الحياء وعلاقته بالسلوك
الأخلاق والثقافة الإسلامية
جاء رجل إلى الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام فقال له: "أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن المعصية فعظني. فقال الحسين: افعل خمسة وافعل ما شئت. قال الرَّجل: هات. قال الحسين عليه السلام: لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت.
عدد الزوار: 112
مقدِّمة
جاء رجل إلى الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام فقال له: "أنا رجل عاصٍ ولا أصبر عن
المعصية فعظني. فقال الحسين: افعل خمسة وافعل ما شئت.
قال الرَّجل: هات. قال الحسين عليه السلام: لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت. قال
الرَّجل: كيف ومن أين آكل، وكل ما في الكون من رزقه. قال الحسين عليه السلام: اخرج
من أرض الله وأذنب ما شئت.قال الرَّجل: كيف، ولا تخفى على الله خافية. قال الحسين
عليه السلام: اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت. قال الرَّجل: هذه أعظم من
تلك، فأين أسكن. قال الحسين عليه السلام: إذا جاءك ملك الموت فادفعه عن نفسك، وأذنب
ما شئت. قال الرَّجل: هذا مُحال. قال الحسين عليه السلام: إذا أُدخلت النَّار فلا
تدخل فيها، وأذنب ما شئت. فقال الرَّجل: حسبك، لن يراني الله بعد اليوم في معصية
أبداً"1.
حقيقة الحياء
الحياء: خُلُقٌ يبعثُ على فعل كلّ مليح وترك كلّ قبيح، فهو من صفات النَّفس
المحمودة الَّتي تستلزم الانصراف عن القبائح وتركها، وهو من صفات النَّفس الفضلى
وهو من خُلق الكرام وسمة أهل المروءة والفضل، وهو علامة تدلُّ على ما في النَّفس من
الخير وهو إمارة صادقة على طبيعة الإنسان فيكشف عن مقدار بيانه وأدبه.
قال الشَّاعر:
ورُبَّ قبيحة ما حال بيني***وبين ركوبها إلَّا الحياء.
لذلك فعندما نرى إنساناً لا يكترث ولا يبالي فيما يبدر منه من مظهره، أو قوله، أو
حركاته، يكون سبب ذلك قلّة حيائه، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: "إذا لم تستح فافعل ما شئت"2.
الحياء من الإيمان
الحياء من الأخلاق الرفيعة الَّتي أمر بها الإسلام وأقرَّها ورغَّب فيها: وقد ورد
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "الحياء والإيمان قُرنا جميعاً، فإذا رفع
أحدهما رفع الآخر"3.
وفي حديث آخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة
فأفضلها لا إله إلّا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطَّريق والحياء شعبة من
الإيمان"4.
والسرُّ في كون الحياء من الإيمان: أنَّ كلّاً منهما داع إلى الخير، مُقرّب منه،
صارفٌ عن الشَّرّ مُبِّعدٌ عنه، فالإيمان يبعث المؤمن على فعل الطَّاعات، وترك
المعاصي والمنكرات.
والحياء يمنع صاحبه من التَّفريط في حقِّ الرَّبّ والتَّقصير في شكره. ويمنع صاحبه
كذلك من فعل القبيح أو قوله، اتِّقاء الذمِّ والملامة.
أنواع الحياء
1- الحياء من الله تعالى:
تجرُّؤ العبد على المعاصي واستخفافه بالأوامر والنَّواهي الشَّرعيَّة،
يدلَّ على عدم حيائه من الله تعالى، وذلك لأنَّه لا يشعر بحضور الله ورؤيته له وعدم
تقديره لخالقه العظيم. فالحياء من الله يكون باتِّباع الأوامر واجتناب النَّواهي.
قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾5. وقال تعالى: ﴿مَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾6، ﴿إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبً﴾7.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "استحيوا من الله حقَّ الحياء. قال
الصَّحابة: يا رسول الله إنَّا نستحي والحمد لله. قال صلى الله عليه وآله وسلم: ليس
ذلك، ولكن من استحيا من الله حقّ الحياء فليحفظ الرَّأس وما وعى، وليحفظ البطن وما
حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدُّنيا، فمن فعل ذلك فقد
استحيا من الله حقَّ الحياء"8.
فالمقصود أنَّ الحياء من الله يكون باتِّباع أوامر الله واجتناب نواهيه ومراقبة
الله في السرِّ والعلن. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "استح من الله
تعالى كما تستحي من الرجل الصَّالح من قومك"9. وهذا الحياء يُسمَّى حياء العبوديَّة
الَّذي يصل بصاحبه إلى أعلى مراتب الدِّين وهي مرتبة الإحسان الَّذي يحسُّ فيها
العبد دائماً بنظر الله إليه وأنَّه يراه في كلِّ حركاته وسكناته فيتزيَّن لربِّه
بالطَّاعات. وهذا الحياء يجعله دائماً يشعر بأنَّ عبوديَّته قاصرة أمام ربّه، لعلمه
أنَّ قدر ربّه وحقوقه أعلى وأجل.
2- الحياء من الملائكة:
من المعلوم أنّ الله جعل لنا ملائكة يتعاقبون علينا باللَّيل والنَّهار.
وهناك ملائكة يصاحبون أهل الطَّاعات، مثل: الخارج في طلب العلم، والمجتمعين على
مجالس الذّكر، والزَّائر للمريض وغير ذلك.
وأيضاً هناك ملائكة لا يفارقوننا وهم الحفظة والكتبة: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ﴾10. ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾11.
لذا علينا أن نستحي من الملائكة وذلك بالبعد عن المعاصي والقبائح، والأفعال
المذمومة المستقبحة. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ الله ينهاكم
عن التَّعرّي فاستحيوا من ملائكة الله الذَّين معكم الكرام الكاتبين، الذَّين لا
يفارقوكم إلَّا عند إحدى ثلاث حاجات: الغائط والجنابة والغسل"12.
3- الحياء من النَّاس:
وهذا النَّوع من الحياء هو أساس مكارم الأخلاق ومنبع كلِّ فضيلة، لأنه
يترتَّب عليه القول الطَّيَّب والفعل الحسن والعفِّة والنَّزاهة، فالإنسان الَّذي
يستحي من النَّاس يأخذ أجر حيائه كاملاً، لأنّه استكمل الحياء من جميع جهاته، إذ
ترتَّب عليه الكفُّ عن القبائح الَّتي لا يرضاها الدِّين والشَّرع ويذمُّه عليها
الخلق. فهذا النَّوع من الحياء يجنّبه الوقوع في الملامة والمخاصمة مع النَّاس، مع
ما يستتبع هذه المخاصمة من الأذى والضَّرر على النَّفس.
وقد يترك الإنسان القبائح والرَّذائل حياءً من النَّاس وإذا خلا من النَّاس لا
يتحرَّج من فعلها، وهذا النَّوع من النَّاس عنده حياء، ولكنَّه حياءٌ ناقصٌ ضعيفٌ
يحتاج إلى علاج وتذكير بعظمة ربِّه وجلاله، فهو أحقّ أن يستحى منه، لأنَّه القادر
المطلق الَّذي بيده ملكوت كلِّ شيء الَّذي أسبغ عليه نعمه، فكيف يليق به أن يأكل من
رزقه ويعصيه، ويعيش في أرضه وملكوته ولا يطيعه، ويستعمل عطاياه فيما لا يرضيه.
أمّا الَّذي يجاهر بالمعاصي ولا يستحي من الله ولا من النَّاس، فهذا من شرّ ما منيت
به الفضيلة وانتهكت به العفَّة، لأنَّ التَّجاهر بالمعاصي داءٌ سريع الانتقال، لا
يلبث أن يسري في النُّفوس الضَّعيفة.
وقد كثرت مظاهر التَّجاهر في المجتمعات المسلمة، فالنِّساء تتبرّج في الأسواق وفي
الحدائق العامَّة. تخرج المرأة مبدية الزِّينة بكلّ جرأة لم تُجلّ خالقاً، ولم تستح
من مخلوق.
ومن مظاهر عدم الحياء الكثيرة في المجتمع: تحدُّث المرأة بما يقع بينها وبين زوجها
من الأمور الخاصَّة وذمّ الزَّوج أحياناً، وكثرة التَّحدث مع الرَّجل الأجنبيّ
الخارج عن مقدار الحاجة أو العمل.
ومن المظاهر تشبُّه النَّساء بالرجال في اللِّباس، وشكل الشَّعر، والمشية والحركة،
وهذا فعل مستقبحٌ تأباه الفطرة السَّليمة، والذَّوق، والحياء، وحرّمه الشَّرع ونهى
عنه.
4- الحياء من النَّفس:
وهو حياء النُّفوس العزيزة من أن ترضى لنفسها بالنَّقص أو تقنع بالدُّون،
ويكون هذا الحياء بالعفَّة وصيانة الخلوات وحسن السَّريرة، فيجد العبد المؤمن نفسه
تستحي من نفسه، حتَّى كأنَّ له نفسين تستحي إحداهما من الأخرى، وهذا أكمل ما يكون
من الحياء.
عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قال: "من عمل في السِّرّ عملاً يستحي منه في
العلانية، فليس لنفسه عنده قَدْر"13.
والحقيقة أنّ هناك نفساً أمّارة بالسُّوء تأمر صاحبها بالقبائح، قال تعالى على لسان
امرأة العزيز: ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾14.
والنَّفس الثَّانية هي النَّفس الأمّارة بالخير، النَّاهية عن القبائح، وهي النَّفس
المطمئنة.
قال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾15.
إذاً فعلينا أن نجاهد أنفسنا فلا نجعلها تفكِّر في الحرام أصلاً، لأنّ مقدِّمة
الوقوع في الحرام التَّفكير فيه، حتَّى تكون نفسنا من النُّفوس المطمئنة الَّتي
تبشَّر بجنَّة عرضها السَّموات والأرض.
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾16.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- بحار الأنوار، ح 75، ص 126. (تحقيق:
الغفّاريّ).
2- بحار الأنوار، ج 68، ص 336. (تحقيق: الميانجيّ البهبوديّ).
3- المتّقي الهنديّ، كنز العمال، ج 3، ص 110.
4- م. ن، ج 1، ص 199.
5- سورة العلق، الآية 14.
6- سورة الأنعام، الآية 91.
7- سورة النساء، الآية 1.
8- روضة الواعظين، الفتال النيسابوريّ، تحقيق: الخرسان، لا. ط، قم، منشورات الشّريف
الرضّي، لا. ت، ص 461.
9- م. ن، ص 460.
10- سورة الانفطار، الآيتان 10 و 11.
11- سورة الزخرف، الآية 80.
12- بحار الأنوار، ج 56، ص 200. (تحقيق: البهبوديّ).
13- بحار الأنوار، ج 75، ص 93. (تحقيق: الغفَّاريّ)
14- سورة يوسف، الآية 53.
15- سورة الفجر، الآيات 27 - 30.
16- سورة العنكبوت، الآية 69.