة الأوثان والأبقار وغيرها...
9- أن نحترم اعتقاد الإنسان يكون بتوجيهه نحو الرقيّ والكمال، وذلك بمواجهة عقائده
الفاسدة الّتي تقيّد فكره الحرّ، كما كانت سيرة رسل السماء عليهم السلام.
10- إنّ من أهمّ مناشئ ظهور حريّة الدِّين والعقيدة في أوروبا:
أ- ردّة فعل على ممارسات الكنيسة التعسّفيّة في القرون الوسطى.
ب- نتيجةً لنظرة فلسفيّة تَعتبر الدِّين أمراً يخضع للاعتبارات والأذواق الشخصيّة،
وبالتالي فلا حقيقة له. وذلك لتغافلهم عن أنّ الله تعالى قد بعث أنبياء بالدِّين
الّذي هو طريق حقيقيّ لإسعاد البشر، مع أنّهم أنفسهم لا يلتزمون بهذه الحريّة عندما
يُلزمون الناس بالتعلّم ويكافحون انتشار الأوبئة والأمراض.
11- إنّ الرشد لدى الإنسان هو من القضايا الّتي لا تحتمل الإكراه بالطبع، وهو على
نوعين فرديّ واجتماعيّ.
12- إذا كانت الأخلاق الاجتماعيّة حالة روحيّة نفسانيّة فإنّها تعدّ من الكمالات،
أمّا إذا حصلت بواسطة الإكراه فلا تُعدّ كذلك، بل تكون مجرد التزام بالقانون.
والحمد لله ربّ العالمين
* الحرية الفكرية, سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- سورة النحل،
الآية: 78.
2- سورة آل عمران، الآية: 190ـ 191.
3- سورة الذاريات، الآية: 20ـ 21.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 86، ص 129.
5- م. ن، ج 66، ص 293.
6- ابن أبي جمهور الإحسائي، عوالي اللئالي، ج 2، ص 57، نقلاً عن الديلمي.
7- ويستفاد من هذه الأحاديث أنّ من التفكّر ما يدفع الإنسان إلى الأمام بمقدار سنة
من العبادة، وهناك تفكّر يدفعه بمقدار ستّين سنة وآخر بمقدار سبعين سنة.
8- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 51، باب جملة مما عفي عنه، ص 369.
9- م.س، ج 3، ص 270.
10- من هذا القبيل ما كان من رجوع الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
للاستفسار وأخذ الجواب منه، وجلوس الإمام عليّ عليه السلام في زمن الشيخين للإجابة
على أسئلة القادمين من أطراف المجتمع الإسلامي، الذين اطّلعوا حديثاً على الإسلام،
ونجد في كتب الإحتجاج مباحثات ومناظرات جرت بين الأئمّة وبين علماء الأديان الأخرى
اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والوثنيّين والدهريّين والماديّين.
11-هناك وجه آخر لظهور الشكّاكين الّذين يلقون محاضرات ويكتبون مقالات ضدّ الإسلام،
فإنّهم يؤدّون إلى جلاء وجه الإسلام أكثر، حيث يتصدّى العلماء لهم بما يؤول لصالح
الإسلام.. وهذا ما حصل فعلاً حينما كتبت بعض الكتب والمقالات ضدّ الإسلام، ما أدّى
إلى قيام العلماء بشرح مسائل كانت غامضة لفترة من الزمن. وذلك من قبيل الإمامة
والتشيّع والتقية والبدَاء و... .
12- راجع كتاب محمّد خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم، مقالة عمل الإسلام.
13- يبقى أنّه هناك مسائل هي فوق قدرة الفكر البشري، كالتفكير لإدراك كُنهِ وحقيقة
الله عزّ وجلّ، وهذا لا يؤدّي إلى إنكار وجوده: فإنّ العقل البشري كما أنّه لم
يُدرك حقيقة العديد من مخلوقات الله، وعلى رأسها حقيقة الضوء والمادّة والطاقة
ووجود الحياة ومع ذلك لا ننكر وجودها. فالله عزّ وجلّ لا يمكن إدراك حقيقته لكن
يمكن معرفته بصفاته ورؤية آثاره... .
14- ويمكن الإطلاع على التاريخ المظلم للمسيحيّة بمراجعة تاريخ ألبر مالر ج3، وقصّة
الحضارة ج 13، وحول المجوس يمكن مراجعة تاريخ المجوس العصر الساساني لإيران قبل
الإسلام، ومقارنة ذلك مع ما ورد في قصّة الحضارة، ج 11، حول الإسلام حيث يظهر مدى
احترام الإسلام والمسلمين لحريّات الشعوب الّتي كانوا يحكمونها.
15- سورة الحجرات، الآية: 14.
16- ويدفن في مقابر المسلمين ويحرم دمه وماله وعرضه و...
17- سورة البقرة، الآية: 256.
18- سورة النحل، الآية: 125.
19- سورة الغاشية، الآيتان: 20ـ 21.
20- سورة الأنبياء، الآية: 64.
21- سورة الأعراف، الآية: 157.
22- ويأتي تفصيل ذلك في موضوع الرشد في الإسلام.