وبشّر المخبتين
الأخلاق والثقافة الإسلامية
وقد قيل في سبب نزول هذه الآية المباركة: أَنَّه وقع خصامٌ بين الزبير بن العوام ـ وهو من المهاجرين ـ وبين رجل من الأنصار على سقي نخيلهما التي كانت متقاربة في المكان، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث إِنَّ نخيل الزبير كانت أعلى مكاناً من نخيل الأنصاري،
عدد الزوار: 107
نصُّ الموعظة القرآنية:
قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمً﴾1.
وقد قيل في سبب نزول هذه الآية المباركة: أَنَّه وقع خصامٌ بين الزبير بن العوام ـ
وهو من المهاجرين ـ وبين رجل من الأنصار على سقي نخيلهما التي كانت متقاربة في
المكان، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث إِنَّ نخيل الزبير كانت
أعلى مكاناً من نخيل الأنصاري، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للزبير: "اسْقِ
ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ". وقد كانت هذه هي العادة في البساتين المتجاورة
آنذاك. فغضب الأنصاري من حكم النبي العادل هذا، وقال: يا رسول الله لئن كان ابن
عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انزعاجاً من موقف الأنصاري
وكلامه، فنزلت الآية الحاضرة تحذّر المسلمين من مثل هذه المواقف2.
وقد ذكرت بعض التفاسير أسباباً أخرى لنزول الآية تتشابه فيما بينها إلى درجة كبيرة،
ولا مانع من تعدّد أسباب النزول في الآية الواحدة بتعدُّد الوقائع والأحداث، ولا
ينافي ذلك عمومية مفهوم الآية وصلاحيتها لكلّ زمان ومكان.
الإيمان الحقيقي
لقد أقسم الله تعال في الآية الكريمة بأنَّ الأفراد لا يمكن أن يمتلكوا إيماناً
حقيقياً إلا إذا تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقضائه، ولم يتحاكموا
إلى غيره، بل عليهم أنْ يرجعوا إليه في كلّ ما يشجر بينهم ويختلط عليهم أمره.
فالآية الحاضرة تبيّن علائم الإيمان الواقعي الراسخ في ثلاث مراحل:
المرحلة الأُولى: أن يتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحكمه النابع من
الحكم الإلهي فيما اختلفوا فيه، كبيراً كان أم صغيراً، لا إلى الطواغيت وحكّام
الجور والباطل.
المرحلة الثانية: أن لا يشعروا بأيّ انزعاج أو حرج في نفوسهم تجاه أحكام الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم وقضائه العادل التي هي ـ في الحقيقة ـ الأوامر الإلهية نفسها،
ولا يسيئوا الظن بهذه الأحكام.
المرحلة الثالثة: أن يطبّقوا تلك الأحكام ـ في مرحلة تنفيذها ـ تطبيقاً كاملاً،
ويسلّموا أمام الحقّ تسليماً مطلقاً, فالإنسان قد يسلّم في مقام النظّر بالحكم
الصادر من المولى أو رسوله، ولكنّه في مقام العمل لا يصدر منه أيّ شيءٍ.
ومن الواضح أَنَّ القبول بأيّ دين وأحكامه فيما إذا كانت في مصلحة الإنسان، وكانت
مناسبة لمنافعه وتطلّعاته الشخصية، لا يمكن أن يكون دليلاً على إيمانه بذلك الدين،
بل يثبت ذلك إذا كانت تلك الأحكام في الاتّجاه المعاكس لمنافعه وتطلّعاته ظاهراً،
وإن كانت مطابقة للحقّ والعدل في الواقع، فإذا قَبِل بمثل هذه الأحكام، وسلّم لها
تسليماً كاملاً كان ذلك دليلاً على إيمانه ورسوخ اعتقاده.
ومن الآيات التي تدلّ على معنى قريبٍ من معنى هذه الآية التي صدّرنا الموعظة بها
قوله تعالى من السورة ذاتها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ
وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ﴾3.
أهميّة التّسليم
التسليم بذل الرضا بقبول قول الله تعالى وفعله وقول الرّسول وأوصيائه وأفعالهم
عليهم السلام، وتلقّيها بالبشر وطلاقة الوجه وإن لم يكن موافقاً للطبع ولم يعلم وجه
المصلحة، وهو من فروع العدالة وعلامة الإيمان.
المطالع للآيات والروايات يجد كمّاً هائلاً منها يتحدّث عن التسليم لأمر الله تعالى
ولأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولأمر أهل بيته عليهم السلام.
حتّى أَنَّ بعضها نزّلت الإنسان العابد والعامل بالطاعات غير المسلّم منزلة المشرك،
بل جعلته مشركاً صراحةً، ففي الخبر عن مولانا الصادق عليه السلام جاء فيه: "لَوْ
أَنَّ قَوْماً عَبَدُوا الله وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وآتَوُا الزَّكَاةَ وحَجُّوا الْبَيْتَ وصَامُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَالُوا
لِشَيْءٍ صَنَعَهُ الله أَوْ صَنَعَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم
أَلَّا صَنَعَ خِلَافَ الَّذِي صَنَعَ، أَوْ وجَدُوا ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ،
لَكَانُوا بِذَلِكَ مُشْرِكِينَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ
فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمً﴾ ثُمَّ قَالَ
أَبُو عَبْدِ الله عليه السلام عَلَيْكُمْ بِالتَّسْلِيمِ"4.
ففي هذه الرواية دلالةٌ واضحةٌ وصريحةٌ على أَنَّ ذرّة الاعتراض على صنيع الله
سبحانه وتعالى وأنبيائه وأوصيائه كفيلةٌ بإخراج المؤمن العابد لله، والعامل
بالطاعات، عن حريم التوحيد إِلَى ساحة الشرك.
وقد كان الأئمّة عليهم السلام ينتهزون كلّ فرصةٍ ومناسبةٍ ليبيّنوا لأصحابهم أهمّية
التسليم، فقد روي أَنَّ زيداً الشّحّام قال لأبي عبد الله عليه السلام: "إِنَّ
عِنْدَنَا رَجُلاً يُقَالُ لَهُ كُلَيْبٌ، فَلَا يَجِيءُ عَنْكُمْ شَيْءٌ إِلَّا
قَالَ أَنَا أُسَلِّمُ فَسَمَّيْنَاهُ كُلَيْبَ تَسْلِيمٍ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا التَّسْلِيمُ؟ فَسَكَتْنَا. فَقَالَ: هُوَ والله
الْإِخْبَاتُ قَوْلُ الله عَزَّ وجَلَّ: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ﴾5"6.
كم منّا في هذا الزّمن يكون مثل (كُلَيْب) يدخل في سلك الَّذِي آمنوا وعملوا
الصالحات وأخبتوا إِلَى ربّهم.
هل نحن كذلك؟!
أمّ أَنَّنا تخلّقنا بأخلاق بني إسرائيل الَّذِين كانوا يسلّمون بالأحكام التي
يرونها متناسبة مع أهوائهم ومنافعهم الشخصية، ويرفضون تلك التي لا تناسبهم، حتّى
قال الله تعالى عنهم في كتابه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾7!!
اختبار الشّيعة بالتّسليم
كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام ينتهزون الفرص والمناسبات لامتحان أصحابهم
ومريديهم بهذا الأمر، فقد روى مأمون الرقي قال: "كنت عند سيدي الصادق عليه السلام،
إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلّم عليه، ثمّ جلس فقال له: يا ابن رسول الله، لكم
الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أن يكون لك حقٌّ تقعد عنه،
وأنت تجد من شيعتك مئة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له عليه السلام: اجلس يا
خراساني، رعى الله حقك! ثمّ قال: يا حنفية اسجري التنور، فسجرته حتى صار كالجمرة
وابيّضّ علوه، ثمّ قال: يا خراساني، قم فاجلس في التنور!. فقال الخراساني: يا سيدي،
يا ابن رسول الله، لا تعذّبني بالنار، أقلني أقالك الله. قال عليه السلام: قد أقلتك.
فبينما نحن كذلك، إذ أقبل هارون المكيّ، ونعله في سبابته، فقال: السلام عليك يا ابن
رسول الله، فقال له الصادق عليه السلام: ألق النعل من يدك. واجلس في التنور قال:
فألقى النعل من سبابته، ثمّ جلس في التنور. وأقبل الإمام عليه السلام يحدّث
الخراسانى حديث خراسان حتى كأنّه شاهدٌ لها، ثمّ قال: قم يا خراساني، وانظر ما في
التنور. قال: فقمت إليه فرأيته متربّعاً، فخرج إلينا وسلّم علينا. فقال له الإمام
عليه السلام: "كم تجد بخراسان مثل هذا؟" فقلت: والله، ولا واحداً! فقال عليه السلام:
لا والله ولا واحداً، أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد فيه خمسة معاضدين لنا، نحن
أعلم بالوقت"8.
ونحن في هذا الزمان الذي كثرت فيه الشبهات يجب أن نكون حريصين جداً على التسليم،
وإن خفيت علينا حِكم الأشياء، لـ "إِنَّ دِينَ الله لَا يُصَابُ بِالْعُقُولِ
النَّاقِصَةِ وَالْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يُصَابُ
إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ، فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ وَمَنِ اهْتَدَى بِنَا
هُدِيَ"9، وكلّ عقل دون عقل الإمام فهو عقل ناقص، وكلّ طريقٍ لم يخطّه أهل البيت
عليهم السلام هو طريق ضلال وعمى.
ما يُسْتكمل به الإيمان
وعلينا لكي نستكمل الإيمان أن نعمل بما روي عن إمامنا الصادق عليه السلام حيث قَالَ:
"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الْإِيمَانَ كُلَّهُ فَلْيَقُلِ: الْقَوْلُ مِنِّي
فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا،
وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ، وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي"10.
ولنعلم أَنَّ هذا التسليم المطلق لله تعالى وأولياء أمورنا يرجع علينا بالنفع
والفائدة في الدنيا والآخرة، كيف والأحكام الإلهية صادرة من منبع الخير والحكمة
المطلقة! فقد يكون الإنسان المسكين معتقداً بمصلحةٍ له في أمرٍ ما، وهي في الواقع
مفسدةٌ له، والعكس صحيحٌ أيضاً، كما دلّ على ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا
وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ
وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾11.
وعليه، فإذا كنّا نؤمن بحكمة ربّنا وبتدبيره، وأنَّ نبيّه وأهل بيته صلوات الله
عليهم أجمعين لا يتجاوزون ربّهم في أفعالهم وأقوالهم: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى
* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾12، فلا مجال
إِلَّا لأنّ نكون مسلّمين لهم في كلّ صغيرةٍ وكبيرة.
السيّدة زينب عليها السلام نموذج للإنسان المسلّم
إذا أردنا أن نذكر شخصيّةً بلغت القمّة في التسليم لأمر الله تعالى، فإنّه تتراءى
أمامنا شخصية سيدتنا ومولاتنا زينب عليها السلام, وذلك لأنّ العقيلة قد عاشت فقدان
جدّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت قد دعت الله عزّ وجلّ أن يشفي جدها،
ولكنَّ أمر الله كان مفعولا، وعاشت فقدان أمّها الصديقة الطاهرة عليها السلام وكانت
قد دعت الله أن يشفي أمها، ولكنّ الزهراء عليها السلام استشهدت، وعاشت سيدتنا زينب
فقدان أخيها الحسن عليه السلام وكانت قد دعت الله أن يشفي أخاها الحسن عليه السلام
ولكنّ أخاها استشهد، عاشت سيدتنا زينب عليها السلام فقدان الأخ والكفيل والأبناء
والأقرباء في يوم واحد، وكانت قد دعت الله أن يسلِّمهم، ولكنّهم استشهدوا.
نعم، سيدتنا زينب في كلّ هذه الموقف دعت الله أن يبقي أحبّتها، ولكنّها عندما لم
يستجب الله دعاءها لم تقل كما يقول بعض الناس إذا لم يستجب الله دعاءهم في مسألة
معيّنة (الله لا يحبّني)، بل قالت صلوات الله عليها عندما خاطبها ذلك اللعين ابن
زياد مستهزءاً كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟! فقالت عليه السلام: "مَا
رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلاً"13.
ونختم حديثنا برواية لطيفة عن التسليم، ذكرها الشَّيْخ الكليني قدس سره في كتابه
بإسناده إِلَى كَامِلٍ التَّمَّارِ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: "(قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أَتَدْرِي مَنْ هُمْ؟ قُلْتُ أَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسَلِّمُونَ، إِنَّ الْمُسَلِّمِينَ هُمُ النُّجَبَاءُ،
فَالْمُؤْمِنُ غَرِيبٌ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ".
جعلنا الله جميعاً من المسلّمين لله ولرسوله ولأوليائه صلوات الله عليهم أجمعين،
والحمد لله ربّ العالمين.
* كتاب وزدناهم هدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة النساء، الآية: 65.
2- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير الأمثل، في تفسير هذه الآية.
3- سورة النساء، الآية: 59.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص390.
5- سورة هود، الآية: 23.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 391.
7- سورة البقرة، الآية: 85.
8- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج47، ص123.
9- (م. ن)، ج 2، ص 303.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص391.
11- سورة البقرة، الآية: 216.
12- سورة النجم، الآيات: 3 - 5.
13- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج45، ص166.