شيعة لبنان في مواجهة الغزو الصليبي
التشيُّع والمقاومة
بدأت الحركة الصليبية في جنوبيّ فرنسا منذ أواخر القرن الثالث الهجريّ/ التاسع الميلاديّ، وكانت موجّهة في البداية ضدّ الأندلس والمماليك الإسلامية الأوروبية. وفي عام 1088م اعتلى العرش البابويّ "أربانوس الثاني" وهو من بابوات الحيّ اليهوديّ...
عدد الزوار: 711
كيف بدأت الحركة الصليبية؟
بدأت الحركة الصليبية في جنوبيّ فرنسا منذ أواخر القرن الثالث الهجريّ/ التاسع
الميلاديّ، وكانت موجّهة في البداية ضدّ الأندلس والمماليك الإسلامية الأوروبية.
وفي عام 1088م اعتلى العرش البابويّ "أربانوس الثاني" وهو من بابوات الحيّ اليهوديّ...
وقد اعتلى إحدى المنصّات في مدينة "كليرمونت" الفرنسية ليزفّ للجماهير نبأ إعلان
الحروب الصليبية، وقد ابتدأ بالقول: "انهضوا وأديروا أسلحتكم التي كنتم
تستخدمونها ضدّ إخوانكم، ووجّهوها ضدّ أعدائكم، أعداء المسيحية. قاتلوا أعداءكم
الذين استولوا على مدينة القدس"1... وهكذا بدأت الحملة الصليبية
الأولى.
بدأت هذه الحملة اجتياحها لبلاد الشرق الإسلاميّ بعد أن اجتازت القسطنطينية، وهزمت
السلاجقة المسلمين، وأسّست أوّل إمارة صليبية في الرّها، ثمّ خرجوا إلى أنطاكية
واحتلّوها، وأسّسوا فيها إمارة صليبية ثانية، واندفعوا نحو بلاد الشام مروراً
بالساحل الشماليّ للبنان.
كيف واجه الشيعة الغزو الصليبيّ؟
وأوّل من اعترض هذه الحملة مدينة صيدا والقرى المجاورة لها، فقد تعرّضوا للصليبين
أثناء زحفهم نحو بيت المقدس. وصمدت مدينة صيدا، وظلّت تنعم بالهدوء والاستقرار
بحماية الأسطول الفاطميّ من البحر، وقوّات طغتكين أتابك دمشق السلجوقيّ2.
لكنّ طرابلس، التي استبسلت بالدفاع عن نفسها زمن حكم "بني عمار"3 لها،
جعل الصليبيون يضيّقون الخناق والحصار براً وبحراً عليها، فسقطت عام 1109م بعد
انقطاع الإمدادات عنها. وكان لسقوط طرابلس وقع كبير على بقيّة المدن اللبنانية
الساحلية، فسقطت بيروت عام 1110م، ثمّ صيدا في آخر العام نفسه. وبسقوطها تكون
المنطقة الجنوبية من لبنان الحاليّ قد أصبحت، ما عدا مدينة صور، بأيدي الصليبيين.
صمود مدينة صور
بنى الصليبيون قلعةً كبيرةً في بلدة "تبنين" لمراقبة حصار صور. وبقيت منطقة جبل
عامل بعد سنة 1110م المنطقة الوحيدة التي تربط دمشق بميناء بحريّ هو صور، لذلك كان
طغتكين أتابك دمشق يهتمّ كثيراً بإبقاء المنطقة نقطة ضعف مستمرّة، وأصبح تاريخها
بعد سقوط صيدا مرتبطاً بمعركة ومصيرها مدينة صور.
تميّزت هذه المرحلة بتركّز الأعمال على الدفاع عن حاضرة جبل عامل الكبرى، مدينة صور،
من أن تسقط بيد الفرنج. وذلك في ظلّ حالة الإحباط التامّ الشبيه بالشلل، التي كانت
عليها القوّة السياسية والعسكرية في العالم الإسلاميّ بعد أن نجحت الحملة الصليبية
الأولى في اختراقه والوصول إلى قلبه، لتحتلّ مدينة القدس وترتكب فيها واحدة من أبشع
المجازر في التاريخ. الأمر الذي كشف كم كان العالم الإسلاميّ آنذاك هشّاً عاجزاً،
لا حول له ولا قوة.
ولم يكن في وسع أبناء جبل عامل أن يُنظِّموا طاقاتهم الضئيلة، بالقياس إلى قوّة
الأعداء، في سبيل الدفاع عن حاضرتهم (صور) دون سند خارجيّ. والحقّ أنّ الفضل في
صمود المدينة زهاء ربع القرن يرجع أولاً: إلى استماتة أهلها في الدفاع عنها بكلّ ما
وصلت إليه أيديهم من أدوات سياسية وعسكرية، وثانياً: ما تلقّوه من عون مباشر من
إخوانهم أبناء جبل عامل في الملمَّات، وثالثاً: الدعم الذي تولّاه في تلك الأيام
العصيبة الأفضل بن أمير الجيوش وزير الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وظهير الدين
طغتكين أمير دمشق. والحقّ أنّ صور لم تسقط أخيراً بعد ذلك الصمود الطويل، إلّا بعد
مقتل الوزير الأفضل، وعجز طغتكين وحده عن حمايتها في وجه تحالف كافّة القوى
الصليبية، من محلية متعاونة وغازية، تحالفاً يهدف إلى إخضاع واحتلال المدينة بالذات.
فلقد كان لصمود صور ربع قرن من الزمن أثر كبير في نفوس المسلمين، لكنّ سقوطها بعد
هذا الصمود المجيد ترك وهناً عظيماً فيهم، وبسقوطها غدا "جبل عامل" كلّه تحت
الاحتلال الصليبيّ.
جبل عامل منطلق الجهاد
بعد خمس وستّين سنة من الاحتلال الصليبيّ التامّ لجبل عامل، بدأ مجرى الأحداث، شيئاً
فشيئاً ينعكس سوءاً على المحتلّين. والحقيقة أنّ هذا الانعكاس أخذ يتعاظم كلّما
تقدّمت الأيام ليشكّل هجوماً مضادّاً على الاحتلال الصليبيّ، لكنّ هذا لم يحقِّق
اتّصالاً بالأرض العاملية إلّا على يد خليفة نور الدين زنكي ووارث سلطانه صلاح
الدين الأيوبي، حيث شهد سهل مرجعيون أوّل صدام كبير بين عسكر صلاح الدين والصليبيين،
فتحقّق أوّل نصر كبير على القوات الصليبية المنظّمة والمتأهّبة، لكنّ الانعطاف
الأكبر في تاريخ جبل عامل باتّجاه التحرير هو ما نشأ عن معركة حطّين4 في
تموز 1187م.
وما حدث كان أكبر بكثير من نصر عسكريّ، فهذه المعركة لم تتمخّض عن قتل قادة وأسر
آخرين فقط، بل أنهت مملكة القدس التي استمرّت أربعاً وثمانين عاماً، كما تركت
أمارات ومعاقل الصليبين في جنوبي الشام، ومنه جبل عامل، جسماً مشلولاً عاجزاً عن
الدفاع عن نفسه، فتهاوت قلاعه الواحدة تلو الأخرى، وهكذا تحرّرت قلاع "الشقيف"
و"تبنين" و"هونين" ومدينتا صيدا والصرفند. ومع هذا يرى المؤرِّخ السيد حسن الأمين
أنّ صلاح الدين لم يستغلّ هذا النصر بالشكل المناسب، بل وأضاع نتائجه، ويعود ذلك
لعدّة أسباب، منها: عدم مواصلة الكفاح بعد تحرير القدس، لتحرير باقي أرجاء الوطن.
وأنّ صلاح الدين، كما يذكر المؤرِّخون، آثر الراحة بعد العناء، والتسليم بعد
التمرّد، ولهذا أنهى حالة الحرب مع الإفرنج، واعترف بوجودهم، وسمّى ذلك هدنة. وأعاد
إليهم بموجبها عدّة مدن مثل حيفا ويافا، وغيرهما5.
حسام الدين بشارة، البطل العامليّ المجهول
هو حسام الدين بشارة، بن أسد بن عامر بن مهلهل بن سليمان بن أحمد بن سلامة العامليّ.
والمرجّح أنّ هذا الأمير وعسكره اشتركوا في معركة حطّين. وما ذلك الارتفاع واكتساب
المكانة إلّا لأنّه أثبت كفاءته في ميدان القتال. وقد ولّاه صلاح الدين على عكا.
وغدت المنطقة الممتدّة من عكّا إلى صيدا محرّرة، بما في ذلك الأعالي الشرقية التي
منها جبل عامل. ولم يبقَ بيد الصليبيين سوى حاضرة الجبل الساحلية "صور". وفي شهر
رمضان 586هـ - 1190م غدا حسام الدين والياً على "بانياس"، ومع صفة حسام الدين
الرسمية، إذ كان يعرف بـ "صاحب بانياس"، فإنّه كان يتّخذ قلعة تبنين مركزاً
لعمليّاته العسكرية، لتضييق الخناق على صور المحتلة، ويتولّى وعسكره العامليّ حراسة
البلاد الإسلامية من جانبها. وقد توفّي هذا البطل العامليّ بعد حياة مليئة بالجهاد
في 598هـ - 1201م. وعلى الرغم من كلّ ما جرى، فإنّ المؤرِّخين يؤكّدون أنّ حسام
الدين بشارة وعسكره الذي خاض به الحروب، هم عامليون. وقد نجح أولاده من بعده في
إدارة إرث، أبيهم وكانت أمارتهم تضمّ:
- "جبل هونين"، وقاعدتها بنت جبيل.
- ناحية تبنين، وقاعدتها تبنين.
- ساحل قانا، وقاعدتها قانا.
- ساحل معركة، وقاعدتها صور.
أي إنّها كانت تشمل القسم الأكبر من جبل عامل. وكذلك نجحوا في الاحتفاظ بإمارتهم
طيلة العهد المملوكيّ، أي طيلة ثلاثة قرون ونيّف.
جزّين أرض حرّة
وكما أنّها ستصبح حاضرة علميّة، باعثة لنهضة عاملية متكاملة، كذلك كان لها دورها في
الجهاد ومقاومة الاحتلال، وإن يكن دوراً منكوراً. وسوف نقف على هذا الدور وما فيه
من جهاد وسعي إلى التحرير، وذلك عندما وصلها الإفرنج من الطور (قلعة شرقيّ عكا)
وكان عددهم خمسمئة، وهم من أبطال الفرنج، فأخلاها أهلها ونزل الفرنج فيها، فتحدّر
أهالي جزين من الجبل، أخذوا خيولهم وقتلوا عامّتهم وأسروا قائدهم وهرب من بقي منهم
إلى صيدا، ولم يفلت منهم سوى ثلاثة.
يؤخذ من هذه الحادثة التي أُوجزناها باختصار أنّ جزين بقيت أرضاً طاهرة، لم يدنّسها
الصليبيون، ولم تطرقها قدم محتلّ، وما كان من هؤلاء الناس، من أهل جبل عامل في
مقارعة الاحتلال الصليبي وفي النصر، إشارة واضحة إلى تلك الواقعة الجليلة التي
انتصر فيها أهل جزّين على عدوّهم بالذكاء والشجاعة والتصميم وحسن التخطيط.
وخلاصة القول: إنّ العامليين تغلّبوا على محنة الاحتلال، واستطاعوا أن يؤسّسوا
مدارسهم، وأن يحتفظوا بوجودهم كاملاً، لا ينقصه الجهل المؤدّي إلى الذوبان
والانحلال، وأن يظلّوا أمناء على رسالتهم الفكرية الأصيلة، "فحرسوا اللغة
العربية وصانوا علومها في ذلك البحر الفرنجيّ الطاغي، وحرسوا علوم الشريعة وحفظوها
وأورثوا الأجيال الآتية أمانة خالدة"6.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- لمّا عادت للبابوية قوّتها
بعد موت هنري الرابع "Henri iv"، تطلّعت البابوية إلى تأسيس حكومة في الشرق تجمع
بين السلطتين الزمنية والدينية, ولذلك حرّضت البابوية على الحروب الصليبية، حيث
اتّخذ البابا أربانوس الثاني "urbanus ll1099" ـ م1088، المعروف بتعصّبه ضد
المسلمين عندما كان راهباً لدير كلوني، والذي غذّى حرب المسلمين في الأندلس، وادعى
أنّ الحجاج المسيحيين يلاقون الاضطهاد والأذى أثناء زيارتهم إلى بيت المقدس، اتّخذ
من ذلك ذريعة لحرب المسلمين، وكان هذا البابا يرى بأنّ وظيفة البابوية الأساسية هي
القيادة العليا للحرب المقدّسة، ثمّ إنّ الحروب الصليبية هي بمثابة سياسة البابوية
الخارجية، فهي التي تديرها وتتحرّك وفقها، والبابوات هم الذين نظّموا الحرب
ووجّهوها.
2- أتابك (الأصل آتا = أبٌ، بك = سيّد)لقب تركي أطلقة السلاجقة على بعض رجال البلاط
والوزراء والقادة، يعني القائد أو الحاكم العسكري. تمكّن بعض الأتابكة من السيطرة
على الحكم في القرن 12 في بلاد فارس وبلاد الشام. أشهرهم أتابكة آذربيجان وفارس
وسلالة بوري بن طغتكين في دمشق والزنكيون في الموصل والشام (1104-1128).
3- يرجع نسب بني عمار إلى قبيلة كتامة الأمازيغية البربرية المغربية الأفريقية، وقد
اعتنق الكتاميون الإسلام في بداية القرن الثامن الميـلادي (710م) مع وصول الفتح
الإسلامي إلى مناطقهم، بعدمـا تفهّموا أهـداف الفاتحين الجدد غير المادية، ومبادئهم
غير المعقدّة عكس من سبقوهم، فتعاونـوا جميعًـا على طـرد البيزنطيين والرومـان
وتحرير البلاد نهائيًا. وأدّى اندمـاج مبادءهم العنصرين إلى تكويـن مجتمع جديـد على
أسـس ونهج جديـدين، ونتج عن ذلك قيام ممالك بربريـة معروفة. وقد خضعت أقاليـم
كتامـة لسيطـرة الأغالبـة، ثمّ الزيريين(ثم الحماديين ثم الموحدين). وقد كانت لهـم
ممالك مستقلّـة وقادة عظمـاء في تلك الفترة. وعندما قامت الدولة الفاطمية اعتنق
الكتاميون المذهب الشيعي الإسماعيلي، ولم يُعلم زمن انتقالهم إلى المذهب الجعفري
بالتحديد، والظاهر أنّ هذا الأمر حصل بعد انتقالهم إلى الشام، والقدر المتيقّن
أنّهم عندما استقلّوا بدولتهم فيها كانوا على مذهب الشيعة الاثني عشرية. وبقيت
طرابلس بأيديهم نحوًا من 40 سنة، حتى انتزعها منهم الصليبيون سنة 502 هجرية، وكان
أهلها في ذلك العصر شيعة اثني عشرية.
قال السيد محسن الأمين (ره) في أعيانه: طرابلس أو أطرابلس بالهمزة، مدينة في ساحل
بحر الشام، كان أهلها شيعة في عصر الشيخ الطوسي في القرن الرابع وما بعده (...) ثمّ
انقرض منها التشيّع بالعداوات والضغط، ويوجد في نواحيها اليوم بعض القرى الشيعية.
ويقول ناصر خسرو في كتابه سفرنامة عندما زار طرابلس في القرن الخامس الهجري: وسكّان
طرابلس كلّهم شيعة، وقد شيّد الشيعة مساجد جميلة في كلّ البلاد.
ويقول المستشرق آدم متز في كتاب "الحضارة الإسلامية": "وإذا كان ناصر خسرو قد وجد
أهل طرابلس في عام (428هـ - 1037م) شيعة، فقد جاء ذلك من أنّ بني عمار، وهم إحدى
الأسرات الصغيرة الكثيرة على الأطراف، كانوا هناك على مذهب الشيعة".
4- معركة حطّين معركة فاصلة بين الصليبيين وقوات صلاح الدين المسلمة، وقعت في يوم
السبت 25 ربيع الثاني 583 هـ الموافق 4 يوليو 1187 م، بالقرب من قرية المجاودة، بين
الناصرة وطبرية، انتصر فيها المسلمون، ووضع فيها الصليبيون أنفسهم في وضع غير مريح
استراتيجياً في داخل طوق من قوّات صلاح الدين، أسفرت عن سقوط مملكة القدس، وتحرير
معظم الأراضي التي احتلّها الصليبيون.
5- الأمين، حسن، مستدركات أعيان الشيعة، ج2، الصفحة 356 (بتصرّف واختصار).
6- وعلى ما كان لأهل جبل عامل من أثر كبير في الجهاد، فإنّ دورهم جرى طمسه والتعتيم
عليه.