الغيبة والبهتان والنّميمة
الأخلاق والثقافة الإسلامية
الغيبة: ما يقال في غياب الشخص، غاية الأمر أنَّه بقوله هذا يكشف عيباً من عيوب النَّاس، سواء كان عيباً جسديّاً أو نفسيّاً أو أخلاقيّاً، أو في الأعمال أو في المقال, بل حتَّى في الأمور المتعلِّقة به كاللِّباس، والبيت، والزَّوج، والأبناء، والأجداد، والنَّسب، والحسب، وما إلى ذلك.
عدد الزوار: 109
في معاني الغيبة والبهتان والنَّميمة
الغيبة: ما يقال في غياب الشخص، غاية الأمر
أنَّه بقوله هذا يكشف عيباً من عيوب النَّاس، سواء كان عيباً جسديّاً أو نفسيّاً أو
أخلاقيّاً، أو في الأعمال أو في المقال, بل حتَّى في الأمور المتعلِّقة به
كاللِّباس، والبيت، والزَّوج، والأبناء، والأجداد، والنَّسب، والحسب، وما إلى ذلك.
فبناء على هذا ما يقال عن الصَّفات الظّاهرة للشَّخص الآخر لا يُعدُّ اغتياباً،
إلَّا أن يراد منه الذَّمُّ والعيب فهو في هذه الصُّورة حرام، كما لو قيل في مقام
الذَّمِّ: إنَّ فلاناً أعمى، أو أعور، أو قصير، القامة، وما إلى ذلك.
فيتضح من هذا أنَّ ذكر العيوب الخفيَّة بأيِّ قصد كان يعد غيبة, وذكر العيوب
الظّاهرة إذا كان بقصد الذَّمِّ أو كان فيه أذيَّة فهو حرام سواء أدخلناه في مفهوم
الغيبة أم لا.
كلُّ هذا في ما لو كانت هذه العيوب في الطَّرف الآخر واقعيّة, أما إذا لم تكن صحيحة
أصلاً فتدخل تحت عنوان البهتان، وإثمه أشدُّ من الغيبة بمراتب.
ففي حديث عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله
عليه، وأمّا ما هو ظاهر فيه مثلُ الحدَّة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول ما ليس
فيه"1.
أمّا النّميمة: فهو أن ينقل شخص كلاماً سمعه
من شخص واقعاً أو اخترعه من نفسه إلى شخص آخر بقصد الفتنة بين شخصين.
الغيبة والنَّميمة في القرآن والسُّنَّة
المستقرئ لآيات القرآن الكريم والرّوايات الشَّريفة يلاحظ أنَّ الغيبة والنَّميمة
من الكبائر.
- في الآيات الكريمة:
فقد أوعد الله عليهما بالنّار فقال تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ
أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾2.
ويقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾3.
فالآيات الشّريفة في مقام بيان كيفيَّة العذاب الأخرويّ للمغتاب, حيث تتجسّم الغيبة
في الآخرة بصورة أكل ميتة الشَّخص المستغاب.
وفي آية أخرى يقول تعالى: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾4. وهذا وعيد من
الله سبحانه لكلّ مغتاب، مشّاء بالنَّميمة، مفرِّق بين الأحبة.
ويقول تعالى أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ
وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ
أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾5.
فالمستغيب والنّمّام يقطعون ما أمر الله بوصله، ومفسدون في الأرض, إذ إنَّه يوجد
الفرقة والنفرة والعداوة بين المسلمين بدل المحبّة والإلفة والوحدة بينهم.
ويقول تعالى: ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾6. وفي آية أخرى:
﴿وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾7. وظاهر أنَّ الشَّخص النمَّام والمستغيب
يشعلان نار الفتنة.
في الرّوايات الشَّريفة:
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "رأيت ليلة الإسراء رجالا
تُقْرَضُ شفاههم بمقاريض من نار، قيل: من هم؟ قال: الّذين يغتابون النّاس"8.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى قال: "رأيت ليلة الإسراء قوماً يُقطَع
اللّحم من جنوبهم ثمّ يُلْقَمونَهُ ويُقال: كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم، فقلت:
يا جبرئيل، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الهمّازون من أُمَّتِكَ اللَّمّازون، وقال: لا
يدخل الجنّة قَتَّاتٌ ولا نمّام"9.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا
تغتابوا المسلمين ولا تتَّبعوا عوراتهم, فإنَّه من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته,
ومن تتبع الله عورته، يفضحه في جوف بيته"10.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الغيبة أسرع في دين الرَّجل من الأكلة في
جوفه"11.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا أنبِّئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول
الله، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: المشّاؤون بالنَّميمة، المفرِّقون بين
الأحبَّة، الباغون للبِرَاء المعايب"12.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أدنى الكفر أن يسمع الرّجل من أخيه كلمة
فيحفظها عليه, يريد أن يفضحه بها، أولئك لا خلاق لهم"13.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من مشى في غيبة أخيه وكشف عورته، كانت
أوّل خطوة خطاها وضعها في جهنّم"14.
بناء على هذا, فإنَّ الغيبة والبهتان والنّميمة من الذُّنوب الكبيرة، الّتي جاء
الوعيد عليها، فلا ينبغي استصغار هذه الذُّنوب.
أسباب تحريم الغيبة والبهتان والنّميمة
أوّلاً: بما أنَّ الإنسان مخلوق اجتماعيّ،
فالمجتمع البشريّ الّذي يعيش فيه له حرمة يجب أن لا تقلَّ عن حرمته الشّخصيّة،
وطهارة كلّ منهما تساعد في طهارة الآخر، وقبح كلّ منهما يسري إلى صاحبه، وبموجب هذا
المبدأ كافح الإسلام بشدّة كلَّ عمل ينشر السُّموم في المجتمع أو يدفعه نحو الهاوية
والانحطاط. أوجب الإسلام ستر العيوب, والسّبب في ذلك هو الحيلولة دون انتشار
الذُّنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العموميّة والشّمول.
ثانياً: إنَّ رأس مال الإنسان المهمّ في حياته
ماء وجهه وحيثيّته، وأيّ شيء يهدِّده فكأنّما يهدد حياته بالخطر.إنَّ واحدة من
حِكَم تحريم الغيبة، هي أن لا يتعرَّض هذا الاعتبار العظيم للأشخاص ورأس المال آنف
الذِّكر لخطر التَّمزُّق والتَّلوُّث، وأن لا تهتك حرمة الأشخاص ولا تلوّث
حيثّياتهم، وهذا مقصد مهمّ تلقّاه الإسلام باهتمام بالغ.
ثالثاً: والأمر الآخر، أنَّ الغيبة والنّميمة
والبهتان، يُولِّدون النَّظرة السَّيِّئة، ويضعفون العلائق الاجتماعيّة ويوهنون،
وتتلف رأس مال التّعاضُد ويزلزلون قواعد التَّعاون الاجتماعي. ونعرف أنَّ الإسلام
أولى أهميّة بالغة من أجل الوحدة والانسجام والتّضامن بين أفراد المجتمع، فكل أمر
يقوِّي هذه الوحدة فهو محلّ قبول الإسلام وتقديره، وما يؤدي إلى الإخلال بالأواصر
الاجتماعيّة فهو مرفوض، والاغتياب والبهتان والنَّميمة هي من عوامل الوهن والضُّعف.
رابعاً: ثمَّ بعد هذا كلِّه فإنَّ الاغتياب
وصاحبيه ثلاثة أمور تنثر في القلوب بذور الحقد والعداوة وربما أدَّت أحياناً إلى
الفتنة والاقتتال وسفك الدِّماء.
علاج الغيبة وصاحبيه
إنَّ الغيبة وصاحبيه كسائر الصِّفات الذَّميمة تتحوّل تدريجيّاً إلى صورة مرض نفسيّ,
بحيث يلتذّ المغتاب من فعله ويحسُّ بالاغتباط والرِّضا عندما يريق ماء وجه فلان،
وهذه مرتبة من مراتب المرض القلبيّ الخطير جدّاً.
ومن هنا فينبغي على المغتاب والنَّمّام أن يسعى إلى علاج البواعث الدّاخليّة
للاغتياب، الّتي تكمن في أعماق روحه وتحضُّه على هذا الذَّنب, من قبيل البخل،
والحسد، والحقد، والعداوة، والاستعلاء والأنانيّة.
فعليه أن يطهِّر نفسه عن طريق بناء الشّخصيّة، والتّفكير في العواقب السّيِّئة لهذه
الصّفات الذَّميمة، وما ينتج عنها من نتائج مشؤومة، ويغسل قلبه عن طريق الرِّياضة
النَّفسيَّة والمجاهدة الدّائمة للنّفس, ليسيطر على لسانه فلا يتلوّث بالغيبة
وأمثالها. وهذا يحتاج إلى إرادة وعزيمة قويّة.
موارد الاستثناء
ما ينبغي ذكره في شأن الغيبة، أنَّ قانون الغيبة له استثناءات، من جملتها: أنَّه
يتفق أحياناً في مقام الاستشارة مثلاً لانتخاب الزّوج أو الشَّريك في الكسب وما إلى
ذلك، أن يسأل إنسان إنساناً آخر, فالأمانة في المشورة الّتي هي قانون إسلاميّ مسلّم
به, توجب أن تبَيَّن العيوب إن وجدت في الشّخص الآخر, لئلا يتورّط المسلم في مشكلة,
فمثل هذا الاغتياب بمثل هذا القصد لا يكون حراماً.
وكذلك في الموارد الأخرى الّتي فيها أهداف مهمّة كهدف المشورة في العمل أو لإحقاق
الحقّ أو التَّظلُّم وما إلى ذلك.
وبالطّبع فإنّ المتجاهر بالفسق خارج عن موضوع الغيبة, ولو ذكر إثمه في غيابه فلا
إثم على مغتابه، إلّا أنَّه ينبغي الالتفات إلى أنَّ هذا الحكم خاص بالذنب الذي
يتجاهر به فحسب.
استماع الغيبة
إنَّ الغيبة ليست هي حراماً فحسب، بل الاستماع إليها حرام أيضاً، والحضور في مجلس
الاغتياب حرام، بل يجب طبقاً لبعض الرّوايات أن يُردَّ على المغتاب، أعني أن يدافع
عن أخيه الّذي يراد إراقة ماء وجهه.
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "السّامع للغيبة أحد المغتابين"15.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "من اغْتِيبَ عنده أخوه المؤمن فنصره,
وأعانه، نصره الله في الدّنيا والآخرة, ومن لم ينصره ولم يدفع عنه وهو يقدر، خذله
الله وحقّره في الدّنيا والآخرة"16.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- أصول الكافي، ج2، ص358.
2- سورة النور، الآية 19.
3- سورة الحجرات، الآية 12.
4- سورة الهمزة، الآية 1.
5- سورة الرعد، الآية 25.
6- سورة البقرة، الآية 191.
7- سورة البقرة، الآية 217.
8- مستدرك الوسائل، ج9، ص126.
9- م. ن، ص151-152.
10- المحجة البيضاء، ج5، ص252.
11- أصول الكافي، ج2، ص 357.
12- دستغيب، الذُّنوب الكبيرة، ج2، ترجمة: صدر الدّين القبانجيّ، ط 2، بيروت،
الدّار الإسلاميّة، 1408هـ 1988م، ص 278.
13- م. ن، ص 266.
14- م. ن.
15- مستدرك الوسائل، ج9، ص133.
16- بحار الأنوار، ج72، ص 177. (تحقيق: البهبوديّ)