الثورةالحسينية خصائص ومرتكزات
محطات من محرم الحرام
إن عطر الجهاد والمعرفة والشهادة يفوح اليوم كالسابق وهو متزيّن بزينة الإسلام وعشّاق الحسين والمخلصين للإسلام والثورة.إن إسم الحسين بن علي عليه السلام لإسم عجيب، فلو ألقيتم نظرة عاطفية لوجدتم أن ميزة إسم ذلك الإمام بين المسلمين العارفين هي جذب القلوب إليه.
عدد الزوار: 143بسم الله الرحمن الرحيم
إن عطر الجهاد والمعرفة
والشهادة يفوح اليوم
كالسابق وهو متزيّن بزينة
الإسلام وعشّاق الحسين
والمخلصين للإسلام
والثورة.
إن إسم الحسين بن علي
عليه السلام لإسم عجيب،
فلو ألقيتم نظرة عاطفية
لوجدتم أن ميزة إسم ذلك
الإمام بين المسلمين
العارفين هي جذب القلوب
إليه.
ومن لا يتمتع بهذه الحالة،
في الحقيقة هو محروم من
معرفة الإمام الحسين عليه
السلام، ومن جهة ثانية
هناك الكثير من غير شيعة
آل البيت عليه السلام
تذرف دموعهم وتتقلّب
قلوبهم بذكر إسم الحسين
عليه السلام فقد جعل
الباري تعالى في إسم
الإمام الحسين عليه
السلام تأثيراً بحيث لو
ذكر إسمه لسيطرت حالة من
المعنوية على الأفئدة
والأرواح وهذا هو المعنى
العاطفي لذلك الوجود وتلك
الذات المقدّسة، مثلما
كانت هكذا عند أهل
البصيرة منذ البداية، فقد
كانت لهذا الوجود العزيز
خصوصية منفردة وكان موضع
حبّ وعشق في بيت النبي
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم
وأمير المؤمنين عليه
السلام كما يفهم من
الروايات والسيّر
والأخبار والتاريخ،
واليوم هو كذلك.
ومن ناحية المعارف أيضاً،
فقد كانت تلك الشخصية
وكان ذلك الإسم الشريف
مشيراً إلى ذلك المسمّى
العظيم الشأن هكذا، فإن
أهم وأسمى المعارف كامنة
في أقوال هذا الإمام.
ومن الناحية التاريخية
أيضاً، فإن هذا الإسم
وهذه الخصوصية والشخصية
هو مقطع تاريخي وكتاب
مستقل، طبعاً ليس تاريخاً
مبسطاً وسرداً للأحداث،
بل تفسير وبيان للتاريخ
ودروس في الحقائق
التاريخية.
والعبرة في قضية الإمام
الحسين عليه السلام هي
عندما يتأمّل الإنسان في
تاريخ المجتمع الإسلامي،
ذلك المجتمع الذي كان
يرأسه شخص غير عادي كرسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم، هذا النبي الذي
كان يتمتع بقدرة تفوق
إدراك البشر، والمرتبط
بالوحي الأزلي والحكمة
الفريدة اللامتناهية،
والمجتمع الذي حكمه بعد
ذلك علي بن أبي طالب عليه
السلام، حيث أصبحت
المدينة والكوفة مركزي
هذه الحكومة العظمية، فما
الذي حدث بعد ذلك، وأيّة
جرثومة دخلت بدن هذا
المجتمع حتى قتل الحسين
بن علي عليه السلام في
ذلك المجتمع وبين هؤلاء
الناس وبتلك الصورة بعد
مضي نصف قرن على وفاة
النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وعشرين سنة على
شهادة أمير المؤمنين عليه
السلام ؟ فما الذي حدث
وكيف ؟ ! وما حدث ليس بحقّ إبن مجهول بل بحقّ من كان
يحتضنه النبي الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم في
الصغر، ويصعده معه على
المنبر ويخطب في الناس،
بحقّ من قال في حقّه رسول
الله صلى الله عليه وآله
وسلم : " حسين مني وأنا
من حسين" هكذا كانت
العلاقةوثيقة بين الأب والإبن،
ذلك الإبن الذي كان ركناً
من أركان حكومة أمير
المؤمنين عليه السلام في
الحرب والصلح والسياسة،
وكان كالشمس الساطعة.
إن العامل الرئيس في وقوع
هذه القضية هو استشراء حب
الدنيا والفساد والفحشاء،
بحيث سُلِبت الغيرة
الدينية والشعور
بالمسؤولية الإيمانية.
فإننا عندما نؤكد علي
قضية الفساد والفحشاء،
والجهاد والنهي عن المنكر
وأمثال هذه الأمور، فإن
أحد أسبابها الرئيسية هو
تسببها في تخدير المجتمع،
فالمدينة المنورة التي
كانت القاعدة الأولى
لتأسيس الحكومة الإسلامية
تحوّلت بعد فترة قصيرة
إلى مركز لأفضل
الموسيقيين والمغنين
وأشهر الراقصات، بحيث
عندما كان يراد دعوة أفضل
المغنين إلى بلاط الشام،
كانوا يبعثون على أفضل
المغنين والعازفين في
المدينة وهذا التجاسر لم
يحدث بعد مائة أو مائتي
عام، إنما حدث في زمن
استشهاد بضعة فاطمة
الزهراء عليه السلام
وقرّة عين الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم بل
حتى قبل ذلك، أي في زمن
معاوية، ولهذا أصبحت
المدينة مركزاً للفساد
والفحشاء، ووقع أبناء
الشخصيات والأعيان حتى
بعض شباب بني هاشم في
الفساد والفحشاء أيضاً،
وقد أدرك رجال الحكومة
الفاسدة ما يجب فعله ووضع
البنان عليه والترويج له،
وهذه البلية لم تنفرد بها
المدينة فقط، بل وقعت
فيها مناطق أخرى.
ومن هنا تظهر أهمية
التمسك بالدين والتقوى
والمعنوية والورع والعفة.
العامل الآخر الذي أدّى
إلى وقوع هذا الأمر هو
إعراض وعدم اهتمام أتباع
الحق الذين كانوا يشكّلون
الأركان الحقيقية للولاية
والتشيّع بمصير العالم
الإسلامي، فقد تظاهر
البعض بالحماس والثورة
فترة، فضايقهم الحكّام،
كقضيّة الهجوم على
المدينة في عهد يزيد، حيث
ثار هؤلاء ضدّ يزيد، فبعث
إليهم رجلاً ظالماً قام
بمقتلة عظيمة، فتركت هذه
الجماعة كل شيء جانباً
ونسيت القضية، وهذه
الجماعة لم تشمل كلّ أهل
المدينة، وكانت الخلافات
قائمة بينها، فافتقدوا
إلى الوحدة والتنظيم
والارتباط الكامل بين
الأفراد، أي عملوا خلافاً
للتعاليم الإسلامية تماماً،
وكانت النتيجة أن هاجمهم
العدو بكل شراسة، فتراجع
هؤلاء في أول خطوة، وهذه
نقطة مهمة: لأن من
البديهي أن تتقاتل جبهتا
الحق والباطل وتوجهان
الضربات إلى بعضهما البعض،
فكما أن جبهة الحق توجّه
الضربات إلى الباطل، كذلك
الباطل يوجّه الضربات إلى
جبهة الحق، وتظهر النتيجة
عندما تتعب إحدى الجبهتين،
فالجبهة التي تتعب أسرع
تنهزم.
إن رمز استمرار تعاليم
الأنبياء منذ البداية حتى
النهاية هو كلمة التوحيد
والفضائل والقيم الدينية
التي كرّروها، وقد ملئت
الدنيا بهذه التعاليم
اليوم، وأينما تلقون
أبصاركم تجدون تعاليم
الأنبياء رغم القمع الذي
واجهه الأنبياء فقد آذوا
موسى كثيراً، وطاردوا
عيسى بن مريم وضيّقوا
عليه، لكن رغم كل ذلك
بقيت تعاليمهم إلى يومنا
هذا، والسرّ الرئيسي هو
عدم تقهقر الأنبياء،
وهزيمة أحدهم لم تسبّب
تراجع الآخر عن محاربة
الباطل، فقد تلقّى جميع
الأنبياء في حياتهم
الضربات من الأعداء، لكن
كانت نتيجة عمل هذه
المجموعة ـ الذين أن
قُتِلوا أو حُرِّقُوا أو
سُجنوا أو قُطِّعوا
بالمناشير وهم أحياء، أو
عُذّبوا من قبل
المتسلّطين ـ إن العالم
يعيش اليوم تحت ظل تعاليم
الأنبياء عليه السلام
وتعاليمهم مطروحة أينما
تذهبون، وكل الأخلاق
الحسنة والمسميات الجميلة
كالعدالة والصلح و...
سببها تعاليم الأنبياء،
والسرّ في ذلك هو عدم
شعورهم بالتعب وعدم
تقهقرهم.
لكن هذه القاعدة كانت
مفقودة في عهد الإمام
الحسين عليه السلام وفي
ذلك المقطع من تاريخ
الإسلام الذي وقعت فيه
الكثير من الفجائع وذلك
لعدم وجود ارتباط وعلاقة
بينهم، وشعورهم بالهزيمة
والتعب سريعاً، وإخلائهم
الساحة ليتقدم العدو.
لقد استُغِلَّت هذه
التجربة مرة واحدة بشكل
صحيح وتحقق فيها النصر
المطلق، ألا وهي الثورة
الإسلامية في عصرنا، لقد
خلق الباري تعالى إمامنا
العظيم بشكل لم تكن تلك
الشخصية تشعر بالتعب
والهزيمة، ولم يكن للفشل
اثر على روحه أبدا، بل
كان يحاول التقدم حتى في
أصعب الظروف، فلقد رأيتم
عن قرب طوال الأعوام
الثمانية من الحرب أن لذي
لم يقرر الانسحاب في أصعب
الظروف هو شخص الإمام قدس
سره، فكان صامداً كالجبل
الراسخ، والإنسان يجاهد
بسهولة لو كان وراءه جبل
راسخ كالإمام، وقد كان
الإمام هكذا في مرحلة
الكفاح أيضاً، فاستمر في
الكفاح رغم الكثير من
الهزائم والصعاب والتعذيب
والضغوط والنفي وكِبر
السن، حيث لم يكن الإمام
شاباً عندما دخل ساحة
الكفاح، بل كان يبلغ
ثلاثة وستين عاماً عندما
بدأ، وأتذكر في خطاباته
عام 1341هـ. ش "1362"م"
حيث كان يقول: لماذا وممَّ
أخاف؟ فإن قتلوني فعمري
63 وسأموت وأنا في عمر
النبي الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم وأمير
المؤمنين عليه السلام،
فأيَّة سعادة أعظم من هذه؟
هكذا كان منطقه.
ركائز
بنية النظام النبوي
أشير أولاً وكمقدّمة
للموضوع إلى أن الرسول
الأكرم صلى الله عليه
وآله وسلم أرسى
أسس نظام
كانت بناه الأساسية تقوم
على عدِّة ركائز.. تعتبر
أربعة منها الثقل في ذلك
البناء وهي:
الأول: المعرفة المتقنة
الخالية من الغموض في
شؤون الدين، ومعرفة
الأحكام، والمجتمع،
والتكليف، ومعرفة الله
والرسول، ومعرفة الطبيعة،
وهذه هي المعرفة التي
انتهت إلى تراكم العلوم
وبلغت بالمجتمع الإسلامي
في القرن الرابع للهجرة
ذروة المدنية والحضارة
العلمية، فالرسول الكريم
صلى الله عليه وآله وسلم
لم يترك أي إبهام وغموض،
ولدينا في هذا الصدد آيات
مدهشة من القرآن الكريم،
وحيثما كان هناك موضع
غموض أو التباس، كانت
تنزل آية تجليه.
الثاني: العدالة التي لا
محاباة فيها سواء في حقل
القضاء، أم في حقل
الاستحقاقات العامّة ـ لا
ما يتعلق بحقه الشخصي إذا
كان صلى الله عليه وآله
وسلم يعفو عن حقّه ـ أي
العدل التام فيما يتعلَّق
بعامة الناس ويجب تقسيمه
بينهم بالعدل.
وكذا العدالة في تطبيق
حدود الله. وفي توزيع
المناصب وتفويض
المسؤوليات، وتحمّل
المسؤولية.
ومن البديهي أن العدالة
غير المساواة، فقد يكون
في المساواة ظلم أحياناً،
بينما في العدالة تعني
وضع كل شيء في نصابه،
وإعطاء كل شخص حقّه، فقد
كان العدل حينذاك عدلاً
مطلقاً لا تشوبه شائبة،
ولم يكن في عهد الرسول
استثناء لأي شخص يجعله
خارج إطار العدالة.
الثالث: العبودية الخالصة
لله والخالية من أي شرك:
أي العبودية لله في العمل
الفردي.. العبودية في
الصلاة حيث يجب أن يكون
فيها قصد التقرّب إليه
وكذلك العبودية له في
بناء المجتمع وفي النظام
الحكومي وفي نظام الحياة،
والعلاقات الاجتماعية بين
الناس، وهذا موضوع يستلزم
بحدّ ذاته شرحاً مستفيظاً.
الرابع:
المحبة الغامرة
والعاطفة الفيّاضة. وهذه
من السمات الأساسية
للمجتمع الإسلامي.. حبّ
الله وحبّه تعالى للناس
﴿يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ﴾،
﴿إِنَّ
اللّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِين﴾،
﴿قُلْ
إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ
اللّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾.. حبّ
الزوجة وحب الأولاد، من
المستحب تقبيل الأولاد،
وتستحب محبتهم، ويستحب حب
الزوجة، ويستحب حبّ
الأخوة المسلمين والتحبب
إليهم، والأعظم هو حب
الرسول وأهل بيته.. قال
تعالى:
﴿إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى﴾.
لقد رسم الرسول هذه
الخطوط العريضة وأرسى
ركائز المجتمع على أساسها،
ووضع معالم الحكومة عشر
سنوات على هذا المنوال،
ومن الواضح طبعاً أن
تربية الناس تأتي على نحو
تدريجي ولا تتحقق جملة
واحدة. وبذل الرسول قصارى
جهده على امتداد هذه
السنوات العشرة لترسيخ
تلك الأسس، والعمل على مد
تلك الجذور في أعماق
الأرض، إلاّ أن فترة
العشر سنوات تعتبر قصيرة
جداً إذا ما أريد بها
تربية الناس على خلاف ما
كانوا قد ترعرعوا عليه من
سجايا وخصائص، فقد كان
المجتمع الجاهلي في كل
شؤونه على النقيض تماماً
من مضامين هذه الركائز
الأربعة: لأنه كان فارغاً
من أية معرفة وغارقاً في
حيرة الجهل والضلال، ولم
تكن لديه أية عبودية لله،
بل كان مجتمع تجبّر
وطغيان، وكان مجتمعاً
بعيداً عن العدالة ومليئاً
بألوان الظلم والتمييز.
ملامح من المجتمع الجاهلي
لقد رسم أمير المؤمنين
عليه السلام في الخطبة
الثانية من نهج البلاغة
صورة فنية رائعة عمّا كان
سائداً في العصر الجاهلي
من ظلم وتمييز، جاء فيها
" في فتن داستهم بأخفافها
ووطأتهم بأظلافها"، كان
المجتمع آنذاك مجرداً من
معاني المحبّة، كانوا
يئدون بناتهم، وكانت كل
قبيلة تثأر لقبيلتها من
أي رجل تجده من قبيلة
القاتل، سواء كان مستحقاً
للقتل أم غير مستحق،
وسواء كان مجرماً أم
بريئاً، وسواء كان عالماً
بتلك القضية أم لام.. كان
يسودهم الاضطهاد والقسوة
والغلظة والفظاظة.
من نشأ في تلك الحالة
يمكن أن يصلُح ويُهذَّب
على مدى عشر سنوات ـ إن
تحققت شروط ذلك ـ ويمكن
إدخاله في الإسلام، ولكن
لا يمكن غرس هذه القيم
والمفاهيم في أعماق نفسه
إلى الحد الذي يجعل لديه
القدرة على إيجاد نفس هذا
التأثير على الآخرين.
دخل الناس في الإسلام
أفواجاً أفواجاً، ودخل في
الإسلام أناس لم يعايشوا
الرسول ولم يدركوا تلك
السنوات العشرة مع
النبي. وهنا
تتجلّى أهمية مسألة
الوصيّة التي يعتقد بها
الشيعة، ويكمن منشأ
الوصية والنص الإلهي، من
أجل ديمومة ذلك النهج
التربوي، وإلاّ فمن
الواضح أنها ليست من سنخ
أنواع الوصايا الأخرى
المتداولة في هذا العالم،
فكل إنسان يوصي قبل وفاته
لابنه إلا أن القضية هناك
تعني لزوم استمرارية نهج
الرسول من بعده.
المجتمع الإسلامي بعد
وفاة الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم
لا أريد الدخول في
المباحث الكلامية بل أريد
تناول التاريخ بشيء من
التحليل ولتتناولوه انتم
أيضاً بمزيد من التحليل.
لهذا البحث ـ طبعاً ـ صلة
بالجميع ولا يختص بالشيعة
وحدهم، فهو للشيعة
وللسنّة ولجميع الفرق
الإسلامية على حدّ سواء.
ونظراً لما يتصف به من
الأهمية، يجب أن يحظى إذن
باهتمام من قِِبَل الجميع.
فالوقائع التي جرت من بعد
رحيل الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم، يجب أن
يلاحظ متن التأريخ بشأنها.
فمن البديهي أن البناء
الذي بناه الرسول ما كان
لينهار بهذه السهولة،
ولهذا نلاحظ أن من بعد
رحيله، استمرت عامة
الأمور ـ باستثناء قضية
الوصية ـ على ما كانت
عليه، فكانت العدالة في
وضع حسن، والذكر في حالة
حسنة، والعبادة على ما
يرام.
وإذا نظر المرء إلى
الهيكل العام للمجتمع
الإسلامي في سنواته
الأولى يجد الأمور كما
كانت عليه.
نعم كانت تقع بعض الحوادث
بين الفينة والأخرى إلا
أن ظواهرالأمور كانت تعكس بقاء
نفس الأسس والركائز التي
وضعها الرسول، بيد أن ذلك
الوضع لم يدم طويلاً،
فكلما كان الوقت يمضي كان
المجتمع الإسلامي ينحدر
تدريجياً نحو الضعف
والخواء.
معالم الصراط المستقيم
ثمة نقطة في سورة الحمد
أشرت إليها عدِّة مرَّات.
فحينما يدعوا الإنسان
ربّه:
﴿اهدِنَا
الصِّرَاطَ المُستَقِيم﴾
يوضح بعدها
معنى ذلك الصراط المستقيم
في قوله:
﴿صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنعَمتَ
عَلَيهِمْ﴾
فهو تعالى
قد أنعم على الكثير من
الأقوام والأمم، فأنعم
على بني إسرائيل:
﴿يَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ
عَلَيْكُم﴾
والنعمة الإلهية لا تختص
بالأنبياء والصالحين
والشهداء:
﴿أُوْلَئِكَ
مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ
النَّبِيِّينَ
وَالصِّدِّيقِين﴾
هؤلاء
أيضاً نالوا النعمة،
وكذلك بنو إسرائيل نالوا
النعمة.
والذين ينعم عليهم فريقان
فريق حينما ينال النعمة
لا يتعرض لغضب الله، ولا
يحقق دواعي الغضب الإلهي
ولا يضل سبيل الهداية،
وهؤلاء هم الذين ندعو
الله أن يهدينا سبلهم.
وعبارة
﴿غَيرِ
المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾
تمثل في الحقيقة
صفة
﴿الَّذِينَ
أَنعَمتَ عَلَيهِم﴾
أي أن صفة " الذين" هي
﴿غَيرِ
المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾.
أما الفريق الآخر فهم
الذين حينما أنعم الله
عليهم، بدلوا النعمة
وتمرّدوا عليها، ولهذا حلّ
عليهم غضبه، أو أنهم
ائتموا بأولئك فضَلُّوا
السبيل. وتشير رواياتنا
إلى إن المراد من
﴿المَغضُوبِ
عَلَيهِمْ﴾ هم اليهود. وهذا
البيان مصداق لتلك
الحقيقة، لأن اليهود وحتى
زمن النبي عيسى، كانوا
يحاربون النبي موسى
وأوصياءه عن علم وقصد.
أما المسلمون فأنزل الله
عليهم نعمته.. إلا أن
النعمة تبدّلت ـ نتيجة
لما اقترفوه ـ نحو
المغضوب عليهم وباتجاه
الضالين ـ ولهذا ورد عن
الإمام الصادق عليه
السلام انه قال: "
لما قُتل الحسين اشتدّ
غضب الله على أهل الأرض"، وذلك
لأنه إمام معصوم، ويُفهم
من هذا أن المجتمع الذي
ينال النعمة الإلهية قد
يسير في اتجاه يجلب عليه
غضب الله. ولهذا يجب
توقّي أقصى درجات الدقّة
والحذر في المسير، وهو
أمر عسير طبعاً ويستلزم
الانتباه واليقظة.
أهمية التقوى
إن المرء لا يقف على
حقيقة مثل هذه
التطورات الاجتماعية
إلا بعد مرور وقت
طويل، وهذا ما يوجب
علينا الانتباه
والحذر والمراقبة،
وهو معنى التقوى..
فالتقوى معناها أن
يتحرّز على نفسه من
ليس له سلطان إلا على
نفسه. وان يتحرز على
نفسه وعلى غيره من له
سلطان على غيره أيضاً.
أما الذين يقفون على
رأس السلطة فيجب
عليهم التحرّز على
أنفسهم وعلى المجتمع
كلّه لكي لا ينزلق
نحو التهافت على
الدنيا والتعلّق
بزخارفها، ولا يسقط
في هاوية حب الذات.
وهذا لا يعني طبعاً
الانصراف عن بناء
المجتمع، بل يجب بناء
المجتمع والاستكثار
من الثروة ولكن لا
لأنفسهم، فهذا مستقبح.
يجب لهذا الحذر من
الوقوع في مثل هذه
المنزلقات، وإذا
انعدم الحذر ينحدر
المجتمع تدريجيا نحو
التخلي عن القيم
ويبلغ مرحلة لا تبقى
له فيها سوى القشرة
الخارجية، وقد يأتيه
على حين غرّة ويفاجئه
ابتلاء شديد ـ
كالابتلاء الذي تعرّض
له ذلك المجتمع حين
اندلاع ثورة أبي
عبد الله ـ فلا يخرج
ظافراً وهذا ما حدث
مع عمر بن سعد حين
عرضت عليه ولاية الري.
وكانت الري في ذلك
الوقت ولاية شاسعة
وغنية ولم يكن منصب
الإمارة " على عهد
بني أُمية " كمنصب
المحافظ في الوقت
الحاضر، فالمحافظون
اليوم موظفون حكوميون
يتقاضون مرتبات
ويبذلون جهوداً شاقة،
ولم يكن الأمر حينذاك
على هذا النحو، الشخص
الذي ينصب والياً كان
مطلق اليد في التصرف
بجميع الثروات
الموجودة في تلك
المدينة، يتصرف فيها
كيف يشاء بعد أن يرسل
مقداراً منها إلى
عاصمة الخلافة، ولهذا
كان لمنصب الوالي
أهمية عظمى. ثم شرطوا
تولية الري بمحاربة
الحسين عليه السلام.
ومن الطبيعي أن
الإنسان النبيل وصاحب
القيم لا يتردد لحظة
في رفض مثل هذا العرض،
ما قيمة الري وغير
الري، لو وضعت الدنيا
بين يديه فلا يعبس
بوجه الحسين.. لا
يكفهر بوجه الحسين، فما بالك بالنهوض
لمحاربة عزيز الزهراء
وقتله هو وأطفاله.
هكذا يقف الإنسان
الذي يحمل قيماً،
ولكن حينما يكون
المجتمع خاوياً
ومجرداً من القيم،
وحينما تضعف هذه
المبادئ الأساسية بين
أفراد المجتمع، ترتعد
الفرائص عند ذاك،
وأكثر ما يستطيع
المرء عمله في مثل
هذا الموقف هو أنه
يستمهلهم ليلة واحدة
للتفكير في الأمر.
وحتى لو انه فكّر سنة
كاملة لوصل إلى نفس
النتيجة ولاتخذ نفس
القرار، إذ لا قيمة
لمثل هذا النمط في
التفكير، إلا أن
الرجل فكّر في الأمر
ليلة وأعلن في اليوم
التالي عن موافقته
على ذلك العرض، إلا
أن الله تعالى لم
يمكّنه من بلوغ تلك
الغاية، وكانت نتيجة
ذلك أن وقعت فاجعة
كربلاء.
العاطفة الحسينية
وتجسيد القيم
وشخص كالإمام الحسين
عليه السلام ـ حيث
شكّل تجسيداً لكل
القيم الإلهية
والإنسانية ـ ينهض
بالثورة حتى يقف بوجه
استشراء الانحطاط
الذي اخذ يتفشى في
أوصال المجتمع وأوشك
أن يأتي على كل شيء
فيه. بلغ الانحطاط أن
لو شاء الناس العيش
حياة إسلامية كريمة،
فإنهم يجدون أيديهم
خالية من كل شيء، وفي
ظرف كهذا يثبت الإمام
الحسين عليه السلام
ويقف بكل وجوده أمام
ذلك الخواء والفساد
المتصاعد، ويضحّي من
أجل القيم الإلهية
بنفسه وبأحبائه
وبإبنيه علي الأصغر
وعلي الأكبر. وبأخيه
العباس.. ثم يصل إلى
النتيجة المطلوبة.
أحيا الإمام الحسين
عليه السلام بثورته
خط ونهج جده رسول
الله صلى الله عليه
وآله وسلم وهو معنى
قول النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: " حسين مني وأنا من
حسين"، هذا هو الوجه
الآخر للقضية. فواقعة
كربلاء الزاخرة
بالحماسة، وهذه
الملحمة الخالدة لا
يمكن إدراك كنهها إلا
بمنطق العشق وبمنظار
الحب. فهي واقعة لا
يتيسر النظر إليها
إلا بعين العشق ليفهم
ما الذي صنعه الحسين
بن علي من بطولة ومجد
خلال يوم وليلة، أي
منذ عصر يوم
|
21 |
|
التاسع من محرّم
وحتى عصر العاشر منه..
بحيث خلّده في هذه
الدنيا وسيخلّده إلى
الأبد. ولهذا أخفقت
جميع الجهود التي
بُذلت لمحو حادثة
الطف من الأذهان
وطيّها في إدراج
النسيان، وهذا ما
تقدّمه بعض الأمور
الصور الحيّة من
واقعة الطف.
في كتاب المقتل ـ
المعروف باللهوف ـ
لابن طاووس.. بعد تلك
المشاهد العظيمة لذكر
مصيبة الحسين عليه
السلام. وكتاب المقتل
هذا، كتاب معتبر جداً، ومؤلفه السيد علي
بن طاووس عالم فقيه
وعارف كبير، وصدوق
موثّق، وموضع احترام
لدى الجميع وأستاذ
فقهاء كبار، وكان
أديباً وشاعراً وذا
شخصية بارزة، كتب أول
مقتل معتبر وموجز،
وقبل كتاب اللهوف كتب
الكثير في مقتل
الحسين عليه السلام، وحتى أستاذه ـ ابن
نما ـ له كتاب في
المقتل والشيخ الطوسي
أيضاً له كتاب في
المقتل، وغيرهما، إلا
انه حينما كتب "
اللهوف " غطّى على
جميع الكتب الأخرى في
المقتل، لأنه كتاب
قيّم اختيرت عباراته
بدّقة وإيجاز.
من جملة المشاهد التي
يصورها في كتابه هذا
هو بروز القإسم بن
الحسن إلى الميدان،
وكان فتى لم يبلغ
الحلم، ليلة عاشوراء
حيث أعلم الحسين عليه
السلام أصحابه بأن
المعركة ستقع وإنهم
سيقتلون جميعاً،
فأحلّهم وأذن لهم
بالانصراف، فأبوا إلا
أن يكونوا إلى جنبه،
وفي تلك الليلة سأل
هذا الفتى عمّه
الإمام الحسين عليه
السلام، هل سيقتل هو
أيضاً في ساحة
المعركة؟ فأراد
الإمام الحسين عليه
السلام اختباره ـ على
حد تعبيرنا ـ فقال له:
كيف ترى الموت؟ قال:
أحلى من العسل.
لاحظوا، هذا مؤشر على
طبيعة القيم التي كان
يحملها أهل بيت
الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم ومن تربّى
في حجور أهل البيت.
فقد ترعرع هذا الفتى
منذ نعومة أظفاره
في حجر الإمام الحسين
عليه السلام، فكان
عمره حين شهادة أبيه
ثلاث أو أربع سنوات،
فتكفّل الإمام الحسين
عليه السلام تربيته،
وفي يوم عاشوراء وقف
هذا الفتى إلى جانب
عمّه.
وجاء في هذا المقتل
ذكر هذه الواقعة على
النحو التالي: قال
الراوي: وخرج الغلام
كأن وجهه شقّة القمر
وجعل يقاتل". لقد
دوّن الرواة كل أحداث
ووقائع عاشوراء
بتفاصيلها، فذكروا
إسم الضارب والمضروب
ومَن ضرب أولا، واسم
أول من رمى، ومن سلب،
ومن سرق، فالشخص الذي
سرق قطيفة أبي عبد
الله ذكروا إسمه،
وكان يُطلق عليه في
ما بعد لقب: "سارق
القطيفة".
ومن الواضح أن أهل
البيت عليه السلام
ومحبيهم لم يتركوا
هذه الحادثة تضيع في
مجاهل التاريخ.
"فضربه ابن فضيل
الأزدي على رأسه
ففلقه، فوقع الغلام
لوجهه وصاح، يا عمّاه.
فجلى الحسين عليه
السلام كما يجلي
الصقر، وشدّ شدّة ليث
أغضب، فضرب ابن فضيل
بالسيف فاتقاها
بساعده فأطنّها من
لدن المرفق، فصاح
صيحة سمعه أهل
المعسكر، فحمل أهل
الكوفة لينقذوه،
فوطأته الخيل حتى هلك".
دارت معركة عند مصرع
القاسم.. هزمهم
الحسين عليه السلام
بعد أن قاتلهم.
قال الراوي: " وانجلت
الغبرة، فرأيت الحسين
عليه السلام قائماً
على رأس الغلام وهو
يفحص برجله، والحسين
يقول: بعداً لقوم
قتلوك". يا له من
مشهد مؤثّر يعكس رقّة
الحسين عليه السلام
وحبّه لهذا الفتى، من
جهة، وصلابته إذ أن
له في القتال
والتضحية من جهة أخرى.
كما ويدلّ
أيضاً على ما لهذا
الفتى من عظمة وروحية،
وما يتّصف به الأعداء
من قسوة لجعلهم
يتصرفون مع هذا الفتى
بمثل هذا السلوك.
ويصوّر كتاب اللهوف
مشهداً آخر من مشاهد
تلك الواقعة وهو بروز
علي الأكبر للقتال.
وكان مشهداً مثيراً
حقاً من جميع أبعاده
وجوانبه. فهو مثير من
جهة الإمام الحسين
ومثير من جهة هذا
الشاب ـ علي الأكبر ـ
ومثير من جهة النساء
وخاصة عمّته زينب
الكبرى، وذكروا أن
عليّاً الأكبر كان
بين الثامنة عشر إلى
الخامسة والعشرين سنة
من عمره، أي انه كان
في الثامنة عشر من
عمره على أقل التقدير
أو ما بينها وبين
الخامسة والعشرين أو
في الخامسة والعشرين
على أعلى تقدير.
قال الراوي:
"خرج علي
بن الحسين وكان أصبح
الناس وجهاً وأحسنهم
خلقاً، فاستأذن أباه
في القتال فأذن له".
لما جاءه القاسم بن
الحسن واستأذنه، لم
يأذن له في بداية
الأمر، وبعد أن ألحّ
الغلام إذن له. أما
بالنسبة لعلي بن
الحسين، فيما انه
ابنه، فما أن استأذن
حتى أذن له، ثم نظر
إليه نظرة آيسٍ منه
وأرخى عليه السلام
عينيه وبكى.
هذه هي إحدى الخصائص
العاطفية التي يتميز
بها المسلمون وهي
البكاء عند المواقف
والأحداث المثيرة
للعواطف. فأنتم
تلاحظون انه عليه
السلام بكى في مواقف
متعددة، وليس بكاؤه
عن جزع ولكنه لشدّة
العاطفة، والإسلام
ينمّي هذه العاطفة
لدى الفرد المسلم.
ثم قال: " اللهم اشهد
فقد برز إليهم غلام
أشبه الناس خَلقاً
وخُلقاً ومنطقاً
برسولك".
أريد أن أبيّن لكم
هنا مسألة وهي أن
فترة الطفولة التي
عاشها الحسين إلى جنب
جدّه، كان النبي يحبه
كثيراً، وكان هو
بدوره أيضاً شديد
الحب لرسول الله،
وكان تقريباً في
السادسة أو السابعة
من عمره عند وفاة
الرسول وبقيت صورته
عالقة في ذهنه. وحب
الرسول متجذر في
أعماق قلبه.. ثم رزقه
الله في ما بعد ولداً،
هو علي الأكبر.. مضت
الأيام وشبّ هذا
الفتى وإذا به يشبه
في خلقته رسول الله
تمام الشبه، فترسّخ
حبه في قلب الحسين
كحبّه للنبي، فكان
هذا الفتى يشبه النبي
في شكله وشمائله وفي
صوته وكلامه وفي
أخلاقه، ويحمل نفس
ذلك الكرم والشرف
المحتد.
ثم قال عليه السلام :
" وكنا إذا اشتقنا
إلى نبيك نظرنا إليه"، ثم صاح الحسين عليه
السلام : " يا ابن
سعد قطع الله رحمك
كما قطعت رحمي".
فتقدم علي الأكبر نحو
القوم فقاتل قتالاً
شديداً وقتل جمعاً
كثيراً، ثم رجع إلى
أبيه وقال: " يا
أبت العطش قد قتلني
وثقل الحديد قد
أجهدني، فهل إلى شربة
ماء من سبيل"؟
فقال له الحسين: " قاتل قليلاً فما أسرع
ما تلقى جدّك محمداً
صلى الله عليه وآله
وسلم فيسقيك بكأسه
الأوفى شربة لا تظمأ
بعدها". فرجع إلى
موقف النزال وقاتل
أعظم القتال، وبعد أن
ضُرب نادى: " يا
أبتاه عليك السلام،
هذا جدي يقرؤك السلام
ويقول لك عجّل القدوم
علينا"..
هذه مشاهدة مروّعة من
تلك الواقعة الخالدة،
ولم تكن واقعة الطف
هذه استنقاذاً لحياة
شعب أو حياة أمة فحسب،
وإنما كانت استنقاذاً
لتأريخ بأكمله،
فالإمام الحسين عليه
السلام، وأخته زينب
عليه السلام، وأصحابه وأهل بيته
عليه السلام أنقذوا
التاريخ بموقفهم
البطولي ذاك.
المجتمع وعوامل
الانحراف
إن أول ما يلفت
انتباهنا في قضية
عاشوراء هي أن نلاحظ
ماذا حدث بعد خمسين
سنة من وفاة الرسول
صلى الله عليه وآله
وسلم بحيث وصل الحد
إلى أن يضطر مثل
الإمام الحسين عليه
السلام إلى أن يضحّي
بنفسه لأجل إنقاذ
المجتمع الإسلامي.
تارة تكون هذه
التضحية بعد ألف عام
من صدر الإسلام أو
تكون في مركز الدول
والشعوب المعاندة
للإسلام والمعارضة له
وهذا كلام آخر. ولكن
الذي يجدر بالبحث
والتأمل هو أن تكون
هذه الثورة في مركز
الإسلام وفي المدينة
ومكة "مركز الوحي"
وبواسطة الإمام
الحسين بن علي عليه
السلام بحيث لا يجد
وسيلة غير التضحية
بنفسه تضحية دموية
عظيمة.
إذن فأي وضع كان بحيث
يشعر الحسين بن علي
عليه السلام أن حياة
الإسلام مرهونة
بالتضحية بنفسه، وإلاّ
سيفرّط بالإسلام؟
فنحن يجب أن ننظر
ونلاحظ الذي حدث حتى
آل الأمر إلى أن يصبح
شخص كيزيد حاكماً على
المجتمع الإسلامي ؟
المجتمع الإسلامي
الذي كان النبي فيه
حاكماً في مكة
والمدينة ويعطي فيه
الرايات للمسلمين
فيذهبون إلى أقصى
نقاط جزيرة العرب
وحدود الشام ويهددون
الإمبراطورية
الرومانية ويفرّ جنود
العدو أمامهم ويرجع
المسلمون مؤزرين
بالنصر "كما حدث في
تبوك" كيف أصبح هذا
المجتمع الإسلامي
الذي كان يعلو في
مسجده وشوارعه صوت
تلاوة القرآن ويقرأ
فيه شخصية كالنبي صلى
الله عليه وآله وسلم
الآيات القرآنية
بلحنه وأنفاسه ويعظ
فيه الناس ويقودهم
إلى الصراط القويم.
ماذا حلّ بهذا
المجتمع وهذا البلد
وهذه المدن بحيث
ابتعدوا عن الإسلام
لدرجة أن يتآمر عليهم
شخص كيزيد؟ لماذا يحلّ
ظرف بحيث يكون فيه
مثل الحسين بن علي
عليه السلام مضطراً
إلى هذه التضحية
العظيمة والتي لا
نظير لها في التاريخ،
ما الذي حصل حتى
وصلوا إلى هذه الحالة؟
يجب أن نبحث هذا
الأمر بدقة.
فنحن اليوم بمجتمع
إسلامي، ويجب أن نرى
ما هي الآفة التي
حلّت بذلك المجتمع
الإسلامي بحيث أوكل
أمره إلى يزيد، وآل
الأمر إلى رفع رؤؤس
أولاد أمير المؤمنين
عليه السلام على
القنا وان يُطاف بها
في المدينة التي كان
يحكم فيها قبل عشرين
سنة.
فالكوفة هي نفس تلك
المدينة التي كان
أمير المؤمنين عليه
السلام يتجول في
أسواقها، ويحمل سوطه
على عاتقه ليأمر
الناس بالمعروف
وينهاهم عن المنكر،
وهناك كانت تعلو
أصوات تلاوة القرآن
في آناء الليل وأطراف
النهار من المسجد،
هذه هي المدينة التي
يُطاف فيها الآن
ببنات وحرم أمير
المؤمنين عليه السلام
أسرى في سوقها. ما
الذي حدث حتى وصل
الحال إلى هنا بعد
عشرين عاماً؟ الجواب
هو وجود مرض في
المجتمع له القدرة
على أن يوصل خلال بضع
عقود مجتمعات كان
يترأسها أمثال
الرسول الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم
وأمير المؤمنين عليه
السلام إلى هذا الوضع
المأساوي، فهذا مرض
خطير ولذا يجب أن
يحذر مجتمعنا من
الابتلاء بهذا المرض
ويجب أن نحدده
ونعتبره خطراً جدياً
ونتجنب عنه، وفي نظري
فإن نداء عاشوراء هذا
أشد فورية لنا اليوم
من سائر دروس ونداءات
عاشوراء. يجب أن ندرك
أيّ بلاء حلّ على
المجتمع الإسلامي
بحيث يطاف برأس
الحسين عليه السلام
السبط الأول في
العالم الإسلامي وابن
خليفة المسلمين علي
بن أبي طالب عليه
السلام في نفس
المدينة التي كان
يتربع والده على منبر
الخلافة فيها ومن دون
أن يتحرك ساكن، يجب
أن نفهم كيف جاء
أشخاص تلك المدينة
إلى كربلاء ليقتلوه
هو وأصحابه عطاشى
ويسبوا حرم أمير
المؤمنين عليه السلام
ولكنني أعرض آية
قرآنية في مقام
الجواب عن هذه
التساؤلات. لقد أعطى
القرآن الجواب وحدده
للمسلمين في آفتين
ومرضين، وهذه هي
الآية:
﴿فَخَلَفَ
مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّبَعُوا
الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾.
إذن هناك عاملان هما
أساس للضلالة
والانحراف العام،
أحدهما الابتعاد عن
ذكر الله والذي
يتجلّى في الصلاة
والعبادة، والذي يعني
الغفلة عن الله
والمعنويات وفصل
الحياة عن المعايير
المعنوية، وإهمال
التوجه إلى الله
تعالى والذكر والدعاء
والتوسل وطلب التوفيق
منه، والتوكل عليه
وفصل الحسابات
الإلهية عن الحياة.
والعامل الآخر هو
إتباع الشهوات
والملذات وبعبارة
واحدة السعي وراء
الدنيا والاشتغال
بجمع الثروات والمال
والوقوع فريسة
للشهوات الدنيوية
واعتبارها أساساً
ومبدأً ونسيان
الأهداف الحقيقية.
هذا مرض رئيس وخطير
ويمكن أن نبتلي نحن
به أيضاً، فلو أن
الحالة المبدئية تزول
أو تضعف عندنا وكل
منا يفكر بأن ينتزع
حصته من الغنيمة حتى
لا نتخلف في دنيانا
عن الآخرين. ويقول في
نفسه أن الآخرين قد
جمعوا لأنفسهم ويجب
أن نذهب نحن أيضاً
لنجمع لأنفسنا ونضع
مصالحنا فوق مصالح
المجتمع، فمن المعلوم
حينئذ أن يصل بنا
الحال إلى ذلك الوضع.
فسِِرّ وجود النظام
الإسلامي وبقاءه
وتطوره هو الإيمان
والهمم العالية
والاهتمام بالمبادىء
وإحيائها، ومعلوم أن
توهين الأهداف
واللامبالاة في أصول
الإسلام والثورة وفهم
كل الأمور والتعامل
معها بذهنية مادية
سوف يصل بالمجتمع إلى
تلك الوضعية.
ولهذا السبب ابتلي
بها أولئك الناس ففي
وقت كان المسلمون
يهتمون بتطوير
الإسلام ورضا الله
وتعليم الدين
والمعارف الإسلامية
والإطلاع على القرآن
والأنس بمعارفه. وكان
الجهاز الحكومي
والإداري للبلاد
جهازاً زاهداً في
الدنيا، تقياً، لا
يعير أهمية لزخارف
الدنيا والشهوات
الشخصية. فكانت
النتيجة حينذاك
الحركة العظيمة التي
توجّه الناس فيها إلى
ربهم، في تلك الوضعية
يبرز مثل علي بن أبي
طالب عليه السلام
خليفة للمسلمين ومثل
الحسين بن علي عليه
السلام شخصية مرموقة.
والسبب هو أن تلك
المعايير تتجسد فيهم
أكثر من غيرهم. عندما
يكون المعيار هو الله
والتقوى والإعراض عن
الدنيا والجهاد في
سبيل الله، فإن الذي
يتواجد في الساحة
حينئذ هم الأفراد
الواجدون لهذه
المعايير، هؤلاء هم
الذي يأخذون مقاليد
الأمور بأيديهم ويصبح
المجتمع مجتمعاً
إسلاميا، ولكن عندما
تتبدل المعايير
الإلهية فسوف
يستلم
الأمور كل من هو أحرص
على الدنيا وأشدّ في
أتباع الشهوة وتحصيل
المنافع الشخصيّة
وأبعد عن الصدق
والحقيقة، حينذاك
تكون النتيجة صيرورة
أمثال عمر بن سعد
والشمر وعبيد الله بن
زياد أمراء، وذهاب
أمثال الحسين بن علي
عليه السلام إلى
المذبح واستشهاده في
كربلاء
وهذه قضية منطقية.
ينبغي أن يسمح
الأشخاص الحريصون
بتبدل المعايير في
المجتمع، فلو أبدل
معيار التقوى في
المجتمع فمما لا شكّ
فيه أن يُراق دم
إنسان تقي كالإمام
الحسين بن علي عليه
السلام، ولو أن
الدهاء والانغماس في
الشؤون الدنيوية
والإيقاع بالآخرين
والدجل وعدم الاهتمام
بالقيم الإسلامية.
اعتبرت ملاكاً في
الأفضلية. فإن شخصاً
كيزيد يجب أن يكون
على رأس السلطة ويجب
أن يصبح شخص مثل عبيد
الله الرجل الأول في
العراق، لقد كان همّ
الإسلام هو تغيير هذه
المقاييس وكل همّ
ثورتنا كان الوقوف
بوجه هذه المقاييس
المادية العالمية
الباطلة والخاطئة
وتغييرها.
لقد أشاعوا أن سبط
رسول الله، ابن فاطمة
وابن أمير المؤمنين،
خارج على الإمام
العادل ـ وذلك الإمام
العادل هو يزيد بن
معاوية ـ وصدّقهم
الناس!!
إن أفراد السلطة
الحاكمة أناس ظلمة
يقولون ما يحلو لهم
ولكن لماذا يصدّقهم
الناس؟ ولماذا
يلتزمون الصمت إزاءهم؟
إن ما يثير هواجسي هو
هذا الجانب من القضية،
لماذا وصلت الأمور
إلى هذا الحد؟ ولماذا
أصيبت الأمة
الإسلامية وهي على
تلك الدرجة من
التدقيق في تفاصيل
الأحكام الإسلامية
والآيات القرآنية،
لماذا أصيبت
بهذه الحالة من
الغفلة والتهاون
والتراخي الذي انتهى
إلى بروز فاجعة كهذه؟
هذه المسألة تشغل فكر
الإنسان، وهل نحن
أقوى عزماً وأشد
شكيمة من مجتمع عهد
الرسول وعهد أمير
المؤمنين؟ وماذا نفعل
حتى لا يجري مثلما
جرى؟
العوام والخواص في
المجتمع
هنا يأمر القرآن
بالاعتبار ويقول:
﴿قُلْ
سِيرُواْ فِي
الأَرْض﴾
انظروا ما الذي وقع،
والتزموا جانب الحذر،
ولأجل أن يسري هذا
المعنى إن شاء الله
في الثقافة الحالية
على يد المفكرين
والباحثين وأصحاب
الرأي، أتحدث إليكم
اليوم باقتضاب عن هذا
الموضوع.
إذا نظرتم إلى
المجتمع البشري أي
مجتمع كان، وفي أية
مدينة أو بلد تجدون
الناس فيه يقسمون ـ
من وجهة نظر معيّنة ـ
إلى فئتين:
أ- فئة تسير على فكر
وفهم ووعي وإرادة وهي
تعرف طريقها وتسلكه ـ
ولا يهمنا في المقام
أن هذه الفئة على
صواب في مسلكها أو
انه مسلك خاطىء ـ هذه
الفئة يمكن تسميتها
بالخواص.
ب- وفئة أخرى لا تنظر
لترى ما هو الطريق
الصحيح وما هو الموقف
الصائب ولا يهمها أن
تفهم وتحلل وتقيس
وتدرك، بل تتبع الجو
السائد والهوى العام،
ولنسم هذه الفئة
بالعوام، إذن
فالمجتمع يمكن تصنيفه
إلى خواص وعوام،
دققوا النظر، أريد
الإشارة إلى نقطة
بشأن العوام والخواص
ويجب أن لا يقع فيها
أي التباس.
من هم الخواص؟ هل هم
طبقة خاصة؟ كلا لأن
هذه الفئة التي
نسميها بالخواص تضم
بين أفرادها أشخاصاً
متعلمين وآخرين غير
متعلمين، فقد يكون
أحياناً بين الخواص
شخص غير متعلم لكنه
يفهم ما ينبغي عليه
فعله، وهو يعمل وفقاً
لتخطيط وإرادة حتى
وان لم يكن قد دخل
المدرسة أو لديه
شهادة أو يرتدي زي
العلماء، لكنه متفهم
لحقيقة الأمور.
فحينما نقول الخواص،
فلا يعني ذلك أنهم
فئة ترتدي زياً بعينه،
فقد يكون رجلاً وقد
يكون امرأة، وقد يكون
ثرياً وقد يكون فقيراً،
وقد يكون من العاملين
في الأجهزة الحكومية،
وقد يكون من
المعارضين لأجهزة
الحكومة الطاغوتية،
وكلمة الخواص نقصد
بها طبعاً الصالح
والطالح منهم، ثم
إننا سنصنف الخواص
إلى أقسام أخرى أيضاً.
الخواص هم الذين
عندما يؤدون عملاً
يتخذون موقفاً،
والنهج الذي يختارونه،
يختارونه عن فكر
وتحليل، أي أنهم
يفهمون ويقررون
ويعملون، والذين
يقفون في الجانب
المقابل لهم هم
العوام.
ج- العوام هم الذين
يسيرون مع مسير الماء،
ليس لديهم تحليل
للمواقف، حينما
يشاهدون الناس يهتفون
يعيش، يهتفون معهم،
وحينما يهتف الناس "
الموت لـ..." يرددون
نفس الهاتف، عندما
تكون الأجواء في وضع
معين يأتون هنا،
وحينما تكون على
منوال آخر يذهبون إلى
هناك!
فحينما دخل مسلم بن
عقيل إلى الكوفة،
تراهم يقولون: لقد
وفد ابن عم الإمام
الحسين، لقد جاء
مبعوث بني هاشم، وهو
عازم على الثورة
والنهوض، فيستثارون
ويقفون حوله
ويبايعونه، بايعه
ثمانية عشر ألفاً، وبعد
خمس أو ست ساعات دخل
رؤساء القبائل إلى
الكوفة وقالوا للناس:
لماذا اتخذتم هذا
الموقف؟ عمن تريدون
الدفاع؟ وضد من؟ أنكم
ستدفعون الثمن غالياً!
انسحب أولاً زعماء
القبائل كل إلى داره،
وبعدما حاصر جنود ابن
زياد دار طوعة للقبض
على مسلم، انبرى
أولئك الناس أنفسهم
لمحاربة مسلم! هؤلاء
هم العوام، سلوكهم لا
ينطلق عن تفكير، ولا
ينبثق عن تشخيص، ولا
هو قائم على تحليل
صائب، بل يتحركون
وفقاً لما يمليه الجو
العام.
إذن في كل مجتمع هناك
خواص وهناك عوام.
نترك قضية العوام
جانباً ونبحث في وضع
الخواص.
أقسام الخواص
ويقسم الخواص طبعاً
إلى فريقين:
أ- خواص فريق الباطل.
ب- وخواص فريق الباطل.
فأهل الثقافة والفكر
والمعرفة منهم يعملون
لصالح جبهة الحق،
عرفوا الحق، وعلموا
أن الحق مع هذا
الجانب فهم يتحركون
ويعملون لأجله، إذن
فهم يعرفون الحق،
وقادرون على تشخيصه،
هؤلاء يمثلون فريقاً
أما الفريق الآخر فهم
الذين يقفون على
الطرف الضد لطرف الحق.
وإذا ما عدنا إلى صدر
الإسلام ثانية، فهناك
فريق أصحاب أمير
المؤمنين والإمام
الحسين وبني هاشم،
وفريق آخر هم أصحاب
معاوية، كان فيهم من
الخواص، كان فيهم
أشخاص أذكياء من ذوي
الرأي والتدبير
يناصرون بني أمية،
وهؤلاء من الخواص
أيضاً.
إذن خواص كل مجتمع
على نمطين: الخواص من
أنصار الحق، والخواص
من أنصار الباطل، وما
ترجون من الخواص
المشايعين
للباطل؟ لا
تتوقعوا منهم سوى
التآمر ضد الحق وضدكم.
وهذا ما يفرض عليكم
محاربتهم، حاربوا
الخواص من أنصار
الباطل، هذا أمر لا
نقاش فيه.
نأتي الآن إلى الخواص
من أنصار الحق، وأنا
أتحدث إليكم الآن،
انظروا إلى أنفسكم
لتروا في أي موضع
انتم، وحينما نقول أن
الأصل هو الفكر
والإتباع عن رؤية لا
نخلط بين التاريخ
والقصة، التاريخ وجه
آخر لسيرتنا الذاتية.
التاريخ معناه أنا
وانتم، معناه نحن
الموجودون اليوم هنا،
وإذا كنا نحن الذين
نقوم ونشرح التاريخ،
فلا بدّ أن ينظر كل
منّا محله من هذه
القصة، وفي أي موضع
منها. ثم لنرى ما
الذي فعله من كان يوم
ذاك في مثل موضعنا
حتى كان نصيبه
الخسران، لخطئه؟ حتى
لا تقع في الخطأ نفسه،
مثل ما هو متعارف في
دروس التعليم العسكري،
يفرض جهة معادية،
والأخرى جهتنا، ثم
يلاحظ خطأ خطة جهتنا،
وتجدون أن العقل الذي
وضع الخطة قد اخطأ في
هذا المكان، إذن
حينما تريدون انتم
وضع الخطة يجب أن لا
تقعوا في ذلك الخطأ
نفسه أو يفرض أن
الخطة كانت صحيحة إلا
أن الآمر أو المخابر
أو المدفعي أو
المراسل أو جندياً
عادياً في جبهتنا
ارتكب خطأ، تدركون
انتم وجوب عدم الوقوع
في ذلك الخطأ، هكذا
هي مسرة التاريخ،
والآن عليكم العثور
على ذاتكم في هذا
المشهد الذي أتحدث
عنه في صدر الإسلام.
بعض الناس من طبقة
العوام، ولا قدرة لهم
على
2014-10-25