المفاخرة بالإيمان
مفاهيم قرآنية
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ...
عدد الزوار: 90
﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾(التوبة:19-22).
قصة الآية
ورد في بيان سبب النزول أنه بينما شيبة والعباس يتفاخران، إذا مر بهما علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: بماذا تتفاخران؟ فقال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد: سقاية الحاج. وقال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام. فقال علي عليه السلام، استحييت لكما، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا! فقالا: وما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله! فقام العباس مغضباً يجر ذيله حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟ فقال: ادعوا لي علياً، فدعي له، فقال: ما حملك على ما استقبلت به عمك؟ فقال يا رسول الله! صدمته بالحق، فمن شاء فليغضب، ومن شاء فليرض! فنزل جبرائيل عليه السلام، فقال: يا محمد! إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول أتل عليهم: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ..) الآيات. فقال العباس: إنا قد رضينا ثلاث مرات1.
ما هو الفخر؟
الفخر هو التباهي وأن يرى الإنسان في نفسه من الصفات ما يجعله أفضل من الآخرين، فيرى لنفسه عليهم درجةً وأنه في مقام أعظم من مقامهم.
والفخر هو أول ما أوقَع إبليس في المعصية، حيث افتخر على آدم إذ كان يرى أنه خلق من نار وآدم خلق من طين والنار أفضل وهذا ما حدثّنا به أمير المؤمنين عليعليه السلام يقول: فافتخر على آدم بخلقه، وتعصب عليه لأصله... فلعمرو الله لقد فخر على أصلكم، ووقع في حسبكم، ودفع نسبكم... فالله الله في كبر الحمية وفخر الجاهلية2.
الفخر من الآفات المهلكات
من الصفات السيئة التي على المؤمن أن يتخلّى عنها، هي الحذر من أن يعيش في نفسه حالة من الفخر، يرى فيها أنه أفضل من الآخرين فيفتخر بهم على ذلك، فإنّ هذا يكون من المهلكات التي تودي به إلى جهنم لأنّها تكون سبيلاً في تدمير إيمانه، وقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: أهلك الناس اثنان: خوف الفقر، وطلب الفخر3.
وذلك لأن الفخر يصل بالإنسان إلى مقام من لا يحبه الله عز وجل بنص الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾(لقمان:18).
بل يصف الله عز وجل هذه الدنيا مستهيناً بها بأنها لعب ولهو وتفاخر، قال تعالى:﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾(الحديد:20).
أولا: أسباب وقوع الإنسان في الفخر
1- الرئاسة
ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: آفة الرياسة الفخر4.
فمن يتولّى مسؤولية من المسؤوليات يظن من نفسه أنه أفضل من الآخرين، وأنه ما نال ذلك إلا بفضل ما يملكه من صفات حسنة وميزات أهلّته لهذا المنصب، وهذا خطأ لأن الكثير من أمثاله يستحقون هذا المقام وليس له أن يفتخر على من هو مثله بأنّ وفقه الله لأن يكون في خدمة غيره.
2- الضعة
من الأسباب التي قد تؤدي إلى وقوع الإنسان في الفخر، أن يكون وضيعاً، صغير القدر، لا يملك من الصفات ما يجعله على مستوى الناس العاديين، بل هو أقل منهم، ولكنه تعويضاً منه عن هذا النقص الذي يعيشه يلجأ إلى الفخر والتفاخر على الآخرين بما يتوهم أنه من الأمور الحسنة.
ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: الافتخار من صغر الأقدار5.
3- الحمق
الحمق هو أن يرى الإنسان نفسه على صواب وهو يفعل الخطأ، فيرى لنفسه الفضل وهو لا يملكه، ومن أعظم أسباب الفخر هو الحمق: لا حمق أعظم من الفخر6.
4- الحسب
كثير من الناس يفتخرون بحسبهم ونسبهم، فيفتخر الواحد بآبائه وأجداده، وهو لا يحمل من الفضل شيئاً في نفسه، وقد ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: آفة الحسب الافتخار7.
وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام، بعد تلاوته (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ): أفبمصارع آبائهم يفخرون! أم بعديد الهلكى يتكاثرون! يرتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت، ولأن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً8.
ثانيا: كيف نعالج الفخر؟
ورد في الروايات أن طريق علاج الفخر، أن يعمد الإنسان إلى الرجوع إلى أصله وحقيقته ليرى أنه لا يملك شيئاً في هذا الكون بل هو مجرد نطفة ماء عاجزة لولا أن الله أعطاه ما أعطاه مما يملكه من مواهب.
ففي رواية عن الإمام الباقرعليه السلام: عجباً للمختال الفخور! وإنما خلق من نطفة ثم يعود جيفةً وهو فيما بين ذلك لا يدري ما يُصنع به9.
وبهذا المضمون رواية أخرى عن الإمام زين العابدين عليه السلام: عجباً للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفةً ثم هو غداً جيفة10.
ثالثا: ما يصح الفخر به
من الفخر ما يكون ممدوحاً ومطلوباً، وذلك عندما يفتخر الإنسان بما يحمله من صفات هي بنظر الشارع صفات مرغوبة ومطلوبة ونتعرض لها هنا:
1- العبودية لله عز وجل
من عظمة مقام العبودية لله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفتخر به، وها نحن نشهد في الصلاة في كل يوم بقولنا "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".
وورد في مناجاة لأمير المؤمنين عليه السلام قال: إلهي كفى لي عزاً أن أكون لك عبداًً، وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً11.
وإنما كان ذلك لأن الإنسان الذي يصل إلى مقام العبودية فقد وصل إلى الغاية التي خلق لأجلها حيث يقول تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56).
2- الطاعة
مما يفتخر به المؤمن أن يحمل عقيدة صحيحة هي عقيدة الإيمان بولاية الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وقد ألحق بذلك العمل الصالح، أي قرن إيمانه بعمله وهو ما وردت به الرواية عن الإمام الصادقعليه السلام: ثلاث هن فخر المؤمن وزينة في الدنيا والآخرة: الصلاة في آخر الليل، ويأسه مما في أيدي الناس، وولايته الإمام من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم12.
3- التقوى
قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13).
إذا نال الإنسان مكانةً أن يكون أكرم الناس عند الله، فحقّ له أن يفتخر بذلك، لأنه يفتخر بما عند الله وقد ورد في الآية ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾(النحل:96) إذا، يفتخر هو بما هو باق عند الله عز وجل.
4- الجهاد
هو من أعظم الفرائض التي كتبها الله على الناس، والتي وردت الروايات ببيان عظم فضل المجاهدين، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير الناس رجل حبس نفسه في سبيل الله يجاهد أعداءه يلتمس الموت أو القتل في مصافه13.
وورد في نهج البلاغة في كتاب من الإمام علي عليه السلام إلى معاوية: ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أحدث أن قوماً استشهدوا في سبيل الله من المهاجرين ولكل فضل، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل سيد الشهداء، وخصه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه. أولا ترى أن قوماً قطعت أيديهم في سبيل الله ولكل فضل حتى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل الطيار في الجنة وذو الجناحين، ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمةً تعرفها قلوب المؤمنين ولا تمجها آذان السامعين14...
للمطالعة
ومن كلام له عليه السلام بعد تلاوته: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾(التكاثر:1-2).
" يا له مراماً ما أبعده، وزوراً ما أغفله، وخطراً ما أفظعه. لقد استخلوا منهم أي مدكر، وتناوشوهم من مكان بعيد أفبمصارع آبائهم يفخرون؟ أم بعديد الهلكى يتكاثرون؟ يرتجعون منهم أجساداً خوت، وحركات سكنت. ولإن يكونوا عبراً أحق من أن يكونوا مفتخراً، ولإن يهبطوا بهم جناب ذلة أحجى من أن يقوموا بهم مقام عزة. لقد نظروا إليهم بأبصار العشوة. وضربوا منهم في غمرة جهالة. ولو استنطقوا عنهم عرصات تلك الديار الخاوية والربوع الخالية لقالت ذهبوا في الأرض ضلالاً، وذهبتم في أعقابهم جهالاً. تطأون في هامهم، وتستثبتون في أجسادهم، وترتعون فيما لفظوا، وتسكنون فيما خربوا، وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح عليكم أولئكم سلف غايتكم، وفراط مناهلكم الذين كانت لهم مقاوم العز وحلبات الفخر ملوكاً وسوقاً. سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً سلطت الأرض عليهم فيه، فأكلت من لحومهم وشربت من دمائهم. فأصبحوا في فجوات قبورهم جماداً لا ينمون، وضماراً لا يوجدون. لا يفزعهم ورود الأهوال، ولا يحزنهم تنكر الأحوال، ولا يحفلون بالرواجف، ولا يأذنون للقواصف. غيباً لا ينتظرون، وشهوداًً لا يحضرون. وإنما كانوا جميعاً فتشتتوا، وآلافاً فافترقوا. وما عن طول عهدهم ولا بعد محلهم عميت أخبارهم وصمت ديارهم، ولكنهم سقوا كأساً بدلتهم بالنطق خرساً، وبالسمع صمماً، وبالحركات سكوناً. فكأنهم في ارتجال الصفة صرعى سبات. جيران لا يتأنسون، وأحباء لا يتزاورون. بليت بينهم عرى التعارف وانقطعت منهم أسباب الإخاء. فكلهم وحيد وهم جميع. وبجانب الهجر وهم أخلاء. لا يتعارفون لليل صباحاً ولا لنهار مساءً. أي الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمداً"15.
*منازل الآيات، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، نيسان2009، ص55-62.
1- تفسير مجمع البيان الشيخ الطبرسي ج 5 ص 27 28.
2- نهج البلاغة، الخطبة المعروفة بالقاصعة، الخطبة رقم 192.
3- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 69 ص 39.
4- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 85.
5- جامع أحاديث الشيعة السيد البروجردي ج 14 ص 73.
6- عيون الحكم والمواعظ علي بن محمد الليثي الواسطي ص 537.
7- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 328.
8- نهج البلاغة، الخطبة رقم 221.
9- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 329.
10- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 328.
11- الخصال الشيخ الصدوق ص 420.
12- الكافي الشيخ الكليني ج 8 ص 234.
13- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 445.
14- نهج البلاغة الكتاب 28.
15- نهج البلاغة الإمام علي بن أبي طالب الخطبة رقم 221.