الأخسرون أعمالاً
الأخلاق والثقافة الإسلامية
إِنَّ من أفضل أساليب تنبيه المخاطب وجذبه هو طرح الاستفهام المباشر عن شيء لا يعرفه، خصوصاً وأنَّ الآية الشريفة صدّرت السؤال بـ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ، حيث إِنَّ النبأ لا يكون إلا للإخبار بما لا يعلمه المخبر، مع كون المخبَر به أمراً عظيماً بليغاً،
عدد الزوار: 127
نصُّ الموعظة القرآنية:
يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا
* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً﴾1.
في رحاب الآية الكريمة
إِنَّ من أفضل أساليب تنبيه المخاطب وجذبه هو طرح الاستفهام المباشر عن شيء لا
يعرفه، خصوصاً وأنَّ الآية الشريفة صدّرت السؤال بـ ﴿هَلْ نُنَبِّئُكُمْ﴾، حيث إِنَّ
النبأ لا يكون إلا للإخبار بما لا يعلمه المخبر، مع كون المخبَر به أمراً عظيماً
بليغاً، ويجوز أن يكون المخبَر بما يعلمه وبما لا يعلمه، ولهذا يقال: (تخبرني عن
نفسي)، ولا يقال: (تنبئني عن نفسي)، وكذلك تقول: (تخبرني عما عندي)، ولا تقول: (تنبئني
عما عندي)، وفي القرآن: ﴿فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُون﴾2"
3.
هذا، والآمر بالسؤال هو اللهُ تعالى، والمأمورُ هو النبيُّ المصطفى محمدٌ صلى الله
عليه وآله وسلم، والمعلومة التي يُراد الإنباء عنها صادرةٌ مِمّن وصف نفسه في كتابه:
﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾4.
و﴿الْأَخْسَرِينَ﴾ الواقعة بعد الاستفهام مباشرةً والمنبأ عنهم، يشوّق السامع
لمعرفة الأمر والبحث عنه، خصوصاً وأنّ المنبئ هو الله عزّ وجل، وينبئ عن الأخسرين
في الآخرة، فقد يكون الأخسر في الدنيا من الفائزين في الآخرة، وقد يكون العكس،
فالله عزّ وجل صرّح بأنَّ ﴿الْأَخْسَرِينَ﴾ هم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا،
وهم لا يعلمون بذلك، بل يعلمون العكس، ويحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.
ما هي حقيقةُ الخسارة؟!
ومَنْ هو الخاسِرُ؟! بل مَنْ هو أخسَرُ الناس؟!
وهل هو مَن خسِرَ تجارتَهُ؟! هل هو من خسِرَ مالَهُ؟!
مَن اعتاد على عالم الدُّنيا، ولم ينظر إِلَى ما وراء عالم الماديات قد يظنُّ ولا
يُفكِّر إلا بما يرتبط بالخسارة الدنيويّة... لكن هل هذه هي الخسارة الحقيقيَّة
التي يتكفّل الجبّار بأنْ يخبرنا عنها؟!
قطعاً الأمر ليس كذلك،وذلك لأنَّ خسائرَ الدنيا تتّصف بأنَّها:
محدودة.
قابلة للتعويض والزوال.
وليتعظ الإنسان بما يراه من تجارب يومية، بل قد يعيش هو نفسه بعض هذه التجارب، فكم
من مرّةٍ نخسر ونفقد كلّ ما لدينا، ثم نقوم من جديد.
وعليه، فما كان شأنه محدوداً وقابلاً للتعويض، ليس هو الخسارة الحقيقية.
بل قد تكون نتيجةُ هذه الخسارة الدنيويَّة نعمةً من نِعَمِ الله تعالى على الإنسان،
فيما لو تلقّاها بصبر، قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ﴾5، ومع الصبر على هذه الابتلاءات يأتي وعد الله وبشارته قائلاً:
﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ
إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ﴾، فبشّرهم بالخير الكثير: ﴿أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾.
فليست الابتلاءات الدنيوية والخسائر التي تحصل فيها هي المقصودة من الآية الكريمة...
فما هي هذه الخسائر المشار إليها إذن؟!!
من هم الأخسرون أعمالاً؟
الأخسرونَ أعمالاً بحسب هذه الآية الشريفة هم الذين اتصفوا بصفتين:
الصفة الأولى ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾:
وليعلم أَنَّ ضلالَ السعيِ في الحياة الدنيا سبَبُهُ ضلالٌ وخللٌ كبيرٌ في العقيدة،
ونفوذٌ من الشيطان إلى صلبِها، فلو لم تكن العقيدةُ فاسدةً ولم يعترِها خَلَلٌ، لما
ضلَّ سعيُهُم في الحياة الدنيا، لأنَّ العقيدةَ الفاسدةَ تجعلُ صاحبَها في ضلالٍ
كبير.
والضلال والخلل في العقيدة على مراتب:
أ- فتارة يكون ذلك باختلال العقيدة من أساسها، وأصحاب هذه المرتبة ليس لهم قيمة عند
الله تبارك وتعالى، كما نصّ على ذلك في كتابه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنً﴾6.
ب- وأُخرى يكون بضلال السعي عملياً، وهذا ناشئٌ كما أسلفت من نقصٍ في العقيدة ولو
على سبيل الشرك والرياء، فيحبط الله عمله أيضاً، لأنّ الآتي إنما أتى به لغيرالله
تعالى، يقول تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ﴾7.
ج- وثالثة يكون ضلال السعي عملياً متأخّراً عن العمل، فيحبطه بعد الإتيان به، وفي
هذا ضل قومٌ كثيرون، وذلك بأنْ يكمِل العبادةَ على الإخلاصِ المحضِ والنية الصالحة
ويكتبها الله في ديوانِ المخلصينَ، لكن يعرضُ له بعدَ ذلك ما يدفعُهُ لإظهارها،
ليحصل له بعضُ الأغراضِ الدّنيويّةِ الرخيصةِ، فينضمُّ إلى ما حصّله بها من الخير
الآجلِ خيراً آخرَ عاجلاً قد زيّنه له الشيطانُ، فيحدِّث به ويُظهره لذلك، فهذا
أيضاً مفسدٌ للعمل وإن سبق، كما يفسده العجب المتأخر.
وقد روي أَنَّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: صُمتُ الدهرَ يا رسولَ
الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَا صُمتَ وَلَا أَفْطَرْتَ"8، فهذا من زمرة الأخسرين أعمالاً.
الصفة الثانية ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً﴾:
فهم يحسبونَ أنَّهم يُحسنونَ صنعاً وما ظنُّوا حسنَ أعمالهم وأفعالهم المخالفةِ
للشرع إلَّا لجهلهم بحقوق الله عز وجل وعظمته، ولضعف بصيرتهم، وهم أصناف:
الأول: الكفار بالله، واليوم الآخر، والأنبياء، فإنَّ الله زيّن لكلّ أمة عملها،
إنفاذاً لمشيئته، وحكماً بقضائه، وتصديقاً لكلامه.
الثاني: أهل التأويلِ الفاسدِ الذين أخبر الله عنهم بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾9، كأهل حروراء والنهروان، ومن عمل بعملهم في يومنا هذا،
وخطرهم الآن على المسلمين أشدّ من أعداء الدين، فهم مثلهم وشرٌّ منهم.
ورد في كتاب الاحتجاج عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: "خَطَبَنَا أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي...، فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ
الْكَوَّاءِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْواً؟ قَالَ
الرِّيَاحُ قَالَ فَمَا الْحَامِلَاتُ وِقْراً؟ قَالَ السَّحَابُ قَالَ فَمَا
الْجَارِيَاتُ يُسْراً؟ قَالَ السُّفُنُ قَالَ فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْراً؟ قَالَ
الْمَلَائِكَةُ... قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله
عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالً﴾ قَالَ
كَفَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ
فَابْتَدَعُوا فِي أَدْيَانِهِمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً
ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِ ابْنِ الْكَوَّاءِ
ثُمَّ قَالَ يَا ابْنَ الْكَوَّاءِ وَمَا أَهْلُ النَّهْرَوَانِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ
فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أُرِيدُ غَيْرَكَ وَلَا أَسْأَلُ سِوَاكَ
قَالَ فَرَأَيْنَا ابْنَ الْكَوَّاءِ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ فَقِيلَ لَهُ ثَكِلَتْكَ
أُمُّكَ بِالْأَمْسِ تَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا سَأَلْتَهُ َ أَنْتَ
الْيَوْمَ تُقَاتِلُهُ؟ فَرَأَيْنَا رَجُلًا حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ
فَقَتَلَهُ"10.
الثالث: وهم الذين أفسدوا أعمالهم بالرياء، وضيّعوا أحوالهم بالإعجاب، ويلحق بهؤلاء
أصناف كثيرة، وهم الذين أفنوا زمانهم النفيس في طلب الخسيس. وقد نبّه الباري تعالى
على هذا بقوله: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا
وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً﴾11.
والمهمّ في المقام أَنَّه حتى نتجنب الخسران المبين علينا أن نعرف حقيقة الأعمال
التي تؤدّي إليه، وحقيقة الأعمال التي تجنبنا الوقوع في الخسران والندم. ولَّما
أشارت الآية إلى لزوم ترك الشرك: كبيره وصغيره، كان علينا أن نعرف الإخلاص وكيفية
تحقيقه حتى نتمكن من تحصيله والعمل به والحفاظ عليه.
كيف نحقّق الإخلاص
انطلاقاً من الآية السابقة ندخل إلى أهمّ مسألة في عبادة الله، ألا وهي الإخلاص،
يقول تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
حُنَفَاء﴾12.
وينبغي أن يعلم أَنَّه لمَّا كانت طرق الباطل كثيرة ومتنوِّعة، وطريق الحقّ واحداً،
وهو الطريق المستقيم الَّذِي جاء به سيّد المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله،
فحينئذٍ تكون الأبواب المشرّعة أمام الشيطان إِلَى قلب الإنسان كثيرة، ويدعم
الشيطان في ذلك ميل النفس البشرية نحو الشهوات، وعسر انقيادها للحقّ، كلّ ذلك يضع
العبد المسكين في موضع لا يحسد عليه، قال الشاعر:
إنّي بليت بأربعٍ ما سُلطت *** إبليس والدنيا ونفسي والهوى
إبليس يسلك في طريق مهالكي *** وأرى الهوى تدعو إليه خواطري
وزخارف الدنيا تقول أما ترى *** إِلَّا لأجل شقاوتي وعنائي
كيف الخلاص وكلُّهم أعدائي *** بي والنفس تأمرني بكلّ بلائي
في ظلمة الشبهات والآراء *** حسني وفخرَ ملابسي وبهائي
فربما يزيّن الشيطان طريق الحقّ فيغوي بالمرء ويوقع به ويعرض الشر في موضع الخير،
بحيث يظن أنّه من إلهامات النَفَس الرحماني، لا وسوسة الشيطان وإغوائه، فيهلك ويضل
من حيث لا يعلم، فلا يزال الشيطان يوسوس للإنسان بأمور ويثبتها في لوح نفسه، فيعمر
يومه ويخرب أمسه، ويخالف الله ويظن أنّه في طاعته، فيدخل في جملة الأخسرين أعمالاً.
وفي هذا المجال يقول المولى النراقي قدس سره: "لما كانت طرق الباطل كثيرة وطريق
الحق واحدة، فالأبواب المفتوحة للشيطان إلى القلب كثيرة، وباب الملائكة واحدة، ولذا
روي أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطّ يوماً لأصحابه خطّاً وقال: "هذا سبيل
الله"، ثمّ خطّ خطوطاً عن يمينه وشماله فقال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو
إليه"، ثمّ تلا قوله سبحانه: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ
وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾13. ثمّ لسهولة ميل
النفس إلى الباطل وعسر انقيادها للحق تكون الطرق المؤدية إلى الباطل التي هي أبواب
الشيطان جلية ظاهرة، فكانت أبواب الشيطان مفتوحة أبداً، والطرق المؤدية إلى الحق
التي هي باب الملائكة خفية، فكان باب الملائكة مسدوداً دائماً، فما أصعب بالمسكين
ابن آدم أن يسد هذه الأبواب الكثيرة الظاهرة المفتوحة ويفتح باباً واحداً خفياً
مسدوداً"14.
هذا، والسبيل أمام الإنسان إِلَى النجاة هو الإخلاص، فإنّ الإخلاص الحقيقي هو تجريد
القصد من الشوائب كلها. وهو ضد الرياء والشرك، فمن جاء بطاعة ليراه الناس فهو مراء
مطلق، ومن جاء بها وانضم إلى قصد القربة قصدُ غرضٍ دنيويٍ انضماماً تشريكياً ففعله
مشوب غير خالص.
مراتب الإخلاص
ثمّ الإخلاص على مراتب، فأعلى مراتبه: الإخلاص المطلق، وهو إخلاص الصدّيقين وإرادة
محض وجه الله سبحانه من العمل، دون توقّع غرض في الدارين، كمن يعبد الله حراً،
لأنّه أهلٌ لذلك، مستغرق الهمّ والفكر بعظمته وجلاله، ويتوقّف تحصيله على أن يتعاظم
الله في أنفسنا ليصغر ما دونه في أعيننا، وبالتالي تنقطع النفْسُ عن الطمع بالدنيا،
بحيث ما يغلب ذلك على القلب والتفكّر والاشتغال بمناجاته حتى يغلب على قلبه نور
جلاله وعظمته، ويستولي عليه حبّه وأنسه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصف المتقين: "عَظُمَ الْخَالِقُ فِي
أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ
قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا
فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ"15.
وفي المقابل كم من عمل يتعب الإنسان فيه نفسه، ويظن أنّها أعمال خالصة لوجه الله
تعالى، ويكون فيها مغروراً، لعدم عثوره على وجه الآفة فيها، كما حكي عن بعضهم أنّه
قال: (قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتُها في المسجد جماعة في الصف الأول، لأنّي
تأّخرت يوماً لعذر وصليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف
الثاني، فعرفت أَنَّ نظر الناس إليّ في الصفّ الأوّل كان يسرّني، وكان سبب استراحة
قلبي من ذلك من حيث لا أشعر).
وهذا مطلبٌ دقيقٌ غامض، وقلما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلّ مَنْ يتنّبه له،
والغافلون عنه يرون حسناتهم في الآخرة كلّها سيئات، وهم المرادون بقوله تعالى:
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُو﴾16.
آفات الإخلاص
ذكر المولى النراقي في كتابه الجليل جامع السعادات أَنَّ الآفات التي تكدّر الإخلاص
وتشوّشه لها درجات في الظهور والخفاء: أجلاها الرياء الظاهر.
الأُولى: وهو أجلاها، وتحصل بتحسين العبادة والسعي في الخشوع فيها في الملأ دون
الخلوة، ليتأسّى به الناس، ولو كان عمله هذا خالصاً لله لم يتركه في الخلوة، إذ من
يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرتضي لغيره تركه، فكيف يرتضي ذلك لنفسه في
الخلوة؟!
الثانية: الرياء الخفيّ، وهو يحصل بتحسينها في الخلوة أيضاً بقصد التسوية بين
الخلوة والملأ، وهذا من الرياء الغامض، لأنّه حسّن عبادته في الخلوة ليحسّنها في
الملأ، فلا يكون فرقٌ بينهما في التفاته فيهما إلى الخلق دون الخالق، إذ الإخلاص
الواقعي أن تكون مشاهدة الخلق لعبادته كمشاهدة العجماوات والجمادات، من دون تفاوت
أصلاً، فكأنّ نفسه لا تسمع بإساءة العبادة بين أظهر الناس، ثمّ يستحي من نفسه أن
يكون في صورة المرائين، ويظنّ أَنَّ ذلك يزول باستواء عبادته في الخلوة والملأ،
وليس كما ظنّه، إذ زوال ذلك موقوف على عدم التفاته إلى الخلق في الملأ والخلوة، كما
لا يلتفت إلى الجمادات فيهما مع أنّه مشغولُ الهمّ بالخلق فيهما جميعاً.
الثالثة: وهو أَخفاها، وتحصل هذه الدرجة بأن يقول له الشيطان وهو في العبادة في
الملأ بعد يأسه عن المكائد السابقة: (أنت واقفٌ بين يدي الله سبحانه، فتفكّر في
جلاله وعظمته، واستحى من أن ينظر إلى قلبك وهو غافل عنه! فيحضر بذلك قلبه وتخشع
جوارحه).
وهذا أخفى مكائد الشيطان وخداعه، ولو كانت هذه الخطرة ناشئة عن الإخلاص لما انفكت
عنه في الخلوة ولم يخص خطورها بحالة حضور غيره.
علاج هذه الآفة
وعلامة الأمن من هذه الآفة: أن يكون هذا الخاطر مِمَّا يألفه في الخلوة كما يألفه
في الملأ، ولا يكون حضور الغير سبباً لحضوره، كما لا يكون حضور بهيمة سبباً له، فما
دام العبد يفرّق في أحواله وأعماله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة، فهو بعدُ خارجٌ
عن صفو الإخلاص مُدَنّس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشرك أخفى في قلب ابن
آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد به الخبر،
ولايسلم منه إلا من عصمه الله بخفيِّ لطفه، إذ الشيطان ملازم للمتشمّرين لعبادة
الله، لا يغفل عنهم لحظة.
يقول تعالى: ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ
الْخَالِصُ﴾17، ويقول أيضاً: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾18.
وهذا لا يكون إلا بتوفيق من الله تعالى، فبيده الأمر من قبل ومن بعد، ففي دعاء عرفة
للإمام الحسين عليه السلام: "أَنْتَ الَّذِي أَشْرَقْتَ الْأَنْوَارَ فِي قُلُوبِ
أَوْلِيَائِكَ حَتَّى عَرَفُوكَ وَوَحَّدُوكَ وَأَنْتَ الَّذِي أَزَلْتَ
الْأَغْيَارَ عَنْ قُلُوبِ أَحِبَّائِكَ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا سِوَاكَ".
مراد الآية: بقاء المؤمن بين الخوف والرجاء
لما كشفت الآية الشريفة عن حالة مَرَضية في المجتمع وعن أشخاص يظنّون أنّهم على
الصراط المستقيم، وهم عند الله في ضلال مبين.
ولمّا لم تحدّد مَنْ هم هؤلاء إلا بالوصف والانطباق، يبقى المؤمن هنا خائفاً إلى
آخر عمره، فيعيش بين الخوف والرجاء، لا هو مأمون الجانب فيستريح، ولا مأيوس المصير
فيقنط، بل ويبقى شاعراً بالتقصير، إذ قد يكون من الأخسرين أعمالاً طيلة هذه المدة
وهو غافلٌ عن حقيقة أمره، فهذه الحالة تحفّزه لإتقان العمل وأدائه على أكمل وجه، بل
وعدم الرضا ما دام في معرض القبول والردّ، من دون أن يعيش الإحباط واليأس.
وبالتالي يتجنّب الغفلة التي تتهدّده دائماً، وقد تعرضه فعلاً من حين لآخر، فلا
يُحَسب من الغافلين، ولا تنوبه تبعات الغفلة، لأنّ مَنْ أغفل قلبه قال عنه تعالى:
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطً﴾19.
وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ
النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾20.
خاتمة المطاف
الله تبارك وتعالى أعطى الناس قلباً قابلاً للترقيات إلى مراتب الكمالات التي لا
تتناهى من المحبة والمعرفة والزهد والفناء والبقاء وهم ضيّعوه بمحبة الدنيا،
والرياء، والعجب، والكبر والبغض وأمثالها من الرذائل. والقلب أمير البدن، فلو راقبه
وكان دائباً في إصلاحه وتحصيل كمالاته أفاض الله تعالى عليه ما لا عين رأت ولا أذن
سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولو اشتغل العبد بإصلاح نفسه لكفى به شغلاً عن العالمين، ولكنّ الغالب على العالمين
الاشتغال بالدنيا الفانية، إمّا بالمال وإمّا بالجاه وقبول القلوب، ومتى حصل ذلك لا
يحتاجون إلى الإصلاح بل ينالون العواقب التي رتَّبها الله تعالى للأخسرينَ أعمالاً
بقوله تعالى: ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَزْنً﴾21.
ولنعم ما أوصى به إمام الثورة والأخلاق والعرفان الإمام الخميني قدس سره: "فاجتهد
لأن يكون سرّك داعياً وباطنك طالباً، حتى ينفتح لقلبك أبواب الملكوت، وينكشف لسرّك
أسرار الجبروت، ويجري فلكُ عقلِك في بحار الخير والبركات، حتى تصل إلى ساحل النجاة،
وتنجو من ورطة الهلكات، وتطير بجناحيك إلى عالم الأنوار، عن هذه القرية الظلمانية
ودار البواروإيّاك وأن تجعل الغاية لهذه الصفات الحسنى والأمثال العليا التي بها
تقوم السماوات والأرضون، وبنورها نوّر العالمين الشهوات الدنيّة واللذات الداثرة
البالية، والأغراض الحيوانية، والكمالات البهيمية والسبعية. وعليك بطلب الكرامات
الإلهية والأنوار العقلية، والكمالات اللائقة بالإنسان بما هو إنسان"22.
اللهمَّ إنِّي أسألُك رضاك، والتوفيق لطاعتك، وحسن العاقبةِ يا ربّ العالمين...
* كتاب وزدناهم هدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الكهف، الآيتان: 103 –
104.
2- سورة الشعراء، الآية: 6.
3- الفروق اللغوية لابن هلال العسكري: 528.
4- سورة فاطر، الآية: 14.
5- سورة البقرة، الآية: 155.
6- سورة الكهف، الآية: 105.
7- سورة الزمر، الآية: 65.
8- النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات ج 2، ص 303.
9- سورة آل عمران، الآية: 7.
10- الطبرسي، الاحتجاج، ج1، ص 260.
11- سورة الكهف، الآية: 110.
12- سورة البينة، الآية: 5.
13- سورة الأنعام، الآية: 153.
14- النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات، ج1، ص 146.
15- الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة: 225، تحقيق وتصحيح: عزيز
الله العطاردي، نشر: مؤسسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
16- سورة الجاثية، الآية: 33.
17- سورة الزمر، الآيتان: 2 - 3.
18- سورة البينة، الآية: 5.
19- سورة الكهف، الآية: 28.
20- سورة يونس، الآيتان: 7 – 8.
21- سورة الكهف، الآية: 105.
22- الإِمام الخميني، روح الله الموسوي، شرح دعاء السحر: 11، نشر: مؤسسة تنظيم ونشر
آثار الإمام الخميني، الطبعة الأُولى 1416، طهران.