حقيقة الإسلام ومراتبه
مفاهيم قرآنية
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا.نزلت في الزبير ورجل من الأنصار تخاصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سراًح من الحرة كانا يسقيان منه نخلاً لهما، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك...
عدد الزوار: 92
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾(النساء:65).
قصة الآية
نزلت في الزبير ورجل من الأنصار تخاصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سراًح من الحرة كانا يسقيان منه نخلاً لهما، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ ! فتلون وجه رسول الله حتى عرف أن قد ساءه، ثم قال يا زبير احبس الماء إلى الجدد أو إلى الكعبين، ثم خل سبيل الماء، فنزلت الآية1.
حقيقة الإسلام
لا شك في أن الكثير منا يفتخر بأنه من المسلمين ويشكر الله على نعمة الهداية إلى الإسلام، ولكن هل تأملنا في حقيقة الإسلام الذي نؤمن به؟ إنّ حقيقة الإسلام على ما ورد في الروايات هو أن يخضع الإنسان خضوعاً تاماً لهذا الدين في كل ما يتعلق به من قريب أو بعيد، دون رفض لشيء ورضاً بشيء آخر، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: وأما معنى صفة الإسلام فهو الإقرار بجميع الطاعة الظاهر الحكم والأداء له، فإذا أقر المقر بجميع الطاعة في الظاهر من غير العقد عليه بالقلوب فقد استحق اسم الإسلام ومعناه، واستوجب الولاية الظاهرة، وإجازة شهادته، والمواريث، وصار له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين2.
إذاً الإسلام ليس قولاً باللسان، كما أنه ليس بالقلب فقط كما يسعى بعض الناس لتصوير ذلك بترديده لكلمة (المهم ما في القلب)، لأن الإسلام القلبي الذي لا يلحقه العمل لا يكون إسلاماً حقيقياً وفي الحديث عن الإمام علي عليه السلام: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبه أحد قبلي ولا ينسبه أحد بعدي: الإسلام هو التسليم، والتسليم هو التصديق، والتصديق هو اليقين، واليقين هو الأداء، والأداء هو العمل3.
فإسلام الانسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر وقضاء، أو تشريعي من أمر أو نهى أو غير ذلك4.
فالمسلم الحقيقي الذي يحق له أن يفتخر بإسلامه هو الذي يخضع في حياته كلها لهذا الدين، سواء في علاقته مع الله عز وجل، أو في علاقته مع سائر الناس ولذا ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده5. وفي رواية أخرى: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يشتمه6. وفي رواية ثالثة: المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله7.
مراتب الإسلام
انطلاقا من كون الإسلام هو الخضوع والانقياد التام لله عز وجل، والشامل للأمور كافة من تكوينية وتشريعية، فإنّ هذا الإسلام له مراتب:
المرتبة الأولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر والنواهي بتلقي الشهادتين لساناً، سواءً وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾(الحجرات:14).
المرتبة الثانية: التسليم والانقياد القلبي للاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الأعمال الصالحة، قال الله تعالى في وصف المتقين: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾(الزخرف:69) وقال أيضاً: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً﴾(البقرة:208)، فمن الإسلام ما يتأخر عن الايمان محققاً فهو غير المرتبة الأولى من الإسلام. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾(الحجرات:15)، وقال أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾( الصف:10-11).
المرتبة الثالثة: هي المرتبة التي يصل فيها الإنسان إلى مرحلة تنقاد فيها سائر القوى البهيمية والسبعية، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الانسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، ولم يجد في باطنه وسره ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره.
المرتبة الرابعة: التسليم بأنّ الله له حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء لا ذاتاً ولا صفةً، ولا فعلاً على ما يليق بكبريائه جلت كبريائه. فالانسان وهو في المرتبة السابقة من التسليم ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئاً إلا به لا رب سواه، وهذا إفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الانسان فيه، ولعل قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(البقرة:128).
التسليم والطاعة لأمر رسول الله وخلفائه
كما يكون الإسلام الحقيقي أيضاً بالانقياد والتسليم التام لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحكمه في الأمور كافة، سواء كان ذلك في موارد الخصومة والنزاع والاختلاف، أو في الأمور العامة من الحرب والقتال والصلح ومقاطعة الكفار وغير ذلك.
ومن الطاعة للرسول الطاعة لخلفائه وهم الأئمة المعصومون المنصبون من قبله ولاة على هذه الأمة ولهم ما لرسول الله من منصب الولاية والطاعة.ويأتي من بعدهم الفقهاء المنصبون من قبل الإمام الحجة ولاة على الناس فيجب التسليم لهم والانقياد لهم في الطاعة والالتزام.كيفية التسليم أما كيفية التسليم في هذه الأمور فهي تكون باعتماد الخطوات التالية:
1- التحاكم إليهم لا إلى غيرهم، فإذا وقع النزاع أو الخصام فالتحاكم ينبغي أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمةR من بعده ثم الفقهاء المنصبون من قبل الأئمة، لا إلى حكام الجور ودول الكفر. وذلك لعدم إمكان الاجتماع بين الكفر بالطاغوت والتحاكم إليه، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾(النساء:60).
2- أن لا يشعروا بأي انزعاج أو حرج في نفوسهم تجاه أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأقضيته العادلة التي هي في الحقيقة نفس الأوامر الإلهية، ولا يسيئوا الظن بهذه الأحكام.
3- أن يطبقوا تلك الأحكام في مرحلة تنفيذها تطبيقاً كاملاً ويسلموا أمام الحق تسليماً مطلقاً8. فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير هذه الآية أنه قال: (لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا البيت وصاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيءٍ صنعه الله وصنع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لم صنع هكذا وكذا، ولو صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية ( الحاضرة ) ثم قال عليه السلام: عليكم بالتسليم)9.
للمطالعة
روح الإسلام التسليم أمام الله. لا شك أن استقلال الإنسان الفكري والروحي لا يسمح له أن يستسلم لأحد بدون قيد أو شرط، لأنه إنسان مثله، ومن الممكن أن تكون له أخطاء واشتباهات في المسائل. أما إذا انتهت المسألة إلى الله العالم والحكيم، والنبي الذي يتحدث عنه ويسير بأمره، فإن عدم التسليم المطلق دليل على الضلال والانحراف، حيث لا يوجد أدنى اشتباه في أوامره سبحانه. إضافة إلى أن أمره حافظ لمنافع الإنسان نفسه، ولا يعود شيء على ذاته المقدسة، فهل يوجد إنسان عاقل يسحق مصالحه برجله بعد تشخيص هذه الحقيقة؟ ومضافا إلى ذلك فإننا منه تعالى، وكل ما لدينا منه، ولا يمكن أن يكون لنا أمر وقرار إلا التسليم لإرادته وأمره، ولذلك ترى بين دفتي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه المسألة: فمرة تقول آية: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. وتقول أخرى:﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا﴾. ويقول القرآن في موضع آخر: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾. إن "الإسلام" أخذ من مادة " التسليم"، وهو يشير إلى هذه الحقيقة، وبناء على هذا فإن كل إنسان يتمتع بروح الإسلام بمقدار تسليمه لله سبحانه. ينقسم الناس عدة أقسام من هذه الناحية: فقسم يسلمون لأمر الله في الموارد التي تنفعهم فقط، وهؤلاء في الحقيقة مشركون انتحلوا اسم الإسلام، وعملهم تجزئة لأحكام الله تعالى، فهم مصداق نؤمن ببعض ونكفر ببعض فإيمانهم في الحقيقة إيمان بمصالحهم لا بالله تعالى. وآخرون جعلوا إرادتهم تبعا لإرادة الله، وإذا تعارضت منافعهم الزائلة مع أمر الله سبحانه، فإنهم يغضون الطرف عنها ويسلمون لأمر الله، وهؤلاء هم المؤمنون والمسلمون الحقيقيون. والقسم الثالث أسمى من هؤلاء، فهم لا يريدون إلا ما أراد الله، وليس في قلوبهم إلا ما يشاؤه سبحانه، فقد بلغوا مرتبةً من التسامي لا يحبون معها إلا ما يحبه الله، ولا يبغضون إلا ما أبغضه الله عز وجل. هؤلاء هم الخاصة والمخلصون والمقربون لديه، فقد صبغ التوحيد كل وجودهم، وغرقوا في حبه، وفنوا في جماله10.
*منازل الآيات، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، نيسان2009، ص23-29.
1- التبيان الشيخ الطوسي ج 3 ص 245.
2- تحف العقول ابن شعبة الحراني ص 329.
3- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 65 ص 309.
4- تفسير الميزان السيد الطباطبائي ج 1 ص 301.
5- مكارم الأخلاق الشيخ الطبرسي ص 438.
6- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 1340.
7- المصدر نفسه.
8- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ مكارم الشيرازي، ج 3، ص 310.
9- الكافي الشيخ الكليني ج 1 ص 390.
10- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 13 ص 266 – 268.